عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

حي السيدة زينب

زينب أبو المجد

مسجد ابن طولون: كنز وسجين قبطي ومقاطعة

2025.06.28

مصدر الصورة : آخرون

مسجد ابن طولون: كنز وسجين قبطي ومقاطعة

 

قال حاكم مصر أحمد ابن طولون: "أريد أن أبنى بناء، إن احترقت مصر بقي، وإن غرقت بقي."

وبالفعل، بنى مسجده الشهير في منطقة السيدة زينب في عام 879م، ومرّ أكثر من ألف عام ولا يزال المسجد قائمًا لم يسقط منه حجر. من فوق قمة جبل يشكر، يُطلّ مسجد ابن طولون ككائن أسطوري هائل لا يشيخ، تُغلق منارته الشاهقة أُفق السماء أمام عينيك المحلقتين عاليًا للوصول إلى آخر قمَّتها، كطائر رخٍّ قديم. ويصدمك مشهده المهول أينما انعطفت في الشوارع الواسعة والضيقة حوله في السيدة.

وراء ابن طولون ومسجده أسرار كثيرة، يفوق الواقع فيها أي خيال. أسرار حول كنز وجده في الصحراء وأنفقه على البناء، ومهندس قبطي أخرجه من محبسه الطويل ليبنيه بمعجزة له، وعامّة قاطعوا الصلاة ليعاقبوه على تجبُّرِه عليهم.. إلخ.

سنحكى لكم هنا بعضًا من تلك الأسرار، بالضبط كما دونها لنا تقي الدين المقريزي (توفي 1441م) في كتابه الشهير المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار .

***

أحمد بن طولون كان في الأصل ابنًا لعبد مملوك تركي في خدمة الخلفاء العباسيين في عاصمتهم سَـامرَّاء بالعراق، وصار أميرًا عسكريًّا نافذًا لديهم. تم تعيينه واليًا على مصر، وحضر إلى الفسطاط كقائد قوي صارم عمره 40 سنة، في عام 868م.

لم تعجب الوالي الجديد الفسطاط ولا العسكر، أول عاصمتين للمسلمين في مصر. وقرّر أن يبني لنفسه عاصمة جديدة تنافس سامرَّاء، وينشئ في القلب منها مسجدًا يُحاكي أعظم مسجد في عاصمة العباسيين.

في منطقة السيدة زينب، بنى ابن طولون مدينة جديدة تعجز عن وصفها العقول: القطائع، تملؤها الأسواق، والساحات والطرق والبيوت. وبنى في نقطة عالية منها مسجدًا يفوق ذاك الذي بناه فاتح مصر نفسه، مسجد عمرو بن العاص، ولكن تشبه منارته الملتوية منارة مسجد سامرَّاء بل وتزيد عليها في علوِّها.

في حقيقة الأمر، كان قرار بناء المسجد على الخصوص استجابة من الحاكم لشكوى الناس. حضر ابن طولون إلى مصر ومعه عدد كبير من الجُند الأتراك والسودان، وكانوا يزاحمون الناس في الصلاة في المسجد القديم، واشتكى العامة منهم.

خلف مسجد السيدة زينب اليوم، يتمدد جبل يشكر، ذاك هو الموضع الذي اختاره ابن طولون ليبني المسجد فوقه. كان جبل يشكر هضبة شاسعة تشرف مباشرة على مياه النيل لا يفصله عنها شيء، كان يشرف على بركة الفيل وبركة قارون اللتين كانتا موجودتين قديمًا في المنطقة. كان هناك أساطير كثيرة حول هذا الجبل، مثل أن النبي موسى عليه السلام كان يقف عليه ويُناجي ربَّه، وأن الدعاء من فوقه مُجاب.

انتقى ابن طولون قمة ذاك الجبل كموقع حصين للمسجد، حيث لا يمكن أن تطاله لا ماء فيضان ولا نار حريق أبدًا.

***

والآن المسألة المهمة: كيف يتم تمويل مشروع المسجد الهائل؟ وهنا يأتينا خبر الكنز.

يحتاج المسجد إلى أموال لا حصر لها لتنفيذه، أموال ليست تحت يد ابن طولون، الذي يُرسل معظم ما يجمعه من ضرائب مصر إلى العراق إلى الخليفة المعتمد هناك. حاول ابن طولون استخدام مال الخَراج، ضرائب الأراضي والمزارعين، في النفقات العامة في الولاية، ولكن بعث إليه المعتمد يأمره بإرسالها إليه.

