ثقافات

محمد عبد النبي

أشجار على قبور العشاق..

2021.12.01

تصوير آخرون

أشجار على قبور العشاق..

أساطيـــــر شهــــداء الحــــب
في الشــــرق والغــــرب

حسن وخوض
مِن بين الحواديت التي كانت تحكيها لنا أمي ونحن صغار، ولا بد من أنها ورثتها عن أمها وجداتها، حكاية عن شاطر اسمه حسن، أظن أنه كان أميرًا، أحب غجرية اسمها خُوض. ما أغرب هذا الاسم وأندره، ليس اسمها خوص بالمرة، بل خوض كأنه فعل أمر: خُضْ. لم أعد أذكر من تلك الحدوتة القديمة سوى شيئين. الأول أن الشاطر حسن، ترك حياة القصور والنعيم، وظل يتتبع الخيام التي يضربها الغجر الرُحَّل، أهل حبيبته الرافضين لارتباطه بها. وكانت هي تعرف ذلك وترأف به، فتترك له في كل مرة فطيرة ساخنة وتدفنها في الأرض وتترك فوقها علامة ما، مثل غطاء رأس أو منديل، فيعرف هو العلامة وينبش الأرض ويأكل الفطيرة ويكمل سيره وراءها، متتبعًا العلامات.
الشيء الثاني الذي لم أزل أتذكره، وهو مدار هذا المقال، أن حَسَن بعد أن فاز بخوض في نهاية الحكاية وماتا معًا (أم قُتلا معًا، لا أدري)، دُفنا معًا أيضًا في قبر واحد، فطلعت على قبرهما شجرتان متعانقتان. لم تحدد حكاية أمي نوعَ الشجرتين، لكنها أكّدت أنّ أحد رجال الدين، أو أكثر من واحد في الحقيقة، ذبح الشَجرة الملتفة، نشرها بمنشار، وعندما سئل عن سبب ما فعل، قال المقولة التي تختم الحكاية ولا بد أنها الدرس المستفاد منها: (عشان مش كل واحد يحب واحدة ياخدها ويهرب زي حسن وخوض).
في ذاكرتي على الأقل، تذبح الشجرة مرة بعد أخرى، لكنها تطلع من جديد كل مرة، هذا قبل أن أقرأ هذا نفسه في حكايات أخرى من تراث شعوب مختلفة بعيدة تمامًا عن قرية أمي في دلتا مصر. عندما ذكرت أمي بالحكاية منذ فترة قريبة، وهي الآن على مشارف الثمانين، وكنت ترددت كثيرًا قبل أن أفعل، ربما خشية أن أكتشف أن ما أتذكره لا علاقة له بالأصل تقريبًا، اكتشفت أنها لا تكاد تتذكَّر منها شيئًا أكثر مما ذكّرتها به. لم أعرف هل أحزن لذلك أم أفرح، المهم أن تلك الحكاية ظلت معي أكثر من ثلاثة عقود ونصف، وظلت معها ولا بد لأكثر من سبعين عامًا على الأقل، وهأنذا ألتقي بها من جديد، أو بالأحرى بنسخٍ أخرى منها في كتاب حكايات أمازيغية، ثم في كتاب آخر من حكايات الشعوب بعنوان صفوة الأساطير من الشَمال البارد البعيد، ثم في الحكاية الكردية مَم وزين للشاعر أحمد خاني. نَعم، كنتُ أتتبَّع العلامات مثل الشاطر حَسن، وأمشي وراءها وأنبش الأرض بحثًا عن الفطيرة الساخنة التي تدفنها لي ست الحسن التي أخذت تتغيَّر وتتجدد، بينما تتنقل بين اللغات والثقافات، فلا تكاد تموت حتى تولد.

يوسف عاشِق الملكة أو: فاضِل وعطّوش
يضم كتاب (غزلان الليل)(1)، واحد وعشرين حكاية صغيرة (أقرب إلى الحواديت) تُرجمَت للعربية، من بين مئة حكاية ضمها الأصل الفرنسي وهو كتاب (حكايات بربرية من المغرب)، صدرَ عام 1949، وقد جمعها وترجمها إلى الفرنسية وحققها إيميل لاوست، بعد أن استقاها من أفواه الرواة مباشرة خلال جولات مديدة في مناطق مختلفة من المغرب ما بين السنوات 1913 و1920. أوَّل حكايتين في الكتاب مُرتبطتان، فكأن أولاهما، وهي حكاية يوسف عاشِق الملكة، ليست سوى نُسخة مُختَصرة للغاية وبلا تفاصيل واضحة من الحكاية الثانية، أي حكاية فاضِل وعَطُّوش التي تهمنا في هذه السطور، تحديدًا بسبب نهايتها المُشتَركة مع حكايات أخرى في ثقافات مختلفة ومناطق متباعدة.
