دراسات
هشام عبد الرءوفوثبة فبراير 1946
2019.06.01
وثبة فبراير 1946
هي وطنية ديموقراطية، بفعل هدفها الاستراتيجي: الأرض والحرية؛ وبفعل الطبقات والفئات الاجتماعية، التي حملت الوثبة على ظهرها. وقت خرج الفكر عن الخضوع للإغراءات النمطية، والخوف من المجهول، والعزوف عن المخاطرة، مضى شباب مصر، رافضين الدعوة للاستكانة، والقول باستحالة تغيير اللا مقبول، وانطلقوا إلى انتصار الحياة الإنسانية، المصِرَّة على التقدم، والتمسك بالأمل. إذن الحركة الطلابية المصرية، التي برزت مع مصطفى كامل، وتمثَّلت في ثورة 1919، قد أنجزت، باتحادها مع العمال، في 1946، بل فرضت نفسها، ووعيها على الحركة الوطنية، بجميع أحزابها، آنذاك. إلا إنه لم يكتب عن وثبة فبراير 1946، إلا نُتفًا متفرِّقة، من اليسار على وجه الخصوص، وعلى الرغم من أن شباب هذه الوثبة حملوا الحركة الوطنية المصرية، إلى طور جديد، وخرجوا بها عن المألوف من الممارسات الدبلوماسية، فإن بعض مؤرخي هذه الحركة الوطنية، ضنوا في تناول هذه الوثبة.
الأساس
قاد «الوفد» الشعب المصري، منذ 1919، وإن انحرف عن الخط الثوري، وعن المطالب الشعبية، بذريعة إعطاء الأولوية لتحقيق الاستقلال الوطني، وجلاء البريطانيين عن مصر، شأن الوفد هنا، شأن غيره من الأحزاب المسماة بالتقليدية، مسوِّغين بهذه الذريعة صراعهم على السلطة. ثم أتت وثبة فبراير 1946، لتُخرِج حركة الجماهير من تحت قيادة الوفد، ولتضبط هذه الوثبة بوصلة الحركة الوطنية، بتطوير أهداف ومفاهيم تلك الحركة، بما يتواكب مع الوضع الدولي، عقب الحرب العالمية الثانية.
الخلفية الاقتصادية - الاجتماعية:
عانى الشعب المصري أزمة اقتصادية، تمثلت دعائمها في بلوغ كبار الملاك 0.5 % من تعداد سكان مصر،فلم يزد عدد الملاك بينهم عن 2.4 مليون، ليكون 76 % من سكان الريف، مُعدمين1 (عمال زراعيين، وفقراء الفلاحين)، ومع ظهور فئة كبار الرأسماليين، وتداول السلطة بينهم، وبين كبار الملاك، انتقلت الأراضي من أداة إنتاج، إلى مجالات استثمار، فتجمعت الأملاك في أيدي النصف بالمائة، وعمل الفلاح أجيرًا، أو مستأجرًا، تحت رحمة من انضم إلى شريحة النصف بالمائة. فنزح أبناء الفلاحين إلى المدن، حيث الورش، ومصانع كبار الملاك، والرأسماليين، ما كان له دور ملحوظ في نمو طبقة العمال عددًا، وبما أقامه المستعمر - مع قيام الحرب العالمية الثانية - من مصانع، وشركات، لسد احتياجات قواته، ما زاد من نمو في تلك الطبقة.
تدفقت – في أثناء الحرب - جيوش الحلفاء على مصر، بعبء تموينها، ما كان له دور في إفقار مصر، إضافة إلى مشكلة الأرصدة الاسترلينية، ما أحدث التضخم، الذي وصل إلى 350 %. وهبط متوسط الدخل القومي للفرد إلى 9.3 جنيه2، تزامنًا مع السوء الشديد في توزيع الدخل. كما توقفت أعمال الشركات الألمانية، والإيطالية، إبان الحرب، فكان الركود في أعمال الموانئ، والجمارك. وتوقفت الكثير من الشركات البريطانية، بعد الحرب، فتعاظمت أزمة البطالة، بين العمال، وصلت إلى نحو 100.000 عامل3.
على الرغم من معاناة الشعب المصري، الاقتصادية، عقب الحرب، فإن العامل السياسي، المحلي، والإقليمي، والدولي، كان صاحب الأثر الأكبر في قيام هذه الوثبة. متمثلًا في مطلب الاستقلال الوطني.
العامل السياسي
دوليًّا، تلقت بريطانيا ضربات ساحقة، في أول الحرب، ثم دخلت الجيوش السوفييتية برلين، محررةً الألمان من نير النازية، في يونيو 1945، وسرعان ما انسلخت من السلسلة الاستعمارية حلقات: بولندا، والمجر، وتشيكوسلوفاكيا، وألبانيا، وبلغاريا، ويوغوسلافيا، ورومانيا، وكوريا الشمالية؛ وشكَّلت مع الاتحاد السوفييتي «المعسكر الاشتراكي»، لسحق الاستعمار، وسرعان ما انضمت الصين، في مطلع أكتوبر 1949.
انتهت الحرب لصالح ميزان الشعوب، فارتفع سقف طموح أبناء المستعمرات العربية، وقد صرَّح فرانكلين روزفلت (رئيس الولايات المتحدة الأمريكية)، في 5 يوليو1940، «نأمل أن يطْلع علينا المستقبل الذي نعمل على إعداده في الوقت الحاضر، بحضارة تقوم على حريات البشر الأساسية، وأولى هذه الحريات: حرية القول والرأي؛ والثانية: الحرية التي تجعل في استطاعة كل إنسان أن يعبد الله وفق معتقده؛ والثالثة: الحرية التي يحصل عليها الإنسان بالتحرير من نير البؤس، والعوز؛ والرابعة: الحرية التي تُنتج التحرر من الخوف4. ثم جاء «ميثاق الأطلنطي» -الذي دخلت به أمريكا الحرب - في 14 أغسطس 1941، عن روزفلت، وونستون تشرشل (رئيس وزراء بريطانيا)، باحترام طلبات الشعوب في التحرر، بجانب ضرورة القضاء على الاستبداد النازي. وفي 26 يونيو 1945، عُقد ميثاق الأمم المتحدة، بسان فرنسيسكو، الذي نصَّ في مادته الثانية (فقرة 1)، أن «تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة، بين جميع أعضاء هيئة الأمم»؛ التي من مقاصدها، إنماء العلاقات الودية بين الأمم، على أساس احترام المبدأ، الذي يقضي للشعوب بحقوق متساوية، ويجعل لها تقرير مصيرها، واتخاذ التدابير الأخرى، الملائمة لتعزيز السلم العام5. وقد استقلت أذربيجان، في سبتمبر 1945، وقامت جمهورية أذربيجان المستقلَّة. وكذا سوريا، التي نالت استقلالها، في 17 أبريل 1946، ليتبعه إعلان الحكومة السورية، في 25 منه، وإعلان الاستقلال التام الشامل. وتبعتها لبنان، في نهاية العام نفسه. وقد مُنحت الهند الاستقلال (1946).
مصريًّا، تأزم الوضع السياسي المصري، الممثَّل في الأحزاب، فقد مرَّ الوفد بتطورات أضعفت بناءه التنظيمي، وتدهورت شعبيته، بدءًا بظاهرة الانشقاقات الأربعة المتوالية عنه. بالإضافة إلى ما أحدثه توقيع الوفد «معاهدة 1936»، وما أثير حولها؛ ختامًا بتولي الوفد حكومة (1942)، عقب ما عُرف بـ «حادثة 4 فبراير 1942»6. واستفحلت أزمة الوفد الداخلية، بزيادة نسبة كبار الملاك الزراعيين ضمن قياداته -دون مراعاة للدور الوطني، والماضي السياسي- ما أحدث تغيرًا ملموسًا في تكوين الوفد، وتوجهاته، مثَّل قوة إضافية في سياق مهادنة الملك، وتقديم المزيد من التنازلات له. أما الحزب الوطني (1907) فخَفُت بريقه؛ وظهر الأحرار الدستوريون (1922)، نتاج أول انشقاق للوفد، كتعبير صارخ عن خط المهادنة للملك، والمحتل؛وحزب الاتحاد (1925)، الذي سُمِّي بحزب الملك؛ ختامًا بحزب الشعب (1930)، الذي ضم ستة من مجلس إدارة «الأحرار الدستوريين»، وعددًا من الاتحاديين، أنصار اسماعيل صدقي.
وجد المصريون أنفسهم أمام تحالف شيطاني، لا يصادر حريتهم، فحسب، بل يصادر لقمة عيشهم، فقد ظلَّت الجماهير الشعبية، في هذه الفترة، دون قيادة حقيقية، تُعبِّر عن مصالحها، فالقيادة القديمة (الوفد) هادنت، وأكدت انفصالها عن الحركة الثورية العام 1936، وسمحت للاستعمار برسم الوضع الداخلي العام1942.
فصائل الوثبة
مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية - الاجتماعية، والسياسية، وانصراف الأحزاب التقليدية عن معالجتها بذريعة التفرُّغ لتحقيق الاستقلال، كانت الحاجة الماسة للتغيير. فبدأ مثقفو الطبقة الوسطى يُدلون بدلوهم، لعلاج هذه الأزمات، لنجد تطورًا اشتركت فيه فصائل عدة، لحركة شبَّت تعاني مما أسلفنا، ونضجت لتودي بقيادتها المتكلِّسة. فظهرت كقيادات جديدة، في أقصى اليمين واليسار؛ ففي اليمين، ظهرت جماعة الإخوان المسلمين؛ وفي اليسار ظهرت الجماعات الماركسية المختلفة، والتيار التقدمي داخل الوفد (الطليعة الوفدية).
اليسار7
بعد نحو ستة أشهر من قيام «اتحاد العمال»، عمد هذا الاتحاد إلى تأسيس «الحزب الاشتراكي»، في 1920، وبعد نحو العامين، تحوَّل اسم الحزب إلى «الحزب الشيوعي المصري». ووفدت إلى مصر أعداد من العمال الأجانب، حملت معها الخبرات النقابية والسياسية، بما في ذلك الأفكار الماركسية. بينما اشتد عود حركة المثقفين، وارتبط جزء منها بالطبقة العاملة، فكان الحزب الشيوعي، الذي سرعان ما تلقى ضربات أمنية قاصمة، بدءًا بحكومة الوفد، ربيع 1924، وتبعتها ضربات أخرى، أجبرت الحزب على النزول تحت الأرض؛ قبل أن يتوقف، تمامًا، عن النشاط، العام 1930، في وقت سحب «الكومنترن» الاعتراف بهذا الحزب، الأمر الذي امتد حتى العام 1975!
