سجالات

دار المرايا

«الإسلاموفوبيا».. هل هي «فوبيا» حقًّا؟

2021.06.01

«الإسلاموفوبيا»..  هل هي «فوبيا» حقًّا؟

يحاول كاتب هذا المقال مناقشة صحة مصطلح الإسلاموفوبيا الذي يٌطلق لوصف رهاب الأجانب من المسلمين، بالأخص هؤلاء الذين يعيشون في الغرب الأوروبي، وهو المصطلح الذي راج بشدة في سياق الجدل حول إجراءات إيمانويل ماكرون ضد ما أسماه الروح الانفصالية عن مبادئ الجمهورية الفرنسية قبل عدة أشهر. ونحاول معًا مناقشة الظاهرة، التي تنامت تدريجيًّا من أوائل التسعينيات فصاعدًا، وتفاقمت بشدة بعد هجمات ١١ سبتمبر، ثم تواصلت بهجمات داعش منذ ٢٠١٥، كما يناقش علاقة رواج مصطلح الإسلاموفوبيا بصعود التيار الوهابي وتغلغل الصحوة الإسلامية في العالم كله بالأساس في أوساط المسلمين، سواء في البلاد ذات الأغلبية الإسلامية أو في الغرب، وسأطلق على الظاهرة وصف «التوجس من الإسلام» لتمييز ما هو رهاب عنصري كنوع من أنواع رهاب الأجانب المرفوض قطعًا، والمطلوب مكافحته جذريًّا وبين التوجس المبرر والمنطقي، فهل ينطبق تعريف الفوبيا والرهاب المرضي على التوجس من الإسلام فترة صعود الإسلام الجهادي المتشدد؟

لقد فُسِّر التقوقع الإسلامي في جيتوهات مغلقة وانعزال المسلمين عن المجتمع، بأنه رد فعل على تهميش وإقصاء اجتماعي من قبل الحلف الطبقي للحكومات الغربية، فهل كان رد جميع الجاليات الأجنبية واحدًا؟ ولسنا نذهب بأن المسؤولية هي فقط تخص الثقافة الإسلامية أو غالبية المسلمين، بل نزعم بالتأكيد أنهم يتحملون قسطًا من المسؤولية أكبر بكثير مما يشار إليه عادة خصوصًا في الخطاب اليساري المهيمن عالميًّا، بمعنى أوضح فالمهاجرون يستكملون في الخارج نفس أنساق التصرفات المعتادة في بلادهم الأصلية، خصوصًا حينما يوضعون تحت الضغط، وعلى سبيل المثال فإن المسيحيين المشارقة يتسم أغلبيتهم بالمحافظة الشديدة والخضوع لسلطان الكنيسة تمامًا في أغلبية تفاصيل حياتهم، يحدث هذا في بلادهم الأصلية، ثم بعد الهجرة، لا يتمرد على هذا النسق إلا قليل ممن لديه الاستعداد للتمرد وتمنعه الظروف ببلاده، بينما يستمر الأغلبية في إكمال حياتهم بنفس الطريقة للدرجة التي جعلت سيدة قبطية في استراليا تتعرض للضرب حتى الموت من زوجها لأن الكنيسة رفضت تطليقها منه، بينما لو ذهبت لمركز الشرطة هناك فسوف تطلق منه ويسجن هو، إذ أن العنف الزوجي في هذه البلاد جريمة لا تغتفر. وهكذا فالمهاجرون واللاجئون ذوي الخلفية الإسلامية يكملون ما عاشوه في بلادهم، أغلبية محافظة جدًا في النزوع الشخصي وأسلوب معاملة الأبناء والنظرة الدونية للمرأة، مع وجود أقلية مستعدة للانتماء للتيارًات السياسية الإسلامية وممارسة الفعل السياسي حسب تنوع تيارات الإسلام السياسي من الإخوان حتى داعش. إضافة إلى نشاطات التبشير عبر مئات الآلاف من المراكز الإسلامية التي أنشئت تحت سيطرة المال الوهابي السعودي خصوصًا منذ السبعينيات.