في الحكاية الأولى، يتخفَّى يوسف العاشق في زي نساء ليواصل معشوقته الملكة، وتتظاهر هي بأن أمها أتت لزيارتها، وبعد أن تحمل الملكة وتلد طفلاً وفي وليمة يُمسك الملك (المخدوع حتى الآن) بوردة عثر عليها في القصر، ويسأل فرسانه وحاشيته عمَّن يستطيع أن يخبره ماذا تشبه هذه الوردة، فيقول واحدٌ إنها تشبه ثيابك يا مولانا، ويقول آخَر إنها تشبه سرج حصانك يا مولانا، لكن حينما يأتي دور يوسف، عاشِق الملكة، يقول: "لقد رأيتُ في قصرك يا مولاي سيدة حسناء مِثل هذه الوردة!"، ولا ندري كيف يدرك الملك بذلك التصريح أن يوسف والملكة يخونانه، فيأمر بضرب عنقه، ويطلب يوسف أن يُقتَل أسفل مقصورة الملكة التي تطل من نافذتها وتراه يُذبَح أمام عينيها فَتُلقي نفسها من النافذة فوق جثة عاشقها وتلفظ أنفاسها الأخيرة. هُنا تنتهي هذه الحكاية المقتضبة، فَلا حديث عن قبرٍ يُدفَن فيه العاشقان معًا أو عن شجراتٍ شبه سحرية تتعانق فروعها فوق قبرهما، كَما سنلاحظ في النسخة التالية.
في حاشية تعليقًا على هذه الحكاية، لإيميل لاوست في كتابه حكايات بربرية من المغرب، يؤكد أن هذين العاشِقين مشهوران باسم سيدي فاضِل وعطُّوش، وأن قصة فاضِل مع السُلطان قصيدة قصيرة موزونة جُزئيًا، في قبائل حاحا. ما يعني أن هذه الحكاية الأولى، وبطلها يوسف ذلك، ليسا سوى نسخة تالية زمنيًا على الحكاية الأصلية المنسوجة شِعرًا والأشد ثراءً بالتفاصيل، وهي إجمالاً كما يلي:
تلمح الملكة من شُرفتها فاضِل على حصانه الرمادي الجميل الذي أحسن رعايته وتدريبه، فترسِل جاريتها، واسمها مسعودة، لتستدعيه "آه يا مسعودة، يا أجمل الخادمات، قولي لفاضِل أن يَهرع فيشفي قلبي. قولي لفاضل إن هو أبطأ على فأن القبر مصيري." قول غريب. فَكأن القبر ليس مصيرَ كل إنسان، كأن القبر لن يكون مصيرَ الملكة أبدًا، أم أنّ مصيرها البعيد سيصير قريبًا سريعًا إذا ما تأخَّر عليها المعشوق؟ وأيضًا، كأن القبر حاضِر، في خَيال الحكاية من سطورها الأولى، منذ أن وقعت عينا الملكة على فاضِل. وَها هي مسعودة تلمس ركاب سيدي فاضِل فينتبه إليها، وتنقل رسالة سيدتها. يرد هو قائلاً "آه يا مسعودة، يا أفضل الخادمات، ليس لي، وحق أمي، قُدرة على خوض حربٍ مع الملك". فتجيبه مسعودة: "خُضها يا سيدي وسوف تنتصر". لماذا يعلن فاضل منذ البداية عَدم قدرته على (أم عَدم رغبته في؟) خَوض حرب مع الملك، زوج الملكة؟ فَمَن الذي ذكرَ شيئًا عَن الحرب؟ إذا كانت الملكة تستدعي القبر منذ اللحظة الأولى، فها هو فاضل يستدعي الحرب منذ البداية كذلك. ربما لم يقصد الحرب في صورتها المعهودة، بل قصدَ أنّه لن ينافس الملك على قلب (أم على فِراش؟) الملكة، وهو الاحتمال الذي يرجحه جوابُ مسعودة، مِرسال الغرام، إذ تقول: "خُضها يا سيدي وسوف تنتصر"، أي لا تخشَ من منافسة الملك لأن قلب الملكة معك فإنكَ فائزٌ سَلَفًا، وأنا أضمن لكَ هذا.
