مراجعات

أسماء سعد

أدب الأوبئة.. نصوص تنتصر لغريزة البقاء

2020.07.01

أدب الأوبئة.. نصوص تنتصر لغريزة البقاء

 

يشتبك الأدب باستمرار مع الحياة، يتصادم مع الأعطاب المحتملة التي قد تصيبها ليصوغ من تداعياتها إمكانات جمالية قد تساعد على تجاوز هذه اللحظات المُتعثرة في الخوف والألم والقلق من مُستقبل مُظلم. ويضع الأديب نفسه في بؤرة الأحداث، كما لو كان هو ذاته موضوعًا لحالة الوباء، فيرى في نصوصه بطولة مطلقة في مواجهة الضعف والتلاشي الإنسانيين ضد المجهول، وهو ما أنتج لنا قطعًا أدبية فريدة تنتمي إلى قصص الديستوبيا وأدب الأزمات.

تعتبر الرواية الفضاء الأوسع لتشكيل المُتخيَّل حول طبيعة الأوبئة، استنادًا إلى توظيف الحدث في وعاء لغوي مدعوم بالخيال، مستعينة بقدرتها الفنية على إعادة تشكيل الحدث عبر زوايا المغامرة وتأجيج منطق الغموض.

ثيمة أساسية

طالما شكَّلت لنا الأعمال الأدبية مهربًا من ضغوط الحياة، وكثيرًا ما وجدنا في فعل القراءة أحد أشكال العزاء والسلوى والرفقة، إلا أن بعض القصص والروايات اكتسبت جاذبيتها من تجسيد الأوبئة وتناول أجواء كارثية يكتنفها الغموض والغرابة، ضمن اتجاه واقعي، رسم من خلاله المبدعون صورة دقيقة لأوقات تشبه وضعنا الراهن في ظل جائحة كورونا.

وعلى الرغم من اختلاف بعض المعالجات لثيمة "الأوبئة" في الأعمال الأدبية، سواء أعمال استبقت وتنبأت بما قبل وقوع الكارثة، أو أعمال استفاضت في وصف أحداث على نحو يبعث القشعريرة في الأبدان، أو حتى تلك التي ترصد عالم ما بعد التعافي من الصدمة، فإن المشترك الفريد بينهم، هو التعبير بشكل بليغ عن تلك اللحظات التي تستيقظ فيها غريزة البقاء من سباتها.

ويحتفظ موضوع الوباء بخصوصية في الحقل الإبداعي، كتقليد راسخ في التاريخ الأدبي، قبل انتشار فيروس كورونا بزمن طويل؛ إذ أبدع عدد من الروائيين والشعراء في نسج قصص إنسانية تتأرجح بين الألفة والفراق، وأحاسيس الفجيعة أو الانتصار، أو فقدان حبيب أو النجاة بآخر في زمن الوباء.

وقد اكتسب "أدب الأوبئة" جاذبية خاصة، مردها إلى أنه وفَّر للكثير من أساطين الرواية، مادة خصبة لذواتهم ومن ثَم للقارئ أيضًا، من الخيال والجموح في الإبداع واللعب على وتر الإنسانيات، مع إتاحة مساحات يفضلون خوضها من المساواة بين البشر، ووقوفهم جميعًا على مسافة واحدة من الخطر، مع احتمالات متساوية لمواجهة الشر وسط تلاشي الفروق بين القوي والضعيف، الذكي والبسيط، ضمن سياق شديد الحساسية وظروف بالغة القسوة.

أدب الأزمات

بمقاربة بسيطة بين تفشي الجوائح والأعمال الأدبية المرتبطة بها، نجد أن هناك حالة "انتعاش" لما يوصف في الأوساط الثقافية بأنه "أدب الخوف أو الوباء أو الأزمات"، وأن تفشي الأوبئة على وجه الخصوص يعقبه غزارة في الإنتاج الأدبي، منطلقًا من قدرة الروايات ونصوصها على خلق حالة من التعاطف الإنساني خلال المعاناة، حتى لو أن تلك الأعمال لم تظهر في أثناء حدوث الكوارث، بل بعدها بزمن طويل أو قصير، مع الوضع في الاعتبار قدرة أدب الرعب والديستوبيا، على توظيف السرد الروائي في رسم صورة لجائحة مزلزلة تحدث في لحظة زمنية معقدة ومتشابكة، خصوصًا وأنه من المعروف عن رواية الرعب قوة حبكتها حين تعتمد على قصص واقعية لأزمات البشرية.