بدأت إرهاصات ميلاد جديد لهذه الحركة، حين قفز هتلر إلى سدة السلطة، في ألمانيا، مطلع 1933، وما أحدثته خططه وأفكاره من فزع حقيقي على الديمقراطية، وسرعان ما تأسس «نادي أنصار السلام» في مدن مصرية عدة، مع جمعيات أخرى، في إطار «الشُعبة المصرية» من «التجمع العالمي من أجل السلام»8.
حين اندلعت الحرب العالمية الثانية، خريف 1939، وبعد انضمام الاتحاد السوفييتي إلى صف «الحلفاء»، ضد دول «المحور» (1942)، خفف الاحتلال البريطاني من قبضة الأمن المصري على الحركة الشيوعية. ما سمح لحلقات شيوعية عديدة، نشأت ما بين 1939، و1942، واتسع نشاطها، وتوالت تعبيراتها العلنية، من مجلات، ودور نشر، ونوادٍ ثقافية9. وأفادت هذه الحلقات كثيرًا بالتطور الكمي، والكيفي، للطبقة العاملة المصرية، في مد تلك الحلقات بالدماء الجديدة، خصوصًا من أصحاب المصلحة في انتصار الشيوعية، وأعني بهم العمال. وسرعان ما حققت الحركة الشيوعية تطورًا سياسيًّا، فاق حجمها بمراحل، فقد أغنت الحركة، مفاهيم الحركة الوطنية المصرية، بالمضمون الاجتماعي للتحرر الوطني، فأبرزت ضرورة تأميم الممتلكات الأجنبية الاحتكارية في مصر؛ والاستقلال الاقتصادي، إلى جانب السياسي؛ وهاجمت الشركات الأجنبية، والموظفين الأجانب؛ مع ربط مطالب الجماهير المعيشية بالكفاح ضد الاستعمار؛ كذا قرنت الاستعمار الأمريكي بالبريطاني؛ وشددت على أن ليس جميع اليهود صهاينة؛ وبدلًا من المناداة بالوحدة التقليدية بين الزعماء، قدمت فكرة “الجبهة الوطنية الشعبية”، تحت قيادة غير وفدية؛ ودافع الماركسيون عن الحركة النقابية العمالية المستقلة، عن السيطرة الإدارية، والبورجوازية، وخصوصًا الوفدية؛ وكذلك لمَّحت الحركة الشيوعية، بوضوح، إلى المطالبة بإقامة نظام جمهوري ديمقراطي؛ ونادت بالنضال ضد الإقطاع؛ وبإجراء إصلاح زراعي جذري؛ وتكوين الجمعيات التعاونية الإنتاجية.. إلخ10.
الطليعة الوفدية
مع وصول أزمة الوفد إلى ذروتها، وتأثر شباب الوفد بالأفكار التقدمية، الواردة من بعض الأحزاب الأوروبية الغربية، مثل حزب العمال البريطاني، والحزب الاشتراكي الفرنسي، وإصدارات الحركة الشيوعية المصرية، بدأت «الطليعة الوفدية» في نهاية حكومة النحاس (1944)، كقيادة جديدة من الطلبة الوفديين وشباب الخريجين، تعبِّر عن نفسها، بأن نادت بالحرية والاستقلال، والاستجابة لنداءاتهم ضد القهر والاستغلال الطبقي.
تمثل نشاط «الطليعة الوفدية» من خلال مجالين: أولهما، مهام العمل السياسي، بين دوائر الجماهير، والاتصال بالرأي العام، والنزول إلى ميدان التوعية المجتمعية من طلاب، وفلاحين، وعمال؛ بالاشتراك في النقابات العمالية، واتحاداتها، والروابط الطلابية، والانفتاح على الآخر، متخذةً صحيفتي «رابطة الشباب»، و«الوفد المصري» منبرًا لها، مشركين معهم التيارات الأخرى؛ أما ثاني المجالين، فتمثل في حمل عبء التنظير الفكري، من منطلق إصلاح النظام القائم على الاستغلال والقهر الطبقي، دون الدعوة إلى هدم الأسس التي يستند إليها حزبها11. ركزت «الطليعة الوفدية» في الضغط على الجناح اليميني في الوفد، لردعه، مع الحفاظ على هيبته، ونفوذه. فضمانًا لاستمرارية النشاط، التزمت الطليعة الوفدية بتقاليد الحزب، مع النزوع التقدمي، والإيمان بالمضمون الاجتماعي لأهداف الثورة الوطنية الديمقراطية، ومبادئ العدالة الاجتماعية؛ كما ركزت هجومها على السياسة الاستعمارية، وعلى الاستعمار الأمريكي، ذي المطامع الجديد على العالم العربي، بالسيطرة على البترول، وإقامة القواعد العسكرية؛ فهاجمت سياسة «سد الفراغ» الأمريكية، للحلول محل الاستعمار البريطاني، باسم «معاداة الشيوعية». واستمر نشاط (الطليعة الوفدية) حتى تم إلقاء القبض على بعض أعضائها (مايو 1947) بتهمة الاشتراك في إلقاء قنابل، انفجرت بداري هيئة الاستعلامات والأغذية، التابعة لسلطات الاحتلال، كما قام فؤاد سراج الدين -السكرتير الجديد للوفد، وأبرز ممثلي اليمين الوفدي- بحل لجان الأحياء، والمناطق في الوفد، التي كانت بمثابة السند الشعبي المنظم للطليعة، للقضاء على هذه الطليعة، وقوتها، وكان ذلك بعد كل ما فعلته الطليعة الوفدية، وأزعج يمين الوفد، وهزَّ هيبته.
الإخوان المسلمون
نشأت جماعة الإخوان المسلمون العام 1928، ومرت بمراحلها، من التعريف والتأسيس، التي صدر القانون الأول للجماعة، العام 1930، وأقرته الجمعية العمومية الثالثة للجماعة، وحُدِّد تأليف الجمعية، واسمها، ومقاصدها، التي تمثَّلت في نقطتين: إن هذه الجمعية لا تتعرض للشؤون السياسية أيًا كانت؛ أو الخلافات الدينية، وليس لها صلة بفريق معين، «فهي للإسلام والمسلمين في كل مكان، وزمان»12؛ ثم بدأت «الإخوان» مرحلة التكوين، التي عُقِد فيها مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين، الذي خرج بقرارات سياسية محلية، وعالمية. كما أقرت الجماعة في 1939، قسم التشكيلات العسكرية ضمن جوالة الإخوان، الذي تطور، في 1941 إلى النظام الخاص، وكان «الضباط الأحرار» جزءًا منه في بداية تكوينه -أوعلى علاقة وثيقة به، على حد قول البعض - ثم استقل كتنظيم خارج الإخوان المسلمين، في 1949 13.
النقابات العمالية
نشط اليسار بتشكيل خلايا عمالية، اقتصر نشاطها على الشأن النقابي، وتركز كفاحها على استقلال الحركة النقابية، أي تخليص النقابات من السيطرة البرجوازية (الوفد والسراي) كما برزت الحركة في منطقتيّ شبرا الخيمة والإسكندرية؛ ثم انتقل نشاطها إلى السياسي، ونجح في تأسيس اتحاد نقابي، «اللجنة التحضيرية لمؤتمر نقابات عمال مصر»، وضمَّ مئة نقابة.
بدأ التفكير العلمي يتسرب من المثقفين الماركسيين، ليسود العمال من خلال نشاط «الطليعة الوفدية»، والجماعات الماركسية، فنشأت «لجنة العمال للتحرير القومي»، باعتبارها الهيئة السياسية للطبقة العاملة، في أكتوبر 1945، وتوجهت إلى الطبقة العاملة معلنة في صدر برنامجها السياسي «أيها المواطنون. لقد مرت 25 عامًا على الثورة 1919»، فلم تأت تضحيات الشعب بالثمرة المرجوة. لمَ؟ لأن الساسة الرأسماليين الذين قادوا المعركة، أبعدوا تفكير الشعب، وميوله، وآماله، من ميدان السياسة. ومنعوا الموظفين والطلبة والجنود من معرفة مصير بلادهم. أرادوا أن يمنعوا العمال من تقرير مصيرهم...»14، بذا أعلنت اللجنة الحرب على طبقة الرأسماليين، فضلًا عن المحتل.
وقائع الوثبة
ارتفع الوعي السياسي لفصائل الوثبة، فترة الحرب، كما رفع الوضع العالمي سقف توقعات هذه الفصائل، فتبلورت مطالبها حول الاستقلال التام (السياسي، الاقتصادي، والثقافي)، وألا تفاوض حول ذلك. تعلَّق المصريون بقنص حكومة بلادهم فرصة الخروج من الحرب، بنتائجها الدولية، وبدأ الرأي العام المصري ساخطًا من بطء حكومة السعديين والأحرار الدستوريين، التي ترأسها النقراشي، فعقد الطلبة اجتماعات في صيف 1945 -عند بداية العام الدراسي- لتنظيم الصفوف، استعدادًا لتحرُّك وطني جديد، يُلبي احتياجات الوطن والشعب.
اجتمعت «اللجان التحضيرية للطلبة»، في 7 أكتوبر 1945، في ملاعب كلية الطب، بحضور ممثلين عن طلاب الجامعات والمعاهد العليا والمدارس الثانوية والفنية والمتوسطة، والأزهر15، حضره الإخوان ثم انسحبوا16، وتكونت «اللجنة التحضيرية للجنة الوطنية للطلبة» التي وضعت برنامجًا، من ثلاث نقاط17:
1 - النضال من أجل الاستقلال الوطني.
2 - العمل على تصفية عملاء الاستعمار المحليين.
3 - توحيد كل القوى الوطنية.
هنا، أعلن “الاتحاد العالمي للنقابات”، في صيف 1945، عن مؤتمره التأسيسي الأول، في باريس، وقد أُقيمت هيئتان للعمال المصريين: “اللجنة التحضيرية لعمال القُطر المصري”، و“مؤتمر نقابات عمال القُطر المصري”. فجمَّع عمال القُطر تكاليف سفر الوفدين، اللذين سافرا، وتوحدا في باريس، ووضعا بالإضافة إلى مشكلات الأجور، والبطالة، وساعات العمل، وعلى رأس موضوعاتهما التي قُدِّمت:
- طرد القوات الأجنبية من وادي النيل.
