هموم

أسماء يس

أحمد حسان: لست ترجمانًا

2021.01.01

أحمد حسان: لست ترجمانًا

لم يكن من السهل إقناع أحمد حسان بإجراء لقاء صحفي مطول، وحين اتصلت به قال لي ضاحكًا «لنلتق ونتكلم عن كل شيء إلا عني»! وبعد محاولات للتهرب والزوغان وافق.. الجنتل، كما اعتاد محبوه أن يطلقوا عليه، ومعهم كل الحق، هو أحد أهم المترجمين المصريين المعاصرين؛ نقل إلى العربية نحو خمسين كتابًا في فروع متنوعة من المعرفة؛ من فلسفة وتاريخ وآداب، من اللغات الثلاث؛ الإسبانية والفرنسية والإنجليزية.. لا يُفضِّل أحمد حسان أن يتكلم عن نفسه، ولا يرى في منجزه الضخم المهم ما يستدعي الاحتفاء، يخجله ذلك بالفعل، مع أنه صاحب فضل كبير في التعريف بتجارب فارقة لم يقترب منها مترجم قبله، مثل فالتر بنيامين وكارلوس فوينتس ونيكانور بارَّا وجيل دولوز وجي ديبور وليوتار وإدواردو جاليانو وبيير بورديو وجاك رانسير.. وغيرهم. وهو لا يشغل باله كثيرًا بكيفية نشر ما يترجمه، فقد منحته الإنترنت فرصة ذهبية لتفعيل ما يعتقده حقًّا من ضرورة إتاحة المعرفة؛ فصار في إمكانه أن ينشر على صفحة «راية التمرد»، التي أنشأها بعض محبيه على الفيسبوك، كل كتبه؛ المنشور منها سابقًا والذي لم يُنشر بعد، فهو في النهاية، وكما يُعلن دائمًا، يترجم لنفسه ولأصدقائه، لكن ما لا يعلنه أبدًا أنه يأخذ بأيادي شباب المترجمين الواعدين، مانحًا إياهم الكثير من وقته وخبرته. وبعد عمر من الانغماس في ترجمة الكتب، لا يرى أحمد حسان أنه «ترجمان محترف»، وأنه ليس من المديح أن تقول لمترجم «إن الكتاب الفلاني الذي ترجمته كان جيدًا وكأنه مكتوب بالعربية أصلاً».. إذ لا بد، من وجهة نظره، أن يترك المترجم مساحة للغة الأصلية لتوسع من أفق اللغة المنقول إليها، وأن يظهر في النص المترجم السمات المميزة للنص الأصلي..

لكن وقبل كل هذا، كان لا بد لنا من العودة إلى البداية، إلى العلاقة باللغة في مرحلة ما قبل الترجمة، سألته: متى لاحظت أن علاقتك باللغة تختلف عن مجرد قارئ «هذا سؤال صعب للغاية.. لكن سأخبرك؛ في زماننا، وفي دوائرنا، كان المهتمون بالقراءة والكتابة، والمثقفون في غالبهم، متورطين في العمل السياسي، كان قوام معظم الحركات الشيوعية وقتها كُتَّابا.. من شعراء وقصاصين وروائيين ونقاد.. ولهذا وصلنا إلى ما نحن فيه الآن!» يضحك مازحًا ثم يكمل «وقتها؛ في أوائل السبعينيات تقريبًا، في بداية عهد السادات، كنت في بلدكم؛ في دمياط، وكنت أعمل أمينًا لمكتبة تقريبًا.. متزوج حديثًا.. أمارس العمل السياسي في دمياط لبعض الوقت.. وأمارسه هنا- في القاهرة- لبعض الوقت.. وقتها قرر السادات، بالمخالفة لرأي الجميع المطالب بحرب تحرير، أن يشن حرب تحريك.. ليضحي بأرواح كل هذه الجنود وينتهي به الأمر مع كسينجر على مائدة واحدة في كامب ديفيد.. وكانت صدمة كبرى لكل المعتقدات التي كنا نؤمن بها.. ارتبك الجميع، حتى السياسيون أنفسهم أصابهم الارتباك.. وفي خضم كل هذا كانت الاعتقالات مستمرة والتضييق على المعارضين على أشده.. ووقعنا في أزمة وجودية بالفعل.. لا أزمة سياسة فقط.. حتى الناس العاديين أصابهم هذا».

