مراجعات
باسم عبد الحليم«الشعلة الخفيَّة للملكة لوانا».. ترميم ذاكرة ضبابية
2021.01.01
«الشعلة الخفيَّة للملكة لوانا».. ترميم ذاكرة ضبابية
بتجربة بارزة في الكتابة الأدبية، رسخ الروائي الإيطالي الراحل أمبرتو إيكو مشوارًا سرديًّا ينتح، في غير قليل، من تجربته الأكاديمية الموازية كأستاذ في السيميائيات. ليس خافيًا أن أعمال إيكو الأدبية تستفيد تمامًا من حقله الدراسي الفريد، وأنها موضوعية ومعرفية، بقدر ما هي شخصية. وفي رواياته السبعة، منذ أولاها في عام 1980 «اسم الوردة»، وحتى آخرها في عام 2015 «الرقم صفر»، جاور إيكو بين حقول عديدة، من النقد السيميائي وتاريخ الفن إلى نظريات أدب النوع والثقافة الشعبية، في نسيج متشابك ومتعدد الطبقات، صانعًا بصمة سردية خاصة صار يميزها قراؤه بوضوح كبير، وتميزت بهارمونية محتواها والتيمات التي استكشفتها، وبإدراكها للتراث الأدبي الإنساني بوصفه كلاً جامعًا يتعالق في ما بينه بعلاقات تحتية نشطة، وكذلك بطريقة إيكو البحثية الموسوعية في خلق وتغذية حبكاتها وشخصياتها الرئيسية.
وتحتل رواية «الشعلة الخفيَّة للملكة لوانا»؛ المُترجَمة حديثًا إلى العربية بتوقيع المترجم السوري معاوية عبد المجيد (دار الكتاب الجديد، 2020، طبعة خاصة بمصر في مكتبة تنمية)، الترتيب الخامس في أعمال إيكو الروائية. وفيها يضع إيكو قارئه، ومنذ الصفحات الأولى، في قلب حدث مفارق، هو الحدث الذي تتأسس عليه الرواية في كاملها. تبدأ الرواية في سطريها الأولين هكذا: «وما اسم حضرتك؟»/ «انتظر لو سمحت، اسمي على طرف لساني»، بمحوٍ كامل لذاكرة بطلها، حتى لاسمه ذاته. ثم يتخم أمبرتو إيكو أحاديثَ بطله، والذي سنعرف لاحقًا أن اسمه جامباتيستا بودوني، ولقبه كما سنعرف في الصفحات الأولى «يامبو»، بسلسلة لا نهائية من الاقتباسات الأدبية، والثرثرة السردية المدعومة باللوحات التي يختلط فيها الرسم بالفوتوغرافيا.
يفقد يامبو، تاجر الكتب القديمة والنادرة الستيني، إثر حادثة سيرٍ، ذاكرته وذاكرة كل ما كان يعرفه عن حياته؛ اسمه وسنه وماضيه بالكامل، وحتى زوجته وأبنائه وأسمائهم. لكنه مع ذلك، لا يزال يحتفظ بذاكرة كل ما قرأه في حياته على نحوٍ حاد. ذاكرة طبعات كل كتاب، وقصة، وصورة شعرية، ولوحة غلاف. أو بلفظٍ أدق: ذاكرة الموسوعة، ذاكرة فهارس وتباويب المعرفة في المقام الأول. وبينما يعجز يامبو عن تذكر أقرب حدث وقع له، لا زال يحتفظ بذاكرة حية قوية، وكأنما لها وعيها الخاص، لما قرأه في حياته بالكامل. وفي تيار استدعاء ذاكرة القراءة الجارف، تضحى حادثة السير غير ذات أهميةٍ تقريبًا، إذ يأتي ذكرها عابرًا على لسان الطبيب في الفصول الأولى، ثم لا يتكرر بعد ذلك. مجرد ذريعة واقعية لاختفاء الذاكرة، تفتح للبطل الراوي يامبو مسارَ رحلته لاسكتشاف ذاته وتاريخه من جديد، في الستين من عمره، وعلى طريقة راوي مارسيل بروست في «البحث عن الزمن المفقود»، أي الأثر الذي يختزن الذكرى. لكنه بخلاف بطل بروست، لا يستدعي تاريخه عبر رائحة ومذاق كعكة المادلين، أو مناظر كومبرييه المعمارية العتيقة، بل عبر الحروف المطبوعة واللوحات الجرافيكية واقتباسات الكتب ومجلات الكوميكس الهزلية. وهو استدعاء يحيطه إيكو برمزٍ مُعبر، هو رمز الضباب، الذي يتهوس به يامبو بالبحث عنه في ثنايا الكتب والقصائد الشعرية، والمُستدعى على طول الرواية.