ومن هنا وجب نقد الأصل أولاً من أجل رؤية جيدة للفرع، هذا بالإضافة إلى نقد الحضارة الأكثر تأثيرًا في العالم كله، وهي الحضارة الغربية في طورها الإمبريالي، وفي رأيي أن المسؤولية تتوزع بين البلاد ذات الأغلبية الإسلامية وبين الغرب سواء من اليمين بكل أطيافه ومن بعض قوى اليسار الذي يتناول الظاهرة بتسليط الضوء على دور الإمبريالية الغربية في إنعاشها واستغلالها نفعيًّا، والحق أن الإمبريالية الغربية بالفعل ممثلة في البرجوازية المنتصرة في حربها مع الإقطاع في نهايات القرن الـ١٨وأوائل القرن الـ١٩ كانت قد كفت عن كونها تقدمية في صراعها مع القيم الرجعية للإقطاع وفي مقدمتها القيم الدينية، ووفقًا للمنطق الجدلي الماركسي في تحول الطبقة المنتصرة من الثورية للمحافظة بمجرد الوصول للسلطة فإن البرجوازية الغربية قد اتفقت على أسلوب أساسي لدعم أي اتجاهات رجعية في العموم على مر سنوات القرن الـ١٩ على النحو التالي:

١. دعم الكنيسة ومؤسسات الحكم لقمع ثورات الربيع الأوروبي في ١٨٤٨ ثم لقمع كوميونة باريس لاحقًا سنة ١٨٧١

٢. دعم المزيد من الاحتلال وضم أراضي العالم الثالث وفي مقدمة ذلك احتلال الجزائر سنة ١٨٣٠ ثم تونس ١٨٨١ ومصر ١٨٨٢ ثم مؤتمر كامل لتقسيم قارة أفريقيا سنة ١٨٨٤.

٣. تنشيط التبشير الكاثوليكي لحساب فرنسا وبلجيكا والبروتستانتي لحساب إنجلترا في أفريقيا وآسيا لدعم الولاء الديني لدول الاستعمار.

٤. في حال صعوبة التبشير يكون التعاون مع التيارًات الدينية غير المقاتلة وغير الجهادية، حدث ذلك في الأوساط المسلمة والمسيحية والهندوسية على حد السواء.

٥. البحث عن حل ديني لتهجير يهود شرق أوروبا المضطهدين عن طريق انشاء دولة لليهود في فلسطين.

٦. والأهم أن كل ذلك للمساعدة على استمرار ترسيخ بنية العمل ذات التقسيم البرجوازي الحاد وترسيخ عبودية العمل المأجور تحت ضغط سهولة الفصل من العمل، أو لاحقًا إغلاق المصانع والشركات، أو تخفيض الرواتب، وهو نظام لا يعيش إلا باغتراب العمال والشغيلة عن أنفسهم، والدين أحد تلك الوسائل المهمة لتحقيق ذلك الأمر.

استمر هذا النهج في القرن العشرين، وبالذات مع حملات محاربة الشيوعية، لم يتردد أي نظام معاد للشيوعية في استغلال أي ملف متاح لهزيمتها ومواجهتها. فعلت ذلك النظم الفاشية مثل هتلر وموسوليني وفرانكو، واستغل كل منهم الملف الديني وفقًا لمدى تغلغل هذا الملف في واقع كل بلد وسنعود لاحقًا لمناقشة دور هذا التغلغل عندما ننتقل لمسؤولية البلاد المنتجة للتطرف ذاتها. وقد فعلت ذلك أيضًا إنجلترا وفرنسا في المستعمرات بالتحالف مع أي تيار ديني يقبل الاحتلال ويسوغ الخضوع له، مثل بعض التيارًات الصوفية بالجزائر والهندوسية بالهند. لكن الاستغلال الأكبر كان أمريكيًّا، فمنذ الستينيات، تحالفت أمريكا مع أعتى التيارًات ضد الشيوعية، سواء كانت التيارًات قومية فاشية الطابع كالبعث بالعراق في انقلاب ٦٣، أو سوهارتو بإندونسيا سنة ٦٥ وكانت بكل البلدين مجازر وحشية مرعبة واستخدم فيها كل الأسلحة من القتل العشوائي المجنون، أو باستخدام سلاح الدين مستغلين الرفض المجتمعي للملحدين. وكفَّر ناصر الشيوعيين في حملته ضدهم عامي ٥٩، ٦٠ مستخدمًا نفس السلاح الذي استخدمته الملكية ضد الشيوعيين مرارًا، خصوصًا أيام انتفاضة الطلبة والعمال فبراير ٤٦، ليقوم النظام السعودي بدعم أمريكي بتكفيره هو ذاته ابتداء من سنة ٦٢، خصوصًا في إطار حرب اليمن. وقد بدأ النظام الناصري المصري يتقارب مع النظام الأمريكي سنوات ٦٨، وكذلك التقارب مع نظم الخليج بعدها عُيِّن السادات المقرب لأمريكا نائبًا للرئيس، ثم قبِل بمبادرة روجرز، وحدث ذلك بالتوازي إعطاء الدين مجالا أكبر في الحياة والسماح للإعلام بتبني تفسيرات دينية تروج لكون الهزيمة في حرب ٦٧ نتيجة للبعد عن الله وذلك لتخفيف بعض الضغط عن رأس السلطة. لكن السادات الأمريكي الخليجي الهوى كان منطلقًا أكثر في هذا الاتجاه بعد توليه السلطة سنة ٧٠، وانطلق بقوة لتمكين التيار الديني ضد أي تيار تقدمي أو شبه تقدمي على النحو الذي نعرفه جميعًا. ثم جاءت حرب أفغانستان ليشحن الشعور الديني الإسلامي الجهادي، ولمدة عشر سنوات كاملة وبرعاية الأنظمة في البلاد ذات الأغلبية الإسلامية جميعًا وبرضا ودعم وتحريض أمريكي وغربي، مما سبق يتضح أن مسؤولية الأنظمة الإمبريالية الغربية عن تنامي التطرف الديني والعرقي أيضًا ورعايته لهو أمر مؤكد.