لم تؤثر التطورات السياسية على السياسيين فقط، بل تركت تأثيرًا بالغًا على حياة الجميع، وهو ما حدث لأحمد حسان، الذي أفسدت تلك التداعيات زواجه المؤسس على حب كبير «تأثر زواجي.. وليس زواجي وحدي.. ستجدين الكثير ممن حولنا وقد ترك ما حدث بصماته عليه.. فتداعت زيجات كثيرة.. كانت فترة قاسية وجهنمية.. تفككت فيها الكثير من علاقاتي، سواء الشخصية أو تلك المتعلقة بالسياسة.. ووجدت نفسي وحيدًا.. وحينها صرف الله لي لوركا»..

لوركا؛ الشاعر الإسباني 1898-1936، الذي اغتاله القوميون الفاشيون في غرناطة شابًا، كان النداهة التي ندهت أحمد حسان «وقعت على طبعة بنجوين مزدوجة اللغة، بالإنجليزي والإسباني، من أحد دواوين لوركا.. وعندما يترجم الإنجليز الشعر يدخلونه في قوالبهم الشعرية.. ويقيفونه ليناسب أوزانهم.. كنت أنظر إلى اللغتين ويقتلني الفضول لمعرفة المكتوب باللغة الأخرى التي لا أدري عنها شيئًا؛ الإسبانية.. وداخلي قناعة مجهولة المصدر بأن أصوات الإسبانية قد تكون أفضل.. وفي مصادفة لطيفة التقيت شابًا خريج قسم إسباني.. وطلبت منه أن يقرأ لي المكتوب بالإسبانية.. ووقعت في الفخ.. كانت قصائد لوركا تخاطب كل المرارات التي تملأني حينها.. وكأنه كان يكلمني شخصيًّا.. وبدأت أتحدث عنه لمن حولي.. وكانت تعليقات الأصدقاء كلها تقريبًا أن لوركا هذا شاعر غجري لا أهمية له.. لكنني أحببته وأردت أن يحبوه.. وبدأت بالفعل في ترجمة القصائد التي أعجبتني له عن الإنجليزية.. كنت أترجمها وأعطيها لأصدقائي مؤكدًا أنه شاعر مهم.. ليس كما يظنون.. ومع الوقت وفي تجوالي بمدن الدلتا وجدت أصدقاء وقد نسخوا القصائد التي ترجمتها بالكربون.. وأخذوا يتداولونها فيما بينهم.. وأسعدني هذا جدًا»..

كانت هذه المختارات من قصائد لوركا، هي الكتاب الأول الذي نشره أحمد حسان مترجمًا عن الإنجليزية «وقتها كان عبد السلام رضوان في مجلة الفكر المعاصر، وطلب مني هذه القصائد لنشرها، ونشره في كتاب صغير جدًا.. لكنه كان عزيزًا عليَّ.. ولا يزال عزيزًا حتى الآن». وسط كل الأجواء «العدمية» كان التفكير المسيطر على حسان، وغيره، أن هذه البلاد لم تعد تحتمل، وأن الرحيل عنها صار ضروريًّا، لذا قرر فعلاً أن يسافر، لكن إلى أين؟ «قلت أروح إسبانيا.. أروح غرناطة، حيث كان لوركا! وسافرت بتذكرة one way، معي عشرون دولارًا فقط.. بلا نية للعودة.. ذهبت تحديدًا إلى غرناطة، وبحثت عن الأماكن التي كان لوركا يعيش فيها.. وحاولت تتبع آثاره».. لكن الحقيقة أنه قبل كتاب لوركا كان حسان قد ترجم محاضر المحاكمات المكارثية، وسلمها أيضًا لعبد السلام رضوان، ليس بهدف النشر، لكن رضوان نشرها في دار ابن خلدون، وصدرت في كتاب لم يره أحمد حسان إلا بعد سنوات طويلة، بعد أن عاد من إسبانيا..