وتعمد تلك الأعمال على تخزين الوقائع في وجدان البشرية بقدر إتقانها لسمات السرد والخيال؛ إذ تتعاظم أهمية كتابات الخيال العلمي في أوقات الأزمات على وجه الخصوص. ويدفع البعض بأن أدب الأزمات والكوارث كالتحفة أو القطعة الأثرية التي تزداد قيمتها مع مرور الزمن، على الرغم من أنها قد لا تحظى بهذه الأهمية لدى الناس من معاصريها في وقتها الذي وُجِدتْ فيه.

أيقونات الجوائح

حظيت الأعمال الأدبية التي تتناول الأوبئة والجائحة باهتمام مضاعف في الوقت الحالي، إذ لاقت رواجًا وزاد الإقبال على العناوين الروائية الوبائية، وسط اتفاق ضمني على ضرورة التعامل مع النصوص الأدبية باعتبارها "نقطة ارتكاز" لاستعادة التوازن على الصعيد النفسي، إذ دومًا ما تذكرك هذه الأعمال بأن البشرية لم تتوقف عن الانخراط في حروب ضروس ضد الأمراض والأوبئة القاتلة، وأنه كلما خسرت جولة، عادت لتستأنف دورة الحياة وسير الحضارة من جديد.

ومن ضمن بواكير الأعمال التي تناولت اجتياح الأوبئة للعالم، تأتي رواية "دفتر أحوال عام الطاعون" التي صدرت في عام 1722 للكاتب الإنجليزي دانييل ديفو، والتي رصد فيها ببراعة متناهية كيف استقبل البشر "صدمة" ظهور وباء فتاك فيما بينهم، فيما يشبه التوثيق الدقيق لأحداث اجتياح الطاعون للندن في عام 1665.

وقد ورد في هذا العمل، مايشبه التسلسل الزمني الذي نعرفه اليوم تمامًا، حين بداية ظهور مرض غريب يخلف أول حالة وفاة يُشتبه في أنها ناجمة عن وباء تواترت شائعات عن انتشاره في إحدى المقاطعات الهولندية، ثم تضرب موجة متصاعدة السكان بحلول فصل الربيع، وسط تزايد بلاغات الوفاة التي كانت تُلصق في الأبرشيات، لتسارع السلطات بإجراءات كالتي نعاصرها اليوم، من حيث وقف إقامة "كل الولائم العامة، ومنع وجبات العشاء في الحانات، وتعطيل الأنشطة الترفيهية". والمثير للغرابة أن ديفو ذكر في روايته ما يكاد يتطابق مع معالم الوضع الراهن "لم يكن هناك ما هو أكثر فتكًا بسكان هذه المدينة، أكثر من إهمالهم المفعم بالكسل"، حتى يصل بنا إلى طور التعافي أخيرًا، وتمكن الناس من العودة إلى الطرقات واستعادة المدينة لصحتها.

بعدها بسنوات طويلة لا يجد ألبير كامو خيطًا روائيًّا لأحد أشهر أعماله، أفضل من ذلك الذي نسجه حول تفشي وباء عصف بحياة الجانب الأكبر من سكان مدينة وهران الجزائرية، ضمن مسارات للحكي تزخر بالكثير من أوجه الشبه مع أزمتنا العالمية الحالية.

الهاجس الأساسي للراوي في هذا العمل، يتقاطع مع ما نعاصره اليوم؛ إذ يظل يردد "لا فكرة لدي عما ينتظرني، أو الشكل الذي ستكون عليه الأحداث فيما بعد، ما أعرفه في اللحظة الحالية، أننا في حاجة إلى علاج". وتضم الرواية ما تشير إليه بأنه "البطولة الصامتة" للفرق الطبية التي دفعت بنفسها إلى الصفوف الأولى من المواجهة، في الوقت الذي كان يتكتم المسؤولون على المراحل الأولى من انتشار الوباء، في إحجام عن الاعتراف بغرابة انتشار جثث الفئران النافقة في الشوارع، فيما كان يشبه المؤشرات الأولى لانتشار الطاعون.

بعدها جاء العام 1939، معلنًا عن قطعة أدبية فريدة، رواية "حصان شاحب، فارس شاحب"، والتي قدمتها الكاتبة الأمريكية كاثرين آن بورتر، عن الوباء الذي ضرب العالم في عام 1918، وهو "الإنفلونزا الإسبانية"، وتسبب في القضاء على 50 مليون من سكان الأرض.

في الرواية، نجد آدم صديق بطلة الرواية "ميراندا" يبدو كما لو أنه يصف لها حالنا اليوم، فيقول "الأمور على أسوأ ما يكون.. كل المسارح، وتقريبًا جميع المحال والمطاعم مغلقة، أما الشوارع فتغص بالجنازات طيلة ساعات النهار، وتكتظ بسيارات الإسعاف طوال الليل".

