عدد 10/11-100 سنة على ثورة 1919

أحمد ضياء دردير

1919 فجوة الأرشيف المنتجة

2019.05.01

1919 فجوة الأرشيف المنتجة

1919في ذاكرة الوطن ونسيانه

ربما لا يوجد أحد في مصر لا يعرف، بشكل ما، أهمية «ثورة» 1919؛ ففي المدارس، وفي الإعلام، وفي المقالات الصحفية، وفي الخطاب السياسي والاجتماعي اليومي، هناك دائمًا من يذكرنا بأهمية هذه «اللحظة الوطنية»، نقول 1919 فتتجمع في أذهاننا صورة غنية لشيوخ معممين يزحفون يدًا بيد مع قساوسة في ملابسهم الكنسية، يهتفون: «عاش الهلال مع الصليب»، وصورة النساء في براقعهن البيضاء أو من دونها ينزلن إلى المظاهرات، وبالطبع أفواج المطربشين والجميع يهتف: «سعد سعد، يحيا سعد».

ولكن إلى جانب هذه التعميمات والصور المجتزأة، إلى جانب هذه «الكليشيهات الوطنية» إن جاز التعبير، ماذا يعرف المرء - إن لم يكن متخصصًا في التاريخ، أو قارئًا نهمًا للتاريخ بشكل منهجي - عن أحداث 1919؟ أزعم أن الإجابة هي: «أقل القليل». 

قد يبدو من المنطقي ألا يعرف غير المتخصص تفاصيل التاريخ، ولكن لكي أوضح فكرتي، دعوني أقارن تذكرنا لأحداث 1919 بتذكرنا للحدث الوطني - التأسيسي الآخر الذي وقع قبلها، ما بين 1881 – 1882؛ أعني: الحدث، أو مجموعة الأحداث، التي نعرفها الآن باسم: «الثورة العرابية» في المدارس وفي الإعلام، نتذكر تفاصيل مواجهة عرابي للخديوي توفيق، ووزارة شريف باشا، وخلاف العرابيين معها، والوزارات العرابية، وحكاية الحمار والمالطي، ومعارك كفر الدوار، والقصاصين، والتل الكبير، ونتذكر بأسى كيف صدق عرابي وعود ديلسبس ولم يغلق قناة السويس في وجه البوارج الحربية الإنجليزية؟! بالطبع تغيب عن بعضنا التفاصيل وتختلط، ولكن ما أود أن أصل إليه: هو أنه عندما يتعلق الأمر بحدث وطني تأسيسي، قد تحتفظ الذاكرة الوطنية – بما في ذلك ذاكرة غير المتخصصين – بتفاصيل أرشيفية، كما هو الحال مع الثورة العرابية، وقد تحتفظ الذاكرة الوطنية بالحدث مع فجوة في تفاصيله، وفي أرشفته، كما هو الحال مع 1919.

طبعًا هناك تفسير بديهي وسائد، وهو أن الأنظمة العسكرية منذ 1952 قررت تطويب الثورة العرابية لحظةً تأسيسيةً للوطن؛ ليكون الجيش هو الذي أنتج الوطنية المصرية، وقررت كذلك أن تغمط 1919 لا لمدنية اللحظة فحسب، ولكن أيضًا لخصومة ما بين نظامي عبد الناصر والسادات من ناحية، وحزب الوفد من ناحية أخرى. لا أعارض بالضرورة هذا التفسير (وإن كنت أرى أن الذاكرة الوطنية-العسكرية تذكرت «الثورة العرابية» بشكل انتقائي أدى إلى نسيان بعض أحداثها لا تذكُّرها، وهو ما لا يتسع له المجال في هذا المقال)، ولكني أود أن أضيف إليه تفسيرًا آخر: فأحداث عام 1919 وقعت في ظل تعتيم إعلامي فرضته الرقابة البريطانية الصارمة على الصحف المصرية، مما أدى بدوره إلى فجوة في الأرشيف الوطني، فلو رجعنا إلى جرائد تلك الفترة، فلن نجد سوى تعميمات وأخبار مبتسرة (معظمها مستقى من المصادر الرسمية البريطانية)، ومقالات مبهمة (كثير منها يدور حول المفاضلة بين المظاهرات الحضارية، وأعمال الشغب)، وبعض النشرات العسكرية البريطانية مترجمةً إلى العربية. 

طبعًا سنجد مواكبة للأحداث، ولكننا سنجد هذه المواكبة غارقة في العموميات، فلن نجد تغطية شاملة للأحداث، ولا تحليلات عميقة، أو مفصلة بأقلام الوطنيين. إلا أن فجوة الأرشيف هذه هي التي جعلت من أحداث عام 1919 لحظة مواتية لتأسيس ذاكرة وطنية.

استثناء قبل البدء:

وقبل أن أمضي في بيان فرضية فيها من غرور الباحث ما فيها، أريد أن أشير أولًا إلى أني لا أزعم وجود فجوة في الأدبيات الأكاديمية، والكتابات التاريخية؛ فالكتابات التي تحاول أن تتذكر 1919 سواء بأشكال منهجية-موضوعية، أو أشكال منحازة متوفرة، من كتابات عبد الرحمن الرافعي – الذي عاصر تلك الأحداث بنفسه، وكان جزءًا فاعلًا في الحركة الوطنية - إلى مذكرات غيره من الفاعلين في الأحداث – ليس فقط مذكرات مشاهير اللاعبين، مثل: سعد زعلول، ومصطفى النحاس وغيرهما، ولكن أيضًا مذكرات لاعبين عملوا في الظل، مثل: عريان يوسف سعد الذي أخرجتنا مذكراته من الرواية السائدة عن المظاهرات السلمية المتحضرة، إلى فصل من فصول العمل العنفي والسري في تلك المرحلة، إلى المحاولات الأكاديمية الجادة للتغلب على فجوة الأرشيف، سواء عن طريق اللجوء إلى الأرشيف الفني، أو التأريخ الشفوي، أو لملمة الشذرات الوطنية وطباقها الاستعماري من الأرشيف الإنجليزي، أو الالتفات إلى أرشيف المراسلات، أو مما وثقه الذين عاصروا الأحداث فيما بعد، وهي محاولات سيكون لها شأن في مراجعة الذاكرة الوطنية على المدى الطويل.