وهكذا بلا أموال تقريبًا، وبلا لغة، الوطن الآن بالنسبة له هو السنتيمترات القليلة التي يقف عليها فقط، كان عليه أن يعيش؛ فكيف تعامل مع البلد الجديد عليه كليًّا «لكي أتعلم اللغة كان عليَّ أن أبتعد عن أوساط العرب.. لأنه في أوساط العرب ستتكلمون العربية فقط.. لذا كان لا بد لي من الاندماج مع الناس في الشوارع.. فعملت بائعًا جوالاً..».

وبعد أن قضى في إسبانيا بعض الوقت، ذهب إلى فرنسا، في أوائل الثمانينيات، بالقليل من اللغة الفرنسية «سافرت إلى فرنسا لأتعلم.. لم يكن لدي عمل مستقر.. فقررت التعامل مع الواقع.. اختصارًا قررت أن أتعلم.. وكان هناك نظام في المكتبات، لا أدري إن كان متاحًا للآن أم لا؛ وهو أن تذهب إلى مكتبات بيع الكتب، وتختار الكتاب الذي يعجبك وتجلس على كرسي في المكتبة وتطالعه لتقرر أن تشتريه أو لا.. وطبعًا لم توجد أموال لشراء الكتب، فكنت أذهب وأقرأ ما أحب من كتب فصلاً في كل يوم.. حتى ينتهي الكتاب، وهكذا»..

كانت التجربة في فرنسا أصعب مما في إسبانيا لأسباب كثيرة «في فرنسا كان المزاج القومي مختلفًا عن إسبانيا؛ حيث كنت أبيع الحلي اليدوية للبنات في الشوارع.. وكان عليَّ إقناعهن ببضاعتي البسيطة.. والإسبان فنجرية فعلاً وكرماء؛ يهدون بعضهم في كل المناسبات، ولا يهتمون بالمال.. حتى الفقراء منهم.. وكانوا حين أخطئ في نطق كلمة إسبانية يصححون لي ويقولون: هذه الكلمة تنطق هكذا.. لكن في فرنسا الوضع مختلف؛ وحين تخطئ في نطق كلمة فرنسية نطقتها بعد تفكير وتحضير، سيبادر الفرنسي للقول مشمئزًا: Ce pas française، وفعلاً المزاج العام للفرنسيين مختلف تمامًا عن الإسبان.. الإسبان يحبون المرح واللعب والضرب والفسحة، لذلك حتى الفقراء هناك كان يمكنهم أن يشعروا بالسعادة والانبساط.. لكن في فرنسا لا أحد يعرف أحدًا».

يعتقد أحمد حسان أن فترة وجوده في إسبانيا هي ما أثرت على اختياراته للكتب التي يترجمها؛ فقد وجهت بشكل ما اهتماماته نحو فروع معينة من المعارف الراغبة في البحث وراء الحوادث الكبرى المؤثرة على المجتمعات، والنقاط الفاصلة كالحرب الأهلية وآثرها، خصوصًا وقد مر في حياته بالكثير من التنقلات الفكرية، بين الماركسية والمواقفية والعبثية، لكن الحراك الثقافي الصاخب في فرنسا هو ما دفعه ليفكر في الترجمة بشكلٍ مختلف عما قبل؛ وقد دهشت كثيرًا من إصرار أحمد حسان على أنه «مش ترجمان»، وأنه حتى الآن لا يتعامل مع الترجمة باعتبارها حرفته، لكن إن لم يكن أحمد حسان ترجمانًا، فمن الترجمان إذن «زمان، كانت تسحرنا على سبيل المثال ترجمات فؤاد زكريا أو يحي حقي.. هؤلاء الذين شكَّلوا وعينا.. لكن مع الوقت انهارت الترجمة، وتغيَّر منطقها.. زمان كان المترجمون يترجمون في مجالات تخصصهم وعلومهم.. يترجمون ما يفهمون فيه تمامًا.. دون أن يطلب منهم أحد ذلك.. وكان الأكاديميون مثقفين، يرون أنهم يربون أجيالاً، ويريدون إيصال ما يترجمونه للناس، لا يدرسون منهجًا والسلام.. لذلك كانت الترجمات جيدة ومفيدة».