يُقسِم فاضل في قوله هذا بحق أمّه، يختارها هي تحديدًا، في هذا السياق، من بين كل عزيز وغالٍ لديه، كأن النَسَب الأمومي أقرب إلى حكاية تحتفي باللذة وكَسْر عَهد الزواج لصالح العِشق، وتؤمّن للعاشقَين، كما سيتضح، حياة أسطورية تمتد لما بعد موتهما. وفي النسخة الأولى أيضًا، يتنكَّر يوسف في زي أُم الملكة وقد أتت لتزور ابنتها. بصورة أو بأخرى، تحضر الأم، في قَسم فاضل وفي تنكّر يوسف، شجرةً مُتخيلة تظلل مخدعَ العاشقين ولو باللغة ولو بالزور.
تمر الخادم مع العاشق المتنكّر، في طريقهما إلى الحريم، من باب إلى باب إلى باب. نسمع مسعودة تردد "أفسحوا الطريق للشَريفة"، والمقصود السيدة النبيلة، التي لا بدَّ أن وجهها كان مُغطَّى، ولا يفوت الحكاية أن تشير إلى مفارقة أن الحرَّاس يغرقون في أريج عطور السيدة الشريفة، وقد لفّهم في رحلة أحلام حسية سريعة، متخيلين الجمال المخفي وراء الأحجبة والبراقع.
إذن لا يتم مراد الفارس العاشق بوصال الملكة إلا إذا وضعَ جانبًا، ولو لبعض الوقت، رجولته وعِدة الفروسية وزخرفها، ودخلَ في تنكُّر آخر، يصير أنثى أولاً، ولو بالشكل والهيئة، حتى يرجعَ بعد ذلك ذَكرًا فَيملك المرأة المرغوبة المحظورة وتَملكه هي. ثمَّ يُقتَل فاضل تحت شُرفة عطّوش، فَترمي نفسها منها، ثم يُحملان إلى مقبرة واحدة ويُدفنا معًا. وتطلع نخلتان (هكذا؟ بهذه السُرعة؟ أم أن الأمر احتاج لأشهر أو سنين؟) واحدة من قبر عطوش وأخرى من قبر فاضل، وتلتفّ أغصانهما في عَنان السماء. "سبع مرات والسلطان يأمر بقطعهما. غير أن أحدًا لم يقدر على أن يفصل بينهما. حتى جاء ساحر ليقول للملك: -"كَم تعطيني إذا فصلت هاتين النخلتين؟" فوعده الملك بمنحة سخية. وقطع الساحر الشجرتين. ولم تنبت النخلتان بعد ذلك. ثم انفجرت عينُ ماء من قبر فاضل. وعينٌ أخرى من قبر عطوش. والتقت مياههما لتجوب العالَم".
ماذا فعل ذلك الساحر حتى يقدر على منع النخلتين العاشقتين من النمو؟ ولماذا لم يقدر على منع انفجار عين الماء من قبرهما؟ أم أن أحدًا لا يقدر على احتجاز تدفق مياه العشق؟ أم أن لُعبة التحولات كانت قد بدأت ولا سبيل لإيقافها عند حد، وهكذا فَمَا الماء إلَّا نقطة البداية في سلسلة تحولات عديدة، برعاية الطبيعة الأم القادرة على الخلق والتجديد وإعادة التشكّل لما لا نهاية، تمامًا مثل حكاية شعبية قديمة أخذت تتنكّر مرتحلة بين اللغات والبيئات والهيئات، كُلما انتقلت مع التجّار والحُجّاج والمطارَدين والمغامِرين من أرض إلى أرض؟
تريستان وإزولد
ثمة نسخ كثيرة للحكاية الرومانسية العتيقة، تريستان وإزولد، بل إن ثمة تنويعات مختلفة أيضًا لاسمي العاشقين، فهما يسميان: تريسترام أو تريسترم، وإيزولت أو يزوليت. اعتمدت مبدئيًا على نسخة مختصرة وردت في كتاب (صفوة الأساطير) (2)، ثم نسخ أخرى متاحة بالإنجليزية على شبكة الإنترنت. فُقدَت القصيدة الأصلية التي اعتمدت عليها جميع النسخ التالية للأسطورة المنتمية إلى العصور الوسطى، ومع ذلك فيمكن إيجاز الخطوط العامة لحبكتها كالتالي:
يسافر الفارس الشجاع تريستان (واسمه يعني الحزين) إلى أيرلندا لكي يطلب يد الأميرة إزولد لعمه مارك ملك كورنوول، الذي ربَّاه ورعاه منذ كان فتى يتيمًا، وينجح في مسعاه بعد أن يذبح التنين الذي كان يدمر البلاد ويثير الذعر فيها. خلال الرحلة البحرية رجوعًا إلى بريطانيا وعن طريق الخطأ يشرب الفارس والأميرة من شراب سحري أعدته لها أمها لتشربه الأميرة والملك مارك، لأنه قادر على إشعال قلب مَن يشربه بالغرام تجاه مَن ينادمه، فلا تتعذب ابنتها مع زوج أكبر سنًا منها أجبرت على الزواج منه لاعتبارات سياسية. لكن القدر يلعب لعبته، ويقع تريستان وإزولد في الغرام المشبوب والمحرَّم كذلك، غرام يظل في صراع مع الإحساس بالواجب والوفاء. في أغلب نسخ الحكاية يظل العاشقان عفيفين رغم كل شيء إلى النهاية حتى يجمعهما قبر واحد بعد سنوات عديدة، حتى إنهما كانا ينامان وبينهما سيف. تتواصل أسطورة العشق بعد موتهما حين تنمو على قبريهما شجرتان تتشابك فروعهما بحيث لا يمكن الفصل بينهما بأية وسيلة ولا بأي سيف.