لم يرغب ابن طولون في أن يثقل على الناس، وأعفاهم من الضرائب الأخرى على البيوت والدكاكين والمرافق. ولما جاء وقت بناء المسجد، نصحه مسؤول مالي أن يفسخ أوامره السابقة ويجمع من الناس تلك الضرائب التي أسقطها عنهم، وقد تصل إلى مئة ألف دينار في هذا العام، وأخبره بأنها سنة ظمأ نقص فيها فيضان النيل وتُبرِّر له جمع المال مما دون غلال الأرض.

لم يرتَح ابن طولون لاقتراح المسؤول، وبات ليلته وقلبه مشغول، أصابه الأرق وهو يفكر فيه كثيرًا. وجاءه في المنام رجل زاهد كان يعرفه في طرسوس، ونصحه بألا يفسخ العهد الذي قطعه للناس، وأن الله سوف يعوضه خيرًا ويأتي له بالمدد من مكان آخر. وفي الصباح ختم ابن طولون الأوراق لدواوين الحكومة تأمرهم ألا يجمعوا من أحد أموالًا إضافية، وأخبر ذاك المسؤول بأنه يرفض مشورته. قال له الرجل: "قد أشار عليك رجلان، الواحد في اليقظة والآخر ميت في النوم، وأنت إلى الحي أقرب وبضمانه أوثق. فقال: دعنا من هذا، فلست أقبل منك".

ثم خرج ابن طولون في ركب له نحو الصعيد، سار الركب وتوغلت الخيل في الصحراء. وفجأة غاصت في الرمال أقدام فرس أحد غلمانه، وسقط الغلام على الأرض. انشقت الرمال من تحته، فإذا بكنزٍ عظيم يظهر لهم، مقداره ألف ألف دينار، أضعاف ما كان سيجمعه من ضرائب زائدة من الناس. لم يحمل ابن طولون مال الكنز سرًّا إلى قصره، بل أرسل إلى الخليفة المعتمد في العراق يستأذنه في كيف ينفقه في وجوه الخير والبر. وبنى منه مستشفى أو بيمارستان كبير.

ثم أسعفه حظه السعيد بالمزيد من المال، لما عثر على لُقيْة أخرى عظيمة في الجبل، في منطقة تنور فرعون ومكانها اليوم في منشية ناصر. وتمكن عندئذٍ من بناء المسجد، وأنشأ ببقية المال الأوقاف الكبيرة التي تدر الصدقات الجارية لخدمة الناس.

حكى لنا المقريزي ما حدث وقال:

"وركب في غد ذلك اليوم إلى نحو الصعيد، فلما أمعن في الصحراء ساخت في الأرض يد فرس بعض غلمانه، وهو رمل، فسقط الغلام في الرمل، فإذا بفتق، ففتح فأصيب فيه من المال ما كان مقداره ألف ألف دينار، وهو الكنز الذي شاع خبره، وكتب به إلى العراق أحمد بن طولون يخبر المعتمد به ويستأذنه فيما يصرفه فيه من وجوه البر وغيرها، فبنى منه المارستان، ثم أصاب بعده في الجبل مالًا عظيمًا، فبنى منه الجامع ووقف جميع ما بقي من المال في الصدقات، وكانت صدقاته ومعروفه لا تحصى كثرة". 

بمجرد أن عثر ابن طولون على الكنز والمال، أحضر أمامه المسؤول الذي أعطاه المشورة التي كان سيظلم بها الأهالي. وجعله ينظر إلى المال بعينيه، وقال له إن نصيحة الزاهد الميت التي جاءته في نومه كان فيها كل البركة عن قوله وهو حي. كاد يقتله بضرب عنقه، ولكنه في النهاية عفا عنه. ثم جاءته التقارير أنه يستبدّ بالناس ويُحمِّلهم ما لا يطيقون، فقبض عليه وحبسه وصادر أمواله، ومات في السجن.

كتب المقريزي:

"ولما انصرف من الصحراء وحمل المال، أحضر ابن دسومة وأراه المال وقال له بئس الصاحب والمستشار أنت، هذا أول بركة مشورة الميت في النوم، ولولا أنني أمَّنتك لضربت عنقك، وتغير عليه وسقط محلّه عنده. ورفع إليه بعد ذلك أنه قد أجحف بالناس وألزمهم أشياء ضجوا منها، فقبض عليه وأخذ ماله وحبسه، فمات في حبسه. وكان ابن دسومة واسع الحيلة بخيل الكف زاهدًا في شكر الشاكرين، لا يهش إلى شيء من أعمال البر. وكان أحمد بن طولون من أهل القرآن، إذا جرت منه إساءة استغفر وتضرع".