ثم ماذا حدث «الآن تغير الوضع تمامًا؛ تصنَّعت الترجمة.. وأصبح في إمكان كل من يعرف لغة، أو يملك بعض المهارات اللغوية، أن ينتظر تكليفًا بترجمة كتاب ما من دار نشر، في مقابل مبلغ من المال، في وقت معين، وبشروط معينة.. فلا يستطيع الرفض، لأن الترجمة أصبحت مصدر رزقه.. لم يعد المترجم يندمج مع الكتاب الذي يترجمه، أو يقرأ حوله.. وليس مهمًا أن يكون مهتمًا بموضوع الكتاب ولا بما يطرحه.. أصبح كالموظف أو أضل سبيلاً».

لكن كيف حدث التحول الذي نقل الترجمة من تلك المنطقة التي كان المترجمون فيها هواة، ومع ذلك يضطلعون بدور تثقيفي الترجمة أحد سياقاته، إلى حرفة أو صنعة «أعتقد أنه حتى أواخر عصر السادات كانت أجواء الترجمة ما تزال معقولة.. لكن الأمور ساءت للغاية في الثلاثين سنة من عصر مبارك.. كانت حالة من الموات.. وتأسست أخلاقيات المصلحة الشخصية.. وكان على كل واحد أن يبحث عما يستطيع العيش به.. ويشوف مصلحته.. هنا تحولت الترجمة إلى صنعة؛ أن تترجم كتابًا لم تحبه أساسًا، ولم يلمسك أو يغيِّر فيك شيئًا.. ولا ترى في نقله للناس أي أهمية.. نفس اغتراب العامل في المصنع.. يعمل من أجل آخرين دون أن يستفيد شيئًا.. للأسف صار هذا قانون الترجمة، وموتها في رأيي».

ولأن أحمد حسان لا يزال، حتى الآن، يختار الكتب بناءً على ما يلمسه ويؤثر فيه، فهو لا يعتبر نفسه ترجمانًا «في البداية كنت أعمل بمنطق نقل المعرفة التي تهمني لمن أعرفهم.. ويهمني أن يعرفوا ما أعرفه.. ولا أزال حتى الآن.. أترجم ما يوجعني.. وما يخاطبني، ثم أبحث عن طريقة لنشره، وربما لا ينشر.. ربما يرقد كتاب ترجمته في الدرج 10 سنوات بلا نشر.. لا يهمني». 

ربما حدث مرة واحدة فقط أن ترجم حسان كتابًا لم يحبه بالقدر الكافي، أو كتابًا لم يختره بنفسه من البداية «عندما مرض فؤاد زكريا في أواخر أيامه، وكان يترجم كتابًا في تاريخ العلم تقريبًا، طلب مني إكمال ترجمة الكتاب.. لم يكن الكتاب من اختياري، لكنه لم يكن بعيدًا تمامًا عن اهتماماتي، وخجلت أن أرد طلبه.. فوافقت، وبعد أن ذاكرت حول الكتاب وأجوائه، أكملته فعلاً.. لكني عمومًا لا أترجم بتكليف من أحد».