إلا أن هذه المحاولات لا تنفي النقطتين اللتين سأبني عليهما تحليلي: 

أولًا: أن هناك فجوة أرشيفية فيما يتعلق بالصحافة الوطنية وتصورها للأحداث وقت وقوعها. 

وثانيًا: أن تذكرنا لهذه الأحداث على مستوى الذاكرة الوطنية (لا ذاكرة البحث والتأريخ) يعاني من فجوة مشابهة (وطبعًا هناك ملاحظة عرضية لا تنفضل عن هذه الفجوة، وهو أن الكتابات عن ثورة 1919، على ثرائها، لا تتوافر بسهولة في المكتبات، وهي المشلكة التي بدأت تنصلح في هذا العام بمناسبة الذكرى المئوية للأحداث). 

هناك نقطة ثالثة متعلقة بالموضوع، ستفتح لنا الجانب النظري من هذا المقال: وهي أن هذه المحاولات، وإن كانت كلها تنتج أرشيفًا لتذكُّر 1919، فمعظمها ينتج هذه الذاكرة من نقطة تاريخية لاحقة على 1919؛ حتى كتابات الرافعي الذي عاصر الأحداث وجمع وثائقها، كُتبت في لحظة تاريخية مغايرة تمامًا في أربعينيات القرن العشرين. 

يمكننا هنا أن نأخذ عن جاك دريدا أن الأرشيف هو بقية من شيء أو من حدث ما يبقى بعد زوال الشيء أو انتهاء الحدث، ويصبح بالتالي جزءًا من ذاكرته، وهكذا فكل تعامل مع الأرشيف يعني: تذكر الحدث من لحظة مغايرة، ولكن هذا التذكر يعتمد على الأثر/الأرشيف الذي تركه ذلك الحدث الذي نتذكره، إلا أننا في حالة 1919، ونتيجة الفجوة الأرشيفية، كثيرًا (وليس دائمًا) ما نجد أن الشيء الذي يُذكر الحدث به، ما عدا ذاكرته نفسها، يُنتج هو الآخر في لحظة مغايرة. 

عن الأرشيف والذاكرة: مقاربة نظرية

يقول دريدا بأن الأرشيف يشبه الذاكرة. قد يبدو هذا بديهيًّا؛ لأن الذاكرة الوطنية قائمة بشكل كبير على الأرشيف، ولكن دريدا يأخذنا إلى أبعد من ذلك، إلى القول بأن الأرشيف مثل الذاكرة ينسى ويتذكر، ويحرّف الذكرى ويصيبه القصور، ويستثمر دريدا هنا المفهوم الفرويدي للذاكرة على أنها تتكون من طبقات، لا نعي إلا طبقتها الأكثر سطحية، بينما لا نعي غالبًا ما تدفنه هذه الطبقة العليا تحتها، وإن كان المدفون يترك انطباعاته على طبقات الذاكرة فوقه، ويمكن الولوج إليه من خلال انطباعات الذاكرة، وعن طريق التحليل النفسي تحديدًا.

وعملية أرشفة الشيء، بحسب دريدا، هي بالأساس عملية تحديد ما يتذكر وما ينسى؛ إذ تحفظ شيئًا وتدمر ما حوله، وشبه ذلك بإرادة الحياة وإرادة الموت، وكيف يعضدان بعضهما في التحليل النفسي الفرويدي، ويذهب دريدا إلى أننا إن أردنا أن نسك نظرية للأرشيف، فعلينا أن نرجع إلى التحليل النفسي الفرويدي، وسيعتمد تحليلنا بشكل كبير على هذا الفهم الدريدي-الفرويدي للأرشيف-الذاكرة.

ولكي لا يصبح كلامنا عن الذاكرة الوطنية محض تعميمات، يمكننا أن نرجع بشيء من التبسيط إلى تحليل بنديكت أندرسون لنشوء «الوطنية» أو «القومية» كإنتاج مجتمع متخيل، تجمعه تقنيات متعددة، يلتقي الناس من خلالها فيتخيلون أنهم التقوا بعضهم بعضًا في الواقع، ويصبح لديهم وعي بكونهم مجتمعًا واحدًا، وأمة واحدة. وبعد سرده لتقنيات تخيل المجتمع، يذكرنا بقول إرنست رينان بأن ما يجمع الناس كأمة هو أن يتذكروا شيئًا معًا، وكذلك أن ينسوا شيئًا معًا، وسنرى أن 1919 تصبح هي الشيء الذي نذكره معًا وننساه معًا في آن.

ولكي نفهم أهمية النسيان كما نفهم أهمية التذكر في إنتاج الهوية الوطنية وذاكرتها، وأهمية تداخل النسيان مع التذكر، يمكننا الرجوع إلى توصيف جوزيف مسعد لـ«الزمن الوطني» بأنه «زمن مزدوج ... متزامن»؛ بحيث تستوجب الهوية الوطنية إسقاط الحاضر على الماضي؛ كأن الوطن وجد بشكله الحالي منذ الأزل (وسنرى كيف تفترض سرديات 1919 أن مفهوم الوطنية المصرية وقتها هو نفسه مفهوم الوطنية المصرية الآن، وستسقط من حسبانها كل الوقائع التاريخية التي تتعارض مع هذا المفهوم، وستعينها فجوة الأرشيف على ذلك)، وتستدعي كذلك أن يعاش الماضي، بحسب تصورنا المعاصر له، في الحاضر (وهو ما يحدث باستذكار ثورة 1919، بما في ذلك هذا العدد الذي أكتب فيه)، هذا التذكر للماضي الذي يعيد إنتاجه من منظور الحاضر، ثم يوسمه تاريخًا رسميًّا ووطنيًّا يأخذ منحى فرويديًّا من حيث ألاعيب الذاكرة التي وصفها المحلل النفسي الأول، يقول مسعد: «ويشبّه فرويد محاولة الحركات الوطنية «استرجاع ذكرى» الوطن بحالة ذكريات الطفولة لدى الإنسان: فبهذه الطريقة غالبًا ما تنشأ ذكريات الطفولة. وعلى خلاف الذكريات الواعية من زمن النضج، لا نثبت ذكريات الطفولة في اللحظة التي تقع فيها، ثم تتكرر بعدها، بل تُستدعى في مرحلة لاحقة بعد انقضاء مرحلة الطفولة. وفي أثناء هذه العملية، تتبدل الذكريات وتزيف وتسخّر لخدمة توجهات لاحقة، حتى إنها بشكل عام لا يمكن تمييزها بدقة عن الخيالات».