والسؤال هنا، هل هذا ينفي مسؤولية البلاد المستهدفة وشعوبها ونظمها وتركيبتها الاجتماعية؟

اختلفت استجابات البلاد المستهدفة باستهداف التيار الديني فيها لحرب الشيوعية، ففي تشيلي وأمريكا الوسطى والأرجنتين والبرازيل، كان التحرر الاجتماعي قد قطع مسافات كبرى في الوجود على أرض الواقع، فكانت العلاقات بين الجنسين أكثر انفتاحًا حتى في الفئات الشعبية، على حين كانت العلاقات بين المسيحيين وغيرهم أيضًا خالية من التوجس والشكوك مثل الدول ذات الأغلبية الإسلامية وأقلياتها ومثل ما في الهند من توجس بين الهندوس من جانب والسيخ والمسلمين من جانب، وكان تيار لاهوت التحرير قد بدأ للتو في التضخم؛ وهو تيار اهتماماته جلها مركزة على العدالة الاجتماعية والمساواة وليس على أجندته بأي قدر أي نزوع للهيمنة الطائفية أو الجندرية.

في أوروبا، وانطلاقًا من الحرب العالمية الثانية بينما كانت الوسيلة الأساسية الأمريكية كانت خطة مارشال لتنمية القارة الخارجة من الحرب ببترول الشرق الأوسط الرخيص وقتها، إذ لا مجال كبير لاستغلال الدين في قارة تجاوزت الجمود الديني السلفي منذ قرون، وقفزت عليه قفزات كبيرة وتطورت اجتماعيًّا. في الشرق الأوسط والمتأثر بشدة بقرون من التخلف والجمود وبغلبة المحافظة الدينية والاجتماعية وبقدر هائل مما أسماه فوكو من التحكم الكامل بالأجساد (١) وسواء عن طريق المؤسسات الدينية أو مؤسسات السلطة العسكرية، كان الأمر فظيعًا وينذر بعواقب مهلكة إذا استغل بهذا الشكل.

وعلى حين كان الشرق الأوسط متأثرًا جدًا بكل ظروف البلاد الكومبرادورية المتخلفة غير مكتملة التحول الصناعي من تحالف الإقطاع مع البرجوازية وكونهم في النهاية مجرد وكيل تابع للرأسمالية العالمية، فإن هذا كان متأثرًا بطول فترة جمود البلاد ذات الأغلبية الإسلامية التي توقفت عن إنتاج الحضارة من القرن الثاني عشر الميلادي كما قال عن حق المفكر الجزائري مالك بن نبي (٢).