***

جاء وقت البناء، ولم يجد ابن طولون سوى مهندسًا قبطيًّا كان قد سَجنه من قبل، ليحلّ له المعضلات التي عجز الآخرون عن حلها في التصميم.

إن تم بناؤه على النحو القديم المعتاد، يحتاج المسجد إلى 300 عمود من الرخام، وهو ضعف العدد الموجود في مسجد عمرو بن العاص نفسه على ضخامته. قالوا لابن طولون إنه لا يمكن الحصول على كل هذا العدد سوى بخلع الأعمدة الموجودة بالكنائس القديمة في القرى، ولكنه استنكر ذلك وتأثَّم منه ورفض فعله. وظل مُغتـمًّا يفكر في حلٍّ للمعضلة.

هناك مهندس قبطي ماهر بنى له قناطر فريدة لنقل المياه إلى مدينة القطائع الجديدة، ولكنه كان قد غضب عليه وعاقبه بالضرب وحبسه. يقبع المهندس، واسمه سعيد بن كاتب الفرغاني، في سجن ابن طولون، وبلغته أخبار الأزمة التي يعاني منها لبناء مسجد عظيم. فأرسل إليه مكتوبًا من محبسه قال له: "أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلا عمودي القبلة".

يحكي لنا المقريزي أن ابن طولون أحضر المهندس سعيد من السجن "وقد طال شعره حتى نزل على وجهه"، وسأله عن الحلّ الذي يقترحه. وأحضروا له الجلود ليرسم عليها التصميم، فكرة مبتكرة لم يتم تطبيقها من قبل: بدلًا من الرخام، استخدام الجير لصب أعمدة عريضة القطر قوية لا يزحزحها من مكانها شيء، مع استخراج هذا الجير من جبل يشكر نفسه، ثم وضع عمودين رخاميين فقط عند القبلة. اقتنع ابن طولون بالفكرة وأعجبته، فأطلق سراح سعيد من الحبس، وأمره أن ينفق كيفما يشاء في المشروع.

كتب المقريزي:

"وأطلق له للنفقة عليه مئة ألف دينار. فقال له: أنفق، وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك. فوضع النصراني يده في البناء في الموضع الذي هو فيه، وهو جبل يشكر، فكان ينشر منه ويعمل الجير ويبني، إلى أن فرغ من جميعه، وبيَّضه وخلَّقه وعلَّق فيه القناديل بالسلاسل الحسان الطوال، وفرش فيه الحصر، وحمل إليه صناديق المصاحف، ونقل إليه القراء والفقهاء".

وحكى المقريزي القصة نفسها من جهة أخرى، أن أحمد بن طولون قال:

" أريد أن أبنى بناء، إن احترقت مصر بقي، وإن غرقت بقي . فقيل له: يبنى بالجير والرماد والآجر الأحمر القوي النار إلى السقف، ولا يجعل فيه أساطين رخام، فإنه لا صبر لها على النار، فبناه هذا البناء".

وبالطبع كانت تلك أفكار المهندس القبطي.

استغرق بناء المسجد ثلاث سنوات كاملة، بدأ في عام 876م وانتهى في 879م.

يخشى سعيد القبطي الآن، بعد أن انتهى عمله، من أن يعاود ابن طولون الكَرّة ويحبسه مرة أخرى. لما صلّى ابن طولون أول صلاة جمعة له في المسجد، دخل "دار الإمارة" التي ألحقها به ليجلس بها ويخرج منها للمحراب عندما يحضر للصلاة. وعندها صعد سعيد في موقع عالٍ بالمسجد وصاح بطلب الأمان. كتب المقريزي:

"فصعد النصراني الذي بنى الجامع ووقف إلى جانب المركب النحاس وصاح: يا أحمد بن طولون، يا أمير الأمان، عبدك يريد الجائزة ويسأل الأمان، ألَّا يجري عليه مثل ما جرى في المرة الأولى."

وردّ عليه بأفضل إجابة:

"فقال له أحمد بن طولون: انزل فقد أمَّنك الله، ولك الجائزة. فنزل وخلع عليه، وأمر له بعشرة آلاف دينار، وأجرى عليه الرزق الواسع إلى أن مات."

***

ثم ظهرت مشكلة كبرى: يقاطع كثير من الأهالي المسجد ولا يصلّون فيه. تنتشر الشائعات عن أن المال الذي بنى به ابن طولون المسجد ليس حلالًا. وربما أيضًا يتحجج الناس بذلك ليعاقبوا الوالي، بعد أن تغيّرت نفسه نحو الشعور بالزهو والعظمة والقوة، وبدأ في ظلمهم والتجبُّر عليهم.