 يرى دريدا في الأرشيف شيئًا مشابهًا؛ إذ يرى أن الأرشفة لا تعني فقط جمع الأشياء المادية المختلفة في مكان ما، ولكنها تتضمن كذلك جمعها رمزيًّا تحت دالة جامعة أو مجموعة دوال متصلة، وأن الأرشيف وإن كان يشكل «طرفًا زائدًا» تنطبع عليه الذاكرة، فإن هذا الطرف وذلك الانطباع (بمعانيه المخلتفة، من حيث هو ترك أثر شيء على شيء، ومن حيث هو الانطباع الذي نأخذه عن شيء من بعيد)، لا ينفصلان عن عملية إنتاج الذاكرة ذاتها.

إذا كانت الذاكرة الوطنية، ومعها الأرشيف-الذاكرة، يعيدان إنتاج الماضي بمفاهيم الحاضر – وبالذات بمفاهيمه الوطنية المعاصرة، وإذا كانت عملية الأرشفة والتذكر هذه قائمة على النسيان والتأويل/التحريف كما هي قائمة على التذكر، وعلى تدمير الأثر كما على حفظه، أو على حفظه وبالتالي تدمير ما عداه، فإن الذاكرة الوطنية، ومعها الأرشيف-الذاكرة، ليجدان في فجوة الأرشيف لحظة مواتية لتلاعب الذاكرة هذا؛ أو بشكل أبسط وبدون الدخول في تعقيدات فرويدية-دريدية، فإن غياب التفاصيل في الحدث التاريخي الوطني التأسيسي، يسمح للذاكرة الوطنية المعاصرة أن تشكله كما شاءت. 

وفي ظل هذه الفجوة لا يبقى لنا - سواء كأصحاب ذاكرة وطنية أو كمؤرخين ومنظرين - إلا أن نحاول أن ننفذ إلى 1919 من خلال ما نجا من فجوة الأرشيف الوطني، أو من خلال كثافة الأرشيف الإنجليزي.

كثافة الأرشيف الإنجليزي، وثقب الأرشيف الأسود:

ففي مقابل فجوة الأرشيف الوطني المصري نجد كثافة في الأرشيف البريطاني، من تقارير المخابرات، ورسائل الصحفيين والمغامرين، إلى وثائق ميلنر، إلى ما جمعه الإنجليز من بيانات ومنشورات (علنية وسرية) مصرية. هذا التضاد ما بين كثافة الأرشيف الإنجليزي وفجوة الأرشيف المصري ليس محض مفارقة، بل هو من أعراض العلاقة الاستعمارية التي أنشأت الأرشيفين. 

يمكننا أن نقول، من دون مبالغة: بأن الأرشيف البريطاني أُنتح في سياق استعماري، وأنه جُمع وحُفظ في سياق استعماري، في علاقة غير متوازنة دمرت الأرشيف في مصر (عن طريق الرقابة البريطانية على الصحف في 1919)، وجمعته في لندن (عن طريق أجهزتها ومخبريها)، ويستمر هذا النسق؛ إذ كلما قل الأرشيف في مصر وزاد في بريطانيا، ازدادت حاجة الباحثين المصريين أن يُيَمِّموا وجوههم شطر بريطانيا. 

نستطيع إذن أن نقول: إن الأرشيف البريطاني هو نقيض الأرشيف الوطني، بل نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول (مستعينين بقول دريدا: بأن الأرشيف يجمع ما بين نزعة الحياة ونزعة الدمار، وأنه يعتمد على المحو كما يعتمد على التوثيق): بأن الأرشفة البريطانية تعني بالضرورة: تدمير الأرشيف المصري، وأنه كلما زاد الأرشيف البريطاني نقص الأرشيف المصري حتى إذا قارب ذاك «ما لا نهاية» قارب هذا الصفر. 

هذه المعادلة التفاضلية لا تقوم فقط على المقارنة بين كثافة الأرشيف هناك وفجوته هنا، ولا على العلاقات الاستعمارية السابقة على الأرشيفين والمشكِّلة لهما، ولكن أيضًا على استلاب الأرشيف الإنجليزي للأرشيف الوطني بشكل يمحو الأصل الوطني، ولا يسمح بإعادة إنتاج الذاكرة المؤرشفة إلا من خلال إطارها الأرشيفي البريطاني (الاستعماري بالضرورة).