- أثر الاستعمار البريطاني، في تأخر الصناعة المصرية.
- محاربةالحركة النقابية في مصر.
- تسبب في المشكلة الزراعية.
-الاستعمار، عدو الحريات.
كان من ضمن قرارات المؤتمر، القرار الذي ندد بالاستعمار البريطاني، وأعوانه في مصر.
أخيرًا، صرَّح وزير الخارجية المصري، فاجعًا شعبه: “لقد ظلت بريطانيا ومصر، شريكين مدة تزيد على نصف القرن، ولست أزعم أن هذه الشركة كانت متجانسة على الدوام، ولكن زمن العلاقات غير الودي قد انقضى، وخرجت الدولتان من الحرب تربطهما أواصر الصداقة برباط أقوى مما كان في أي وقت مضى”؛ وتقدَّم النقراشي – في خفية من الشعب – بمذكرة هزيلة إلى البريطانيين، طالب فيها بإعادة النظر في معاهدة 1936، و”أنه من الخير للبلدين أن تقوم العلاقات بينهما على التفاهم والثقة المتبادلة.. وأن مصر ستزيد من قواتها العسكرية، حتى تكون قادرة على صد عدوان المعتدي، حتى تصل إليها إمدادات حلفائها”؛ مكرِّسًا بذلك مبدأ التحالف مع بريطانيا، أساسًا للعلاقة؛ ردت لندن بعد نحو شهر، “إن المبادئ الأساسية التي قامت عليها معاهدة 1936، سليمة في جوهرها...”. ما أن أُعلن المصريون هاتين المذكرتين، في 20 يناير 1946، تزامنًا مع تصريح عبد الحميد بدوي (مندوب مصر في هيئة الأمم)، في 20 منه، “بأن ليس من شأن مجلس الأمن أن يتناول أية مشكلة بمصر، أو العالم العربي”18. فاشتد السخط الشعبي في مصر.
ثارت هيئات مختلفة في مصر، فعقدت الهيئة التأسيسية للإخوان جلسة غير عادية، استمرت يومين، وأصدرت بيانًا بالاعتراض، نُشر بالصحف في 5 فبراير؛ وطالب الوفد بإسقاط الحكومة، وأعلن كارثية هذه التصريحات؛ واتخذ مصر الفتاة الموقف نفسه؛ ونادى اليسار في «الفجر الجديد» «بضرورة الجلاء بغير محالفة عسكرية، ولا معاهدات اقتصادية، أو ثقافية»19؛ وزاوجت الطليعة الوفدية بين موقف حزبها، وبين الموقف التقدمي؛ وامتد الموقف إلى الأحزاب التقليدية، فعاب رئيس الأحرار الدستوريون على النقراشي مجاملة بريطانيا، وطعن رئيس الكتلة في الوزارة، وانتقد شباب السعديين من داخل حزبهم الحكومة، فأضحت كتلة الجماهير ماءً واحد، تتبنى موقفًا واحدًا، ومطلبًا واحدًا.
سيطرت على الطلبة فكرة الوحدة الوطنية، فدعت اللجان التحضيرية للطلبة إلى انتخابات بين الطلبة، قاوم الإخوان بدايتها، بالاستعانة بحرس الجامعة البوليسي. فتمت الانتخابات، وتكونت، «اللجنة التنفيذية العليا» عن طلاب الجامعات والمعاهد والمدارس، من ثلاثين أو أربعين فردًا، بقيادة جمال غالي (شيوعي)، مصطفى موسى (طليعة وفدية)، مصطفى مؤمن (إخوان). وانتخبت اللجنة فؤاد محيي الدين (مستقل)، وعبد الرؤوف أبوعلم (طليعة وفدية) سكرتيرين لها. بتمثيل لشباب من الوفديين، والمنظمات الشيوعية، واشترك فيها بعض الإخوان20، وذلك بعد تنسيق بين عصام الدين جلال، وحسن البنا21. وأذاعت اللجنة، في 7 فبراير، بيانًا بأن الشباب تدفعهم وطنيتهم للقيام بواجب مقدس «ملقى على عواتقهم، بوصفهم شباب الأمة المثقف، فانتخبت منهم لجان وطنية، لمناقشة حقوق البلاد وأهدافها، مناقشة حرة خالصة لوجه الله والوطن، بعيدين عن أي غرض سياسي، أو تيار حزبي»22.
بدأ طلاب كلية اللغة العربية، بجامعة فؤاد (القاهرة، الآن) التحرك، بالإضراب عن الطعام، وباتوا في فصولهم، وبدأت صور الاحتجاج الشعبي: «اللجنة الوطنية للطلبة» تحتج؛ و«اتحاد خريجي الجامعة» يُصدر بيانًا؛ وقرر الجميع، في 8 فبراير، الدعوة للتظاهرات. فعمَّت أرجاء البلاد. وقامت تظاهرة طلبة جامعة فؤاد، في 9 فبراير، حيث سار الطلبة بعد الاجتماع، من فناء الجامعة، قاصدين قصر عابدين، يهتفون ألا مفاوضة، إلا بعد الجلاء، والتحم بهم في ميدان الجيزة عمال شركة الدخان، وعمال الترام، وهتفوا جميعًا «يحيا الطلبة مع العمال»23، فما أن وصلوا كوبري عباس، ورأوه مفتوحًا حتى أسرع الطلبة بإغلاق الكوبري، مصممين على عبوره، وبينما كان الطلبة يعبرون الكوبري، حاصرتهم قوات شرطة القاهرة، من الجانب الشرقي، وقوات شرطة الجيزة، من الجانب الغربي، وهاجمتهم بشراسة، فأصيب 84، بإصابات بليغة، ونُقلوا إلى مستشفى القصر العيني24. كما اندلعت تظاهرات أخرى، في الإسكندرية، والزقازيق، والمنصورة، وأسيوط، وصدَّها البوليس، واستُشهد ثلاثة متظاهرين، في كل من الإسكندرية، والزقازيق، و7 في المنصورة25، وتكررت التظاهرات في اليوم التالي.
في 10 فبراير، وُزِّع منشور بأن الطلبة قرروا مقاطعة الاحتفال بعيد ميلاد الملك، وكذا احتفال وضع حجر الأساس للمدينة الجامعية التابعة لجامعة فؤاد، اللذين كان من المفترض إقامتهما في 11 فبراير، وكُلِّف طلبة المدارس، والمعاهد بتقطيع الزينة، وصور الملك، ومظاهر الاحتفال من الشوارع؛ كما تسللت مجموعة من طلبة الجامعات إلى داخل الجامعة، إذ أعلن أنه سيمنع دخول غير المعينين بالجامعة، وعلى الرغم من الحراسة المشددة ابتداءً بكمين الجيزة، فإن تظاهرتين اندلعتا من خارج الجامعة، ومن داخلها، إلا أن الشرطة سيطرت عليهما، وإثر ذلك تأخرت مراسم وضع حجر الأساس بعض الوقت، واتجه الطلبة إلى ميدان عابدين، ومنهم أحمد عبد الجواد، وجمال عنتر، وآخرون -حيث كان حضور الاحتفال بعيد ميلاد الملك- فتناثر الطلبة بين الحضور، وهتفوا «الشعب.. الشعب.. يحيا الشعب»، «أين الغذاء والكساء يا ملك النساء».. وحطَّمت الجماهير الحفل، ومنصته، قبل أن تصرفها الشرطة، فكانت تظاهرات متفرِّقة26. وقد صادرت الحكومة صحيفة «الوفد المصري» في11 فبراير، وحاصرت قوات الشرطة المركز العام للإخوان، ودورهم بالقاهرة. واشتد السخط - الذي امتد إلى ضباط الجيش - على مسلك وزارة النقراشي، هذا، وأصدر «الضباط الأحرار» أول منشور لهم، ورد فيه «إن هيئة الضباط الأحرار تطالب بأن تكون مهمة الجيش تحقيق استقلال البلاد، لا أن يُستعمل في القضاء على الحركات الوطنية، كما تطالب بتسليح الجيش، من أي دولة، شرقية كانت، أم غربية»27. كما تكررت التظاهرات في الإسكندرية، في اليوم التالي، حيث تظاهر فيها نحو 5,000 طالب، وداس فيها إلهام سيف النصر (شيوعي)، على صورة الملك28، لأول مرة في تاريخ مصر، وقُتل في هذه التظاهرة، ثلاثة منهم عامل، وحُمل جثمان الطالب علي محمد عثمان، ودُفن في فناء الجامعة؛ واندلعت تظاهرات في المنصورة، والزقازيق، وأسوان، وشبين الكوم، والسنبلاوين، وطوخ، وأسيوط، وبنها، والمحلة الكبرى، وبورسعيد. وفي 15 منه، أُقيمت صلاة الغائب على الشهداء في الأزهر، وسارت التظاهرات حتى العتبة29. فاستقالت حكومة النقراشي، في 15 فبراير، في محاولة تهدئة الجماهير الغاضبة.
أتى إسماعيل صدقي للحكم، في 17 فبراير، واستقوى صدقي بالإخوان، باعتبارهم أصحاب القوة الشعبية، مستغلًا عداء الإخوان للوفد، والتنظيمات الشيوعية، والشباب التقدمي؛ في اتفاق تم بعد مصارحة حسن البنا، لصدقي بـ: «إن ما شاع بين الناس عن تاريخك السياسي، قد يبعث على النفور منك، ولكننا نحن الإخوان المسلمين، مُقيدون بقول الله تعالى: [لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا] فنسمع إليك، ونزن ما تقول بميزان دعوتنا...»30، فتم التعاهد على التزام صدقي بالحد الأدنى من مطالب الإخوان، متمثلةً في تحقيق مطالب البلاد في الجلاء، والاستقلال، ووحدة وادي النيل؛ وصدر قرار الإخوان، أن يكونوا وراء هذه الوزارة، ما سارت في الطريق الذي حدده لها الإخوان، فإذا ما حادت الحكومة عنه فإن الإخوان يسحبون تأييدهم لها، ويتخذون من المواقف ما تُلزمهم به دعوتم. وأُبلغ صدقي بالقرار، وأُعلن عن تشكيل الوزارة31.
