هموم

جرجس شكري

أزمة فنية أم انقلاب اجتماعي؟ قراءة في جذور الصراع بين فن المسرح والثقافة العربية

2021.04.01

أزمة فنية أم انقلاب اجتماعي؟  قراءة في جذور الصراع بين فن المسرح والثقافة العربية 

المسرح ليس فقط الديكور والإضاءة والملابس والأكسسوار، أو حتي الأداء التمثيلي، بل هو في بنائه العميق ظاهرة اجتماعية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمكان، وقبل هذه العناصر يحتاج العرض بكل مفرداته حتى يتحقق إلى خشبة اجتماعية قبل أن يصعد إلى الخشبة التقليدية، وهذه فكرة أساسية في الحديث عن الأزمة التي اقترنت بالمسرح منذ أن عرفه الرواد وحتى وقتنا هذا، وأخذت صورًا وأشكالاً مختلفة في كل مرحلة، فالمسرح نشأ في الحضارات التي عرفت المدينة بمعناها الاجتماعي، وفشلت الحضارات التي عرفت المدينة بمعناها الديني في إنتاجه، حيث لم تتطور الطقوس الدينية التمثيلية لتصبح مسرحًا، في حين غاب المسرح عن المجتمعات الصحراوية التي عاشت حياة البدو، وظني أنه لا يمكن مناقشة الأزمة من خلال العناصر الفنية، على الرغم من أهميتها، بل لا بد من قراءة طبيعة المكان/ الرحم الذي وُلد فيه هذا المسرح، فنحن نشاهد عشرات العروض المبهرة على المستوى التقني، بل وتنتمى إلى أحدث خطوط الموضة المسرحية من اتجاهات وتيارات حديثة، ومع هذا فارغة، جوفاء! ثمة خلل دون شك، على الرغم من كل هذه الضوضاء، فأين هو؟ أو بالمعنى المباشر أين الأزمة وما عناصرها، وأسبابها، ولماذا مستمرة ولا تنتهي، بل تتطور؟ ويقيني أنه لا يمكن مناقشة هذه القضية دون العودة إلى الجذور والبحث عن علاقة العرب بالمسرح، بدءًا بجدل الفلاسفة الأوائل مع «كتاب فن الشعر»، مرورًا بالظواهر المسرحية التي قدم حولها النقاد العديد من الدراسات، ولا تزال مثار بحثٍ، ووصولاً إلى صورة المسرح في اللحظة الراهنة. وكانت البداية من اللغة والسؤال عن أصل الكلمة «مسرح».