تغري الفكرة الأساسية لـرواية إيكو برحلة متصاعدة من التحري البوليسي، لكنها تنحو شيئًا فشيئًا ومع تقدم السرد منحًى آخر. تتشكل الرواية من ثلاثة فصول طويلة، يتكون كلٌ منها بدوره من عدد من الفصول المُرقمة الأصغر. يعتمد الفصل الأول «الحادث» في معظمه على الاقتباسات والنصوص المتداخلة لذهنٍ مُشوَّش، بينما يتشكل الفصل الثاني «ذاكرة من ورق» من الصور والتاريخ. وما يبدأ في الفصل الأول نبشًا في الذاكرة الشخصية ليامبو، يتسع في الثاني ليصبح نبشًا له طابع توثيقي في ذاكرة وهوية جيلٍ كامل ينتمي إليه إيكو نفسه، بمقابلة بعيدة وعصيَّة في آن، بين المؤلف وشخصيته الروائية. هنا يتداخل الشخصي مع العام، في مسار سرد يُمكن أن نعتبره تاريخيًا بأغرب الطرق الممكنة، عن حقبة الفاشية الإيطالية في الثلاثينات وبداية الأربعينيات من القرن العشرين. لكن هذا التداخل يظل تداخلاً خلَّاقًا مع هذا؛ لا يسقط بالرواية إلى بساطة الأدب السيرذاتي، وهي البساطة التي طالما عارضها إيكو نفسه بأعماله الأدبية.
بطل الرواية نقطة التقاء بين شخصيتين، فـ»جامباتيستا بودوني»، كما نعرف في الصفحات الأولى، هو اسم طباعي شهير من العصر البونابرتي، و»يامبو» كما سنكتشف لاحقًا، هو اسم تدليل مُلتَقط من إحدى قصص المغامرات المصورة. وذاكرة يامبو التي يجري البحث عنها نفسها، هي حلقة وصل بين ذاكرة فردية وأخرى جماعية، أو بين السيكولوجيا والتاريخ، يتم استدعاؤها عبر نصوص شعبية، ولوحات، وكتب دراسية، ومنشورات دعائية سياسية، وأناشيد وأغانٍ، وأفيشات أفلام قديمة، وقصص مغامرات، وأغلفة كتب - أو وثائق التكوين لطفلٍ استقبل سنواته الأولى في زمن الحرب، تتجمع في ما بينها لتكون ما يشبه كولاج ضخمًا متعدد المصادر، يعرض وبقوة تفاصيل زمن عمومي ماضٍ، لكنه لا يزال محتفظًا بتأثيره على نحوٍ مخيف. وهو كولاج ينزع عنه نوستالجيته، ذلك التحليلُ الذي يسبغه عليه يامبو، بالمقارنة المستمرة بين صور التربية المدرسية المتقاطعة مع تلك الوطنية، بقصص المغامرات التي جرت طَلْيَنتـها في زمن حكم الدوتشي.
تكشف وثائق التكوين تلك، البصرية بالأساس، بمصاحبة سردها التفسيري، عن تربيةٍ عاطفية ووجدانية قاهرة على نحوٍ عميق. وكعادة روايات إيكو، يستعمل الروائي نصوصًا ووقائع وأفكارًا ماضية، ليعيد صبها في قصص تتعاطى مع الحاضر وإشكالياته. إن تلك النصوص والأفكار تختزن داخلها الطبقات المعرفية للحاضر. وتنزع شخصيات إيكو دائمًا، على نحوٍ محموم، إلى استكشاف ذاتها وفقًا لهذا الماضي. لا يحضر الماضي هنا بصفته التاريخية فقط، بل وبصفته السيكولوجية والنفسية أيضًا. وهو حضور يزداد تعقيده بالمضي قدمًا في السرد، ليدحض أي تفسير قريب أو سهل المنال لغرض الرواية الأصلي أو الدافع وراء كتابتها، مفسحًا المجال لتصوير مدى شيزوفرينية هذا الماضي وانقسامه على نفسه.