بينما استقبلت العناصر الوطنية الأخرى صدقي بضجة كبيرة، وأعلنت مجلة «الفجر الجديد» اليسارية، أن حكم صدقي هو استمرار لحكم النقراشي، ولسياسته؛ وأعلنت «اللجنة الوطنية للطلبة»، بيانًا، افتُتح بـ «إن الأسباب التي من أجلها بدأنا جهادنا، لا تزال قائمة...»؛ وأعلن اتحاد الجامعة الأزهرية «إننا بصدد محنة شديدة...»، بينما أعلن صدقي المطالبة بالجلاء، وطلب بالدخول في مفاوضة مع البريطانيين، وصرَّح لوكالة رويترز بأن «تحقيق أهدافنا الوطنية، سيكون من شأنه تعزيز العلاقات بين البلدين»32. واستمرت التظاهرات تنادي بالجلاء والثورة. وفي 18 فبراير، تجمَّع بميدان عابدين، نحو 40 ألف متظاهر، وفي فناء جامعة فؤاد بالجيزة نحو 15 ألفًا، ومئات العمال، في الموسكي، وبولاق، وغيرهما؛ وترك صدقي التظاهرات، لتقوية مركزه التفاوضي.
خرج صدقي يطوف الشوارع، بعد أن صرَّح بالتظاهرات، في عربة مكشوفة، وبجواره مصطفى مؤمن (مسؤول طلبة الإخوان في جامعة فؤاد)، ليحيُّوا الشعب، وما أن انتهت الجولة حتى انصرف مصطفى للجامعة، وذهب صدقي إلى تظاهرة عمالية، تجمَّعت في شبرا، فقابل المنظمين بإحدى المقاهي، وطلب الفرصة لإثبات وطنيته، لكنهم رفضوا، فأنهى كلامه: «كان ممكن وأنا قاعد في بيتي آمر بالقبض عليكم، لكن أنا فَضَّلت أحضر بنفسي، وعلشان إنتم بتقولوا عليَّ خاين، وعميل الاستعمار، بينما الواضح إني لا أقل وطنية عن أي واحد فيكم، فأنا موافق على الإضراب، صباحًا، والمظاهرة، بشرط النظام». وترك صدقي، إسماعيل فخري، للتنسيق مع الأمن33. بينما أقبل مصطفى مؤمن على طلاب الجامعة، محمولًا على أكتاف الإخوان، هاتفين «الله حي.. مؤمن جي»، اخترقوا به الصفوف، أخذ يخطب، ويمدح صدقي، مستشهدًا آية من القرآن «واذكر في الكتاب إسماعيل، إنه كان صادق الوعد وكان رسولًا نبيًّا». فهتف الحاضرون، مقاطعين مؤمن: «إسماعيل مين يا مصطفى.. إسماعيل ياسين»! وكانت لطيفة الزيات، ونجيبة عبد الحميد (شيوعيتان)، تعلقان دائمًا على مقولة مؤمن، واستشهاده في كلماتهما في الجامعة، وكان مؤمن يرد «يا نجيبة.. لستِ نجيبة»، و«يا لطيفة..لستِ بلطيفة»!34
بينما اجتمعت «اللجنة التنفيذية لمؤتمر نقابات عمال القُطر المصري»، بدار عمال المحلات التجارية، في القاهرة، فوصلهم خبر اجتماع «اللجنة التنفيذية لطلبة الجامعات»، و«اللجنة التنفيذية لطلبة المدارس الثانوي»، و«اللجنة التنفيذية لطلبة الأزهر»، بمدرج كلية الطب، فقررت اللجنة التنفيذية للمؤتمر الالتحاق بالاجتماع المذكور، وبذا بدأ الاتصال بين العمال و«اللجنة الوطنية للطلبة»، وانبثق عن ذلك لجنة مشتركة، لقيادة الكفاح التحرري، لم تستمر إلا لبضعة أشهر، باسم «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة»، في 19 فبراير، وكانت اجتماعات اللجنة في مسكن فؤاد محي الدين، ومسكن إسماعيل السيوفي35. وأصدرت اللجنة بيانًا، حُدِّد فيه يوم 21 «يوم الجلاء»، ودعت الشعب، بهيئاته، إلى الإضراب، في هذا اليوم، واستجابت الجماهير للجنة، فتم إضراب 21 فبراير.
أُغلِقت المحال، والمتاجر، وأضرب عمال المواصلات، فشُلَّت البلد، وسارت الجماهير في تظاهرات، انتشرت في ضواحي القاهرة، في حدائق القبَّة، ومصر الجديدة، والعباسية، وشبرا، والجيزة، وحلوان، كما خرجت تظاهرة من الأزهر ضمت نحو 15.000 من عمال شبرا الخيمة، ونقابة سكة حديد بولاق، وورش أبو زعبل، وطلبة الجامعة والأزهر، والمدارس. تلاقت التظاهرات في العتبة، واتجهت إلى ميدان الاسماعيلية (التحرير، الآن)، منادية بالجلاء واللا حزبية، بعد اليوم. ورُفعت فيها شارة الجلاء؛ وعمَّت التظاهرات مدن مصر، بينما سارت تظاهرات في ميدان الإسماعيلية، فاعترضتها سيارات بريطانية مسلَّحة، واقتحمت جموع المتظاهرين -غير مبالية- فرشق المتظاهرون مباني الأجانب بالحجارة، ورد البريطانيون بالرصاص، فأُزهِقت أرواح 20 من المتظاهرين، وأصيب نحو 150 بجروح. وقد أعلن «اتحاد الطلبة العالمي»، فاعتُبر هذا اليوم، يومًا للشباب والطلبة،وصادف ذلك تظاهر طلاب الهند ضد الاحتلال البريطاني في اليوم نفسه36.
لم تكن المرأة بعيدةً عن الأحداث، فقد شاركت الطالبات، كالطلبة؛ فمن كلية العلوم، شاركت كل من حورية مصطفى، وصفية فهمي، وسعدية عثمان، وحورية عفيفي، وبرلتني السروجي، وفاطمة زكي، وزكية رياض؛ ومن كلية الآداب، اشتركت كل من لطيفة الزيات، وآسيا النمر، ونجيبة عبد الحميد، وجنفيف سيداروس، وثريا أدهم (وكلهن شيوعيات)؛ ومن كلية الحقوق كانت، عائشة راتب، ونبيلة عبد الحميد، ونعمت بدر37.
في محكمة عابدين، وفي أول جلسة، تقدم بعض المحامين، على رأسهم عبد الفتاح الشلقاني (وكيل نقابة المحامين)، بطلب التأجيل بسبب إضراب المحامين، تضامنًا مع الشعب، في طلب الجلاء، وإظهار الاستنكار من موقف بريطانيا؛ وبعد أن أثبت القاضي، محمد البكري، ذلك في محضر الجلسة، استطرد القاضي، بجمل مثيرة وطنية، وأثبتها بمحضر الجلسة، وأوردته صحيفة «البلاغ» الوفدية، في 26 فبراير 194638.
اشترك في هذه الوثبة «حزب مصر الفتاة»، وعقد مؤتمرًا وطنيًا، بميدان الأوبرا، قرر مقاطعة المفاوضات، وأساليب المساومة، وتمسك بالجلاء عن وادي النيل، وإلغاء «معاهدة 1936»، و«اتفاقيتيّ 1899»، مع عرض القضية على مجلس الأمن. إلا أن «الإخوان» بادرت إلى تشكيل «اللجنة القومية»، التي دعت لها، في 28 فبراير، واشترك معها «مصر الفتاة»، و«حزب الفلاح الاشتراكي»، و«جبهة مصر»، وبعض شباب «الأحرار الدستوريين»، و«الحزب الوطني»، والتقت هذه اللجنة بصدقي، لتكريم الشهداء، وتحديد موقفه من المطالب البريطانية، والمطالب الوطنية.
أذاع رئيس الوزراء بيانًا، وصف فيه العمال بـ «الدهماء»، ومنع التظاهرات وكذا اجتماعًا للحزب الوطني، كان أُعِد له بحديقة الأزبكية. فأوقف كل من مجلسيْ النواب، والشيوخ جلستيْهما، يوم 25 فبراير، حدادًا على ضحايا الحوادث. وهاجم المثقفون، والطلبة صدقي، وما وصف به العمال، وكتبت «الوفد المصري» بأن ليس الوطن ملكًا لصدقي، «ولكنه وطننا نحن، ووطن الدهماء»؛ وهاجمت صحيفة «البلاغ» المليونير، الذي لا يرى للدهماء حقًا في وطنهم، أو صوتًا. ثم حُدِّد يوم 25 فبراير، ليكون يوم حداد عام؛ فصدرت الصحف مؤطرة بالسواد، وحملت المقالات الإثارية، وأضرب المحامون عن العمل في اليوم التالي، وعقدت «اللجنة الوطنية للطلبة» مؤتمرًا عامًا، في 26 منه، تقرر فيه عقد مؤتمرات محلية، في كل معهد دراسي، وقررت جعل يوم 4 مارس، يوم حداد عام على شهداء 21 فبراير، وأصدرت ميثاقًا وطنيًّا ليوقع عليه جميع الزعماء، يُلزمهم بعدم قبول الحكم، إلا على أساس تصريح بريطاني، يعترف بالجلاء التام عن وادي النيل؛ ثم أصدرت اللجنة بيانًا نبَّه إلى أن وجود القوات البريطانية في المدن الكبرى يُعرِّض الأمن للخطر. وطلبت سحب هذه القوات، فورًا39. وقد كُلِّفت بطبع البيان عبد الواحد بصيلة (شيوعي)40. كما ذهب ثلاثة من «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة»، وقابلوا إسماعيل صدقي، وطلبوا الإذن بتنظيم جنازة صامتة، حدادًا على شهداء الحوادث الأخيرة، يوم 4 مارس، على أن يتولى الجيش، والشرطة المحافظة على النظام، حول الجنازة، لكن صدقي رفض، فأصرت اللجنة على إصدار بيانها، وإتمام فعاليتها؛ وردت الحكومة ببيان منعت فيه التظاهرات، في هذا اليوم41. أسرع صدقي إلى الطلبة، والعمال، محاولًا أن يُثنيهم عن قراراتهم، بدعوى أن السفارة البريطانية قد أنذرته، بنزول القوات المسلَّحة البريطانية، لضرب المتظاهرين. ورد مندوبو العمال والطلبة بأن الشعب مستعد أن يرد الاعتداء، وطالبت الحكومة بالتصريح للشعب بحمل السلاح، ولتمد الشعب بالسلاح42. واجتمعت «اللجنة القومية» بصدقي، في أول مارس، واتُفق على أن يكون محمد حسن العشماوي، وزير المعارف، هو ممثل الحكومة في اللجنة، وأن يكون 4 مارس، يوم حداد عام. وفيه أعلنت «الإخوان» بأن ليس لها علاقة، من اليوم، بـ«اللجنة القومية»، التي أُعلن بقاؤها بدون الإخوان43. ودخلت مواجهة «الإخوان» مع صدقي، في طوْر جديد، من سؤاله، عن الجلاء، وإطلاق الحريات، وطلبت منه عرض المسألة المصرية على مجلس الأمن.
