مراجعات
شيرين أبو النجا"كان يا ما كان" .. الكنز في الرحلة
2019.07.01
المؤلف: محمد عبد النبي
"كان يا ما كان" .. الكنز في الرحلة عرض المجموعة القصصية «كان يا ما كان»
لا يطيق محمد عبد النبي صبر البعاد عن الحب الأول: القصة القصيرة (صدر له أربع مجموعات) فيعود بهذه المجموعة «كان يا ما كان» ليعلن من العنوان أنه بصدد الحكي. سنستمع إلى الحكاية وما فيها، عبد النبي يخدع القارئ بالعنوان ليوهمه أنه حكواتي، فيعلن من البداية أن كان يا ما كان -عنوان المجموعة- ونعرف جميعًا أنه لا بد أن يتبعها: «يا سادة يا كرام في سالف العصر والزمان ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام...».
هكذا تبدأ الحكاية الشعبية التي تدور دائمًا حول البطل أو البطلة -بنت فقيرة وجميلة أو ملك أو ملكة أو أبي زيد الهلالي أو الفارس أو المخلص أو الشجاع أو النبيل- ودائمًا ما تكون هناك مغامرة أو رحلة يخوض فيها الفارس الأهوال ليخرج منتصرًا وتنتهي الحكاية نهاية سعيدة. تُشكل بنية الرحلة بكل خطواتها مسار الحكاية الشعبية في كل الثقافات، وهو ما أوضحه جوزيف كامبل في كتابه «البطل ذو الألف وجه» وحدد الخطوات التي يمر بها البطل، إذ لا بد من الرحيل من العالم اليومي الذي يتلقى فيه البطل إشارة تدفعه إلى المغادرة، ثم تبدأ طقوس التدشين التي تتضمن الكثير من الصعاب وتستلزم عبور عتبات وعوائق ويظهر في هذه المرحلة عنصر المساعدة غير الواقعي، ولا بد أن يمر البطل بلحظة يأس حتى يعثر على كنزه الحقيقي داخل نفسه أو ملقى أمامه في إهمال، وأخيرًا تجيء مرحلة العودة التي تمثل الولادة الجديدة للبطل. وربما أشهر الأبطال الذين خاضوا الرحلة هما أبو زيد الهلالي وعوليس.
لكن محمد عبد النبي يقرر أن يسير في الاتجاه المعاكس للحكاية التي نعرفها. وبعد كان يا ما كان على الغلاف يبدأ بالمدخل الذي يجعل فيه الكتاب مسؤولاً عن نفسه ويترك له حرية تحديد شكل الرحلة. فالكتاب يُفضي إلى ممر ليس به طريق للخروج، ومن أجل العثور على مخرج لا بد أن «أجرب كل غرفة من غرف هذا الفندق، محتضنًا في كل ليلة الحكاية المتروكة لي على الوسادة» (14). وإذا كان نجيب محفوظ قد كتب «حكاية وراء كل باب» بشكل يلتهم الواقع ويحول شذراته إلى حكايات؛ فمحمد عبد النبي يكتب -على حد قوله- عن فندق الحكايات الخرافية الذي تسلل إليه في الحد الفاصل بين النوم واليقظة، اللحظة التي يتقد فيها اللاوعي.
بهذه البنية يخوض عبد النبي في كل تراكمات الوعي ونقيضه، فتعمل الإقامة الجبرية في فندق الحكايات الخرافية على الحفر في اللاوعي الجمعي بالمعنى الذي طرحه كارل جوستاف يونج، لتكشف عن مفردات هذا الوعي وتشكلاته على مدار الزمن «في سالف العصر والزمان»، اعتمادًا على الحكايات الخرافية العالمية، وعناوين الكتب والأفلام والحكايات الشعبية المصرية والعربية، وحكايات ما قبل النوم (وهو ما ذكره الكاتب في الشكر والتنويه في نهاية الكتاب). محصلة هذه المصادر هي الوعي واللاوعي الجمعي.
