مراجعات
باسم عبد الحليم«تنويعات التجربة الدينية».. أن تستشعر الألوهة داخلك
2020.04.01
عرض كتاب «تنويعات التجربة الدينية»
الناشر: مركز نهوض للدراسات والنشر، 2020
المؤلف: ويليام جيمس
المترجم: إسلام سعد - علي رضا
«تنويعات التجربة الدينية».. أن تستشعر الألوهة داخلك
في عام 1901، دُعِيَ الفيلسوف وعالِم النفس الأمريكي ويليام جيمس إلى جامعة إدنبره باسكتلندا، لكي يُلقي عددًا من المحاضرات ضمن برنامج محاضرات «جيفورد» حول مسألة الدين الطبيعي. أعد جيمس عتاده العلمي والفلسفي كاملًا، وارتحل إلى القارة الأوروبية. وفي تصديره للكتاب الذي ضم المحاضرات بعد ذلك، وَجَه جيمس الشكر إلى عشرة من زملائه وأصدقائه في عدد من الجامعات الأمريكية والأوروبية، على مساعداتهم وملاحظاتهم واقتراحاتهم المهمة. مما يعطينا لمحة عن حجم العمل الذي انخرط فيه جيمس استعدادًا للمهمة.
اللحظة التي دُعِيَ فيها جيمس إلى إدنبره خطيرة، وذات دلالة، إنها اللحظة التي كان الفكر الأمريكي فيها قد انقطع عن كونه تابعًا للفكر الفلسفي الأوروبي، وبدأ يُبلور روافده ويشق أنهاره الخاصة، فأمكن لمفكرٍ وباحث أمريكي أن يُدعَى للمُحاضَرة في جامعة أوروبية، وأن يثير اللغط.
كان جيمس قادمًا إلى أوروبا بحِمْل ثقيل إذن؛ حِمْل الفكر الفلسفي الأمريكي الجديد كله أمام أوروبا. بدأ جيمس أولى محاضراته قائلًا: «بالنسبة إلينا، نحن الأمريكيين، فإن خبرة تلقي العلم على يد العلماء الأوروبيين [...] أمر معتاد جدًّا. [...] أما العادة العكسية، أقصد أن نتحدث نحن بينما يستمع الأوروبيون، فلم نكتسبها بعد».
كانت أوروبا خارجة لتوها من عصور تنويرٍ قاسية، عصفت بكل ما كان يعرفه الإنسان عن نفسه وعن العالم، وأفاضت بالمعرفة الأوروبية إلى محرقةٍ كانطية كُبرى، دللت على أن العقل لا يمكنه البرهنة على وجود الله، كما لا يمكنه دحض وجوده، لتفتح الباب على مصراعيه أمام الإيمان العملي والإيمان الأخلاقي، وتؤسس لميتافيزيقا بديلة؛ ميتافيزيقا «في حدود العقل وحده»، ظلت تطبع الفكر الأوروبي بطابعها لقرونٍ لاحقة.
يقترح بعض ممن درسوا عصر التنوير الأوروبي لاحقًا، فرضيةً مُغايرة بشأن ما فعله ذلك العصر في الإيمان الديني، بأن السعي الأساسي في حقبه الأولى، لم يكن حلَّ الدين، بل المُصالحة بين القديم والجديد بالمعنى اللاهوتي. ولكن بحلول عقد الأربعينيات من القرن الثامن عشر، كانت جهود العثور على صيغة تركيبية عامة من اللاهوت والفلسفة والسياسة والعِلم، قد انهارت بوضوح، مما هز المعتقدات والقيِم الدينية، وخلق أزمة إيمان حادة هي ما قادت حركة علمّنة أوروبا الدائبة. على الأغلب، كان ويليام جيمس يستشعر تلك الأزمة وهو يختار لمحاضَراته أن تكون نقدًا جذريًّا لكل المقاربات العلمية للدين؛ الوضعية والسيكولوجية والفلسفية.
في عام 1902 -أي بعد أقل من عامٍ- جُمِعت المحاضرات للمرة الأولى في كتاب يحمل عنوان «تنويعات التجربة الدينية». وفي 2020، بعد أكثر من مئة عام، تصدر الترجمة العربية للكتاب، بتوقيع المترجمين إسلام سعد وعلي رضا. وكأن قدر لغتنا العربية دائمًا، أن تصلها المعرفة متأخرة.