جاء في لسان العرب «١ المسرح (بفتح الميم) مرعى السرح، وجمعه المسارح، ومنها قوله إذا عاد المسارح كالسباح، وفي حديث «أم زرع» له إبل قليلات المسارح، وهو جمع مسرح، وهو الموضع الذي تسرح إليه الماشية بالغداة للرعي، وأيضًا قال الأزهري: المسرح، بفتح الميم، الذي تسرح فيه الدواب للرعي». وبالطبع لا بد أن نتساءل عن علاقة هذه التداعيات اللغوية لكلمة مسرح (بفتح الميم) وبين المسرح بفتح الستار الذي نشاهده الآن كي يطرح علينا سؤال اللحظة الراهنة! هذا ما أورده ابن منظور في «لسان العرب» حول كلمة مسرح وخلاصتها أن الكلمة تعني في اللغة العربية مرعى الأغنام، وهذه هي الحقيقة التي حفظتها اللغة، وهي القيمة الدلالية المرتبطة بالكلمة والتي اكتسبتها في سياقها الثقافي آنذاك، وهو المعنى الذي أنتجته الصحراء، إذن كيف خرجت الكلمة (مسرح) من شرعيتها اللغوية، وكيف اكتسب اللفظ دلالة مختلفة عبر اختلاطه بثقافات أخرى ليعني المسرح مرعى الأغنام أو المسرح بفتح الستار «مكان المشاهدة». والأقرب أن الكلمة مأخوذة من فعل سرَّح، بتشديد الراء، أي سرَّح عنه أو فرَّج عنه، ومن ثَم تتضمن معنى التسلية والاستمتاع، وكان من الطبيعي أن تُصحَّف الكلمة مع الرواد الأوائل، ليستخدموا كلمة «مرسح» بدلاً من مسرح، بالإضافة إلى كلمة رواية أو تمثيلية! والفرقة المسرحية جوقة، وهذا أيضًا ما يبرر صدمة الرواد الأوائل في التعرف على هذا الفن ونقله إلى اللغة العربية، إذ وقف رفاعه الطهطاوي حائرًا أمام فن المسرح وهو في باريس وقال: «٢ ولا أعرف اسمًا عربيًّا بمعنى، السبكتاكل، أو التياتر، غير أن لفظ سبكتاكل معناه منظر أو منتزه أو نحو ذلك، ولفظ تياتر معناه الأصلي كذلك، ثم سمي بها اللعب ومحله، ويقرب أن يكون نظيرها أهل اللعب المسمى خياليًا، بل الخيالي نوع منها». ويستمر رفاعة الطهطاوي في التلعثم الذي ينتهي بالعجز عن ترجمة الكلمة إلى العربية، لأن هذا الفن لم تعرفه العرب من قبل، وهو نفس التلعثم الذي أصاب الجبرتي من قبل في الأزبكية حين شاهد الفرقة المسرحية التي جاءت مع حملة بونابرت «٣ وهو المسمى بلغتهم الكُمدي (الكوميدي) وهو عبارة عن محل يجتمعون به كل عشرة ليال ليلة واحدة يتفرجون به على ملاعيب يلعبها جماعة منهم بقصد التسلي مقدار أربع ساعات». نعم، كلاهما تلعثم في التعرف على فن المسرح، ولكن تلاحظ محاولة رفاعة الطهطاوي التعرف على أصل الكلمة وإيجاد مخرج لغوي، فهل ثمة صدام وشعور بالغربة والدهشة بل والخوف من هذا الفن الوافد الغريب؟ والذي ظل رغم ازدهاره منذ العقد الثاني وحتى السادس من القرن العشرين غريبًا على الثقافة العربية مع المحاولات المستميتة من البعض في ردم الهوة السحيقة بين فن المسرح وهذه الثقافة التي خلت من شعر الملاحم والتراجيديا موضوع كتاب فن الشعر. ففي ترجمة متى ابن يونس، وفي تلخيص ابن رشد وابن سينا لكتاب فن الشعر، والمختصر الذي وضعه أبو يعقوب بن اسحق الكندي، وأيضًا ما كتبه الفارابي، يقول د. زكي نجيب محمود «٤ إنهم كانوا يعدونه جزءًا من المنطق، إذ عدوه صناعة ترمي إلى تسليم السامع بما يقول القائل، ومن ثم فهو لاحق بالجدل والخطابة، مما يدل على بعد ما بين كتاب الشعر فيما قصد إليه أرسطو من جهة، وما فهمه منه العرب من جهة أخرى». وظني أن هذا البعد في الفهم لدي فلاسفة العرب ظل ملازمًا لفن المسرح حتى بعد أن اعتمده الرواد الأوائل في القرن التاسع عشر، واستمر مع الأجيال التالية في صور مختلفة، إذ حاول كل جيل، وفقًا لشروط ومتطلبات اللحظة الراهنة، تقريب وجهات النظر بين فن المسرح كما عرفه الغرب على يد الإغريق والواقع العربي، ودائمًا ما كانت هناك مسافة تغلَّب عليها الرواد الأوائل باستيراد النصوص الأجنبية، والانحياز إلى المسرح الغنائي الأقرب للذائقة العربية ومن طبيعة فن الشعر الذي هو ديوان العرب، وتوالت المحاولات لردم هذه الهوة ومنها البحث في التراث العربي عن ظواهر مسرحية، والبحث في التراث الشعبي، سواء المصري اللبناني أو العراقي أو المغربي، ومحاولات يعقوب صنوع الأولى في مصر نموذجًا.