وكحداثة ناقصة وتدور في فلك الرأسمالي الأوروبي والغربي عمومًا اكتفت كل الأنظمة التي حاولت التحديث القسري بصنع جهاز بيروقراطي تابع قوي إداري وعسكري مع ضروري التحالف مع ما هو موجود من وسائل تدجين وقمع عسكري أو ديني أو قبلي أو أسري من خلال ما رصده خالد فهمي متأثرًا بمفهوم فوكو الخاص بالتحكم من خلال قمع الأجساد.(٣) وكي نتصور الأمر فقد فعلت البرجوازية الأوروبية ذلك في صعودها وخصوصًا بعد انتصارها على الإقطاع وتحولها للمحافظة والرجعية وكان العصر الأكبر الذي يرمز لهذا لقمع هو العصر الفيكتوري؛ فقمعت الغرائز الجنسية والعادة السرية وسادت القيم المحافظة حتى في أغلبية الدول الأوروبية (١) ولذا كان التيار الثوري الأوروبي في القرن الـ ١٩ حاضرًا ضد كل تلك القيم، ولكن كانت أوروبا فعليًّا تستطيع إنتاج مثل هذا التيار في سياق التمرد على الفكر الديني الذي بدأ قبل هذا التاريخ بثلاثة قرون. وفي سياق تحديث مجتمعي صناعي وبرجوازي تفاعل معه وأعطاه غطاءً مجتمعيًّا. ولكن الشرق الأوسط والبلاد ذات الأغلبية الإسلامية لم تحدث أي تراكم جزيء أو كلي في هذا النسق، وتتراوح التجارب التحديثية في الشرق الأوسط بين تحالف جزئي مع التيارًات الدينية كمحمد علي وداوود باشا وخير الدين التونسي، وبين تحالف كامل مثل عباس الأول وعبد الحميد الثاني وغيرهم، أو امتدادهم ناصر وعبد الكريم القاسم وبو رقيبة ممثلاً للتيار الأول والسادات وبو مدين والشاذلي بن جديد وعبد السلام عارف وصدام ما بعد ٩٤.

ومع القبول بل والتبني المجتمعي شبه الكامل للقيم المحافظة الدينية وللعشائرية والقبلية نظرًا إلى فشل عملية التحديث، ومع التحكم الكامل أو شبه الكامل للقوانين الدينية في الأحوال الشخصية كل هذه البلاد. ومع التمسك الحرفي الطوعي من أغلبية المجتمعات الإسلامية بالماضي الاستعماري الإمبريالي للإسلام بديلاً عن التطوير لذاتي كعلاج للجرح النرجسي لعهود الاستغلال والسيطرة، كانت الوسيلة الأساسية الأمريكية هي خطة مارشال لتنمية القارة الخارجة من الحرب ببترول الشرق الأوسط الرخيص وقتها إذ لا مجال كبير لاستغلال الدين في قارة تجاوزت الجمود الديني السلفي منذ قرون، وخصوصًا أن تلك البلاد عرفت مذابح دينية وعرقية عديدة على مر تاريخها مثل التصفية الواسعة للوجود المسيحي بالشام من ١٨٥٠ وحتى ١٨٦١، أو تصفية الأرمن والسريان أوائل القرن العشرين أو النزاعات السنية الشيعية الدموية بالعراق أو في أي بلد بين المتعصبين للمذاهب السنية الأربعة نفسها. ومع الهزائم المتكررة ضد إسرائيل والتي توجت بهزيمة ٦٧ ومع الحالة الفكرية والذهنية والاجتماعية العامة مالت الشعوب الإسلامية لاعتبار الأمر غضبًا إلهيًّا ولدفع الأمور تجاه كونها حربًا دينية وليست ضد استعمار استيطاني بالأساس.

والسؤال الثاني كيف تفاعل اليسار المشرقي من هذا الملف؟

كان حريًّا باليسار سواء الأممي بجميع تياراته أو المحلي في كل بلد أن يكون رأس الحربة ضد هذا التكفير الدوجمائي الرجعي السلفي، خصوصًا وأنه أدى دورًا في تخريب وعي المواطن وتغريبه عن ذاته وتهيئته لقبول الاستغلال الاقتصادي والنهب بسحق فرديته وشعوره الذاتي بالاحترام. لكن أداء اليسار في هذا الملف كان غالبًا أداءً شعبويًّا وضعيفًا وهاربًا من المواجهة إلا في أقل القليل، واكتفى بالمواجهة الاقتصادية بدعوى أن التحسن الاقتصادي الطبقي كبنيه تحتية سوف يفضي بشكل تلقائي إلى تحسن الوعي الفكري كبنية فوقية مع أن الأحداث اثبتت دومًا أن ضرب الحراك التقدمي كان يأتي من منطقة البنية الفوقية التي لم تنقد إلا في أقل القليل. وكان هذا على الرغم من أن بداية مواجهة الفكر الماركسي كاشتراكية علمية كانت مع أي فكر يبرر الاغتراب والاستعباد سواء كان فكرًا وطنيًّا أو دينيًّا أو أسريًّا، وتم نقد كل تلك الانماط الاستغلالية من قبل ماركس وإنجلز، كان الوسط العمالي خصوصًا في فرنسا وإنجلترا متأثرًا بقرون أسبق من الحراك التقدمي البرجوازي أثناء الصراع مع الإقطاع، ثم ثورات الربيع الأوروبي ١٨٤٨ وكان جزء أصيل منها ضد الكنيسة الكاثوليكية وكذلك كوميونة باريس لاحقًا سنة ١٨٧١.