أُقفلت المدارس والمتاجر والمقاهي والمحال العامة، في يوم الحداد (4 مارس)، واحتجبت الصحف، والتزم الجميع منازلهم، إلا أن تظاهرة اندلعت في الإسكندرية، فرَّقها البوليس، بعد أن اقتلع المتظاهرون العَلَم البريطاني، من على فندق «أطلنطيك»، بمحرم بك، الذي كان يضم رجال البحرية البريطانية. ثم أُطلق الرصاص، من كشك الشرطة الحربي، بميدان سعد زغلول، بعد أن نزع المتظاهرون لافته الكشك، وأشعلوا فيه النيران. ونتج عن ذلك 28 شهيدًا، و342 جريحًا؛ وقتل اثنان، وجرح أربعة من البريطانيين. وسُمي هذا اليوم «يوم الشهداء»، فيما أُطلِق على شارع هذه الحوادث اسم «شارع الشهداء»، بدلًا من «أفيروف». فسعى الشباب، مستغلين الأحداث، وشعار التظاهرات «لا حزبية بعد اليوم»، في توحيد الصفوف، بتكوين جبهة وطنية، كما حدث في 1935، إلا أن الأحزاب التقليدية وقفت دون ذلك. واستمر هذا الحراك، ففي 14 مارس، أعدت «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة» احتفالية في الجامعة، وأعلنت «إن يوم السودان، وهو يوم شعبي...»، إذ تظاهر العمال والطلبة، في الخرطوم، وأم درمان، في تظاهرات قوية، كمشاركة للشعب المصري، في كفاحه، في 13 مارس 1946.
وهنا سؤال يفرض نفسه: كيف للإخوان أن يثقوا في رجل له هذا السجل الأسود كإسماعيل صدقي! وحتى لو كانوا يُعطونه فرصة – بسذاجة – فكيف لهم أن يؤسسوا «اللجنة القومية» في مواجهة «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة»، في الوقت الذي شاركوا فيها أيضًا؟! وكيف لهم أن يمنحوا كل هذا التأييد لصدقي، دون أن يبدأ في تنفيذ وعوده لهم، حتى أنهم وقَّعوا لصدقي على بياض، واكتشف مسؤولهم في جامعة فؤاد، بأن اسم اسماعيل صدقي قد ورد في القرآن الكريم! ومع ذلك، فحين خاب صدقي في مسعاه، قفز الإخوان من سفينته. وهل يمكن لعداء الإخوان لكل من الوفد والشيوعيين أن يصل بهم إلى كل هذه الخطايا، نكاية بالطهارة؟!
مآل الأمور
أيقنت السلطات في مصر - الحكومات، والملك، والبريطانيين – بأن هذه الوثبة بداية ثورة شعبية، تُشكِّل خطرًا على مكوِّني هذه السلطة، بما رسموا من أهداف لها، الأمر الذي يُحتِّم القضاء على تبعات هذه الوثبة، فانتهج البريطانيون أسلوب الاستيعاب والتهدئة، والوقيعة بين فئات هذا الشعب، واللعب على أوتار الفتنة الطائفية؛ وتركوا الحكومات المصرية المتعاقبة، والملك يواجهون ما آلت إليه الوثبة، بوسائل شق الصف الشعبي، والمواجهة العنيفة، والتحايل والمراوغة، فتوالى السعديون على رأس تلك الحكومة، لتوجيه ضربات قاصمة للشيوعيين والإخوان،فكانت قضية «المبادئ الهدامة»، وقرار حل «الإخوان»، والدخول في حرب فلسطين 1948.
على مستوى المحتل البريطاني
بدأت بريطانيا المبادرة بمحاولة استيعاب الحراك، فأحلَّت اللورد لوراند كامبل، في فبراير 1946، سفيرًا لبريطانيا في مصر، محل اللورد كيلرن (مايلز لامبسون)، في محاولة صورية، لترضية الشعب المصري، ولبدء المفاوضات، بين مصر وبريطانيا، خصوصًا بعد تفاعل السودانيين، وقدوم وفديْن عنهم، إلى القاهرة، في مارس، وأبريل من العام نفسه، والإعلان - باسم أغلبية الشعب السوداني – عن معارضة الانفصال عن مصر. كما استمر البريطانيون في محاولة تهدئة الخواطر المصرية، بالجلاء عن القلعة، في 4 يوليو1946؛ وإنزال العَلَم البريطاني، ورفع المصري عليها، في احتفال عسكري، في 9 أغسطس. كما غصَّ شهرا فبراير، ومارس 1947، بأعمال جلاء القوات البريطانية عن ثكنات لها، في مصر، وآخرها ثكنات قصر النيل، في 29 مارس، الذي مثَّل جلاء الاحتلال عن القاهرة، والإسكندرية، وجزء كبير من أراضي الدلتا؛ واحتُفِل بذلك، في 31 منه؛ وحضر الملك الاحتفال، ورفع العَلَم المصري على السارية الوسطى، وأوفد مندوبًا وضع إكليلًا من الأزهار على قبر كلٍ من مصطفى كامل، وسعد زغلول، وعلى النصب التذكاري لشهداء الجامعة.
على الرغم من امتلاك البريطانيين حلولًا للمسألة المصرية، وإرضاء حركتها الوطنية، فينقل البريطانيون قواتهم من مصر، تخفيفًا للنفقات، إلى فلسطين، والأردن، مع إنشاء ثكنات للبريطانيين في غزة، وإصلاح ميناء حيفا الفلسطيني، ليحل محل الإسكندرية، فإن نقل الصهاينة اعتمادهم على أمريكا، محل بريطانيا، أعاق هذه الحلول، فلم يفتأ المحتل البريطاني، أن سعى إلى شق صفوف الوحدة الشعبية، - إضافة إلى شق الوحدة السياسية، المناطه إلى الحكومة - فوقعت اعتداءات على بعض الكنائس، وقد أوردت عنها صحيفة “فيلادلفيا تريبيون”، في 25 مايو 1947، وقد استند الإخوان على هذا المقال، في تحميل المحتل البريطاني، المسئولية عن هذه الحوادث44.
الحكومة والملك
اتخذت الحكومة المصرية، ومن ورائها الملك، جملة من الترتيبات لمواجهة لهذه الوثبة، وتبعاتها من التدابير العنيفة، عن طريق الشرطة والسجن تارة؛ وإظهارالتوافق مع أهدافها، في تحايل، والتخدير تارةً أخرى. وعلى الرغم من البراجماتية المبتذلة للحكومة، والملك، والنجاح في القضاء على بعض توابع الوثبة، فإنهما عجزا عن القضاء على ما بثته الوثبة من روح الثورة، التي لم تهدأ إلا بحركة الجيش (1952).
على الرغم مما أنتجه سلوك الحكومة في مواجهة تظاهرة كوبري عباس، الذي أودى بوزارة النقراشي، وقد ابتدأ صدقي بالتناغم مع الوثبة، وحاول استخدامها، دعمًا لمركزه التفاوضي أمام البريطانيين، فإن طابع السلطة الاستبدادي، أبرز حقيقة التعارض بين صدقي، والوثبة، حتى سلك، مسلك النقراشي، من مواجهة الحركة الشعبية، واستصدرت حكومة صدقي مرسوم ملكي، بتأليف الوفد الرسمي لمفاوضة البريطانيين، في ظل رفض “الحزب الوطني” الاشتراك في هذا الوفد، تمسكًا بـ “لا مفاوضة إلا بعد الجلاء”، وامتناع “الوفد” عن المشاركة، إلا باستحواذ الوفد على رئاسة المفاوضة، وأغلبية الوفد المفاوض.
بدأت المفاوضات في 9 مايو، منحصرة بين صدقي، وبين رئيس الوفد البريطاني، ستانس جيب، بمطلب استبقاء قاعدة حربية في منطقة قناة السويس، في وقت السلم، والحرب، في شكل دفاع مشترك؛ فصدر بيان، عن السفارة البريطانية، بأن المفاوضة سائرة على تحديد مراحل لسحب قواتها، لتحقيق التعاون بين البلدين، على أساس المحالفة. وبدأت جلسات التفاوض، في أتون المعارضة الشديدة لحزب المحافظين البريطاني، وموجة هياج مصري. حيث وقعت إضرابات، وتظاهرات، كانت الشرطة تعمل على تفريقها. وتوقفت المفاوضة، تكتيكيًّا، في 23 مايو، وإن استؤنفت، في يوليو بالإسكندرية، في جو من المؤتمرات، والتظاهرات المعارضة، فأصدرت “اللجنة الوطنية للعمال والطلبة” بيانًا، طالبت فيه بقطع المفاوضات، واتفق الجميع على أن يكون يوم 11يوليو- ذكرى ضرب البريطانيين للإسكندرية، العام 1882- يوم حداد عام، فقام صدقي بتوجيه ضربة استباقية للحركة الوطنية، ليثبت امساكه بزمام الأمور؛ فاعتقل في اليوم السابق للإضراب، نحو مائتين من الكُتَّاب، والصحفيين، والأحرار، وزعماء اللجنة الوطنية،ونقابات العمال، والشباب الوفدي، واتحاد شباب الأحزاب، وأغلق صدقي الكثير من دور النشر، والجمعيات، والصحف، والمجلات.
اختص صدقي الشيوعيين المصريين بضربة أمنية، فيما عُرف بـ"قضية المبادئ الهدَّامة"، ولعل المثير للدهشة أن فؤاد محي الدين (رئيس الوزراء، لاحقًا)، كان على رأس المعتقلين، لمجرد أنه ترأس “اللجنة الوطنية”، بينما اشتهر باستقلاليته. أغلق صدقي، في سياق هذه القضية، صحفًا وطنية. وصادر لأيام صحفًا أخرى. واعتقل أعضاء اللجنة التنفيذية لـ «مؤتمر نقابات عمال القطر المصري»،45. وأحيل إلى القضة 69 متهمًا مصريًّا وطنيًّا، بالإضافة إلى اعتقال 7 من الأجانب46. وقف القضاء من هذه القضية موقف وطني، حيث أفرج عن المعتقلين خلال 18 يوم من بدء التحقيقات، نظرًا لغياب الأدلة، وكان هذا الموقف، أحد صور الإحراج لوزارة صدقي، وساهم في استقالته لاحقًا47.