أفضل مثال على ذلك: فتوى صدرت في يوليو 1919 من مفتي الديار آنذاك الشيخ محمد بخيت، يضمها الأرشيف البريطاني بنسختها الإنجليزية، مع وثائق مختلفة متعلقة بالفتوى وبردود الفعل عليها؛ إذ يستفتيه سائل يدعى: «السيد حسن» عن أضرار البلشفية، فيرد بإدانتها إدانة دينية واجتماعية وأخلاقية. ويشي الملف نفسه بأن الذي حرض على هذه الفتوى هم الإنجليز؛ إذ يتباهى أحد رجال الإنجليز في وزارة الداخلية المصرية (في وثيقة يحتويها الملف ذاته) بأنه كان وراء هذه الفتوى؛ إذ كان مسؤولًا ليس فقط عن إشاعة بغض البلشفية في أروقة الأزهر، ولكن أيضًا عن تزويد الأزهريين بالوثائق المعادية للشيوعية، وبالذات بوثائق الخارجية البريطانية المعروفة بـ«الكتاب الأبيض»؛ أي: أننا هنا أمام وثيقة-حدث أنتجها الإنجليز من البداية، ثم جمعوا هم أثرها/أرشيفها، وجمعوا معه الدليل على دورهم في إنتاجها. 

وقد لعب أرشيف هذه الفتوى دوره في السياسات البريطانية الاستعمارية؛ إذ طبعتها السلطات البريطانية ووزعتها في مستعمراتها المسلمة، (وهناك عدد من البرقيات والمراسلات بهذا المعنى في الملف نفسه)، وفي المقابل يحتوي الملف على عدد من الوثائق التي تظهر ردود فعل المصريين على هذه الفتوى، من بينها منشور بعنوان: «اعتنقوا البلشفية أيها المصريون» باسم «اللجنة المستعجلة» (لحزب الوفد)، في مستهله هجوم عنيف على المفتي وفتواه، ودور الإنجليز – وبالتحديد المندوب السامي البريطاني إدموند اللنبي - في حثه عليها؛ إذ يقول: «خدعوك يا بخيت، فزغت عن الصواب لخدمة الإنجليز، وكذبت على الحق، وظلمت العدل، فأفتيت على غير علم، وافتريت على الدين يوم استفتاك اللنبي في ثوب السيد حسن، الذي تجرأ وفسق، فوصف البلشفية على غير الحقيقة، مرضاةً للإنجليز أعداء الإنسانية والعدل». 

وكنت قد استخدمت هذه الوثيقة في بحثي للدكتوراه؛ للتدليل على أن فتوى بخيت بدلًا من أن تصرف المصريين عن الشيوعية قربتهم إليها، (وللتدليل بالتالي على أن خطاب الثورة المضادة المصري فيه من تأثيرات الاستعمار أكثر مما فيه من أثر التراث أو الثقافة الوطنية)، ولكن مناقشة عامة على الفيسبوك مع الأستاذة منى أنيس، (وهي أحد الخبراء الذين نفذوا إلى الأرشيف بالرغم من فجوته)، فقد نبهتني إلى أن هذا المنشور قد يكون من وضع الإنجليز؛ لإحداث الفرقة ما بين الحركة الوطنية وما بين دار الإفتاء في لحظة الإجماع الوطني ضد الإنجليز، (وقالت، وهي الأعلم مني بتفاصيل هذه المرحلة: إنه من المستبعد أن تكون اللجنة المستعجلة للوفد قد أصدرت مثل هذا المنشور).

لا نستطيع إذن - حتى في التضاد ما بين فتوى بخيت ومنشور اللجنة المستعجلة - أن نجد التضاد بين الأرشيف الاستعماري والوطني، بل كل ما نجده هو الإطار الأرشيفي الاستعماري الذي يمتص الأرشيف الوطني ليعيد إنتاجه استعماريًّا. وحتى قبل هذا الامتصاص نجد أن الأرشيف الاستعماري ينتج الأرشيف «الوطني»، أو ينتج «وثائق» و«دوال» و«تمثيلات» لا تتصل بأصلها، وإنما تتصل بلعب الأرشيف وإنتاجه لدلالات من دون مدلول؛ فلا يمكننا، من خلال كثافة الأرشيف الاستعماري، أن ننفذ إلى الأصل، أو حتى أن نعرف إن كان هناك أصل أم أن الوثيقة مفبركة، لا ينطبق هذا فقط على بيان «اللجنة المستعجلة»، ولكن أيضًا على الفتوى نفسها التي تتهمها بعض الوثائق الأخرى (في الملف ذاته) بأنها كتبت بقلم الإنجليز، ثم ترجمت للشيخ بخيت. 

ويصبح لعب الأرشيف أكثر إثارة للحيرة حين نجد أن الوثيقة التي تتهم الفتوى بأنها ليس لها أصل سوى في أرشيف الإنجليز، وليست سوى بيان اللجنة المستعجلة التي نشك أنه ليس له أصل سوى في أرشيف الإنجليز، فكأننا أمام لعبة من الانعكاس اللانهائي للمرايا، لا يمكن تحديد الأصل في ظله.

وبما أننا بدأنا هذه الفكرة باستعارة حسابية تفاضلية (عن الأرشيف الوطني الذي يقترب من الصفر، فيقترب الأرشيف البريطاني من اللا-نهاية)، وبما أننا وصلنا إلى نقيضين متصلين: الكثافة اللامتناهية والعدم، يمكننا أن نخلص هنا إلى استعارة فلكية؛ إذ تشكل كثافة الأرشيف الإنجليزي والفراغ الناتج عنه ظاهرة تشبه الثقب الأسود، الذي تقترب كثافته من اللا-نهاية فيمتص ويبدد ما سواه، هذه الاستعارة ستكون مفيدة للحديث عن تبديد فجوة 1919 الأرشيفية لما قبلها وما بعدها، وسنرى أن هذا الثقب الأسود المكون من الكثافة اللامتناهية والعدم لا يقتصر دوره على تبديد الأرشيف-الذاكرة، ولكن يمتد إلى إنتاج أرشيف-ذاكرة وطني معاصر.