ودون شك كان من الطبيعي أن يصيب الارتباك الفلاسفة العرب في فهم مصطلحات أرسطو في كتاب فن الشعر لأنها جُردت من سياقها التاريخي وربطت قسرًا بأغراض الشعر العربي؛ فترجموا التراجيديا بالمديح، والكوميديا بالهجاء، وظل الكتاب «فن المسرح» فاقدًا لدلالته الفكرية الأساسية قرونًا عدة، فلم يفكر هؤلاء في فهم الأصول السياسية والاجتماعية التي أنتجت النصوص المسرحية التي استخرج منها أرسطو القواعد التي وضعها في كتابه! ولكنهم استفادوا من الكتاب شعريًّا «٥ ويبدو أن الشعر العربي قد استنفد جل قوته الغنائية مع انتهاء مدرسة أبي نواس، فلم يكن له بد من أن يتجه إلى الفلسفة، وقد أمدته الفلسفة بنظرية شعرية مبنية على نظرية أرسطو، أمدته أولاً باعتماد الشعر على المخيلة المحسوسة، وأمدته ثانيًا بمحاكاة الرأي في الشعر، وكان لهذين المبدأين المنتزعين من الشعر التمثيلي أثر في اتجاه الشعر إلى الخارج ليلتمس في الوصف الحسي أو في الحكمة الفلسفية المنفذين الأخيرين من منافذ التعبير». استفاد العرب من كتاب فن الشعر بطرق كثيرة لم تكن من بينها فنون العرض المسرحي؛ فقد ربط الفارابي كلمة المحاكاة بعمل المُخيَّلة، وأكد ابن سينا على تأثير الشعر في مخيلة السامع وهكذا ظل فن المسرح عند العرب عملاً أدبيًّا ذا طابع فلسفي، وربما يفسر هذا الانحياز الأدبي الذي اعتبر النص المسرحي عملاً أدبيًّا، بل والخصام الحاد بين هذه النصوص وخشبة المسرح، فقبل توفيق الحكيم لم يكن هناك مؤلف واضح وصريح للنص المسرحي الذي سيقدم على خشبة المسرح «إذا استثنينا محاولات إبراهيم رمزي، ومحمد عثمان جلال، ومحمد تيمور»، فكان نص العرض يتم يؤلف ويعد بين الفرقة والمخرج، وفي بعض الأحيان أحد الكتاب الذي يصوغ الفكرة مع المخرج، وهناك فريق الكتاب الذين يكتبون النص الأدبي وغالبًا غير قابل للتمثيل أو التحقق على خشبة المسرح، وكان توفيق الحكيم أول من صعد بالنص المسرحي في كامل هيئته من الكتاب إلى خشبة المسرح، ومن النص بمفهومه الأدبي إلى المفهوم الدرامي في مسرحية «٦ أهل الكهف»، وظني أن هؤلاء الفلاسفة الذين عدّوا هذا الكتاب جزءًا من المنطق لم يهتموا بنشأة المسرح عند اليونان، وكيف ولد من الطقوس والرقصات والأناشيد التي كان الكهنة يقيمونها للإله ديونسيوس، إذ أصبح هؤلاء هم الممثلون، وأصبح من يتولى النظم والإنشاد هم الشعراء، وحين توسع اختصاصهم أصبحوا كتاب المسرح، وأطلق على من لا يطلبون سوي المشاركة في الروح وتمجيد هذا الإله عاطفيًّا في حفلاته الجمهور، حيث كان المحتفلون يمثلون دراما قصة حياة ديونسيوس بالجوقات الموسيقية وهى أشبه بالتراجيدي، لقد ولد المسرح من طقوس هذا الإله الشريد عند اليونان، وهو إله ضد العقل، يختلف عن كل الآلهة التي حفظتها الميثولوجيا اليونانية وحتى في الحضارات الأخرى. ليعتبر جورج تومسن الذي درس الأسس الاجتماعية التي قامت عليها الدراما «٧ التراجيديا اليونانية إحدى الوظائف المتميزة للديموقراطية الأثينية، وقد تكيفت في شكلها ومضمونها وفي نموها واضمحلالها بتطور البيئة الاجتماعية التي تنتسب إليها»، وجاء رولان بارت بعد ذلك ليؤكد «٨ أن هذا المسرح كان الطريق المؤدية إلى علمانية الفن». وفي كل الأحوال اجتمعت الآراء على أن ازدهار المسرح اليوناني تزامن مع انتصار الديموقراطية ومع بروز أثينا كقوة مهيمنة، وحين ساد الانحطاط سادت معه الأعمال الرديئة التي أهملها التاريخ. 

كان من الطبيعي أن تتداعى هذه الأسئلة في محاولة للبحث عن جذور أزمة المسرح التي لا تنتهي، الأزمة المستمرة والتي تكشف الصحف والمجلات القديمة أن الحديث عنها ليس جديدًا، إلى درجة يبدو معها أن هذا الفن ولد عند العرب مأزومًا! منذ ارتباك الفلاسفة العرب في شرح وترجمة كتاب فن الشعر ومرورًا بتلعثم الطهطاوي والجبرتي وحيرتهما أمام هذا الفن، ووصولاً إلى الأسئلة التي طُرحت بعد يوليو ١٩٥٢ حول المسرح المصري! فالحديث حول أزمة المسرح لا يتطلب فقط دراسة اللحظة التي نعيشها مع العروض المسرحية الآن، بل توجيه عجلة القيادة إلى الماضي؛ لا لتقديسه كما فعل المجتمع، بل للبحث في أصل المشكلة، فلا يمكن إهمال النشأة وعلاقة العرب بالمسرح، وعلى الرغم من الدراسات العديدة التي تناولت هذه القضايا وحاولت تأصيل الظاهرة المسرحية عربيًّا ومصريًّا، إلا أن الأسئلة ما تزال حاضرة.