مُنع الاحتفال الوطني بيوم 11 يوليو. واستصدر صدقي من البرلمان قانونًا، بتشديد العقوبات الجنائية المقررة، لحماية، النظام الاجتماعي القائم، باسم «مكافحة الشيوعية»! وأعد بعض مشروعات القوانين، المتعلقة بمنع الإضرابات، والتظاهرات. فأبدى البريطانيون ارتياحًا لذلك، ورأوا أن الهدف منها تعجيل الاتفاق. في حين تأثر أعضاء وفد المفاوضة المصري بالمعارضة الشعبية القوية، وبدأوا يتشددون في موقفهم التفاوضي، ووصل الخلاف بينهم، حد مهاجمة بعضهم لصدقي، ولأسلوبه التفاوضي المهاود للمحتل، ما صعَّب استمرار المفاوضة، فأوقفها البريطانيون، في أواخر سبتمبر، بحثًا عما اعتبروه «الضمانات الجدية» في تنفيذ الاتفاقية، المزمع عقدها؛ فأُحرِج صدقي، وقدَّم استقالته، في 28 سبتمبر، إلا أن الملك أمر صدقي بالبقاء في رئاسة الوزارة، في أكتوبر 1946. وكانت صفقة الملك والبريطانيين، عن طريق صدقي، في 17 أكتوبر، حيث سافر صدقي بصحبة وزير خارجيته إلى إرنست بيفن، وزير الخارجية البريطاني - وقد أرجأوا بدء العام الدراسي، في الجامعات، والمعاهد - ووقَّعوا، مشروع المعاهدة، في25 منه، بالأحرف الأولى من اسميهما، وعُرفت باسم «معاهدة صدقي –بيفن».
عاد صدقي، يوم 26 من الشهر نفسه، مصرحًا: «لقد صرحت، في الشهر الماضي، أنني سأجئ بالسودان إلى مصر، واليوم أقرر أني نجحت في مهمتي..»!فثارت عاصفة من الاحتجاج في الدوائر البريطانية، بلندن، أدلى المستر كليمنت أتلي، رئيس الوزارة في مجلس العموم، يوم 28 أكتوبر، بتصريح،كذَّب فيه صدقي بما ادعى! ورفض سبعة من أعضاء وفد المفاوضة المصري هذا الاتفاق، فحلَّ صدقي وفد المفاوضة، بمرسوم، في26 نوفمبر، ومع تأزم الموقف، استقال صدقي، بعد أن أتم الدور المطلوب منه.
في 9 ديسمبر 1946، كلَّف فاروق النقراشي، بتأليف وزارة جديدة، فألَّف وزارته، بستة من السعديين، ومثلهم من الأحرار الدستوريين، فأضرب المصريون، في 19 يناير 1947، واستأنف النقراشي المفاوضة، مع السير كامبل، شهرًا ونصف، في غير علانية، وبعد أن تأكد، من تمسك البريطانيين بموقفهم، وتحت وطأة ضغط جماهير الشعب، تجمَّد وضع الوفديْن، عند مسألة السودان، فأوقف البريطانيون المشروع. ما اضطر النقراشي إلى إصدار بيان، أفاد بأنه سيطلب من مجلس الأمن الدولي جلاء البريطانيين؛ وعلَّقت الصحف البريطانية، بأن موقف المصريين أمام الأمم المتحدة سيكون ضعيفًا، في ظل وجود مشروع المعاهدة. فإن رغبة الحكومة المصرية في إرضاء الشارع المصري، دفعها إلى قرار الذهاب إلى مجلس الأمن، يوم السبت 25 يناير 1947، وأعلن النقراشي ذلك، لمجلسيْ الشيوخ، والنواب، بجلستهما المشتركة، في 27 من الشهر نفسه. فحملت الحكومة شعار «جمع الكلمة» على المستوى المحلي؛ بينما حملت سياسة التقرُّب من دوائر الولايات المتحدة الأمريكية، على المستوى الدولي، واتخذت مكتبًا للدعاية، هناك، برئاسة خبير أمريكي، رافق النقراشي كمستشار في أثناء جولته الدعائية في الولايات المتحدة، وحضور مجلس الأمن. وقدَّم محمود حسن، سفير مصر في الولايات المتحدة، آنذاك، عريضة دعوى مصر إلى مجلس الأمن، في 11 يوليومن العام نفسه، طالبًا الجلاء عن مصر، والسودان.
على المستوى الشعبي
تأكد الشعب المصري من مدى قوته إذا تحرك، فكانت التظاهرات تشتعل - على المستوى الوطني - عند أي بادرة شك في أن الحكومة تنوي التفاوض، أو تتحسس الطريق إليه؛ كما أن الأمر تطور، وضمَّ الشعب وقواه الوطنية، الحكومة والملك، إلى معسكر أعداء الحركة الوطنية، وقرنت الخاص بالعام، واندلعت إضرابات لتحقيق الحقوق المطلبية، متزامنة مع الاستقلال، في آن.
في 11مايو1946، خرجت تظاهرة من الأزهر، اعتراضًا على المفاوضات، التي بدأ بها صدقي، اصطدمت بالشرطة، واعتصم المصلُّون بالمسجد، وأصيب منهم ثلاثون، وعشرة من رجال الشرطة، وصودرت الصحف. وما أن استؤنفت المفاوضات، في يوليو، بالإسكندرية، حتى سادت المؤتمرات، والتظاهرات المعارضة، فأصدرت «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة»، بيانًا، طالبت فيه بقطع المفاوضات، واتفق الجميع على أن يكون يوم 11يوليو، يوم حداد عام، وتجديد الجهاد الوطني.
بمجرد أن شاع في أواخر يونيو، اتجاه صدقي والبريطانيين إلى عقد «لجنة الدفاع المشترك»، من عسكريين من الطرفيْن، ومهمة هذه اللجنة، التشاور، وإسداء النصح للحكومتيْن، وفَهِمت الجماهير أن هذه اللجنة أحد أشكال الحماية البريطانية على مصر، حتى دعى «مؤتمر نقابات عمال القُطر المصري»، إلى الإضراب العام، في 25 يونيو. كما أضرب عمال شركة الغزل الأهلية بالإسكندرية، في 15 يوليو؛ وفي 17 منه، أُلقيت خمس قنابل على ناد بريطاني. وما أن بدأت المفاوضة بين صدقي، وبيفن حتى بدأت تظاهرات الطلبة، في يوم افتتاح الدراسة، بكلية الهندسة؛ وفي اليوم التالي، ذهب طلبة الجامعة من الجيزة، إلى كلية الطب بقصر العيني، واصطدموا بالشرطة، وأحرقوا مركبتيْ ترام. ولمَّا وقَّع صدقي مشروع المعاهدة، بالأحرف الأولى، عُقد اجتماع من مندوبي الطلبة، من الوفديين، والحزب الوطني، والتنظيمات الماركسية، ورابطة الطلبة المصريين، وشباب الكتلة، وغيرهم، في25 أكتوبر، وقرروا وجوب إلغاء «معاهدة 1936»، وقطع المفاوضات، فورًا، والالتجاء إلى مجلس الأمن، كما أصدر الإخوان بيانًا، بهذا المعنى، مع وقف دعم الجماعة لوزارة صدقي، ووجهوا البيان للملك، وصدقي، في 8 منه. وفي 23 نوفمبر، اندلعت تظاهرات، وأُلقيت 14 قنبلة؛ وفي اليوم التالي، اشتبك طلبة مدرسة الخديو إسماعيل، بالشرطة، وأصيب 18 شرطيًا، وخرجت تظاهرات الجامعة، في شارع المدارس بالجيزة، أصيب فيها 20 طالبًا؛ وفي اليوم التالي، قام الإخوان بحرق المحلات الأجنبية، بميدان لاظوغلي، والسيدة زينب، وزين العابدين، وشارع الخليج المصري، وميدان مصطفى كامل؛ وحاولوا إحراق عربة ترام، وقُبض على 7 منهم، كما قُبض على 59، في أنحاء متفرقة من القاهرة. وفي اليوم التالي، تظاهر طلبة الهندسة التطبيقية، واشتبكوا مع الشرطة، بالحجارة، وأشعل بعضهم عربتيْ قمامة، وقُبض على 180 متظاهرًا، وأُصيب 8 منهم بالرش الرفيع، الذي أطلقته الشرطة، و35 طالبًا بالرصاص الحي، كما أحرق طلبة الطب عربة أوتوبيس، واشتبك طلبة مدرسة التوفيقية بالشرطة، وأصيب ضابط، وجندي؛ وفي اليوم التالي، اشتبك طلبة معهد القاهرة الديني، بالشرطة، وأحرقوا سيارة نقل، بشارع الدراسة، وأصيب جندي بطعنة سكين، وثلاثة آخرون بالطوب، كما تظاهر طلبة جامعة فؤاد؛ فقررت الحكومة وقف الدراسة، في 28 منه، بجامعتيْ فؤاد، وفاروق (الإسكندرية، الآن). وأصدر، تحت هذا الضغط، سبعة من وفد المفاوضة، بيانًا، أعلنوا فيه معارضتهم للمشروع، الذي انتهى إليه صدقي، ما أدى إلى استقالة الأخير، تذرعًا بمرضه، هربًا مما أثير حول التعارض بين تصريحه بخصوص السودان، وتكذيب رئيس الوزراء البريطاني له.
خلف النقراشي صدقي في رئاسة الوزارة في 9 ديسمبر، فاجتمع شباب «جبهة وادي النيل»، في 15 يناير، وأصدروا نداءً، باعتبار يوم 19 يناير 1947، يوم حداد على السودان، الذي يوافق ذكرى توقيع اتفاقيتيْ السودان (1899)، كما صدر بيان، حول الشأن نفسه، من «الهيئة المتحدة بجامعة فاروق»، في 17 منه، كما صدرت بيانات لهذا الغرض، من اتحاد خريجي الجامعة، وشباب الأحرار الدستوريون، وحزب العمال المصري، وبعد ذلك بيوم واحد، صدرت بيانات، بالمشاركة في الحداد، من معظم الهيئات السياسية، ومنها «الجبهة الاشتراكية»، و«حزب العمال الاشتراكي»، و«حزب الفلاح الاشتراكي»، و«شباب جبهة مصر»48. فلبس الشعب الحداد، وتعطلت المسارح، ودور السينما، والملاهي، وصدرت الصحف مجللة بالسواد، وغصَّت بالمقالات المعبِّرة عن هذا اليوم. فصادرت الحكومة، في 20 من الشهر نفسه، صحيفتي صوت الأمة (الوفدية)، والكتلة.