ولكي لا تبتعد أمثلتنا كثيرًا عن دور الفجوة الأرشيفية في الذاكرة الوطنية، وقبل أن نتحدث عن التهام فجوة الأرشيف لما قبلها وما بعدها، لنعمد إلى مثال آخر لم يغب عن الذاكرة الوطنية وإن غاب عن الأرشيف الرسمي؛ أعني: إعلان «جمهورية زفتى»، وسط كل هذا الركام الأرشيفي لم يظهر هذا الحدث في الجرائد المصرية سوى من خلال سطر واحد ضمن «البلاغات الرسمية» التي كانت تصدرها السلطات البريطانية وتفرض على الجرائد المصرية نشرها، يقول: «وفي 17 جاري أحرق ديوان المركز في رشيد، في حين استولى الرعاع في التاريخ نفسه على مركز زفتى وتغلبوا على رجال البوليس ورفعوا العلم العثماني». فهل رأى الوطنيون في زفتى أن إعلان وطنيتهم واستقلالهم يمر عبر إعلان عثمانيتهم؟ هل رفعوا العلم الأحمر (الذي كان في تاريخ ثورات القرن التاسع عشر في أوروبا يعني: التمرد المسلح غالبًا)، فدل لونه الأحمر الإنجليز على العلم العثماني؟ لا ننسى كذلك أن السلطات الإنجليزية رأت في انتفاضات النجوع المصرية وإعلانها استقلالها عملًا بلشفيًّا، (ربما لأنها ذكرتهم المجالس السوفيتية التي قامت على أساسها الثورة البلشفية والاتحاد السوفيتي)، فهل اختلط عليهم الأحمران؟ هل فبرك أحد الإنجليز مثلًا حكاية عن رفع الوطنيين، أو «الرعاع»، للعلم الأحمر الشيوعي، ثم تلقف الحكاية إنجليزي آخر جعل العلم الأحمر عثمانيًّا؟ أم أن روايات الإنجليز عن التأثيرات البلشفية لم تكن محض خرافات، وكانت هناك بالفعل عناصر شيوعية في زفتى رفعت العلم الشيوعي الذي ظنه الإنجليز عثمانيًّا؟ مرة أخرى لا نستطيع أن ننفذ إلى الحادثة من كثافة الأرشيف الإنجليزي التي يقابلها انعدام للأرشيف الوطني. 

نرى هنا أن الدعاية الإنجليزية تنتج استقلال زفتى خارج الأرشيف، ليس فقط بجعله خارج ما يوثق ويروى، (وتستعيض عن رواية عملية التنسيق والإعداد التي ضمت نبلاء زفتى وفلاحيها، واشتركت فيها شخصيات وطنية مختلفة، بشطر جملة عن الرعاع الذين رفعوا العلم العثماني على المركز)، ولكن أيضًا بجعله خارج سياق المألوف غربيًّا، وتضعه في سياق آخر لا يوثق ولا يفهم، يضم أعداء الغرب التقليديين (العثمانيين) والمحدثين (البلاشفة)، ويصبح العلم الأحمر شعارًا لتلك الخانة الخارجة عن المألوف والمفهوم والموثق، التي تسقط فيها بريطانيا أعداءها العثمانيين والشيوعيين والوطنيين.

يغيب الأصل هنا؛ إما لغياب الحدث، أو لغياب أثره في الأرشيف والذاكرة الوطنيين؛ فلا ندري إن كنا بإزاء فبركة بريطانية، أو طبقة فوق طبقة من التمثيلات من دون أصل، أو أمام حدث وطني سيظل ضائعًا في لعب الأرشيف، وبالتالي في الذاكرة الوطنية المصرية. إلا أن ضياع قصة العلم الأحمر يرتبط كذلك بسردية وطنية لن تقبل عدم التجانس الذي سيدخله العلم الأحمر، عثمانيًّا كان أم بلشفيًّا، على الرواية الوطنية؛ ونتفق هنا مع دريدا الذي يقول: بأن الأرشفة تتضمن نوعًا من فرض التجانس وجمع الأشياء تحت دالة واحدة، أو مجموعة دوال متصلة ببعضها البعض. 

لا يمكننا أيضًا، في ظل فجوة الأرشيف، الجزم بما إن كان تغييب حادثة العلم الأحمر هو نتيجة لعملية فرض التجانس على الأرشيف- الذاكرة، أو إن كان التجانس هو نتيجة عرضية لهذا الغياب، إلا أننا في الحالتين نرى أن فجوة الأرشيف تلعب دورًا منتجًا في الذاكرة الوطنية، وأن ثقب الأرشيف الأسود يبتلع من ناحية، وينتج من الناحية الأخرى.

لا يغيب عنا في المثال الأخير أن عدم أرشفة الحادثة وطنيًّا يتصل بالانحياز السياسي لعملية إنتاج الأرشيف-الذاكرة، فلو كان المؤرشفون، سلطاتٍ ومؤرخين، عثمانيي الهوى، لجمعوا هذه الحادثة، حقيقية كانت أم مفبركة، مع الشذرات والروايات والأمثلة التي تظهر انحياز المصريين للدولة العلية، وفرضوا عليهم تجانسًا تحت حكم الدالة العثمانية. وسنرى حين نتحدث عن ابتلاع ثقب الأرشيف الأسود لما قبله وما بعده، أن هوية مصر العثمانية كانت من بين ضحايا الفجوة الأرشيفية.

1919 تجب ما قبلها وما بعدها:

يسمح غياب التفاصيل المفروض على أرشيف-ذاكرة 1919 فرصة مواتية لإنتاج ذكرى وطنية متجانسة، تجمع فئات الشعب المختلفة على هوية واحدة. لا ننكر هنا طبعًا أهمية 1919 كلحظة تأسيسية دخلت فيها أطياف المجتمع المصري، يدًا بيد، إلى الساحة العامة تحت شعار وهدف مشتركين؛ هما: معاداة الاستعمار، وبالتالي كانت إحدى أهم اللحظات التأسيسية لما يمكن أن نسميه بـ«العقد الاجتماعي» المصري.