وكانت التيارات اليسارية متشعبة وقتها، ومنها ما كان مخالفًا لماركس من حيث فكره التنظيمي، مثل الزعيم الفوضوي الروسي باكونين، الذي اختلف مع ماركس كثيرًا في عفوية الثورة مقابل تنظيمها، وفي ضرورة إلغاء الدولة نهائيًّا دون مراحل وسيطة، ولكنهما اتفقا على محاربة دور الدين في تغييب الوعي، كل بطريقته. وقد توقع ماركس أن تحدث الثورة الاشتراكية في البلاد الأكثر تقدمًا صناعيًّا؛ حيث الشروط جاهزة ومهيئة، ولكن ما حدث بعد وفاته أن بدأت الطبقات الرأسمالية في إعطاء مكاسب ومناصب أكبر للعمال في المنظومة، وبدأت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الانحراف يمينًا تجاه الموافقة على النظام الطبقي بشروط ميسرة للعمال واعتماد النقابات بديلاً للكومويونات كحل أخير. في حين جاءت الثورة من واحدة من أكثر بلاد أوروبا تخلفًا اجتماعيًّا وهو روسيا، وعلى حين قاد الحراك الثوري بطبيعة الحال الفئات الأكثر تقدمًا في الوعي من المناطق الصناعية الكبرى في بتروجراد وموسكو في ظل تراكم صناعي واقتصادي يفوق القرنين في المدة منذ النهضة التي خطط لها بطرس الأكبر بداية من نهايات القرن السابع عشر، وفي ظل محاولات لتأسيس حزب شيوعي فاقت الثلاثين عاما قبل الثورة البلشفية. فكان على الثوار ومنظريهم الكبار كلينين وتروتسكي التعامل مع ملف الواقع المتخلف الروسي بظهيره الريفي والشرقي المعزول عن أي تنمية، وظهيره القيمي الإقطاعي والمغالي في انتماءاته الدينية والعرقية. وكان من اهم الملفات المطلوب معالجتها كيفية التعامل مع الأعراق غير السلافية كالتتر والآذريين والتركمان والديانات غير المسيحية الأرثوذكسية المتبناة من القيصرية مثل الإسلام واليهودية. ففي حين رأت الثورية الألمانية روزا لوكسمبورج أن المطلوب هو إدماج لتلك الفئات في المجتمع الجديد وإزالة أي تمييز عنهم دون إقرار انقساماتهم الفوقية لأن في هذا ترسيخا لوضع مطلوب تجاوزه، رأى لينين أنه من الضروري بشكل براجماتي التعامل معهم بأوضاعهم وقت نشوب الثورة، وطمأنتهم من واقع هذه التقسيمات لكسبهم الى الثورة الوليدة المحاصرة والمهددة بالقضاء عليها والتي تعاني من الحصار الاقتصادي والحرب الأهلية والخارجية. وبغض النظر عن الدوافع وضغط الظروف، فواقع الأمر أن تلك الانقسامات بقيت، وبالأخص مع صعود ستالين شديدة السلطوية، ولكن قبل ذلك كانت النتيجة الاهم أنه مع نشوء الأممية الثالثة السوفيتية أصبحت تلك التوصيات اللينينية شبه قانون في التعامل مع البلاد المتخلفة فكريًا واجتماعيًّا. ورغم اختلاف السياق بين أقليات روسية ضخمة وأغلبيات دينية مسيطرة. فهذه الأغلبيات في الواقع كانت تمامًا مثل المنظومة المسيحية القيصرية الأرثوذكسية والتي تعامل معها لينين ورفاقه بصرامة وردع، وجرى ولو جزئيًّا، ترسيخ فصل الاجتماعي عن الفكري أو البنية التحتية عن البنية الفوقية فيما عرف بمرض الاقتصادوية. وحين تمرد تروتسكي وأنشأ تيارًا مضادًا ركز بشكل أكثر تكثيفا على نقد البنية الفوقية، ومن ثم نشأ تيار شيوعي فكري وفني في أغلبية بلاد العالم ناقدًا للبني الفوقية، وكان من أكبر وأشهر ممثليهم بمصر جماعة الفن والحرية؛ بزعامة جورج حنين، وكانت جماعة من المثقفين والفنانين والرسامين التشكيليين. إلا أن سطوة العمل الحزبي على الأرض كانت دومًا من نصيب الاقتصادويين الستالينيين، فمنذ الأربعينيات ومع نشأة التنظيمات المتوالية الشرارة (آيسكرا) ثم حمتو، ثم اندماجهم في حدتو وظهور راية الشغيلة إضافة إلى وحدة النقابات العمالية المستقلة قبل انقلاب يوليو بشهور، كان الملف الاقتصادي هو صاحب التركيز الأكبر، وكان الجانب الديني إما يواجه بشكل خجول أو يتم التلفيق معه بادعاء أن الإسلام متوافق مع الاشتراكية، أو يصل إلى درجة محاولة الوحدة والتنسيق مثلاً مع تيار مثل الإخوان. والبنية الفوقية التي نقصدها هنا ليست هي فقط قوى الدين، بل أيضًا قوى الانتماء الوطني للدولة بوصفه علاقة قهر من طرف واحد وليس علاقة تبادلية على قدم المساواة، وأيضًا قوى العائلة والعشيرة وقيم الانتماء التقليدية كلها.