تقدم النقراشي بالقضية المصرية إلى مجلس الأمن، بعد مفاوضاته السريِّة، الفاشلة مع كامبل.تشتتت مواقف الحركة الوطنية، حيث هاجم الوفد، في 15يوليو، عريضة الحكومة إلى مجلس الأمن، واتهمها بالاسترخاء، والضعف، وطالبها بإلغاء «معاهدة 1936»، و«اتفاقيتيْ عام 1899»، وأرسل إلى كل من سكرتير عام الأمم المتحدة، ورئيس مجلس الأمن، برقية، أنكر فيها على العريضة، تعبيرها عن الشعب المصري. ما استنكره «الضباط الأحرار»، بعد تأييدهم للوفد، الفترة السابقة، وقد عبَّر السادات عن شعور «الضباط الأحرار» بقوله: «كشف النحاس عن وجه غير وطني...». وكرد فعل لرفع الحكومة شعار «جمع الكلمة» نشط بمناصرة هذا الشعار، صالح حرب، رئيس «جمعية الشبان المسلمين»، بالإضافة إلى الحزبيْن الحاكميْن، و«الإخوان المسلمون»، و«الحزب الوطني»، و«مصر الفتاة». إلا أن «الوفد» رفض هذه الدعوة، مشترطًا حل مجلس النواب، وإجراء انتخابات جديدة، وأيدته صحيفة «رابطة الشباب»، لسان حال «الطليعة الوفدية»، بينما طالبت صحيفة «الجماهير» الماركسية العلنية، بجبهة وطنية من نوع جديد، تحمل لواء الكفاح في سبيل الحرية، والديمقراطية، والاستقلال.
في أثناء عرض القضية المصرية على مجلس الأمن، قام مندوب طلبة الإخوان، مصطفي مؤمن، وخطب في مجلس الأمن، مطالبًا بالحقوق المصرية، ومنذرًا، من قيام ثورة، إن لم يلتزم مجلس الأمن بالعدالة، حتى أخرج أمن المجلس مؤمن من القاعة. ثم قام أحمد كامل قطب (رئيس حزب الفلاح) - وقد سافرا إلى نيويورك، «ليشاركا في الجهود الشعبية، من أجل القضية» - بمثل الدور الذي قام به مؤمن، فأخرجوه، أيضًا. وقد جاء ذلك في صحيفة «نيويورك»، في 22 أغسطس 1947 واستغرقت مناقشة المسألة المصرية عدة جلسات، آخرها 10 سبتمبر، بينما كان المندوب البريطاني يطمح في أن يُشطب النزاع المصري – البريطاني من المجلس، أو يرفض طلب مصر، فعارضة المندوب الأمريكي، لتدارك الوضع في مصر. لم يُصدر المجلس قرارًا إيجابيًّا في القضية، وتركها معلقة أمامه. وعاد النقراشي إلى مصر، يوم 20 سبتمبر. فدعت «الجبهة الوطنية الشعبية»، في 22 أغسطس، إلى عقد اجتماع بالأزهر، بعد صلاة الجمعة؛ ورابطت الشرطة أمام المسجد، تمنع مُلبيِّ النداء من الدخول، فانضم إليهم المصلون بمسجد أبي الذهب، وساروا يهتفون: «لا مفاوضة، ولا معاهدة –يسقط الاستعمار– الجلاء بالدماء»، وانضم إليهم بميدان العتبة، من تجمعوا في المساجد الأخرى، والمقاهي، وتظاهرات شارع فاروق (الجيش، الآن)، وغيره، وتصدت لهم الشرطة، التي رُشقت من المتظاهرين بالحجارة، وقِطَع الحديد، فأصيب 45 شرطيًا، و38 متظاهرًا. فاستعان حكمدار العاصمة سليم زكي بحسن البنا، الذي طلب من المتظاهرين الانصراف، طاوعه البعض، واستمر آخرون، حتى أُعلنت حالة الطوارئ، وحدث الحراك نفسه، بالإسكندرية، والسويس، وبلبيس، وشبين الكوم، وبني سويف، وغيرها، كما أضرب عمال شبرا الخيمة؛ وفي اليوم التالي، أضرب عمال المطبعة الأميرية، وهتفت المتظاهرون بسقوط الاستعمار. في حين قامت تظاهرات أخرى من مقر «جمعية الشبان المسلمين»، بالقاهرة، اصطدمت بها الشرطة؛ وقامت تظاهرات، من جامع السيد البدوي بطنطا، وبورسعيد، وقدَّرت صحيفة «التايمز» اللندنية، عدد المصابين بنحو مئة وأربعين جريحًا؛ ثم عُقدت المؤتمرات الشعبية، المطالبة بإلغاء المعاهدة، دعت لها «رابطة الطلبة المصريين»، و«لجنة تحرير الوادي»، و«اللجنة التنفيذية للطلبة»، و«الحزب الوطني»، وغيرها. ودعت الهيئات إلى إضراب عام، في 26 أغسطس، ذكرى توقيع «معاهدة 1936»49.
دعت وزارة الداخلية، ممثلي «الإخوان المسلمين»، و«الشبان المسلمين»، وشباب «الأحرار الدستوريين»، و«مصر الفتاة»، و«جبهة مصر»، لإفشال الإضراب؛ وطلبت إليهم، عدم الاشتراك في الإضراب، وقد كان، وأذاعت الحكومة بيانًا، بأنها عوَّلت على قمع أي تظاهرة، أو شغب، أو إخلال بالنظام، فدعت الأحزاب، والهيئات الوطنية، ونقابات العمال، وتنظيمات الشباب، إلى تقديم عرائض الاحتجاج، إلى مفوضيات الدول، التي عارضت مصر، مقابل برقيات الشكر، إلى مفوضيتيْ الاتحاد السوفييتي، وبولندا. واستؤنفت التظاهرات، يومي 29، 30 أغسطس، فصودرت الصحف، واعتُقل صحفيون، وكان لهذه الأحداث أثرها على مجلس الأمن. كما اشتركت «الإخوان»، على المستوى السياسي، وفي 13 سبتمبر، قابل حسن البنا، أحمد خشبة، نائب رئيس الوزراء، وخرج البنا من عنده مؤكدًا بأنه وجد لدى الحكومة «استعدادًا طيبًا لتحقيق مطالب الشعب»!
أثَّرت الوثبة في جموع الشعب المصري، فعرفت فترة ما بعد الوثبة، استخدام عمال الحكومة، وموظفيها لسلاح الإضراب، فأضرب مدرسو التعليم الحر، في أبريل 1947؛ وأضرب موظفو التلغراف، في يوليو؛ كما امتنع نظَّار، ومعاونو سكة الحديد عن العمل، في الشهر نفسه؛ وعاود موظفو التلغراف الإضراب، في أكتوبر، كذا أضرب المدرسون عن تصحيح أوراق الامتحانات، في 15 سبتمبر، وفي الأول من يناير 1948، أضرب خريجو المدارس الثانوية الصنايع، في مسابك سكة الحديد ببولاق، وورش أبو زعبل، وفي تموين الصيانة بالعباسية، وورش سكة الحديد بالمنيا، وطنطا، وغيرهما، وفي الري ومصلحة المساحة، كما اعتصم طلبة كليتي الزراعة والعلوم مطالبين بتحسين ظروف المهنة، والتوظيف بالنسبة لمستقبلهم. كذا أَضرب الممرضون والشرطة، فالممرضون أضربوا بمستشفى قصر العيني، ومستشفى فؤاد، في 7 أبريل 1948؛ بعد أن كان رجال الشرطة أضربوا، في 5 أبريل، فقد قدم ضباط الشرطة مذكرة جددوا فيها مطالبهم - التي لم تنظر إليها الحكومة - في سبتمبر 1947، ثم اجتمعوا في ناديهم في 13 أكتوبر، لتلكؤ الحكومة في الإجابة، وقرروا الامتناع عن العمل يوم 15 منه، حتى تجاب مطالبهم. وعلى الرغم من مواجهة الحكومة لهذا الإضراب بإعلان قانون الطواريء، ونقل القادة إلى المحافظات فإن الضباط أعادوا الإضراب، واجتمعوا في ناديهم، في مارس 1948، مخترقين الحصار المضروب عليه، واتفقوا على أن يكون يوم 5 أبريل موعد نهاية انتظارهم لإجابة المطالب، وأيد جميع الضباط هذه الحركة، إلا قسم البوليس السياسي! واتحد مع هذه الحركة العمال والطلبة فاستعانت الحكومة بالجيش، لضرب هذه الحركة، واستمرت هذه الروح بين الشرطة، حتى كانت الشرطة الشرارة الأولى للحراك الشعبي ضد اعتداء المحتل على شرطة الإسماعيلية، فيما وصف بمذبحة الإسماعيلية، في 25 يناير 1952 50، ظلت ذكرى الوثبة هذه سنين فاستمر هتاف «رفع العلم يا عبد الحكم، مت شهيد يا عبد المجيد» سنوات، كلما تكررت تظاهرات في ذكرى الوثبة 21 فبراير51.
بدلًا من النتائج
هزَّت الوثبة الاحتلال البريطاني، وأرغمته على سحب قواته من كل المدن المصرية، والتمركز حول قناة السويس، بينما أفزعت الوثبة النظام الملكي؛ وأنهت بقاء الجماهير الكادحة مادة سهلة تحركها قيادة الوفد، لمجرد الضغط على المحتل البريطاني، وتسكت تلك الجماهير، وقت شاءت هذه القيادة؛ كما شلَّت الوثبة تأرجح القوى الوسيطة، لصالح القوى الوطنية. حتى أن أجهزة القمع الحكومية، أخذت تثور في وجه السلطة، على نحو استثنائي، حيث تظاهر رجال الشرطة في الإسكندرية وحملوا الأرغفة على أسنَّة بنادقهم.