فقد كانت، على سبيل المثال، لحظة لإعلان فشل كل محاولات البريطانية لاستمالة الكنيسة القبطية، وتصوير الحالة الوطنية على أنها فتنة طائفية، إلا أن لعب الأرشيف يتركنا أمام خيارين: إما أن نبحث عن تاريخ محاولات السلطات البريطانية استمالة مسيحيي مصر ولحظات نجاحها وفشلها قبل 1919، (وسنرى مثلًا أنها فشلت منذ الاحتلال في استمالة الكنيسة، وأنها لم تستمل سوى فئة قليلة من أعيان الأقباط، مثل: بطرس غالي، أو بعض الكتاب الشوام المرتزقة المقيمين في مصر والمرتبطة مصالحهم بالمال الإنجليزي من قبل الاحتلال، وهم الذين أنشؤوا جريدة المقطم الناطقة باسم الاحتلال، وحاولوا أن يستغلوا ذلك في فرض فُرقة وطنية، متناسين أن عدد عملائهم المسلمين كان أكثر من ذلك بكثير)، وننظر في مقابل ذلك إلى الدور الوطني الذي لعبه مسيحيو مصر قبل 1919، وأسباب غيابه من الأرشيف-الذاكرة مثلًا، (بالرغم من وجود مادة أرشيفية مسيحية تدعم عرابي أو الحزب الوطني في وجه الإنجليز، على سبيل المثال). 

الاحتمال الآخر - وهو ما أخشى أن يكون لعب الأرشيف قد فرضه -: هو أن ننظر إلى لحظة 1919 على أنها لحظة ميلاد المشاركة الوطنية المسيحية، لا لحظة إعلانها وتكريسها: لا يهدد ذلك فقط بخلق سردية طائفية تظهر المسيحيين كما لو كانوا قد وفدوا على الوطنية المصرية عام 1919، ولم يكونوا هناك لحظة ميلادها (1881 - 82 على سبيل المثال)، ولكنها أيضًا تعطي مصداقية للمحاولات (الأرشيفية والسياسية-المؤسساتية) الإنجليزية، التي كانت تصور عداء المصريين للإنجليز وعملائهم كما لو كان عداء أعمى ضد المسيحيين، والتي صورت العنف الذي شهدته الإسكندرية إبان عدوان الأسطول الإنجليزي عليها في 1882، على أنه محض عنف طائفي بين مسلمين ومسيحيين. 

وقد تضمنت هذه المحاولاتُ الأرشفةَ الإنجليزية لشهادات الأجانب المقيمين في الإسكندرية، والمرتبطين بالمصالح البريطانية (على حساب أي رواية وطنية للأحداث)، وتضمنت كذلك صدى أرشيف الإنجليز في كتابات عميلهم سليم النقاش، الذي كان يشير للأجانب حصرًا بـ»المسيحيين» أو «النصاري» ماحيًا بذلك أي وجود مسيحي مصري، وكان يصر على أن جموع «الأهالي» لم يكونوا سوى مسلمين يحركهم كرههم الأعمى للمسيحيين والأجانب. نفس المحاولات الأرشيفية-الطائفية صورت بعد ذلك العنف الذي مارسته خلايا سرية مرتبطة بالحزب الوطني، وبالذات مقتل بطرس غالي (قاضي دنشواي ورئيس الوزراء، الذي أراد تمديد استيلاء الإنجليز على قناة السويس إلى 2008) على يد الوطني إبراهيم الورداني، على أنها لم يكن وراءها دافع سوى التطرف الديني والبغض الطائفي.

لا يخاطر ثقب الأرشيف الأسود - حتى وهو يُستخدم وطنيًّا لإنتاج رواية وطنية لا طائفية - بمحو الدور الوطني المسيحي قبل 1919 فحسب، ولكنه إذ ينتج رواية وطنية تتماشى مع فهمنا المعاصر للوطنية، وإذ يؤكد على كون الهوية المصرية مسلمة-مسيحية، يمحو كذلك الدور الوطني اليهودي قبل 1919 وفي أثنائها. وعلى سبيل المثال يتحول سؤال سيد درويش الاستنكاري: «قال نصارى ومسلمين قال إيه ويهود» في أغنية «قوم يا مصري» إلى «قال نصارى ومسلمين قال إيه وجنود» في بعض النسخ اللاحقة وفي الكتب المدرسية. 

وإن كان محو الدور الوطني اليهودي قد تأثر بالقطيعة التي أحدثتها الصهيونية ما بين الوطنية المصرية وما بين الهوية اليهودية، (وإن كان بعض يهود مصر قد تورطوا في تأييد ودعم الحركة الصهيونية والكيان الغاصب)، فإن محو الدور الوطني ليهود مصر يصب كذلك في مصلحة الرواية الصهيونية، التي تنفي انتماء اليهود لمجتمعاتهم قبل قيام دولة إسرائيل، وتنفي إمكانية تعايش اليهود في ظل أنظمة وطنية عربية، أو في ظل الدولة العثمانية. 

هذا النفي يتقاطع كذلك مع إنكار دور الجامعة العثمانية في ضم المسلمين واليهود (مع مسيحيي السلطنة كذلك، على الأقل في مصر)، في مشروع هوية واحدة محلية ومناوئة للاستعمار، وبالتالي مع نفي الهوية العثمانية المصرية؛ فقد كان من بين الكتاب والمفكرين اليهود (في مصر وخارجها، ربما كان الاستثناء الوحيد هو الجناح السياسي من الحركة الصهيونية) عثمانيو الهوى والولاء؛ يعقوب صنوع مثلًا، والذي كان فخورًا بيهوديته وبمصريته، كان عثمانيًّا متحمسًا في الوقت ذاته، وكان يدبج المقالات والشعر في مديح السلطان عبد الحميد، وكان يكني نفسه بأبي عبد الحميد، (وكان يهود العالم بشكل عام يرون في الدولة العلية ملاذًا لهم من الاضطهاد الأوروبي). 