أما الروائي البرتغالي جوزيه ساراماجو، فقد بنى عالمًا كاملاً متخيلاً يضربه الوباء في روايته "العمى"، إذ يسرد أزمة صحية طارئة تضرب المدينة التي رسمها، ولم يُسمِّها مثل شخوص روايته، ليتوسع الحائز على جائزة نوبل، في التعرض للوباء في شكل أمراض كثيرة تضرب المجتمعات وسلوكياتها تمامًا كما تضرب الحكومات وسياساتها.
في مقطع من الرواية يسرد "تبدي الحكومة أسفها لاضطرارها إلى القيام بالسرعة القصوى لما تعده واجبها الحق، لحماية الشعب بكل الوسائل الممكنة في هذه الأزمة الحالية، التي تبيَّن أنها تحمل مظاهر وباء عمى، يعرف مؤقتًا بالمرض الأبيض".

وفي هذا السياق لا يمكننا تفويت العمل الأيقوني، الذي امتزجت فيه الرومانسية بإعلان ظهور الوباء الفتاك "الكوليرا" في رائعة جارثيا ماركيز "الحب في زمن الكوليرا"، إذ تتفجر رهافة الحب في بؤرة خطر الفناء الذي يُسببه "الكوليرا"، فتنبثق إرادة الحياة الغالبة عبر موضوع "الحب". وقد وزع ماركيز اهتمامه، وبثَّ شكواه من الحروب الأهلية والفساد دون أن يهمل توظيف ثيمة الوباء، ليصل إلى بطل القصة الذي تمكَّن بعد 53 سنة أن يكون برفقة حبيبته على ظهر مركب، ليجدا نفسيهما وقد توقفت حركة المركب عند مرفأ أحد الأنهار، وعندما سأل القبطان عن سبيل لتجاوز ذلك أجاب "السبيل الوحيد الذي يتيح القفز فوق كل شيء هو وجود مصاب بالوباء على متن السفينة" ورفع العلم الأصفر، في إشارة إلى الوباء، وإلى أنه زمن الكوليرا.

وحديثًا، تتخذ رواية "عام الطوفان" الصادرة عام 2009، من الأوبئة والكوارث قوامًا أساسيًّا لها، إذ تتناول الكاتبة الكندية مارجريت آتوود، أجواءً تخيلتها في عالم ما بعد تفشي وباء شرس، تخيلته "خبيثًا له القدرة على الانتقال عبر الهواء، وكأنه يطير بجناحين، ليجتاح المدن كما الحريق المستعر"، وتوقعت أنه سيكون سببًا في فناء غالبية سكان الأرض، بفعل ما اعتبرت أنه "طوفان دون ماء".

ثم وبغرابة شديدة، تناولت رواية "عيون الظلام" فيروس كورونا، فيما يشبه التنبؤ، فقد عاد العمل الذي أبدعه الكاتب الأميركي دين كونتز إلى الواجهة بقوة، فالرواية الصادرة عام 1981، والمصنفة ضمن أدب الرعب، تكاد تتطابق أحداثها مع ما يجري في الواقع الراهن بشكل مثير للدهشة، وتصدم القارئ بقدرتها على التنبؤ بالمستقبل، إذ أن محتواها عن فيروس ينطلق من مدينة ووهان الصينية على وجه الخصوص، له قدرة على الانتشار السريع، وما يلبث أن يصبح خطرًا عالميًّا متناميًا.

ويورد الكاتب الذي اشتهر برواياته التي تحمل طابع التشويق والغموض، في روايته عيون الظلام، أن المختبر الذي تتحدث عنه داخل الرواية، يقع على بعد 22 كيلومتر فقط من مركز تفشي فيروس كورونا المستجد، وهو ما يكاد يشبه ما جرى.

ولم يكن تفشي فيروس كورونا مقتصرًا على زيادة انتشار الفيروس فقط، بل امتد إلى زيادة الإقبال والاهتمام بالنصوص سالفة الذكر. وقد أوردت صحيفة لوموند الفرنسية أن روايتي (الطاعون) لألبير كامو، و(العمى) لجوزيه ساراماجو، قد شهدتا انتعاشًا ملحوظًا في المبيعات في مكتبات إيطاليا، منذ اندلاع الأزمة الصحية الحالية. كما ذكرت صحيفة لاربيبليكا الإيطالية، أن رواية (الطاعون) قفزت من المركز الـ71 على بوابة المبيعات عبر الإنترنت في إيطاليا إلى المركز الثالث، فيما ارتفعت مبيعات رواية (العمى) بنسبة 180 %، واحتلت بذلك المركز الخامس على موقع أمازون في إيطاليا.