من الكنز والمال الذي وجده في الصحراء، أنفق ابن طولون مئة ألف دينار وعشرين ألف دينار على بناء المسجد. أنشأ في جانبه ميضأة بها صنابير للوضوء والشرب. وأسرف في تزيينه بالداخل، فعلق فيه القناديل وسلاسل النحاس وفرشه بالحصر المجلوبة خصوصًا من بلاد فارس.

 وفوق ذلك، لم يبخل على خدمة الناس من خلال المسجد. أنشأ فيه مكانًا يجلس فيه طبيب ومعه خدم كل يوم جمعة، وخزانة بها جميع الأدوية وأنواع الشرابات الشافية.

مرت السنوات على حكم ابن طولون لولاية مصر، واستطاع أن يستقل بها لنفسه من الخلافة العباسية الضعيفة، فأنشأ لنفسه دولة عظيمة خاصة به في مصر والشام. وانتهى من بناء مدينة القطائع، وصارت بلا شك تفوق في بهائها وخدماتها سامراء والفسطاط مجتمعتين. مع السلطة المطلقة لابن طولون في مصر واغتراره بما وصل إليه، بدأ في الظلم وقمع الناس. وصفه من شهده في ذاك الوقت بأنه كان جبارًا وسفك كثيرًا من الدماء. أحصى العلماء في عصره من قُتِلوا ظلمًا أو ماتوا في سجنه وقالوا إنهم بلغوا ثمانية عشر ألفًا.

ومع تَـغيُّره عليهم، بدأ العامة يتصيدون العيوب في مسجده العظيم. هناك من يقول محرابه صغير، ومن يقول الميضأة لا بد وأن تكون بداخله وليس على جانبه، ومن يقول ليس به أعمدة رخام. لمَّا وصل الكلام إلى ابن طولون، جمع الناس بعد خطبة يوم جمعة، وخطب فيهم وقال الآتي: بالنسبة للمحراب، فإن رسول الله (ص) جاءه في المنام ورسمه له في موضعه هذا، وأما الميضأة فإنه وضعها في الجانب لأنه يكون بها نجاسات وأراد أن يظل المسجد بالداخل طاهرًا منها.

وأخيرًا عن الأعمدة، أكد لهم أنه قد بنى المسجد بمال حلال عثر عليه، ولم يرغب في أن يشوبه بأي شيء حرام. وأنه إن أراد أن يضع أعمدة رخام في مسجده، كان عليه أن يرتكب فعل حرام وهو نزعها من كنائس أو مساجد أخرى. قال ابن طولون: "وأما العمد فإني بنيت هذا الجامع من مال حلال وهو الكنز، وما كنت لأشوبه بغيره، وهذه العمد إما أن تكون من مسجد أو كنيسة فنزهته عنها".

بالرغم من تأكيداته تلك على الملأ، ظل الناس يقاطعون المسجد. يبدو أنهم كانوا ينتقمون من ابن طولون على ظلمه وجوره عليهم، بالرغم من كثرة إخراجه للصدقات وأعمال البرّ.

وزعم البعض أن السيدة نفيسة، وجدَّها الأكبر هو الحسن بن علي أخو السيدة زينب، دعت على ابن طولون، وكانت إجابة دعائها هو هجران الناس لمسجده. استغاث الناس بنفيسة من ظلم ابن طولون، فكتبت له على رقعة تُعنفه وتطالبه بالعدل. ولكن تلك الحكاية لا يمكن أن تكون صحيحة، لأن نفيسة ماتت قبل أن يُبنى المسجد بأكثر من سبعين عامًا.

***

ذات ليلة، رأى ابن طولون في منامه رؤيا كأن الله تعالى قد تجلّى ووقع نوره فوق مدينة القطائع الجديدة كلها، فوق جبل يشكر وبأسفله، فيما عدا المسجد، لم يقع عليه أي نور. لما استيقظ، شعر ابن طولون بالألم الشديد من الرؤية. يخبرنا المقريزي أنه قال: "والله ما بنيته إلا لله خالصًا، ومن المال الحلال الذي لا شبهة فيه". وعندها تنبأ له أحدهم أنه في واقع الأمر سيبقى مسجده للأبد وستخرب كل ما حوله من بنايات في القطائع، فقد أوّل له الحلم بالآية القرآنية التي تقول: "فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا" (الأعراف: ١٤٣).

وبالفعل، ذهبت القطائع كلها، اندثرت كل بناياتها من فوق جبل يشكر وحوله، وبقي اليوم فقط المسجد.