وبغض النظر عن «المسألة اليهودية»، فإن ثقب الأرشيف الأسود، مع إسقاطنا للمفاهيم المعاصرة للهوية وللوحدة الوطنيتين على لحظة 1919، يلتهم أرشيف الولاء العثماني المصري، الذي يسبق 1919 ويستمر بعدها حتى سقوط الخلافة، سواء في صحافة ما قبل 1919 (في وقت كانت الرقابة والسلطة الفعلية في يد البريطانيين لا الإنجليز؛ أي: أن الكتاب المصريين لم يكن لديهم داع لمداهنة السلطات العثمانية)، أو في الإنتاج الثقافي والفني بعدها (ليس فقط في كتابات من عرف عنهم الميل الإسلامي، مثل: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وبيرم التونسي، ولكن كذلك في أعمال فنانين قُرِئوا فيما بعد على أنهم جزء من حالة «علمانية»، مع تحفظي على المصطلح، مثل: سيد درويش، وعزيز عيد، وبديع خيري، ومنير مراد – اليهودي ووالد ليلي مراد). 

وكما يؤدي التركيز على «ميلاد» الوحدة الوطنية المصرية في 1919 إلى طمس تاريخها قبل الأحداث، تُنتج 1919 على أنها لحظة الولادة لمشاركة النساء في الحياة العامة المصرية، وتعمل هذه الرواية جنبًا إلى جنب مع سردية «تحرير المرأة»، والدور المزعوم لقاسم أمين، صديق اللورد كرومر، في هذا الصدد، والنتيجة ليست فقط تصوير الثقافة المصرية قبل 1919 (وبعدها) كما لو كانت معادية للمرأة، (وبالتالي تصوير المشاركة السياسية والاجتماعية للنساء كما لو كانت من ثمار الاحتلال الإنجليزي)، ولكنها تلغي كذلك أرشيف مشاركة النساء في الحياة العامة قبل 1919 . 

والحقيقة هي: أننا لن نعدم مقالات موقعة بأسماء كاتبات أو قارئات في الصحف المصرية قبل 1919، ولن نعدم أدوارًا للنساء، سواء كن نساء الأسرة المالكة، أو النخب، أو العامة والفلاحات، في الحياة السياسية المصرية، وإن صحافة الثورة العرابية ارتأت - وهي توثق للحظة الولادة الأولى للوطنية المصرية المعادية للاستعمار في مواجهات الوطنيين مع الاحتلال الإنجليزي - أن توثق دور نساء الإسكندرية وهن يشاركن في تعمير الطوابي في مشهد يروي شجاعة الكل، وخاصة الشباب والنساء، في وجه قذائف الإنجليز، حتى إن بعضهم يتفادى القذائف ثم يضحك. ثم نرى ذروة الشجاعة في ذلك المشهد: في امرأة تردم قذائف الإنجليز بعد سقوطها بالرمل لكي لا تنفجر!

بشكل أوسع، يؤدي تصوير 1919 كأنها لحظة الميلاد لمشاركة الفئات الشعبية المختلفة إلى نفي هذه المشاركة الواسعة عن الحركة الوطنية قبلها، وبشكل أخص عن الثورة العرابية، وبالتالي اختزال الثورة العرابية إلى حركة عسكرية، وكان هذا الاختزال مواتيًا كذلك لأنظمة ما بعد 1952، التي أرادت أن يكون الجيش قابلة ميلاد الوطنية المصرية، لا عنصرًا من عناصر حركة شعبية واسعة كما كان الحال في حقيقة الأمر في أحداث 1881-82. 

يمكننا أن نرى هنا كيف يصبح الأرشيف-الذاكرة القاصر/الانتقائي لأحداث 1919، الذي ينتجه ثقبها الأسود، مكانًا لالتقاء مجتمع بنديكت أندرسون المتخيل. لكن هذا الثقب الأسود يحيل المجتمع كذلك شيئًا آخر، فهو لا يلتهم ما قبله وما بعده فحسب، بل يلتهم كذلك ما عاصره. وفي ظل الظروف الاستعمارية التي أنتجت الأرشيف وثقبه الأسود، يصبح هذا الشيء الذي يتحول المجتمع إليه قبل أن يلتقي بعضه بعضًا، هو شيء على هوى الاستعمار ونسقه، ولهذا سننظر إلى بعض ما انطبع على سطح الأرشيف-الذاكرة، وسنحاول أن نستكشف بعض ما دُفن تحت هذا السطح، مستنطقين الأرشيف نفسه لاستشراف ما قد دفن (على طريقة المحللين النفسيين الذين يستنطقون الذاكرة الواعية لاستكشاف ما دُفن في اللا-وعي)، ولأن الزمن الوطني في سياق مناهض للاستعمار، كما علمنا جوزيف مسعد «يشمل ... الاستعانة بذاكرة مضادة، ذاكرة تتحدى الاختلاف الظاهر، الذي تعترف بوجوده، وعلى المستوى نفسه من الأهمية تتحدى أيضًا الإنكار الكولونيالي لهويتها الذاتية».

ما انطبع على سطح الأرشيف-الذاكرة، وما دُفن في لا-وعيه:

لن يمكننا بالطبع، فيما تبقى من هذا المقال، أن نقدم ملخصًا شافيًا لما جاء في الصحافة الوطنية أثناء احتاجاجات 1919 ، ولكن أي نظرة عامة على تغطية الاحتجاجات في الصحافة المصرية، ستجد أن تلك التغطية تنقسم بشكل عام إلى قسمين: مديح المظاهرت المتحضرة التي لم تشهد تخريبًا ولا شغبًا، والتي وقعت غالبًا في المدن، وفي المقابل إدانة أعمال العنف والشغب، والتي وقعت، وياللمصادفة، بشكل أساسي في الريف وإن كانت وقعت في المدن كذلك بفعل «جمهور العاطلين المشاغبين»، الذي اندس وسط الطلبة، سواء كان ذلك من خلال مقالات رأي، أو من خلال أخبار مبتسرة مستقاة من سلطات الاحتلال.