نكاد نشعر، في أغلب نسخ هذه الأسطورة، أن العاشقين مفعول بهما على الدوام، فالحب غير المعقول ليس سوى نتيجة للشراب السحري الذي تناولاه بالخطأ، وما كان ذلك كله ليكون لو أن مَن شرباه هو الأميرة الشابة وزوجها الشرعي الملك مارك. ولعل تلك العناصر القَدرية والسحرية هي المبرر الوحيد الذي قد يجعل متلقي الحكاية لا يدينهما في ذلك الزمان. ولعلَّ الحب نفسه، في كل زمن ومكان، نتيجة ذلك الشراب السحري الذي تقطره الآلهة في أفواه البشر، بلا حولٍ منهم ولا قوة على تغيير المكتوب.
في بعض النسخ يزول تأثير الشراب السحري بعد فترة، غير أن العاشقَين يواصلان نفس المصير المكتوب لهما، بحكم العادة أو خشية الرجوع عمَّا اختاراه. وحسب مقال للباحث الكبير عبد الفتاح كيليطو، ففي إحدى النسخ وهي حسب قوله (صيغة فظيعة ومذهلة في آن) (3)، فإن تريستان، بعد عامين أو ثلاثة من معاشرته لإزولد، ردَّها إلى زوجها الملك ثم جمع الناس وسط السوق واستلّ سيفه، وهدد بقطع رأس كل مَن يتحدث مستقبلاً عن علاقته بها.
إذا حدث هذا حقًا فأن تهديده لم يأتِ بالنتيجة المرجوة بكل تأكيد. فقد تجدَّد الاهتمام بهذه الأسطورة خلال القرن التاسع عشر عندَ اكتشاف بعض القصائد التي ترويها، واسلتهمها الموسيقار ريتشارد فاجنر في الأوبرا المعروفة باسميهما (أُديت للمرة الأولى عام 1865)، ومادتها مستمدة مباشرة من قصيدة للشاعر الألماني جوتفريد ڤون ستراسبرج. عَكَست الأوبرا هذا الصراع المرير بين العاطفة الحارة وضرورة الإذعان للواجب وقيم الشرف، وقيل إن فاجنر نفسه مرَّ بصراعٍ نفسي مشابه بدافع من غرامه بسيدة متزوجة من أحد أصدقائه. ثم لم تتوقف الأعمال الفنية المستلهمة عن هذه الأسطورة وصولاً إلى نسخة سينمائية للمخرج الأمريكي كيفين رينولدز (2006) تخلصت من جميع العناصر السِحرية وركزت على السياقات السياسية والتاريخية في العلاقة بين الممالك الإنجليزية وإيرلندا آنذاك. 
رجوعًا إلى نقطتا الأساسية هنا، وهو الشجر الطالع على قبور العشّاق، ووفقًا لبعض النسخ أيضًا، نما التوت البري بكثافة على قبر تريستان، حتى شكَّل كَرمة (تعريشة) وبضرب بجذوره في قبر إزولد، وتمضي الحكاية لتروي أن الملك مارك حاول أن يجتث النبتة ويقتلع الجذور وينتزع الفرع ثلاث مرات متتالية وكانت تنمو مجددًا وتتشابك مرة بعد أخرى. وفي نسخٍ تالية، طلعَ التوت البري على قبر تريستان بينما طلعت شَجرة ورد على قبر إزولد، وهُنا أيضًا لم يطل الوقت قبل أن يتشابكا ويتواشجا.