يحتوي الفندق على خمس عشرة غرفة، كل غرفة تقدم حكايتها وما فيها. لكن الغرف/ الحكايات يجمعها روابط محددة. فالبطل/البطلة في كل الحكايات هو البطل الضد: المُرهق من الرحلة، الباحث عن السر، الساعي خلف هدف، المهزوم ظاهريًّا، وبعد طقوس التدشين التي يمر بها في رحلته يدرك حقيقة الأمر فيخسر العالم ويكسب نفسه. يمرر عبد النبي مسائل وجودية فلسفية في كل القصص، أهمها: جدوى معاندة المصير المحتوم/القدر، خطورة المعرفة، هدف الرحلة، علاقات القوى بين المظهر والجوهر. وهي إشكاليات تتجلى في مسار رحلة البطل الضد، الذي يتضح أن ضديته ظاهرية فقط وفقًا لموازين القوى حوله، وندرك في النهاية أنه البطل الأصلي، لكن بسبب عدم توافق الحكايات مع الوعي الجمعي يتخيل القارئ أنه يشهد هزيمة البطل الضد. تبدأ كل حكاية بالشكل التقليدي المعروف للحكاية الخرافية أو الشعبية، وفي منعطف رئيسي في الحكي يخالف الكاتب كل التوقعات ويهدم أصل الحكاية، وكأنه يتساءل «ماذا لو؟» فتغير الحكاية مسارها الراسخ من سالف العصر والزمان وتتجه نحو طريق لا يوصف سوى بأنه راديكالي الفكر. ببساطة يخلخل محمد عبد النبي الراسخ والثابت والمألوف.
لكن معول الهدم لا يطال كل شيء، فمثلاً في حكاية «أمثولة العميان الثلاثة» يصاب كبيرون ووسيطون وصغيرون بالعمى كما هو مقدر لهم، يقول الجد: «بصرف النظر عن كل شيء ... ينطفئ النور في نفس الموعد المقرر سلفًا، باليوم والساعة والدقيقة» (19). في حين يقضي الكبير حياته في محاولة مراوغة القدر ينغمس الصغير في مباهج الحياة ومتعتها ورحلاتها ويعتدل الأوسط في كل شيء. السؤال هنا هو متعة الرحلة وقدرة الإنسان على الامساك بها. وإذ تبدو حكاية «رحلة عازف الناي» وكأنها تنتهي بالهزيمة حيث يقبع أسيرًا في بطن أحد سفن الهمج، إلا أنها تؤكد على ثمن محاولة رفض الرحلة. فعازف الناي ظل يتساءل عن مغزى القوافل والترحال، سبب الحراك الدائم، كان يسعى إلى الثبات والهدوء الكسول، بدأ رحلته المغايرة رافضًا الرحلة الأصلية، ساعيًا خلف السر، وفي طقوس التدشين تعلم عزف الناي وتوحد معه على يد سوهارا الغجرية (حتى لا نكاد نميز بين الراقص والرقصة) كما يقول الشاعر ويليام باتلر ييتس، وما لبث بعدها أن وقع في الأسر؛ إذ أدرك أن «الرحلة واحدة، والحلم واحد، ولسنا جميعًا سور صور ورموز فيها، لست سوى خطوة واحدة في الرحلة، وحتى سوهارا كانت إحدى خطواتها، لكنها في الاتجاه الصحيح، ولولاها لما تنفس العازف النغمة، ولما عرف العابر أنه مقيم» (69). الاستمتاع بالرحلة يضع الإنسان في «قميص إنسان سعيد» سواء كان أميرًا أم حطَّابًا، يدخل الشقاء بإرادته ويعود إلى الرخاء برغبته ويتنكر كل يوم في شكل جديد بالمرآة المسحورة، فيتوحد الناي والعازف، الراقص والرقصة، يتوحد مع العالم في الطريق مؤكدًا «كلنا خدام في بلاط الحكاية» (36).