من خلال هذه الثنائية، يصبح المكان الذي يلتقي فيه مجتمع مصر المتخيل هو الحضر، ويتحول الناس في الخيال إلى نسخة «متحضرة» (بمعنى: المدينة، وبمعنى: الحضارة)، تجمع على رفض الاحتلال، ولكنها تجمع على ذلك بكل أدب ومن دون شغب. هذه الصيرورة تجعل الاستعماري وطنيًّا؛ إذ تفرض المفهوم الإنجليزي للانضباط على لحظة الاجتماع الوطني (والتي تُنتج كلحظة ولادة كما أسلفنا)؛ حتى إن بعض المقالات تشير إلى اضطرار الجنود الإنجليز إلى إطلاق النار على «الرعاع» و»الفلاحين» المشاغبين. وهكذا يصبح المفهوم الإنجليزي للتمدن والانضباط هو المفهوم الوطني للتحضر، وهو شرط دخول المجتمع الوطني المتخيل، على حساب ما هو فلاحي وريفي أو عاطل عن العمل (والذي يحق للجنود أن يطلقوا النار عليه إن خرج عن حدود الأدب)، وكذلك على حساب العمل المقاوم الذي تسقط عنه الدوافع والتنظيم فيصبح شغبًا يستحق القتل.

تدفن في لا-وعي الأرشيف-الذاكرة أشكال المقاومة التي لا تتفق مع هذه الصورة الانضباطية-المتحضرة، إلا أن هذا الدفن يسمح لنا باستشرافها عن طريق ما انطبع على السطح من بقاياها، فكل هذه الإدانات للشغب تشي بشبكة من العمل المقاوم، تأبى تقارير الإنجليز الاعتراف بها، وسأعمد هنا إلى واقعة لم تظهر في الصحافة المصرية سوى في سطر واحد يتحدث عن «الحادثة الفظيعة» لمقتل «القائمقام بوب بك مفتش السجون»، بحسب البلاغ الرسمي للسلطات العسكرية البريطانية ليوم 26/3/1919، لحسن حظنا فإن هذه الحادثة وُثقت من خلال تقرير مخابراتي إنجليزي متوافر ضمن وثائق الأرشيف البريطاني، هذه الوثيقة - كعادتنا مع كثافة الأرشيف البريطاني، ومثل الذاكرة المتعلقة بحدث مكبوت - تطمس أكثر مما تظهر، إلا أنها تخبرنا أنه في يوم 17/3/1919، بينما كان مفتش السجون القائمقام بوب قادمًا مع مجموعة من الضباط الإنجليز على متن قطار من الأقصر إلى القاهرة، هاجمه حشد من الوطنيين في ديروط فقتلوه ومن معه من ضباط وجنود. 

وبغض النظر عن أي جدال حول جدوى المقاومة العُنْفيّة في مقابل المقاومة السلمية، فإن اصطياد قطار كامل من جنود الاحتلال وقتلهم، يبدو عملية مقاومة شديدة التنظيم وليس محض مشاغبة أو فورة غضب بلا عقل. وإن كان التقرير لا يمحو تمامًا احتمال أن تكون تلك «الهمجية قد أثيرت عمدًا من قبل منظمات محلية، كان أعضاؤها على متن القطار»، فإن التقرير يقدم الحدث نفسه كما لو كان حالة من «العربدة» تضيع فيها تفاصيل العملية أو معناها: فنسوة يزغردن، ورجال يشهرون نبابيتهم ويكبرون، والكل يشارك في «العربدة». وتضيع التفاصيل كذلك في مبالغات تصل إلى حد الإضحاك، فكاتب التقرير يريد لنا أن نصدق أن الوطنيين قد قطعوا أطراف الضابط الإنجليزي بأيديهم العارية، وأنهم بعد أن قطعوا أطرافه شربوا دمه. 

هذا التقرير إذ يؤرشف الحدث يجعله خارج الأرشيف وخارج الوصف، فيختتم هذه المشاهدات الغرائبية، التي تنتمي إلى عالم الخرافة، بملاحظة أن الحدث «بدا» كما لو كان «حالة عربدة لا يمكن وصفها» (أي: أن الحدث لكي يوصف يحال إلى شيء آخر عن طريق الفعل «بدا»، إلا أننا حين نصل إلى هذا الشيء الآخر نجد أنه لا يوصف). 

هذا التقرير إذن مثال واضح على الأرشيف الذي يدمر كما يوثق، وعلى تدمير الأرشيف الإنجليزي لأرشيف المقاومة الوطنية المصرية. 

نعرف، إلى حد ما، تاريخ التنظيمات السرية والعنيفة في 1919؛ لأن بعض أعضائها تكلموا (ونشير مرة أخرى هنا إلى مذكرات عريان يوسف سعد وأهميتها في هذا الصدد)، إلا أن كتب التاريخ لم تستشرف بعد بشكل شافٍ تاريخ العمل السياسي والسري قبل وأثناء 1919، والذي ورثه الوفد على الأرجح من الحزب الوطني. وفي غياب هذه التنظيمات من الأرشيف-الذاكرة تصبح مظاهرات 1919 عفوية ومنظمة في آنٍ، فتخلق خرافة عن العمل السياسي تفترض انسلاخه عن التنظيمات التي تحضر له؛ كما تفترض أن حمل اللافتات والهتاف باسم سعد باشا، وإجراء المفاوضات مع سلطات الأمر الواقع، كافية لتحرير مصر.

وتغيب تفاصيل أعمال المقاومة في 1919 عن الذاكرة الوطنية، فيصبح العمل السياسي الوطني المشروع هو العمل المنظم والمنضبط بحسب معايير الإنجليز، ويصبح ما عداه محض «شغب» و»عربدة». ويصب ثقب الأرشيف الأسود بذلك في خطاب وطني-تأديبي، كان سيجد صعوبة في الصعود لو كانت تفاصيل 1919 الحاضرة في الأرشيف-الذاكرة أكثر قليلًا.