لن تستطيع هذه المساحة رصد كل تلك التجاوزات التي يلزمها بحث منفصل، ولكن لنقد هذا التواؤم بين كثير من فصائل اليسار مع الفكر الديني خصوصًا في مرحلة هيمنة أحزاب الاممية الدولية بزعامة الاشتراكي العمالي البريطاني خصوصًا منذ نهاية الثمانينيات، فإنه من الضروري تتبع أصل الخلل النظري والاجتماعي. الأمران متشابهان في الظروف، ففي حين لم ينتج السياق الاجتماعي الإسلامي تمردًا جذريًّا على الدين، سواء على مراحل مثل أوروبا (الإصلاح الديني ثم العلمانية)، أو بأي نسق محلي وظلت نضالات الفلاحين والعمال الهائلة المؤثرة ولكنها في النهاية دون غرض التمرد على المنظومة الطبقية تحتيًّا وفوقيًّا بل تحسين شروط الوجود فيها. ومن ثَم ظل غالبية أعضاء الأحزاب والكيانات اليسارية من البرجوازية الصغيرة والكبيرة فئات إما محافظة بطبعها اجتماعيًّا أو تخاف المواجهة أو انتهازية أو معزولة، ولذا تميل دومًا لمهادنة أي نسق فوقي وخصوصًا لو أنه من طرف يعتبد جزءًا من كيانها الطبقي!

في أوروبا مجددًا، وبعد حراك مايو ٦٨ الثوري بالذات، الذي كان يهدف من ضمن أهداف إكمال الثورة الاجتماعية كالتحرر الجنسي والاجتماعي، وإعادة بعث القضايا الطبقية والتمرد حتى على الشيوعية التقليدية الستالينية المهادنة لها، فشلت نتائج هذا الحراك خصوصًا على المستوى العمالي الاقتصادي، أو إغلاق المصانع ونقلها لبلاد أرخص عمالةً، وبدأت أحزاب اليسار الجديد التروتسكية (الأممية الرابعة) المنشق عن الستالينية أو أي مجموعة اممية تروتسكية أخرى ستنشأ لاحقًا، تشعر بالعزلة الاجتماعية، خصوصًا في ظل صعود اليمين في إنجلترا (تاتشر) وفرنسا (ديستان) وأمريكا (ريجان) واخترق اليمين صفوف العمال فكريًّا وأمنيًّا. فبدأ التحالف مع أقليات مجتمعية يراد لها النهوض وتجاوز الرفض مثل المثليين والنسويات كنوع من التوافق مع مبادئ حراك مايو ٦٨، ولكن كان الرافد الأهم والأكبر حجمًا هو الملف الإسلامي، خصوصًا إذا دخل صراعًا مع الإمبريالية الغربية وبدأت طلائع تلك الفكرة مع قيام الثورة الإيرانية سنة ٧٩، فالثورة الإيرانية ذات الملمح الشيعي الرومانسي، وقيام شيخ ماضوي كالخوميني بزعزعة أكبر نظام مؤكد للقطب الإمبريالي الأكبر الأمريكي أثار خيال الكثيرين مثل المفكر الفرنسي ميشيل فوكو الذي كان من تيار متصالح مع الدين بشكل عام. فبدأ منظرو حزب الـ swp قادة الأممية الدولية فجأة في دعم إيران في حرب العراق سنة ٨٧ بداعي أنه نظام ضد إمبريالي، بعكس موقفهم الأولي الرافض للانحياز بوصفها حربًا بين نظامين رجعيين وقمعيين. وعلى الرغم أن فضيحة إيران كونترا والخاصة بدعم ريجان لإيران عسكريًّا لإطالة أمد الحرب كانت بالكاد مكتشفة في العام الأسبق، فقد توسع الأمر لدعم أي محارب لإسرائيل مهما كانت خلفيته الأيديولوجية، ومهما كانت طائفية كحماس وحزب الله. وهو دعم اعتبر نقديًّا ولكنه لم يكن نقديًّا بأي حال من الناحية العملية. ثم يصدر كريس هارمان سنة ١٩٩٤ كتابه الشهير النبي والبروليتاريا، الذي يعترف فيه بنزوعهم الإقصائي ولكن دون أن يرى في ذلك عمليًّا أمرًا ينتقص من الفائدة العامة. والمثير أنه كان يضرب المثال وقتها بجماعة الإنقاذ الجزائرية بضمها أفرادًا أقصوا من الجماعة الفرانكفونية الحاكمة، وطبعًا جميعنا يعلم من كانت جماعة الإنقاذ وماذا فعلت بالضبط بالجزائر؛ من ذبح وقتل جماعي للمسالمين، وليس فقط قتال أجهزة الدولة إذا سلمنا كخطاب الإسلاميين أنها البادئة بالعدوان، وتحميل الجزائر عقدًا إرهابيًّا مريعًا، قُتل فيه عدد من المفكرين والمطربين والرياضيين. لكن كريس هارمان كان يعلم ذلك ويرصده في كتابه ولكن لا بأس، ما دام الأمر به جماعات مظلومة طبقيًّا مهما كان بنية فكرها الفوقية (٧).