بالنظر إلى العناوين في قائمة الكتب التي صدرت لأحمد حسان حتى الآن، لا بد وأن تسأل كيف يختار الكتب التي يترجمها إذن «كل ما ترجمته هو تاريخ دماغي وتطوراتها، وتغيراتي التي لم تكن هينة على الإطلاق؛ فقد كنتُ في فترة ما ثوريًّا جدًا وعضوًا في تنظيم سري من بين أهدافه تغيير الواقع بكل الوسائل الممكنة، لكن بعد فترة تغيرت أفكاري.. وعندما تُغيِّر فكرة كنت معتقدًا فيها إلى هذا الحد يكون الوضع مرعبًا.. أن تتقبل هذا التغيير، وتنظر بعين جديدة لمعتقداتك القديمة ليس خطوة سهلة، لكن لا مفر من تقبلها.. وهكذا فكتبي المترجمة علامات طريق بالنسبة لي.. أنا أختار الكتاب بناءً على القلق والأسئلة التي تهاجمني وقت ترجمة الكتاب.. وهذا القلق متغير بالطبع، متغير بتغير الوقت والظرف.. هذا طبعًا لا يهم القارئ؛ الذي لا يمكنه تصور المسار الذي مررت به في حياتي.. فالقارئ يبحث عما يريده فقط.

لكن المترجم الذي يترجم عن أكثر من لغة لا بد وأن عنده لغة مفضلة، لغة يكون مرتاحًا فيها أكثر من غيرها، لا ينكر أحمد حسان هذا، لكنه يؤكد على أن الموضوع محل الترجمة له دور كبير «عن الإسباني أحب ترجمة الآداب؛ شعر ورواية.. لأني علاقتي باللغة حميمية وقوية وجاءت من الحواري والناس في الشارع.. وعن الفرنسية لا أفضل ترجمة الأدب، أفضل ترجمة الفلسفة والعلوم الاجتماعية.. وعن الإنجليزية أفضل ترجمة دراسات النقد ونظرياته».

لكنه يعترف أن متعته اللغوية هي الإسبانية «أحلم بترجمة أعمال إسبانية مليئة بالكلمات العامية.. أحب هذه الألعاب اللغوية.. حين زادت شهرة ماركيز في أواخر الثمانينيات، كانت كتبه تصدر في إسبانيا مرفق بها مسرد لشرح الكلمات غير المفهومة.. الآن لم يعد أحد يقول هذه هي اللغة الإسبانية؛ يقولون اللغة الأرجنتينية، اللغة الكولومبية، اللغة الأرجوانية..

لقد تطورت الإسبانية تطورًا مهولاً في الفترة الأخيرة؛ حدثت طفرة كبرى بعد فرانكو.. وصدر منذ فترة قاموس ضخم شاركت فيه المجامع اللغوية من كل الدول الناطقة بالإسبانية.. ضم كل طبقات اللغة، وكل الكلمات ذات الأصول الأخرى.. وهو ما ينبغي أن نفعله هنا، للتقليل من تخشب اللغة وتكلسها الناتج عن التعامل معها كما لو كانت رضيعًا في حضَّانة بحاجة إلى الحماية الدائمة من وحوش التجديد».

المترجم إذن؛ وهو الوسيط بين عالمين ولغتين، أحد المسؤولين عن خلخلة هذا التخشب، والمضي باللغة قدمًا، لكن الأمر ليس بهذه البساطة «أحيانًا يخشى المترجم حين يواجهه مقطع عامي بالكامل أن يترجمه كما هو.. ويتكرر ذلك في المقاطع التي تحتوي على ألفاظ جريئة جدًا.. الإسبان يكتبون ما يقولون أيًّا كانت جرأته.. والفرنسيون كذلك.. كل الشعوب أجرأ منا لغويًّا.. صحيح أن الشارع فكك اللغة وتخلص تمامًا من أطرها الجامدة.. لكن رسميًّا ليس بعد، ليس سهلاً أن نكتب ما يقوله الناس في الشارع.. لا أدري لماذا لا يرغبون في توسعة آفاق اللغة وإدخال كل ما يقوله الناس إليها بدلاً من إبعاد الكلمات الجديدة كما لو كانت أذى أو خطرًا.. مجمع اللغة العربية هو الهيئة التي يُتوقع منها أن تضع قواميس لتوحيد المصطلحات، والاتفاق على أسس تحَّدث باستمرار، لكنه لن يفعل هذا.. ولا يستطيع الأفراد خارج المؤسسات الرسمية أيضًا أن يفعلوا هذا، لأن الواقع الخرب أبعد عن أذهانهم تمامًا الرغبة في القيام بأدوار بديلة.. لكني أتوقع أن ينفرط هذا الإحكام قريبًا وتنعدم السيطرة الرسمية عليه كما حدث في لغات أخرى، وهو للأسف ربما ما يصنع انقطاعًا مع تراث اللغة المهم كذلك».