هل هذه رواية مُصوَّرة؟ إن مادة الرواية الجرافيكية سابقة على مادتها الحكائية تأكيدًا، وهي مادة جرى انتقاؤها وتكثيف حضورها وترتيبه لتصنع مع تلك الحكائية نسقًا مغايرًا لوجودها الأول. قد يبدو في الفصل الثاني أن إيكو يستعمل تلك المادة البصرية استعمالاً أكاديميًّا مصاحبًا لمادته الحكائية الأساس. فالصور واللوحات لا تقوم مقامَ السرد المكتوب، بل تسانده وتدعم تأثيره. لكنه هذا التأثير ذاته ستتغير طبيعته ويتضح الهدف منه، على نحوٍ أكبر، في الفصل الثالث والأخير من الرواية، المعنون بـ»عودة». وستتكشف حقيقةُ أن دور الصور أهم بكثير من مجرد المُصاحبة التوضيحية، وأنها لم تكن قابلة للاستبعاد في أي مرحلة من مراحل الرواية.
بعد أن قُدِمتْ في الفصلين الأولين، تتدافع الصور والذكريات في الفصل الأخير، وقد فاضتْ عن قدرة ذاكرة يامبو على ترتيبها، وانحلَّتْ روابطها المنطقية، في انسيالٍ وتداعٍ متحرر من تاريخيتها وسياقاتها الأولى. ويسقط يامبو، ومعه الكاتب والقارئ، في معاينة سوريالية حرة تعرض نفسها على شاشة خاوية. لقد اهتزت الطبقات الأركيولوجية لذاكرة يامبو، وامتزجت إثر زلزال عنيف وضاغط، واكتسبت شخوص ذاكرته حياة جديدة. يستمد الفصلُ الثالث صورَه وشخصياته الخيالية بالأساس من كتب الكومكس وأبطال روايات المغامرات. ترتد الرواية في فصلها الأخير من جماعيتها التي طبعت الفصل الثاني، إلى فردية جديدة. ويشككنا يامبو في هذا الفصل الختامي في مدى واقعية ما يشاهده؛ هل هو في حال يقظة أم نوم، وهل هذا حلم أم حقيقة، أم دور جديد من لعبة التذكر والنسيان؟ إن حضور الشخصيات الهزلية فيه حضورًا مُلوَّنًا، هزليًّا، ومتخففًا من الثقل التوثيقي في الفصل الثاني إلى حدٍ بعيد. وإشارات إيكو المُضمَّنة إلى رواياته السابقة نفسها تزيد من سوريالية الفصل وغموضه. فهل هو جحيم دانتي، أم فردوسه، أم الجحيم والفردوس معًا وقد انكبا يبادلان موقعيها؟ إن النهاية لا تحسم، لتتركنا مع نقطة انتهاء غامضة ومفتوحة على الاحتمالات.
قد يجد القارئ العربي صعوبةً في استقبال رواية إيكو، فهي أولاً تخاطب قارئها في لغتها بذاكرة جماعية خاصة جدًا، وهي أيضًا تتحرك بأدب إيكو وطريقته المألوفة في السرد خطوة أبعد، فالقارئ العربي الذي تعاطى بيسرٍ أكبر مع «اسم الوردة» ببنيتها البوليسية المستلهمة للتاريخ، أو مع «مقبرة براج» بإثارتها ذات الطابع المؤامراتي، عليه أن يتخلى هنا قليلاً عن توقعاته بخصوص ما قد تكون عليه رواية لأمبرتو إيكو. وساعتها قد يتواصل بصورة أكبر مع الطريقة التي يستكشف بها بطل الرواية شرطه الوجودي، ومع أسلوب إيكو الفريد في إعادة النظر إلى التاريخ، والكيفية التي يجعل بها من هذا التاريخ حكاية شخصية تمامًا.