وعلى صعيد الأحزاب التابعة للأممية في بلاد مثل مصر وسوريا وغيرهم، فلم يسمح لها بأخذ موقف فارق، فعلى حين افترضت أدبيات الحزب أن الاهتمام بالقضايا الاجتماعية للمسلمين التقليدين دون نقدهم سوف يرفع الوعي الطبقي لهم تلقائيًّا، وهو ما لا نملك أي دليل على حدوثه بشكل واسع في أوروبا، حيث هم أقليات فعلاً، وحيث الخطاب اليساري أوضح وأكثر نجاحًا من مثيله في بلادنا. لقد رأينا أغلبية كوادر اليسار الحديث تتعامل بنفس منطق لينين في قلب الحرب الأهلية الروسية بعد الثورة بمنطق لنتحالف معهم كما هم ولنكسب اصواتهم ودعمهم النوعي واللوجستي وليكن أي نقد لهم هو نزوع عنصري وإسلاموفوبيك، وإذا كان هذا الأمر صعبًا فليتم اتهام الغرب ليس من جانب التحالف مع نظم الخليج لإنشاء المراكز السلفية الإسلامية كقنابل كراهية، بل من حيث هذا رد فعل على التهميش الاجتماعي والاقتصادي. وعلى الرغم من أن الجاليات الأخرى الفقيرة كما أسلفنا لم تفعل نفس الأمر، وعلى الرغم أيضًا أن كثير من ذوي الخلفية الإسلامية واندمجوا في المجتمع سواء كمسلمين أو كلادينيين وملحدين من خلفية إسلامية وصلوا لأعلى المناصب السياسية أو العملية، وأنهم في جميع الأحوال أفضل بكثير مما كانوا عليه في بلادهم الأصلية، من حيث التعليم والسكن والعلاج وحقوق العمل، بل يصل الأمر أيضًا لتخطئة الصحف الساخرة التي لم تفتأ تسخر من كل رموز جميع الأديان بل والرموز السياسية إن نقدت الرموز الإسلامية بوصف ذك نزوعًا عنصريًّا وإسلاموفوبيك، وحين انفجرت موجة داعش مع سنة ٢٠١٥ مع بداية عودة بعض الدواعش من العراق وسوريا اكتشف المجتمع الأوروبي أنه احتضن قنابل موقوتة فعليًّا. وهو ملف بدأت أوروبا كلها في التعامل معه، وليس فقط ماكرون من حيث تتبع مصادر تمويل الجمعيات الإسلامية، والاهتمام برصد العناصر الخطرة ومحاصرة أي تجمع يمثل بؤرة كراهية. إن تناول الأمر باعتبار أن ماكرون فاشلًا ويريد العمل على ملف الإسلام لتحسين سمعته فهي زاوية مغلوطة جدًا، ليس لأنه غير فاشل اقتصاديًّا، فهذا أمر ثابت وهو جزء من فشل وإفلاس المنظومة الغربية الرأسمالية كلها بأحزابها خصوصًا يمين ويسار الوسط في التعامل مع بنية الاقتصاد الحالي عمومًا، وفي ظل عالم مع بعد أزمة ٢٠٠٨ خصيصًا. ولكن توجد دول أكثر نجاحًا اقتصاديًّا أو أقل فشلاً كسويسرا والدول الإسكندنافية بدأت إجراءات كثيرة؛ سواء مالية لمحاصرة تلك الجمعيات أو غيرها، مثل منع سويسرا للنقاب بتصويت قانوني رسمي صوتت فيه الأغلبية لصالح هذا القانون، ومن المعروف أن سويسرا من أقل البلاد الأوروبية عنصرية. ولكن أن يتناول سياسي أمرًا ما ملحًا جماهيريا لزيادة شعبيته فهو أمر مفهوم تمامًا ومن حق أي تيار سياسي، وقد كان حريًّا باليسار ألا يترك هذا الملف لليمين بدلاً من تلك المزايدة الغريبة، فانت كيسار حين تتعامى عن تغول التطرف وتهديده فعلًا لقيم العيش المشترك في أوروبا مع كم الحوادث المباشرة في طول أوروبا وعرضها من ٢٠١٥ إضافة أيضًا إلى خنق كثير من المفكرين العرب، وتهديد أمنهم الشخصي حتى في أوروبا، مما يدفع كاتبًا مثل حامد عبد الصمد إلى السير في حراسة مستمرة، وانتحار الروائية المغربية الأصل الهولندية الجنسية نعيمة البزاز تحت ضغط التهديد والابتزاز والرعب الدائم، فلا تلوم اليمين لانتهازه تلك الفرصة ليستغلها، وعلى وصمك بالتواطؤ مع التطرف الإسلامي، أنت من وضعت نفسك في هذا الوضع.