حضور عربي

على الرغم من تعدد الروايات الأيقونية الخاصة بالأوبئة في الأدب الغربي، كان هناك حضور عربي، وكان لأديب نوبل المصري نجيب محفوظ نصيبًا في صياغة أدب الأوبئة وما بعدها؛ إذ تطرق محفوظ في ملحمته الشهيرة الحرافيش، إلى الكيفية التي يمكن أن تكون عليها نهاية العالم، إذ قام بتشييد أحداث الرواية في عالم ما بعد فتك الطاعون بالمصريين وتدميره لكل شيء، وأن رجلاً وحيدًا استطاع أن ينجو من كل ذلك، ليمضي بنا في مسار نتعرف من خلاله مع الرواية على كيفية بناء الحضارة من جديد وكيفية انهيارها، والنقاط التي يتشابه فيها البشر ويكررون أخطاءهم مهما كانت ظروفهم أو صفاتهم، فالبشر هم البشر مهما فعلوا أو كانوا.

هناك أيضًا رواية "إيبولا 76" للروائي السوداني أمير تاج السر، الذي احتفظ ببصمته الخاصة في رواية أكثر واقعية، برصد مكاني وزماني حقيقي، جاعلاً الفيروس قاتلاً بامتياز "وحده إيبولا الذي يرعى في دم عامل النسيج ودماء الآخرين الذين اقتنصهم من البارحة يعرف ويخطط وينفذ متى ما استطاع". كذلك قدم الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق "شربة الحاج داوود"، وفيه سرد مجموعة من المقالات المصنوعة بشكل أدبي ممزوج بحس علمي تبسيطي، تتمحور حول الأوبئة والأمراض، بأسلوب بسيط وشيق، حتى إن الكتاب يحتوي مقالاً بعنوان "ماذا لو زار مصر فيروس ما؟" يتحدث فيه عن الوضع الصحي في مصر، وكيف سيتم التعامل مع الأوبئة إن اجتاحت مصر.

وذلك بخلاف عدد ليس بالقليل من الروايات التي جسَّدت الجوائح والأمراض المزمنة؛ كما في رواية "يوميات امرأة مشعة" للقاصة المصرية نعمات البحيري، و"استئصال" للروائي المغربي الطاهر بن جلون، و"ساقي اليمنى" للشاعر المصري وائل وجدي، والقاص السوداني علي المك في نصه القصصي "للمستشفى رائحتان".

إلهام العزلة

وسط كم هائل من التقلبات والشكوك، فإن يقينًا يفرض نفسه الآن، وهو أننا أمام تجربة حياتية مختلفة، في واقع يفرض معطياته بإلحاح شديد على الكاتب والمثقف، والذي وإن كان يعاصر مع الباقيين تجربة لم تمر بها الإنسانية منذ أكثر من 100 سنة، فإنها منحته، أكثر من غيره، فسحة من الوقت وهدنة ربما يطول أمدها لنسج خيوط إبداعه، وفرصة تدعوه إلى استغلال الحجر الإجباري، وتحويله إلى عزل إيجابي ومثمر على الصعيد الإنتاجي الأدبي.

وقد سادت حالة من الاتفاق على أن الأدباء والروائيين، كذوات كاتبة محكومة بحساسيتها المفرطة تجاه المستجدات الجارية، لن تمر عليهم التجربة الوبائية الاستثنائية مرور الكرام، وإنما ستترك أثرًا عميقًا داخلهم، ربما يكون دافعًا مثاليًّا للبدء في تحريك آلتهم الإبداعية لإنتاج أعمال أدبية؛ شعرًا وقصة ورواية، وربما تتسبب صدمة العزل التي نعيشها في ظهور أشكال أدبية وطرق تعبير جديدة ومختلفة.

وقد نكون في القلب من هذه اللحظة الراهنة عاجزين عن إيجاد صيغ التعبير المناسبة والأفكار الأكثر تعبيرًا عن الوضع الحالي بشكل دقيق، لكوننا في بؤرة الحدث، ولا نزال داخل الدائرة، لكن ما يخبرنا به تاريخ أدب الأوبئة، أنه مع بداية استنشاق البشر لهواء خالٍ من الفيروس القاتل، وبنهاية فترة الحجر التي دخلتها البشرية أكثر من مرة، سيكون هناك صدى لتلك الفترة على صفحات الروايات، وستبرز آثارها وتتجلى بقوة، في أعمال أدبية وفنية، وذلك شريطة أن يملك المبدعون زمام اللحظة الراهنة، ويعمدون إلى استثمار وقت الحجر في القراءة والكتابة على الهامش، والدخول في حالة امتلاء بهذه التجربة الفريدة والقاسية في الوقت ذاته، لنكون بذلك في وضعية تخزين الكلمات والمشاعر للغد، انتظارًا لأعمال أيقونية تتناول فترة كورونا العصيبة، وتضيف أرففًا جديدة إلى مكتبة أدب الأوبئة والأزمات.