من البداية ينفي جيمس عن نفسه صفة أن يكون لاهوتيًّا أو باحثًا في تاريخ الأديان أو أنثروبولجيًّا، ليثبت فقط صفة عالِم النفس. ومن ثم، فإنه يرى أن الأمر الطبيعي بالنسبة إليه، أن يدعو إلى دراسةٍ وصفيَّة للميول الدينية للإنسان، أو تجربة أن يكون متديِّنًا.
غير أن هذه الدراسة الوصفية تستبعد المادية الطبيَّة بوصفها تفكيرًا ساذجًا بشأن التجربة الدينية. صحيحٌ أن جيمس لا ينفي، كعالِم نفس، الافتراض القائل بأصل مَرَضِيٍ/ نفسي للتديُّن. لكنه يُعلِّق عليه بأن الطبع العُصابيّ قد يقود صاحبه إلى أرض الحقيقة الدينية، ويرجحه باعتباره الشرط الأساسي اللازم لاستقبال أمرًا مثل «الإلهام من الملكوت الأعلى»، إذا كان يوجد فعلًا ما يسمى كذلك. هكذا، من البداية، يتحدى ويليام جيمس ما استقر في المعرفة الأوروبية. وإن المرء ليتساءل عن الكيفية التي قد يكون عالِم نفس مُجايل مثل النمساوي سيجموند فرويد، استقبل بها طرحًا كهذا.
لقد كان فرويد، وعلى خلاف جيمس، ينظر إلى العالم نظرة ماديَّة تمامًا، وكان أقل احترامًا بكثير لما يُسمى «الظاهرة الدينية».
تبدو كل دراسة تتناول مسألة «الدين» ملزمة بأن تُحدد لنفسها، من البداية، وفي كل مرة، ما تقصده بكلمة «دين». إن مجال بحثها فائق الاتساع، وفائق التميُّع أيضًا. ولا مناص من أن يحدد الباحث مدخلًا ضيقًا إلى موضوعه. ولكي يُرسِّم حدود الحقل الذي يختاره، سلك جيمس في المسار الأقرب؛ أن يذكر المناحي التي لن يتعرض لها.
يفرق جيمس بداهةً بين الدين المؤسسي، التعاليمي، الإكليركي؛ «فن الفوز بفضل الآلهة ونعمتها» كما يسميه، وبين الدين الشخصي، الأكثر جُوَّانيَّة للإنسان؛ «ضميره، وطرق نجاته، وعجزه ونقصه». إنه الدين الذي تكون الأفعال فيه أصداءً للشعور، وينعزل فيه المؤمن فردًا لكي يلامس الحقيقة الكبرى للوجود ويستشعر الألوهة داخله. وبالطبع، فإن «الدين الشخصي» هو ما يشكل هنا مركز الاهتمام.
في هذا النوع من الدين، تتدنى الهيئات الكنسية بكهنتها وأسرارها المقدسة ووسطائها إلى مكانة ثانوية. وتمضي العلاقة فيه مباشرة «من قلبٍ إلى قلبٍ آخر، من روحٍ إلى روحٍ آخر، إنها بين الإنسان وخالِقِه». وفي نفس الضوء، يرى جيمس الطقوس المتعلقة بالممارسة الدينية كالصلاة. إنها في غائيتها اتصال حسِّي مع الألوهة، اتصال يفتقر إليه الدين الطبيعي كما يقدمه اللاهوت الفلسفي لعصر التنوير. وقد يبدو مثيرًا أن نفهم تحديد جيمس لموضوعه بلغة الحروب، فنقول إن ويليام جيمس، في تجنبه «الدين المؤسسي»، سلبًا وإيجابيًّا، يبدو كأنه يعقد معاهدة سلام مع معظم فلاسفة التنوير الفرنسيين، الذين جعلوا من هذا النوع من الدين هدفًا أساسيًّا لسِهامهم. وبالمنطق ذاته، كان جيمس يشن هجومًا، بأثر رجعي، على تنويري ألماني رفض فكرة الإلٰه الشخصي، مثل يوهان جوتفريد هيردر.
ينطلق ويليام جيمس في سردٍ حُر مستقى من تدوينات وحكايات رواها متديّنون، يصفون فيها لحظات استشعارهم الألوهة في داخلهم، وقرارهم التحوُّل إلى الحياة الدينيَّة، بنوع من تلبية الاحتياج إلى استسلام الذات. وتشير العاطفية الموجودة في العديد من السرديَّات التي يُضمِّنها جيمس في محاضراته، إلى آلية انتقائية تميل إلى الحالات المغالية المفرطة للموضوع. يعترف جيمس بأن «الحماسة» في الأمثلة التي اختارها هي القادرة على أن تمدنا بالمعلومات الأهم والأعمق، وليست الأمثلة الأكثر معقوليَّة ورصانة.