لا يرى حسان أن وظيفة المترجم أن ينقل نصوصًا؛ بل ينقل طريقة في التفكير ومناهج جديدة للاكتشاف، خصوصًا في ظل واقع ثقافي راكد، ومتأخر، تترجم فيه الكتب بعد صدورها بلغتها الأصلية بعشرين أو ثلاثين عامًا، وتستقبل هنا وكأنه فتح الفتوح. لكن المترجم متلق هو الآخر، وفي حال دائمة من المحاولات والاكتشافات والبحث. كل هذا يأخذنا للحديث عن المهنة التي لا قواعد لها؛ الترجمة «إن كانت الترجمة الآن مهنة يمارسها محترفون، فهل لها قواعد وأطر محددة للعمل؟ هل توجد خطط للترجمة؟ هل يسأل أحد ماذا ينقصنا وماذا ينبغي أن نترجمه؟ لا يوجد؛ حين تأسس المشروع القومي للترجمة، كنا متفائلين جدًا.. وتصورنا أنه سيفعل مثلما فعلت مشروعات مماثلة في شرق أوروبا وروسيا، ويضع خطة واضحة لنشر ما ينقصنا معرفته في كل المعارف.. لكن النتيجة لم تكن مرضية؛ فلا توجد قواعد معينة يلتزم بها المترجمون.. هل أصلاً توجد قواعد خاصة بالتعاملات المالية؟ لا، لا توجد نهائيًّا.. وأنا شخصيًّا لا أُخضع نفسي لقواعد لعبة السوق، وأنشر كتبي مجانًا على الإنترنت، لأن هذه هي وظيفتي الأصلية، ووظيفة الكتاب المترجم؛ أن يصل للناس في النهاية، أيًّا كانت ألعاب السوق». وهو بالطبع لم يسلم من ألعاب السوق هذه؛ فقد حدث أن أعادت إحدى دور النشر العربية، التي يملكها ناشر عراقي، نشر كتاب «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية»- وهو أحد كتابين ترجمهما حسان وبشير السباعي معًا، الآخر هو «استعمار مصر- ووضعت على غلافه اسم مترجم آخر بعد تعديلات طفيفة في الترجمة.

الشعر مرة أخرى..

ليس لدى أحمد حسان شاعر مفضل كذلك، لكن يظل لوركا حبه القديم الحميمي.. وعلى مدار تجربته في الترجمة ترجم الكثير من الشعر؛ عن الإسبانية قدَّم «كأنما لا شيء يحدث في تشيلي» وهي مختارات من قصائد للشاعر التشيلي نيكانور بارّا؛ 1914-2018، أحد أهم شعراء تشيلي وأمريكا اللاتينية، ونُشرت المختارات في الهيئة العامة لقصور الثقافة 2014؛ وقت أن كان الشاعر والمترجم رفعت سلَّام مسؤولاً عن سلسلة آفاق عالمية «كانت تجربة نشر هذا الكتاب ظريفة جدًّا.. أحببتُ بارّا جدًا حين اكتشفته بالمصادفة في الثمانينيات، ربما في زيارة لي إلى إسبانيا، وكان مفاجأة كبرى.. بارّا كان عبقريًّا وشاعرًا بديعًا.. وكان جزءًا مؤثرًا من حركة الشعر المضاد، التي ينتمي إليها روكي دالتون أيضًا.. فترجمته، وظل لفترة دون أن يُنشر، ثم نُشر في مجلة الكتابة الأخرى، بعدها فكرت في نشره ورقيًّا، وقلت لصديقي محمد إبراهيم مبروك إن هذا الكتاب يثقلني.. فاقترح عليَّ سلسلة آفاق عالمية، مؤكدًا أن رفعت سلَّام سيتحمس للكتاب.. وفعلاً كان لقاءً طيبًا، ونُشر الكتاب».