مَم وزين
مَم وزين حكاية كُردية قديمة تناقلها الرواة شفاهةً لأمدٍ طويل إلى أن دوَّنها شِعرًا أحمد خاني، سنة 1105 هجريًا (1694 ميلاديًا)، وفقًا لما كتبه هو نفسه في الأبيات الأخيرة من ملحمته المؤلَّفة من حوالي 2660 بيتًا شِعريًا.
كان الأكراد على زَمن خاني محصورين بين قوتين عُظميين، هُما الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الصفوية، ظلَّت هاتان القوتان طويلاً تتقاذفان مدنهم وتؤلب بعض شعبهم على بعض، من غير أن يرتفع صوت منددًا بكون الأكراد حطبًا ووقودًا في معاركهما وأن من حقهم أن يكون لهم أمير وسلطان وقومية ولسان يُكتَب به الأدب مثل بقية الشعوب الكبيرة، وباستثناءات قليلة لم ينهض إلى هذه المهمة إلّا خاني، وهو شاعر ورجل دين متصوف، وكتب ملحمته الشهيرة باللغة الكردية، متجنبًا اللغتين المهيمنتين على اكتساب العِلم والأدب آنذاك؛ العربية والتركية. يُعتبر أحمد خاني من الأوائل الذين ساهموا في تعزيز القضية القومية الكردية والدفاع عنها، داعيًا للوحدة بين كل الأكراد ونبذ الخلافات والخونة من الصف الكردي. ويرى بعض الباحثين أن ملحمة (مم وزين) (4) تعتبر بدايات الفكر القومي الكردي وبداية الرغبة في تأسيس دولة قومية كردية. وللملحمة أكثر من ترجمة للعربية، لكن أكملها وأحدثها قد أنجزها جان دوست، الكاتب والروائي والباحث السوري الكردي، وهي التي اعتمدت عليها هُنا، وقد زودها المُترجم بمقدمة طويلة ووافية يُمكن الرجوع إليها للتعرف أكثر على الشاعر الكردي القديم وزمنه وسياق إنتاج هذه الملحمة، فَلم يدخر دوست جهدًا في شرح كل ما رآه قد يكون غامضًا على القارئ المعاصر، لا سيما الإشارات التي تنتمي للعالَم الصوفي بدرجاته، وهي ليست غير في الملحمة.
لم يكتفِ جان دوست بترجمته لملحمة مَم وزين، بل أضاف مساهمة أخرى كروائي لذكرى الشاعر أحمد خاني، إذ كتبَ دوست روايته (ميرنامه - الشاعر والأمير) (5) عن حياة خاني، منطلقًا من نقطة موته. سارَ جان دوست أيضًا على نَهج خاني، إذ كتب روياته ميرنامه وفي صميم فؤاده أنها ليست عن الشاعر العظيم القديم فقط، بل عن الأكراد، وعن تلك اللحظة التي أخذت تتكرر في تاريخهم، على صورة أو أخرى، منذ القرن السابع عشر وحتى الراهن المؤسف. استدعى في روايته شخصيات كثيرة، أكثر من عشرين، لتتحدث كلها عن خاني، انطلاقًا من مشهد جنازته وسقوط مطرٍ أسود حلو الرائحة كالحِبر، فكأن السماء تبكي حبرًأ لوفاة أمير الشعراء الكُرد. ظلَّ الحِبر، منذ السطور الأولى وحتى الأخيرة، علامة مركزية في الرواية، وخيطًا يمر عبر طبقاتها وفي حياة وأصوات أغلب شخصياتها، بل ولعب دورًا في حبكة مصرع خاني كوسيلة للقتل في أكثر من موضع. وكما قد يختفي الكاتب كثيرًا وراء أقنعة شخصياته وحكاياته، فإن خاني لا يكاد يظهر بشخصه وبصوته وبحضوره طوال النص، (ألم تبدأ الرواية بمشهد جنازته؟)، إلَّا عبرَ أقنعة شخصيات عرفها وعرفته، وجمعت بينهما مشاعر المحبة والصداقة أو العداوة والخصومة، كانوا قريبين منه أو بعيدين، اطلعوا على أسرار نفسه ونُبل عواطفه أو لم يكترثوا له إلَّا كعقبة لا بدَّ من إزاحتها. وفي الصفحات الأخيرة من الرواية نقرأ سطورًا تبقت من رسالة ممزقة، ذوبتها الأمطار وداست عليها أقدام المشيعيين في الطريق إلى قبره، كان قد أرسلها للأمير في الليلة السابقة على يوم وفاته، لم يفتحها الأمير أو يهتم بالإطلاع على ما فيها. توحي الرواية بأن حكاية مَم وزين كانت مِرآة عكسَ فيها خاني قصة غرام تخصه، لم يكتَب له أن يُكلل بالوصال والزواج، وربما لذلك حرص على إضفاء ذلك البُعد الصوفي الواضح على الحكاية الشعبية العاطفية القديمة، ويُذكَر أن خاني مضى حياته في تدريس العلم والتعلّم ولم يتزوج ولم يكن له أبناء.