 لقد عرفت أجيال عديدة المسرح المصري مقترنًا بالأزمة، فلا يُذكر المسرح إلا وتسبقه صفة الأزمة، فهل هذا أمر طبيعي؟ هكذا كنت أسأل نفسي، فإذا كانت هناك أزمة في أحدث صورها عمرها نصف قرن كيف ظل المسرح مستمرًا؟ ٩. وأذكر أنني منذ بدأت العمل بالمسرح مطلع التسعينيات وأنا أسأل أين الأزمة؟ لقد استهلكنا كل مفردات القواميس في الحديث عن أزمة المسرح، ولم نعرف أو نحدد ما هي وما أسبابها؟ إلى درجة أنني ظننت أن ثمة علاقة قوية بين الأزمة والمسرح، وأنه لا مسرح دون أزمة ولا أزمة دون مسرح، وأن ثمة ارتباطًا شرطيًّا بينهما.. وكنت حين أستمع لهذه الكلمة في سياق آخر مثل الأزمات السياسية والاقتصادية أسأل: ما علاقة المسرح بها؟ لأنني ظننت أنها حكرًا على هذا الفن أو تخصه وحده! وحين سافرت إلى أوروبا رحت أسأل مديري المسارح في كل المدن التي زرتها عن المسرح والأزمة، فينظرون لي في دهشة ويتحدثون عن الأعداد الغفيرة من الجماهير التي ترتاد المسارح في المدن حتى الصغيرة والنائية منها! ولجأت إلى القواميس أسألها عن الأزمة بعد أن سألتها من قبل عن المسرح، إذ تقول العرب «١٠ أزم الشيء أزمًا عض بالفم كله عضًا شديدًا»، فهل هناك من عضَّ على المسرح بفمه فصارت هذه الأزمة؟ وفي اللغة «١١ أزمت السنة أي أشتد قحطها، وتأزم أي أصابته أزمة، والأزمة الشدة والقحط وجمعها أوازم والأزمة الضيق والشدة»، فأي قحط أصاب المسرح المصري ونحن نشاهد عشرات بل مئات العروض المسرحية في مسرح الدولة والقطاع الخاص والمسرح الحر والمستقل ومسرح الثقافة الجماهيرية من أسوان إلى الإسكندرية، ثم مسرح الفضائيات في السنوات الأخيرة، ناهيك بعشرات المهرجانات الكبرى والصغرى، الدولية والمحلية، وبالإضافة إلى العديد من النجوم من أجيال مختلفة تعمل في المسرح، فهل كل هذا مجرد ديكور دون تأثير في حياة المصريين؟ والجميع يردد المسرح في أزمة، فأين هي إذن؟ هل في الإخراج أم التمثيل أم الديكور أم الملابس، أم النص المسرحي، أم الإنتاج؟ في أي عنصر تكمن، أم تشمل كل العناصر؟ فهل يعاني المسرح من القحط والضيق والشدة مع توفر كل هذه العناصر، أم أن الأزمة في الجمهور نفسه؟ 

 لدينا دون شك وفرة في كل عناصر العرض المسرحي باستثناء النصوص، فكيف أصبح المسرح والأزمة وجهين لعملة واحدة؟ وعلى الرغم من الوفرة في عناصر العرض المسرحي، انفصل المسرح عن جمهوره، وابتعد جمهوره عنه، فقد بدأ العقد السابع من القرن العشرين ومعه النظرة الحقيرة للمسرح، حين أعاد التاريخ نفسه، وكما كُفِّر الرواد في القرن التاسع عشر، راحت الجماعات الدينية بعد ما يقرب من قرن من الزمان تكرر نفس الأفعال، ولكن في صور وأساليب مختلفة لاختلاف اللحظة التاريخية، ومن قبل كان المسرح قد وقع فريسة في قبضة المؤسسة الرسمية لاستغلاله في الدعاية السياسية منذ يوليو ٥٢؛ ليقع المسرح بين مطرقة استغلال المسؤولين وإحكام قبضتهم عليه، وبين سندان احتقار الجماعات التكفيرية التي ما إن ظهرت على مسرح الحياة في السبعينيات بعد أن منحتها القيادة السياسية إشارة المرور، وبدأت معها النظرة سيئة السمعة للفنون ومنها المسرح بالطبع، ناهيك بأن القيادة السياسية كانت قد مهدت لهذه الجماعات ليس فقط من خلال إحكام قبضتها على المسرح واستغلاله سياسيًّا، بل وأيضًا من خلال مصادرة العديد من العروض المسرحية في السبعينيات والتنكيل بالمسرحين، ولا يمكن إغفال تعطيل العمل بالقوانين والأعراف المسرحية تقريبًا! وهي ذات اللحظة التي بدأ فيها نجم المسرح التجاري يزدهر وبقوة ليطرح ويتبنى ويدعم قيم مجتمع الانفتاح الاقتصادي للعائدين من الجزيرة العربية، وبدأ الفن يعمل بشروط وأموال هذه الشريحة الاجتماعية، مع عدم الاقتراب من قضايا اللحظة الراهنة، أو سؤال السلطة التي شجعت بدورها هذا الاتجاه الذي سوف يستمر لعقود بعد ذلك في صور وأشكال مختلفة! مسرح أقرب إلى الديماجوجية بلغة السياسية، حيث تتملَّق الشعوب، أوقل هنا تملَّق مشاعر الجمهور، من خلال مسرح يساهم في تغييب الوعي ويقدم معارضة على مقاس السلطة، وبدأ المسرح منذ تلك اللحظة يفقد شروطه فكما بلغت الطبقة الوسطى سن الرشد في ثورة ١٩ نتاجًا لسنوات النهضة والوعي، بلغت طبقة الأغنياء الجدد والطبقات العشوائية بشتى أطيافها سن التوحش والتغول في عهد الرئيس الأسبق مبارك وهي الطبقات التي نشأت وترعرعت في عهد السادات، وفرضت شروطها وقيمها على المجتمع المصري، وبدا التناقض صارخًا في تكوين الكاتب مع المتغيرات التي حدثت في المجتمع وبدلاً من ولادة النجوم على خشبة المسرح وأمام الكاميرا في ستديوهات السينما راحت النجوم تولد في مكان آخر لم يعهده المثقف من قبل، في الكباريهات وما يسمي بالمسرح التجاري والسينما التجارية والأغاني المنحطة في مرحلة السبعينيات وهو ما أطلق عليه د. غالي شكري «الانقلاب الاجتماعي الشامل الذي لم يسمح للقوام الطبقي بالتبلور، وإنما بالاختلاط والتمازج والتقمص والتناسخ المالي، البترولي، الربوي ١٢».