حين قال ماكرون إن الإسلام في أزمة قاصدًا النزعات الراديكالية الانفصالية المعادية للحضارة الحديثة وقيمها، فقد قال ما كان ينبغي على أغلبية المفكرين المسلمين واليسار في البلاد الإسلامية والغربية قوله، فهو في أزمة وهوة حضارية ولا يزال يعيش بعقلية قديمة في الألف الثانية بعد الميلاد، وقد بدأ يهدد قيم التعايش السلمي عمومًا. فهل ينبغي على اليسار رفض أي كلمة صدرت لأنها صدرت بالذات عن أحد اقطاب اليمين؟ لقد أدى النمط المهيمن من اليسار الجديد، ومنذ التسعينيات تحديدًا، دورًا تخريبيًّا بالغ السوء في الوعي اليساري سواء عالميًّا أو محليًّا، وتسبب في تأخير الكثير من تطور وعي كوادر تقدمية كثيرة ترى في الغرب والتيارًات النافذة فيه مقاييس يقاس عليها، وكان ينبغي على الخطاب اليساري أن يتبنى ذلك الحراك في الاتجاه السليم بدلاً من تشتيته وتخريبه والتمويه عليه ومن ثم دفعه لتذيل اليمين.

وفي النهاية يرى كاتب تلك السطور أنه لا توجد إسلاموفوبيا؛ بمعنى كراهية خاصة للأجانب المسلمين تفوق مثيلاتهم من الأجانب الآخرين، فالعنصرية واليمين موجودان طبعًا، ومطلوب حربهما ونقدهما، وقد يعاني منهما المسلمون بقدر معاناة غيرهم. ومواجهة هذا الأمر ليس بإنكاره بل بمواجهة أسبابه، ومن ضمنها تخلف الأغلبية العظمى من المسلمين ورفضهم نقد دينهم، وتمسكهم بالاستعلاء الديني والطائفي والتراتبية الجندرية، سواء في بلادهم أو في بلاد المهجر. هذا الحراك النقدي متعاظم جدًا في الوقت الحالي، صحيح أنه لا يزال أقلويًّا، ولكنه في حالة نمو مستمر وهذه خلخلة للبني الفوقية نرجو ألا يضيع اليسار مزيدًا من الوقت تحت شعار أو تهمة الإسلاموفوبيا، ويتعامل معها بشكل إيجابي وبناء.

(١) تاريخ الجنسانية، ثلاثة أجزاء، ميشيل فوكو.

(٢) شروط النهضة، مالك بن نبي.

(٣) كل رجال الباشا، خالد فهمي.

(٤) عسكرة الحياة العمالية والنقابية، عطية الصيرفي.

(٥) المبتسرون، أروى صالح.

(٦) سنوات السعادة الثورية، دلال البرزي.

(٧) النبي والبروليتاريا، كريس هارمان.