كما تشير رواية جان دوست إلى استلهام خاني حكاية مَم وزين من جزيرة بوطان التي عاش فيها فترة في شبابه طالب علم، ومحبته لزيارة قبر العاشقَين الشهيرين فيها وتعلق قلبه بهما. وجزيرة بوطان، هي المكان المفترَض لأحداث ملحمة مَم وزين، أو هي جزيرة ابن عُمر كما أسماها العرب، وأسماها الأتراك جِزرَة وأسماها السريان جزرتا، وهي محاطة بنهر دِجلة من الشمال والشرق والجنوب، ولذلك سميت جزيرة أو ربما لنأيها نسبيًّا عن المدن المجاورة لها. وقيل إن مَن شيد هذه المدينة هو رجل يقال له عبد العزيز بن عمر، فسميت باسمه، وسكنتها في العصور القديمة قبائل عربية مثل بكر بن وائل، وكانت ذات أهمية خاصة في العصر العبَّاسي وفي عهد الصليبيين كونها بوابة تربط أعالي الرافدين بأرمينيا. كما ارتبطت باسم الإسكندر، فقيل إنه عبرها نحو نهر دِجلة، بل ويوجد بها قبرٌ آخَر غير قبر العاشقَين الأسطوريين، وهو قبر النبي نوح، إذ يرد في بعض الموروث الإسلامي أن جزيرة ابن عمر هي نفسها موقع ثمانين، وهي البلدة التي أسسها نبي الله نوح عند سفح جبل الجودي حيث استقرَّ به الفُلك بعد نهاية الطوفان وظهور اليابسة. ولعلَّها مفارقة لا تخلو من مغزى، أن تولَد حكاية مَم وزين في نفس الموضع الذي بدأت فيه الحياة من جديد، فكأنهما صدى حديث لحكاية آدم وحواء أصل الحياة على الأرض.
إذا صرفنا النظر عن سلسلة الأحداث المأساوية المتوالية لحكاية العاشقَين مَم وزين، يمكننا أن نتمهل قليلاً إزاء مشهد اللقاء والوقوع في الغرام، إذ تتبدَّى فيه لُعبة التنكر في زي الجنس الآخَر، وهي نقطة التقاء إضافية مع حكايات أخرى. إنه مشهد عيد النيروز واحتفال أهل الجزيرة به، إذ يخرج الفارسان الجميلان مَم وتاجدين، وهما من أبسل وأشهر فرسان الأمير زين الدين، للاحتفال مع الناس في عيد النيروز، فيقرران التنكّر في هيئة فتاتين، هكذا ببساطة يتخليان عن رجولتهما في لُعبة، رُبما لأنها مأمونة ومضمونة وليست محل سؤال أو ريبة. وربما كان الهدف الأوَّل إطلاق الزمام لنفسيهما ومشاهدة الحسان من الفتيات عن كثب. وللمُفارَقة تتنكر الأميرتان زين وسِتي في ثياب شابين، ربما حتى لا يكون عليهما حرج أو تكليف هُما أيضًا. يرى كل زوجٍ منهما الزوجَ الآخر، فتنزل عليه لوثة فورية من فرط جمال الآخَرَيْن. الأميرتان تُجنَّان بالفارسين اللذين في ثياب الفتيات، أما الأميران فيطيش عقلهما تمامًا بسبب الفتاتين المتنكرتين في ثياب فتيان، في لعبة مرايا عجيبة وطريفة قليلاً.