في تلك الفترة لم يدرك القائمون على المسرح طبيعة البيئة وشروطها والتغيير الاجتماعي، وعدم فهم ذهنية المتفرج، فعلى سبيل المثال طوَّع الرواد الأوائل هذا الفن الوافد في إطار معطيات اللحظة وطبيعة المكان ووعى الجمهور حين لجأ هؤلاء إلى الطابع الغنائي الكوميدي، أما ما حدث منذ سبعينيات القرن الماضي، فإما مسرح تجاري رخيص يساهم في تزييف وعي المشاهد أو استنساخ للتجربة الأوربية في المسرح الراقص، أو فيما بعد مسرح الجسد بكل أشكاله وتجلياته، بالإضافة إلى تجارة الفولكلور التي ازدهرت في التسعينيات بدلاً من المسرح الشعبي، وكانت أشبه بتجارة المقتنيات المقدسة في العصور الوسطى في أوروبا، وبالطبع انفصل المسرح عن المدينة التي كانت تعيش صخبها بعيدًا عن دكاكين المسرح الذي انفصل عن جمهوره، وفي كل الأحوال شجعت السلطة هذه الأنواع التي أسهمت في تغييب وعي المتفرج! لقد نشأ المسرح شعبيًّا من خلال الطابع الاحتفالي الذي كان عليه في الماضي، وأدرك الرواد العرب الثلاثة «مارون نقاش، وأبو خليل القباني، ويعقوب صنوع» طبيعة هذا الفن حال تقديمه في لبنان وسوريا ومصر، واستعانوا بالظواهر المسرحية التي يزخر بها التراث العربي، وبدأ المسرح العربي على يد هؤلاء الرواد بهاجس إرساء تقاليد وقواعد الفن المسرحي الوافد، وقدموا من خلال العروض أفكارًا كان من الممكن أن تؤدي إلى أن يكون المسرح تقليدًا شعبيًّا، وبالطبع أسهمت عوامل كثيرة في عدم تحقق هذه الفكرة؛ منها محاربة فن المسرح سواء من السلطة أو من الرجعية الدينية وارتباط المسرح بالعواصم والمدن وابتعاده عن الريف. وفي الخمسينيات من القرن الماضي وبعد استقلال الدول العربية ورحيل الاستعمار وبتأثير الأفكار الثورية في مصر والدول العربية الأخرى، وأيضًا المد اليساري وسيطرة الفكر الاشتراكي وقتذاك، طُرح سؤال المسرح الشعبي مرة أخرى في محاولة لترسيخ الهوية الثقافية في محاولة لإيجاد صيغ مسرحية مستمدة من التراث المحلي والاحتفالات الشعبية مثل صيغ السامر والمسرح الريفي ممثلاً في سهرات الفلاحين حول أجران القمح، بالإضافة إلى الاستفادة من الأراجوز وخيال الظل «١٣ حيث طرحت ثورة يوليو أسئلة على ضمائر المسرحيين، أولها هل المسرح الذي يتم تقديمه مسرح شعبي أم مسرح للمثقفين؟ وسؤال آخر حول هوية المسرح المصري وهل هو وثيق الصلة بتراث الوطن أم هو مستورد؟». وأحدثت هذه الأسئلة حراكًا كبيرًا وأجاب يوسف إدريس من خلال مسرحية الفرافير التي وضعها في قالب كوميديا السيرك، ووضع توفيق الحكيم كتاب قالبنا المسرحي حول استخدام طريقة المسرح الشعبي، وأنتجت هذه الأسئلة حالة من الاهتمام بالمسرح الشعبي والعودة إلى أسئلة الرواد مع أنها لم تكتمل وأجهضت فيما بعد، وتشعر أنها اختفت فجأة، وربما يشاهد البعض أطلال هذه الأفكار والأسئلة منزوية هنا أو هناك في مسرح الثقافة الجماهيرية، وحين تخلى المسرحيون عن هذه الأسئلة وتم استيراد كل شيء كان ذلك بمثابة خطوة كبري لابتعاد المسرح عن الجمهور، فالظواهر المسرحية الشعبية كانت وما تزال النواة الأولى لفن المسرح، من فنون الأراجوز وخيال الظل والمحاكي، والسماجة وغيرها من الظواهر، لقد انطلق الرواد الأوائل من هاجس إرساء قواعد الفن المسرحي الجديد وقدموا أفكارًا كان من الممكن أن تجعل المسرح يتحول إلى تقليد شعبي، لكن التصميم على ارتباط المسرح بالمدن وبفئة محددة من المتفرجين حال دون ذلك، وبين الحين والحين، ولظروف غالبًا سياسية، يتقدم المسرح الشعبي الصفوف الأمامية، ولكن في العقود الثلاثة الأخيرة توارى، وربما كان هناك اعتقاد سائد بأن المسرح الشعبي يستهدف جماهير عريضة من خلال تقنيات مختلفة، فثمة ارتباط وثيق بين المسرح السياسي والمسرح الشعبي، فكلاهما يصبُّ في نفس المنظور، وعلى سبيل المثال فإن الجمهور شريك أساسي في المسرح الشعبي، ليس فقط بالمشاهدة والتفاعل مع العرض بل بالتأليف، سواء من خلال مسرح السامر في مصر أو مسرح الحلقة في المغرب الذي يشترك فيه الجمهور كممثلين، فالمسرح الشعبي الذي يقترب من روح الشعب في كل الثقافات يقوم بدور تحريضي وتتفاعل معه كل الطبقات، مع الحراك الثوري الذي تبني المسرح وآمن بأهميته ودوره المؤثر في الحياة كان المسرح بشكل عام للشعب ليس فقط المسرح الشعبي ولكن الأنواع الأخرى الحديثة. 