في الوقت الذي أدرك الماركسيون مدى أهمية وحدتهم، فتوحدت النسبة الأكبر من منظماتهم في «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» (حدتو)، وظهرت صحيفة «الجماهير» أهم التعبيرات العلنية لـ «حدتو»، وأعلنت أنها لسان حال العمال، والفلاحين، والطلبة، والموظفين، في 7 أبريل 1947، فكانت بذرة إدخال الفلاح ضمن الحراك الوطني، الذي نمت حركته ليبرز دوره، في يونيه 1951، بحوادث حرق المحاصيل، وماكينات الري، والسواقي، والتفاف البعض منه حول قصور المالكين، وإضراب البعض الآخر عن جمع القطن، لنجد ثورة، لما سُمِّي بـ «الريف الهادئ». كذلك، وعى الحزب الوطني الدرس نفسه، فتوحد تياراه، وصدر بيان بالاتفاق، في نوفمبر 1946، بعد طول محاولات التوفيق التي بدأت منذ 1943. بالإضافة إلى القفزة المفاجئة لـ«حزب مصر الفتاة» من الفاشية إلى الاشتراكية! فوضع برنامجًا سياسيًّا اجتماعيًّا، في 1948، نأى فيه عن كل ما هو أجنبي؛ وفي العام 1949، غيَّر شعاره ليكون «الله – الشعب»، مسقطًا الملك منه، كما غيَّر اسم الحزب إلى «الحزب الاشتراكي»، وأبرز المطالب الاشتراكية في برنامجه. وقد خرج إلى الساحة السياسية تنظيم «الضباط الأحرار»، بأول بيان لهذا التنظيم، الذي أعلن فيه الخروج على الملك والحكومة، فطلب «الضباط الأحرار» عدم استخدام الجيش ضد الحركات الوطنية، إضافة إلى مطالبه العسكرية، وكان ذلك في تناغم ملحوظ مع الوثبة، من الخروج على توقير الملك، وإهانته، ابتداءً بإعلان «اللجنة الوطنية للطلبة» مقاطعة الاحتفال بعيد ميلاد الملك، وتقطيع صوره المعلقة في الشوارع، والدعوة إلى التظاهر في يوم الاحتفال، وقد حطم المتظاهرون في هذا اليوم منصة الاحتفال.
وبعد، فعلى الرغم من تفاخر اليسار المصري بالوثبة، فإنه أُخِذ عليه: عُزلة مندوبي العمال عن جماهيرهم، وانحصار نشاط لجنة الطلبة داخل أسوار الجامعة52، وحصرت «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة» نفسها في إطار طبقي، بالغ الضيق، فلم تلتحم بالفلاحين، وصغار التجار، والزرَّاع، كما أن اللجنة لم تقم بتكوين لجان، عميقة الجذور، في المصانع، والأحياء53.
على أن الأهم من هذا كله، أن الوثبة وضعتنا أمام ثورة تتخلق.
الهوامش
1 - أدين بالشكر لـ: الأستاذ نسيم يوسف، والأستاذ شعبان يوسف، والأستاذة حنان رمضان، والأستاذ مصطفى مجدي الجمال، حيث أمدوني بالمراجع، والعون لإتمام هذه الدراسة.
أنظر، على سبيل المثال:
إسماعيل محمد زين الدين، الطليعة الوفدية والحركة الوطنية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مركز الوثائق وتاريخ مصر المعاصر، 1991، ص14.
طارق البشري، عام 1946 في التاريخ المصري، الطليعة، (القاهرة)، السنة الأولى، عدد 2، فبراير 1965، ص 50: 58.
عبد القادر ياسين، الحركة الشيوعية المصرية الجذور – القسمات – المآل (1921 – 1965)، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2011، 40.
2 - زين الدين، مرجع سبق ذكره، ص 15، 16.
3 - طارق البشري، مرجع سبق ذكره، ص 50: 58.
4 - الرافعي، مرجع سبق ذكره، ص 168.
5 - ص، 434
6 - لمزيد من التفاصيل عن حادث، 4 فبراير 1942، وقبول الوفد تشكيل الوزارة بناءً على طلب السفير البريطاني، مايلزلامبسون، يمكن الرجوع إلى:
د. محمد أنيس، 4 فبراير 1942 في تاريخ مصر السياسي، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، اكتوبر 1972.
7 - للمزيد عن الحركة الشيوعية المصرية، في ميلادها الأول، والثاني، ننصح بالعودة إلى:
ياسين، مرجع سبق ذكره؛
رفعت السعيد، اليسار المصري 1945 – 1952، القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1977.
8 - ياسين، مرجع سبق ذكره، ص 43.
9 - عاصم الدسوقي (تحرير)، عمال وطلاب في الحركة الوطنية المصرية، ندوة عن شهادات ورؤى أبطال حركة العمال والطلبة 1946 – 1977، القاهرة، لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية حتى 1965، كتاب المحروسة، مركز البحوث العربية – مركز الجيل، 1996، ص21.
10 - الفجر الجديد (القاهرة)، انظر أعداد 1945 – 1946.
11 - زين الدين، مرجع سبق ذكره، ص 24.
12 - جمعة أمين عبد العزيز، بداية التأسيس والتعريف البناء الداخلي 1928 – 1938م، ط1، القاهرة، دار التوزيع والنشر الاسلامية، 2003، ص95.
13 - للمزيد من التفاصيل، عن نشأة الضباط الأحرار، ننصح بالعودة إلى:
خالد محي الدين، والآن أتكلم، ط1، القاهرة، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1992.
سامي جوهر، الصامتون يتكلمون عبد الناصر.. ومذبحة الإخوان، ط6، القاهرة، الكتب المصر الحديث للطباعة والنشر، 1976.
عبد المنعم عبد الرؤوف، أرغمت فاروق على التنازل على العرش، ط1، القاهرة، الزهراء للإعلام العربي، 1988.
حسين أحمد حمودة (أحد الضباط الأحرار)، أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمون، ط1، القاهرة، الزهراء للإعلام العربي، 1985.
صلاح شادي، صفحات من التاريخ حصاد العمر، ط1، القاهرة، دار التوزيع والنشر الاسلامية، 2006.
طارق البشري، الحركة السياسية في مصر 1945 – 1953، ط2، القاهرة، دار الشروق، 2002.
عبد اللطيف البغدادي، مذكرات عبد اللطيف البغدادي، ج1، القاهرة، الكتب المصر الحديث للطباعة والنشر، 1977.
أنور السادات، أسرار الثورة المصرية بواعثها الخفية وأسبابها السيكولوجية، القاهرة، دار الهلال، سلسلة كتاب الهلال عدد (76)، يوليو/ تموز 1957.
14 - طارق البشري، الحركة السياسية..مرجع سبق ذكره،ص 147.
15 - عبد المنعم الغزالي، 21 فبراير يوم النضال ضد الاستعمار، ط1، القاهرة، دار الفكر، 1957، ص 13.
16 - فاروق القاضي، فرسان الأمل تأمُّل في الحركة الطلابية المصرية، ط1، القاهرة، مركز البحوث العربية، 2000، ص 213.
17 - زين الدين، مرجع سبق ذكره، ص 41، 42.
18 - شهدي عطية الشافعي، تطور الحركة الوطنية المصرية 1882 - 1956، ط2، القاهرة، دار شهدي للطبع والنشر والتوزيع، 1983، ص 93.
19 - البشري، الحركة السياسية... مرجع سبق ذكره، ص 157.
20 - المرجع نفسه، ص 155.
21 - الدسوقي، مرجع سبق ذكره، ص 124.
- عصام الدين جلال، عابر سبيل في دروب الوطنية (1942 – 1950)، القاهرة، سلسلة كتاب الهلال (564)، ديسمبر، 279، 280.
22 - الوفد المصري (القاهرة)، 8/ 2/ 1946.
23 - القاضي، مرجع سبق ذكره، ص 223.
24 - الرافعي، مرجع سبق ذكره، ص 187.
25 - القاضي، مرجع سبق ذكره، ص224.
26 - المرجع نفسه، ص 228.
27 - البشري، الحركة السياسية...، مرجع سبق ذكره، ص 553.
28 - الدسوقي،مرجع سبق ذكره، ص 24.
29 - المرجع نفسه، ص 25.
30 - محمود عبد الحليم، الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ رؤية من الداخل، ج1، ط5، القاهرة، دار الدعوة للطباعة والنشر والتوزيع، 1994، ص 365.
31 - المرجع نفسه، ص 365، 366.
32 - البشري، عام 1946 ...،مرجع سبق ذكره، ص 50: 58.
33 - المرجع نفسه، ص 83.
34 - القاضي، مرجع سبق ذكره، ص234،235.
35 - الدسوقي،مرجع سبق ذكره، ص 17.
36 - المرجع نفسه، ص 20.
37 - المرجع نفسه، ص 29.
38 - المرجع نفسه، ص 39.
39 - البشري، عام 1946 ...،مرجع سبق ذكره، ص 50: 58.
40 - الدسوقي،مرجع سبق ذكره، ص 18.
41 - المرجع نفسه، ص 40.
42 - الشافعي،مرجع سبق ذكره، ص 102.
43 - الدسوقي،مرجع سبق ذكره، ص 46.
44 - عبد الحليم، مرجع سبق ذكره، ص390.
45 - الدسوقي،مرجع سبق ذكره، ص 33، 34.
46 - عادل أمين، محاكمة الشيوعيين المصريين قضية سنة 1946 حملة إسماعيل صدقي ضد العناصر الوطنية والديمقراطية، ط1، القاهرة، مطبعة الانتصار لطباعة الأوفست، 1996، ص 11: 17.
47 - جمال غالي، في اتصال تليفوني معه، في منزله بالقاهرة، في 1/ 2/ 2019.
48 - البشري، الحركة السياسية ... مرجع سبق ذكره، ص213.
49 - المرجع نفسه، ص 249.
50 - البشري، الحركة السياسية ...، مرجع سبق ذكره، ص 292، 293.
51 - لقاء شخصي مع نسيم يوسف،الكادر الشيوعي المخضرم،والمعاصر للوثبة، في منزله بالقاهرة، في 8/ 2/ 2019.
52 - جرجس، مرجع سبق ذكره، ص 193
53 - أبو سيف يوسف، وثائق ومواقف من تاريخ اليسار المصري 1941 – 1957، القاهرة، شركة الأمل للطباعة والنشر، 2000، (انظر: نسيم يوسف، لجنة العمال والطلبة 1946، ص636).
- الشافعي، مرجع سبق ذكره،ص 108، 109.