سبقَ لبعض العشّاق في حكايات شبيهة أن اضطر، من أجل وصال المحبوبة، أن يتنكرَ في زي النساء، كما فعل يوسف عاشق الملكة في الحكاية الأمازيغية، حيث كان على الذَكر أن يمر بطقس عبورٍ من نوعِ ما، عبرَ التحوَّل لأنثى ولو من حيث الشكل الخارجي، ولوهلة يسيرة، حتى يصل إلى مبتغاه ويحقق رجولته إزاء الأنوثة المحجوبة والمرغوبة. أما هُنا فأن لُعبة التنكر تتضاعف وتزداد إرباكًا. فَمَن الذي أحبَّ مَن؟ هل فُتنَ الشابان بشابين آخرين؟ أم فتنت الفتاتان بفتاتين أخريين؟ هل كان بالأميرتين أي ميل لنفس النوع حتى يهزهما جمالُ الفتاتين المجهولتين؟ والسؤال يصدق على الأميرين الفارسين بالقدر نفسه؟
الحكاية، فيما تلا من أحداث، تستبعد احتمال الميل المثليّ تمامًا، بل وتدينه صراحةً على لسان مُربية الأميرتين العجوز عندَ عِلمها بولعهما بفتاتين. إنها ترفض وتشجب وتتهم بالجنون والعته:
(-لقد ذهبتما لمشاهدة الشبّان، لا لمشاهدة الفتيات.
-إن ما رأيتماه وهمٌ لا أصل له، وانجذابكما إلى النساء مستحيل.
-إن البشر يميلون إلى البشر، ولكنّ الفتيات ينجذبن إلى الرجال.
-أن الفتاة لا تعشق فتاة أخرى، ولا بدَّ من شاب تعشقه).
وتواصل حديثها مستشهدة ببعض قصص الغرام القديمة الأخرى، مثل قيس وليلى، وفرهاد وشيرين، ووامق وعذرا، وغيرها. كأنما للتدليل، بتلك القصص على أنه لا مجال للخطأ. تُرى أهذا هو رأي الشاعر أحمد خاني أيضًا، وليس مجرد رأي السيدة المربية التقليدية الخائفة على ضياع عقل الأميرتين الصبيتين؟ لا نجد ما يشير إلى غير ذلك في النص، وهذا يتسق مع تربيته الدينية وثقافته الشرقية الإسلامية.
وماذا عن عشق الرجل للرجل، وهو موقف الأميرين بعد أن طاش عقليهما وقبل أن تنكشف لهما الحقيقة؟ لماذا لم يظهر في الحكاية، بالمقابِل، مَن يحاول أن يعيدهما إلى صوابهما ويعلن صراحةً أن هذا لا يجوز وأن على الفتى أن يعشق فتاة، ويردد لهما أسماء نفس قصص الغرام القديمة؟ أم أن قصص الغرام بين الذكور، حتى في عصر خاني وثقافته، كانت أشد انتشارًا من أن تكون جنونًا محضًا، وبدرجة صار تقبلها أمرًا ممكنًا ولو خالفت صحيح الدين والعُرف.
في تعليق المترجم والكاتب جان دوست على هذه النقطة يجزم برفض خاني للمثلية الجنسية، مستشهدًا بما قالته المربية للفتاتين، لكنه يستدرك أن (خاني هُنا لا يدين المثلية الجنسية بقدر ما يقول إنها منافية لمبدأ الحب الذي تقوم معادلته على ذكر وأنثى فقط)، أي هذا الحب الذي لا ينشأ إلَّا باجتماع الأضداد ويتطوّر إلى رحلة لطلب الوصال، رحلة قد يُكتَب لها أن تستمر حتى أعلى نقطة في السمو الروحي. بمعنى ما؛ من دون ذكر وأنثى في الحكاية لن يكون هناك مجاز الوردة والبلبل، أو مجاز الفراشة والشَمْعة وهذا الثاني من أكثر المجازات ترددًا في هذه الملحمة ويلجأ إليه كثيرون من الشُعراء والمتصوفين الفُرس والأتراك. هل كان سيتبدد أو يتخلخل هذا الإطار المجازي/الروحي إذا وُجدَت حكاية عاطفية شعبية بطلاها اثنان من نفس النوع، فتاتان أو شابان؟ هل كان هذا الإطار المجازي/الروحي ضرورة لا مفر منها، لإزاحة علاقة الغرام الإنسانية العادية، بكل حمولاتها الشهوانية والدنيوية، إلى فضاءٍ متجاوز وسامٍ، بحيث لا يعدو الافتتان بالآخَر سوى باب يؤدي إلى الانفتاح على اللانهائي، خطوة أولى لازمة للارتحال نحو سدرة المنتهى والمحبة القصوى ثم الفناء النهائي في سِر الوجود.