 ليعود المجتمع إلى نقطة الصفر في سبعينيات القرن الماضي نتيجة لما ذكرته سلفا، فلم يسمح بتجسيد الأولياء والصحابة، في خطوة كبيرة لتكريس الحدود بين الطبقات، فإذا شخِّص الأولياء سيقلل هذا من شأن رجال الدين، وهي نفس أفعال الكنيسة في العصور الوسطى حين خافت من التشخيص وصادرت المسرح. وبالفعل بدأت أفكار العصور الوسطى تقتحم مصر في سبعينيات القرن العشرين، فالغرب يتقدم بقوة والشرق يعود إلى الخلف بقوة، وراحت المسافة الحضارية تتباعد بين الغرب والشرق، فلم تعد حتى موضوعات الاقتباس كما كانت في بداية القرن العشرين صالحة للمجتمع السلفي، المجتمع الذي وجَّه عجلة القيادة ناحية الماضي السحيق، فقط كان اقتباس الأشكال والأساليب التي لا تضر ولا تنفع، استيراد للشكل فقط، وذلك بعد أن تغلل التدين الزائف في حياة المصريين جنبًا إلى جنب إلى جوار قيم الانفتاح العشوائية في ظل غياب الديموقراطية عن المجتمع المصري، وانزواء المسرح الشعبي على استحياء في بعض بيوت وقصور الثقافة، لتجتمع هذه العوامل لتفقد القاهرة هويتها الثقافية والاجتماعية والدينية ويحاصرها التدين الزائف من كل ناحية وتنتصر قيم الانفتاح التي هي أصلاً ضد الثقافة لأنها ضد المبادئ والقيم والمعايير، ناهيك باغتصاب القاهرة معماريًّا، والاعتداء على ثقافتها وتاريخها حتى أصبحت بلا ذاكرة، ليتحالف الغياب التام للديموقراطية بالتزامن مع تحريم إعمال العقل وازدهار التطرف الديني وإعلاء قيم الجهل في أن تفقد مصر هويتها، فلم تعد المدينة صالحة لإنتاج الدراما، فقدت شروط الإنتاج بعد أن أصبح الرحم فاسدًا! لتغرق القاهرة في القيم البدوية وتصبح أقرب إلى مجتمع الصحراء، بعد أن فقدت المدينة عاداتها وتقاليدها! فكيف يزدهر فن يعتمد في جوهره على الصراع، على الرأي والرأي الآخر في حاضنة اجتماعية مشوهة، غابت فيها الديموقراطية لعقود، وأصبح إعمال العقل فيها من المحرمات، أصبحت الكلمة العليا فيها للتدين الزائف؟ 