عن الإسبانية أيضًا ترجم «الموتى يصبحون كل يوم أصعب مِراسا» وهي مختارات لشاعر السلفادور الثوري روكي دالتون 1935-1975. وصدرت عن المركز القومي للترجمة، 2018، و»مرتفعات ماتشو بيتشو»؛ قصيدة بابلو نيرودا المطولة. و»مرثيتان» لميجيل إرناندث الشاعر الإسباني 1910-1942.

 كما قدم ترجمة رائعة لمختارات من شعر بريخت 1898-1956، المسرحي والشاعر الألماني البارز، عن الإنجليزية. وكانت ترجمته لقصائد بريخت هي اللقاء الأول بين قراء العربية وبين بريخت شاعرًا؛ فقد كانت مسرحياته كلها تقريبًا مترجمة بالفعل، ولم يكن الكثيرون على علم بأن بريخت شاعر في الأصل «كانت تجربة طويلة وجميلة.. استغرقتني لثلاث سنوات.. واستعنت فيها بصديقة ألمانية ساعدتني كثيرًا، لذلك أهديت الترجمة إليها.. ترجمة الشعر عمومًا ليست مهمة سهلة.. وبريخت نفسه لم يكن يريد أن يركز الناس على كونه شاعرًا؛ ونشر في حياته نحو أربعين قصيدة فقط، ضمنها في مسرحياته، من أصل نحو ألف قصيدة، وأغلب قصائده لم تنشر في حياته، بل اكتشفت بعد وفاته ونشرت..».

تسمع أحمد حسان وهو يتكلم عن الشعر وعن ترجمته، ربما تفكر على الفور أنه أديب اتخذ من الترجمة طريًقا بديلاً، لكنه لا يوافق على هذا الطرح، حتى وإن ملك حساسية الشاعر ومساراته «كل جلينا كتب في بداية شبابه شعرًا وقصة.. وتقريبًا هذا له علاقة بحداثة السن.. نكتب الشعر لحد أما نعقل أو نتوب.. لكن الحقيقة أن السياسة كانت ما يحرك اختياراتنا ومساراتنا.. لكن هذه الحياة؛ نتعلم في النصف الأول منها أشياء، لنقضي النصف الآخر في مراجعتها».

لوركا أنقذني وسافرت إلى إسبانيا بحثا عنه وعملت بائعا جوالا لأعيش وأقرأ

الترجمة تحولت إلى صنعة.. كيف تترجم كتابًا لم تحبه أساسًا، ولم يلمسك أو يغيِّر فيك شيئًا.. ولا ترى في نقله للناس أي أهمية؟!

المترجم ينقل طريقة في التفكير ومناهج جديدة للاكتشاف، خصوصًا في ظل واقع ثقافي راكد، ومتأخر، تترجم فيه الكتب بعد صدورها بلغتها الأصلية بعشرين أو ثلاثين عامًا

كل الشعوب أجرأ منا لغويا.. صحيح أن الشارع فكك اللغة وتخلص تمامًا من أطرها الجامدة.. لكن رسميًّا ليس بعد، ليس سهلاً أن نكتب ما يقوله الناس في الشارع

أختار الكتاب بناءً على القلق والأسئلة التي تهاجمني وقت ترجمة الكتاب.. هذا طبعًا لا يهم القارئ؛ فالقارئ يبحث عما يريده فقط

لماذا لا يرغبون في توسعة آفاق اللغة وإدخال كل ما يقوله الناس إليها بدلاً من إبعاد الكلمات الجديدة كما لو كانت أذى أو خطرًا؟

الرقـــابة..