إنها الرحلة التي أوجزها كفافيس في قصيدته إيثاكا، وهي وجهة الرحلة «فوصولك إليها هو غايتك الأخيرة/ لكن لا تتعجل الرحلة أبدًا/ فالأفضل أن تستمر لأعوام طويلة/ حتي لو كان للشيخوخة أن تدركك، وأنت تصل إلي الجزيرة/ غنيًّا بكل ما جنيته في الطريق/ دون انتظار أن تمنحك إيثاكا الغنى/ لقد منحتك إيثاكا الرحلة الرائعة/ فدونها ما كان لك أن تبدأ الطريق/ لكن ليس لديها ما تمنحه لك سوي ذلك/ فإذا ما وجدتها فقيرة، فإن إيثاكا لم تخدعك/ فبالحكمة العظيمة التي جنيتها، بهذه الخبرة الكبيرة/ لا بد أنك ــ بالتأكيد ــ قد أدركت، بذلك ما الذي تعنيه إيثاكا» (ترجمة الشاعر رفعت سلام).
في إعادة الاعتبار لقيمة الرحلة/الحكاية يعمد محمد عبد النبي إلى إعادة كتابة أكثر الحكايات شهرة، وخاصة قصص الأطفال، فيُعيد كتابتها للكبار ليخلخل الثابت والمستقر، ليمنح الشخصيات فكرًا مغايرًا، أو بالأحرى ليمنحها لحمًا ودمًا فيُضفي عليها البعد الإنساني الذي لا يتسق مع المثالية السائدة في الحكاية والمسيطرة على الوعي الجمعي. ففي حكاية «أزمة سندريلا» نراها -أي سندريلا- وهي تعيش في سياق المستقبل المثالي، فقد عاشت مع الأمير وحصلت على كل ما تتمناه وأكثر، كل ما يتمناه أي شخص، لكن الأزمة أن الأحلام العادية التي تأتي في المنام تراودها حتى أن الأمر استدعى لقاء يبث على الشبكة المركزية. تحلم سندريلا بحياتها القديمة «أشعر بأنني على استعداد للتخلي عن الخلود مقابل ليلة واحدة في بيت أبي القديم، أكنس فيها الأرض حتى يغطيني الغبار» (47). في حين يشير هذا الموقف إلى ضرورة الحذر مما يتمناه المرء، إلا أن رغبة سندريلا في معرفة اسمها القديم- «أقول لو استعدت اسمي القديم عندئذ سينكشف حل اللغز وتنتهي كل هذه الدراما السخيفة» (47) - كانت السبب في هلاكها، تمامًا كعازف الناي. ثار الملك وقام بإعلان «جنونها وخروجها عن السيطرة فلا يتوق للفناء بعد الخلود إلا من فقد عقله» (49). وكأن عبد النبي لا يُعيد كتابة قصة سندريلا فقط، بل أيضًا قصة ليليت التي هربت من الجنة بحثًا عن الحرية.