 وهكذا الأزمة تتعلق بمجموعة من العوامل معظمها غير مسرحية، سياسية واجتماعية واقتصادية ودينية، فكيف يزدهر المسرح في مجتمع غابت عنه الممارسة الديموقراطية بكل أشكالها؟ فلم تخرج الجماهير على مدى عقود للمشاركة في الحياة السياسية إلا بعد ٢٠١١، فإذا كان الصراع الداخلي جوهر الدراما، فالديموقراطية هي الاعتراف بالصراع داخل المجتمع الواحد، ونحن نعيش في مجتمعات لا تعترف بالديموقراطية، ومن ثَم لا تفهم الدراما القائمة على الصراع، ومن ثَم أصبحت عاجزة عن إنتاجها، وإذا تأملنا الأعمال المسرحية في العقود الأربعة الأخيرة ١٤ «التراجيديا والكوميديا» سنجد أن أغلبها يخلو من الصراع الداخلي، حيث تطرح مشكلات عامة وشخصيات حيادية، فلم تعد هناك شخصية البطل بالملامح التي جسدها محمود دياب ونجيب سرور وسعد الدين وهبة ونعمان عاشور وصلاح عبد الصبور أو ميخائيل رومان، لقد سقطت شخصية البطل الفارس النبيل صاحب القيم والمبادئ في بحر العشوائية التي رسخها الانفتاح، كما سقطت شخصية البطل الزعيم في العقل الجمعي، وربما أسهمت هزيمة ٦٧ وانكسار الحلم في هذا السقوط، فمن يتأمل أغلب الأعمال المسرحية سيجد شخصية البطل الأهطل/ الغبي/المجنون/ النصاب، صورة البطل المشوه، بالإضافة إلى عدد كبير من المسرحيات تدعم التمرد على سلطة الأب، وتدعم الخروج على القيم والمبادئ، وتؤكد على وجود خلل في النظام الاجتماعي، وفي أحيان كثيرة يسخر منها، و على سبيل المثال «مدرسة المشاغبين، سك على بناتك، حقًا إنها عائلة محترمة»؛ لثلاثة كتَّاب هم على سالم، لينين الرملي، بهجت قمر، وعشرات المسرحيات في هذا الاتجاه. فهل كان هناك اتفاق مسبق أم عقل الجماعة الذي تأثر برحيل عبد الناصر الزعيم الأوحد وسقوط الحلم القومي ليسخر الجميع من القيم والرموز في اللاوعي، أم هي قيم الانفتاح؟ حيث البنية السطحية لهذه الأعمال انهيار القيم والمبادئ وتأثير الانفتاح الاقتصادي، ولكن البنية العميقة فقدان الرمز والسخرية من الزعيم الحالي، والسخرية من كل المسؤولين! ثلاثة عوامل غير مسرحية أسهمت في الأزمة، وهي غياب الديموقراطية، وسيطرة الفكر السلفي والتدين الزائف على الحياة في مصر، وفساد الرحم / المدينة التي تنتج الدراما حيث فقدت المدينة في مصر هويتها الثقافية والاجتماعية والمعمارية، فقدت عاداتها وتقاليدها وأصبحت أقرب إلى مجتمعات البدو، أقرب إلى المجتمعات الصحراوية التي لا تنتج الدراما، بالإضافة إلى العامل الرابع الذي يتعلق مباشرة بالمسرح «االظواهر المسرحية»، أو قل تعثر تجربة البحث عن مسرح مصري، ومحاولة إخضاع العملية المسرحية للاتجاه السياسي السائد وقطع الصلة مع نهضة النصف الأول من القرن العشرين التي التف حولها الجماهير، وأعتقد أن التوقف عن محاولة البحث عن شكل مسرحي مصري في العقود الثلاثة الأخيرة لا يخلو من دلالة على تفاقم الأزمة ١٥، فقد تُرِك المسرح المصري نهبًا لشتى ضروب الافتعال والتجريب المزيف تحت شعار اللحاق بركب الحضارة وأحدث خطوط الموضة المسرحية، ليغيب المسرح عن الواقع المصري، وأصبحت أزمة المسرح جملة مألوفة وأليفة فقدت معناها، بل ليس هناك قناعة بوجود أزمة مسرحية! 