إن التجربة الدينية فورة من فورات الشعور. ولا يمكن برهنة المعتقد الديني بالحجج، لأنه متجذر في الشعور الحماسي. إنه خاص وفردي، ويستعصي على التعبير اللفظي. بينما الفلسفة على النقيض، تحيا في اللغة، وتطمح إلى العقلانيَّة الخالصة. إن جيمس يعترف أن الاعتقاد الديني ليس علميًّا، ولو كان للاهوت الفلسفي من فائدة، فهي أن يحد مما قد يتسلل إلى الدين من أباطيل.
بحسب جيمس، يقع جذر التجربة الدينية الذاتية في حالات الوعي الصوفي. ولنزع السمعة السيئة التي أحاطت بكلمتي «تصوف» و«صوفي»، من كونهما تعبران عن كل ما هو مبهم وعاطفي وذي دلالة فضفاضة ويفتقر إلى المنطق، يضع جيمس حدوده لما تعنيه كلمة «صوفيَّة» في أربع نقاط، فهي «لا وصفية» غير قابلة للتعبير عنها باللغة، و«عرفانية» تسبر أغوار حقائق يعجز عنها العقل الاستدلالي، و«سريعة الزوال» لها حد زمني قصير تتلاشى بعده في ضوء النهار، و«تلقيها سلبي» تُحكِم قبضتها على المتصوف، وتلغي إرادته، فلا يكون له أي شأن في ما يعاينه من رؤى.
يعترف جيمس بأن الناس لا يمكنهم تحمُّل أن الادعاءات الصوفية مؤكدة وقطعية، ببساطة لأنهم لا يستطيعون تحديد منهجٍ صالح للحكم عليها. ومن هنا تأتي أهمية علم الأديان، فهو قد يمنحنا أدوات للحكم على طبيعة تجارب الوعي الصوفي الباطني. إن الصوفية تفترض معرفة غير قابلة للنقاش، فالمتصوف لا يدعي أدنى استدلال على ما يحوزه من معرفة، ولا يقدم بيانًا قويًّا معصومًا من النقد والتكذيب.
من جانب آخر: هل يجب على جميع البشر أن تُظهِر حيواتهم استجابات متطابقة لتجربة الدين؟ لا يرى جيمس كيف يمكن لمخلوقاتٍ مثل البشر، موجودة في أوضاع مختلفة، وبقدراتٍ مختلفة، أن تكون مُكلَّفة بالمهام والواجبات نفسها. وبالمثل، فإن تبايُن زوايا نظرنا، هي انعكاس لتعدد صفات «الإلهي». يجادل جيمس بأنه يجب أن يُسمَح لـ«إلٰه المعارك» بأن يكون إلٰهًا لنوع من الأشخاص، وأن يكون إله السلام والجنَّة والسكن إلهًا لنوع آخر منهم. ليس الرب فقط من خلق الإنسان على صورته، بل إن كل إنسان أيضًا يتصور ربه على صورته.
يحمل طرح ويليام جيمس عن الإيمان بالإلٰه أصداءً ديكارتيَّة؛ مثل أن فكرتنا عن الإله ناشئة بالضرورة عن الإله، وبالتالي فهو موجود. كما أن تعويله على الملمح الشخصي للتجربة الدينية، يلتقي مع القفزة الشخصية لكيركجارد للإيمان نحو اللامعقول، ومع النظر إلى الإيمان الديني بوصفه تعليقًا للعقلانيَّة. وعلى عكس الماديين، يؤمن ويليام جيمس أن عالم وعينا ليس سوى عالم واحد من بين عوالم الوعي الموجودة الأخرى، وأن تلك العوالم تحتوي على تجارب لها معنى بالنسبة إلى حياتنا. ويحدثنا عن صوته الجُوَّاني، الذي يؤنبه كلما حاول أن يضع نفسه مكان العلماء المتعصِّبين لفكرة أن عالم الحواس والأشياء والقوانين العلمية، هو كل ما هنالك. حينئذ يهمس الصوت داخله: «كلام فارغ!». إن جيمس يطلعنا على قبسٍ من تجربته الدينية، تلك التي أجبرته على أن يتجاوز في تعبيره عنها كل الحدود «العلميَّة» الضيقة، لكي يكون موضوعيًّا.