تحظى قصة «الجميلة النائمة والأقزام السبعة» بمحاولتين لإعادة الكتابة، ففي قصة «أميرة نائمة في مكتبة الأحلام» تتأرجح الأميرة بين الواقع والخيال. ففيما يبدو أنه خيال القصة وهو واقع الشخصية في حقيقة الأمر تتيه الأميرة حبًّا في المكتبة والقراءة، فيكون النوم هنا بمثابة الحلم الذي تتوق إلى تحقيقه، هو الدرب الذي يقود إلى الحرية، يتدخل واقع مؤسسة الزواج بعنف ليوقظها من التيه في القراءة. بهذا تكون هذه الأميرة قد وجدت ملاذها في الحلم الاستعاري عكس الأميرة النائمة التي أوقظها الأمير بقبلة. في إعادة الكتابة الثانية نرى جانبًا لم نلتفت إليه من قبل؛ فالأميرة هي البطلة دائمًا التي يحنو عليها الأقزام السبعة ويتيهون في جمالها، الأقزام الطيبون، الوديعون، المسالمون. في قصة «جنة الأقزام السبعة» نرى أحد الأقزام يخضع للمحاكمة لأنه يعترف «نعم، تذوقت شفتيها وحللت أزرار وشرائط ثيابها وشبعت من جسدها، بينما كنتم نائمين تحلمون بجنة الحب» (149). لأول مرة ندرك أن الأقزام يتمتعون أيضًا بهذا الجانب الإنساني الذي ينطوي على شهوات وغرائز ورغبات. تكشف القصة أيضًا عن التغيير الذي أحدثة وجود الأميرة النائمة وسط الأقزام، فحياتهم قبل ليست مثل بعد وكأنهم خاضوا الرحلة من البراءة إلى التجربة. تحظى قصة «ذات الرداء الأحمر» بإعادة كتابة أخرى بعنوان «دوائر ذات الرداء الأحمر»، تبدو هذه القصة مغرية كثيرًا فقد أعادت إيميلي نصر الله كتابتها في قصة بعنوان «ليلى والذئب». ولدى الكاتبين التوجه نفسه إذ يدفعان الفتاة إلى التمرد على توجيهات الأم والجدة لترى العالم وتستمتع بالرحلة اليومية في الغابة. وفي كل من القصتين تأتي النهاية غامضة، ففي حين تنغمس قصة عبد النبي في لعبة الحكي وتجعل من الذئب ذاك الطيب الذي توقف عن التهام اللحوم حتى أن الفتاة تمكنت من السيطرة عليه تجعل إيميلي نصر الله الذئب يتحول إلى رجل في مشهد يشي بالطيبة والحنان.
في منتصف الكتاب تقريبًا، يبدأ الكاتب لعبة داخل اللعبة. فاللعبة الأصلية التي تُشكل بنية الكتاب هي فندق الحكايات الخرافية ثم تأتي قصة «مفقود في الترجمة» (على اسم الفيلم الشهير) ليلعب ساكن الفندق لعبة أخرى. فهو مترجم لقصص أطفال عالمية، وشيئًا فشيئًا يمل من الشخصيات التي تكاد تخنقه، فيبدأ في تسريب كلمة هنا وأخرى هناك لتفقد القصص طفولتها وبراءتها، مع الوقت لا يترجم حرفًا بل يُعيد كتابة كل القصص (مثل رواية «المترجم الخائن» لفواز حداد) وعندما ينتهي يقول «أشعر أن مهمتي اكتملت وأن رحلتي بدأت، وأفهم لأول مرة ما يتحدث عنه المتصوفة والنساك عندما يحاولون وصف تجارب روحية مفارقة، حيث تفرغ النفس ويصمت العالم، فلا يتبقى في الداخل أو الخارج صوت أو شيء» (126)، إحساس مشابه لإحساس عازف الناي والملك في «مهمة البحث عن العندليب». بهذه القصة يشرح الكاتب ما يقصده تحديدًا في هذه المجموعة، فهو يسير «في الصحراء ليلاً» ليكتشف عالمًا جديدًا، ولرؤية الخيال، ولسلوك طريق لم تسلكه الذاكرة الجمعية من قبل.
وكما كان هناك مدخل للمجموعة -المبرر الدرامي للبنية بأكملها- لا بد أن يكون هناك مخرج. «يبدو أنني كنت نائمًا في بطن السفينة عندما ضربتها العاصفة وتحطمت أمام شواطئكم ليلة أمس... وسمعت القبطان يصيح: من ينج منكم فليحك الحكاية» (243). بدأت المجوعة بالثمل المتأرجح على حافة الصحو واليقظة وانتهت بناج وحيد من سفينة تقع عليه مسؤولية الحكي، التاريخ الشفوي لكل من مروا على ذاكرتنا. يحكي الناجي وهو يعرف أنه ينهل من تاريخ جمعي، فيقول «لكن الحكايات ليست لي، بل لكم، وسوف يتعرف كل واحد منكم على حكايته فور أن يسمعها، وسيعرف أنني سرقتها من أحلامه العارية في الليل وأنني لم أفعل إلا أن أعدتها له وكأنها لي».(244)