في العرض السابق ثمة جدل بين فن المسرح و الثقافة العربية منذ أن ناقش الفلاسفة العرب كتاب «فن الشعر»، مرورًا برواد المسرح الذين حاولوا إيجاد الحلول لزراعة هذا الفن الوافد على الواقع العربي، فقد أوجد يعقوب صنوع على سبيل المثال النص المسرحي المكتوب وأنشأ المسرح المنظم، ولكنه خلق نوعًا آخر من الشخصيات المصرية، ووقف في منتصف الطريق بين أشكال الجديد والقديم؛ بين الظواهر الشعبية والمسرح الغربي وأبرز ما حققه وضعه أسس المسرح الشعبي الحقيقي في مصر ونحته لشخصياته مع الاستفادة من النموذج الغربي، وصولاً إلى محاولات الأجيال التالية في النصف الأول من القرن العشرين، ثم أسئلة المسرحيين بعد الاستقلال حول هوية المسرح المصري، وبعد أن هرب الجمهور من مسرح القطاع الخاص أو التجاري الذي أغلق أبوابه تقريبًا، هرب المسرحيون إلى القوالب الأجنبية للبحت، سواء في المسرح الراقص، أو عروض التعبير الحركي التي أهملت إلى حد كبير دور الكلمة أو النص ليعيش المسرحيون في المدارس والاتجاهات الحديثة والنظريات أكثر مما عاشوا في بيئاتهم، والنتيجة فصل تام بين المسرحيين وتراث الناس في المسرح، وبدلاً من أحلام د. على الراعي في مد الجسور بين الكوميديا الشعبية وكوميديا المثقفين «١٦حتى لا نمنح الجمهور ما لا يريد»، لكن كان الناتج لا الكوميديا الشعبية ولا كوميديا المثقفين؛ بل الكوميديا الرخيصة، وصولاً الى التفاف الجمهور حول ما تقدمه الفضائيات من سكتشات هزيلة تحت اسم المسرح. وأصبحت الأزمة مجرد مصطلح يتداوله البعض كما يتذكرون الهزائم والانكسارات، فتهطل دمعة من هنا، وتعلو أهة من هناك، وتمر الذكرى بسلام. 

الهوامش 

١- لسان العرب، ابن منظور المصري، دار المعارف 

 ٢- تخليص الإبريز في تلخيص باريز، رفاعة الطهطاوي، الهيئة العامة لقصور الثقافة. 

٣- عجائب الآثار في التراجم والأخبار، عبد الرحمن الجبرتي، الهيئة المصرية العامة للكتاب. 

 ٤- زكي نجيب محمود في مقدمة كتاب فن الشعر لأرسطو طاليس، حققه مع ترجمة حديثة ودراسة لتأثيره في البلاغة العربية د. شكري عياد، المركز القومي للترجمة. 

٥- كتاب أرسطو طاليس فن الشعر، د. شكري عياد. 

٦- أولى المسرحيات التي قدمتها الفرقة القومية في ديسمبر عام ١٩٣٥ من إخراج زكي طليمات. 

 ٧- أيسخيلوس وأثينا، دراسة في الأصول الاجتماعية للدراما، جورج تومسن، ترجمة د. صالح جواد كاظم، مراجعة يوسف عبد المسيح ثروت، وزارة الثقافة السورية.

 ٨- مقالات نقدية في المسرح، رولان بارت، ترجمة د. سهى بشور، منشورات وزارة الثقافة السورية.

 ٩- بدأ الحديث بوضوح عن أزمة المسرح منتصف السبعينيات، وصدر كتاب ازدهار وسقوط المسرح المصري للناقد فاروق عبد القادر ١٩٧٩، تلاه كتاب فؤاد دوارة، وقائع تخريب المسرح المصري في السبعينيات والثمانينيات. 

١٠- ١١ لسان العرب، ابن منظور المصري، دار المعارف.

 ١٢- بلاغ إلى الرأي العام، د. غالي شكري، كتاب أخبار اليوم. 

١٣- المسرح في الوطن العربي، د. على الراعي، سلسلة عالم المعرفة. 

١٤- كانت هناك حالات مؤثرة في المسرح المصري منذ السبعينيات قدمت مشاريع فنية متميزة في كل مفردات العرض المسرحي، وأنتجت عروضًا طرحت أسئلة اللحظة الراهنة وتفاعل معها الجمهور، لكنها ظلت حالات فردية ولم تشكِّل ظاهرة أو اتجاهًا عامًا، مثل تجارب النصف الأول من القرن العشرين، أو مسرح الستينيات. 

١٥- قرار هدم مسرح السامر بعد زلزال ١٩٩٢ بحجة التصدعات التي أصابت الجدران، ولم يكن هدم المبنى بل القضاء على الاتجاه، وهذا ما حدث بالفعل فقد تراجع المسرح الشعبي وأصبح مجرد تاريخ أو «موضة قديمة».

١٦- مسرح الشعب، د. على الراعي، الهيئة العامة لقصور الثقافة.