وبمناسبة العشق الصوفي، هل يمكن أن يكون الجمال الذي أطاح بعقول الشباب الأربعة بضربة واحدة، في عيد النيروز الرائع ذلك، جمالاً يتجاوز التقسيم الجنسي وحدوده ومواضعاته، أي من نوع يجرد الإنسان من جنسه ومِن ميوله ويسمو به إلى نقطة أعلى من الأنوثة والذكورة، حيث ميل الجسد للجسد أسبق وأشد من أي تحديد للأدوار الجنسية وفقًا لتشريح الأعضاء والتربية الاجتماعية والتكوين النفسي؟ أي جمالٍ هذا؟ أهي إشارة إلى تلك الحالة الصوفية التي سوف ينتهي إليها مَم وزين، نفسيهما، حين لا يُكلل عشقهما بالاقتران، مثل الآخريَن ستي وتاجدين، فينتقلان تدريجيًّا إلى عشق صوفي يتجاوز الجسد والرغبة في الوصال، ولا يروم إلا ذوبان الروحين في نور الواحد الأحد؟
وكما يحدث في الحكايات الأخرى، يموت العاشقان ويُدفنان معًا ويطلع النبات على قبريهما، سروة رشيقة وصنوبرة خضراء ورافة وطبعًا تعانقت الفروع، لكن، هنا، وبخلاف الحكايات السابقة، تنتظرنا مفاجأة صغيرة في النهاية، عنصر غريب ينضم إلى نبات الحب الذي يجعل قبور العشاق روضة خضراء، حضور للعاذل، الوزير بَكر، الذي كان السبب الأساسي في جميع المحن التي مرا بها وافتراقهما في الحياة الدنيا. نجده ينضم إليهما هنا، في ثالوث عجيب، قد يذكرنا مرة أخرى بآدم وحواء والشيطان الذي طردهما من الجنة.
(-أمَّا من قبر ذلك الشرير فقد نبتت شجرة على هيئة النَبق
-كانت تلك الشجرة ذات أشواك كصاحبها.
- فَنَمت حتى وصلت إلى تينك الشجرتين، وأصبحت مانعًا لوصال الحبيبين.
- ما كان بَكر يستطيع الراحة والهدوء، حتى أظهرَ عداوته للعيان)
يواصل الشرير عمله السيء المكتوب عليه ولو من وراء القَبر، متخذًا صورة نبات شائك يفصل بين شجرتي العاشقين. ربما يختلف دور بَكر عن دور الشيطان بصورة ما هُنا، فإذا كانت وسوسة إبليس كانت وراء طرد آدم وحواء من الجنة وهبوطهما للأرض حيث العناء، فإن أفعال بَكر الرديئة زكَّت نيران الغرام عند مَم وزين، وامتحنت معدن عواطفهما، بل وحولتها من معدن خسيس فان إلى جوهرٍ خالد، أي نقلتهما إلى مقام أسمى.
بعد مشهد القبور الثلاثة، ثمة عاقبة ترد من العالم الآخر، حيث رحلت تلك الأرواح، يدافع فيها بكر عن نفسه وعن أفعاله، قائلاً:
(- لقد أفقدتهما اللذة والسرور في الحياة الدنيا، وآلمتهما باللذعات والجراح.
- اتبعت معهما تلك السياسة، حتى أصبحا صاحبيّ مقامٍ عالٍ).
لا يدخر الشاعر أحمد خاني جهدًا لتأكيد أفضيلة المصير الذي آل إليه العاشقان، منتصرًا لأفكاره وعقيدته الصوفية بالأساس، ومدافعًا عن إيمانه بالجَبر والقدرية حتى السطر الأخير. وما كان دور الشيطان/بَكر إلَّا امتحانًا لمعدن مَم وزين أو آدم وحواء على هذه الأرض القاسية، حتى يتطهرا ويرجعان لنقطة البداية، الجنة والخلد، حيث ينكشف الحجاب أمامهما لرؤية وجه مالِك المُلك ذي الجلال، أما العظام فتنتمي لعالم الفَناء، ولو تكللت بالأخضَر الزاهي، لبعض الوقت.
في عناق أبدي
تظهر، بين حين وآخَر، قصص صحافية متشابهة المادة، واردة من مناطق مختلفة من العالم، مثل كازاخستان أو أوكرانيا أو الهند، مضمونها الأساسي اكتشاف مقبرة ثنائية تجمع رفات رجلٍ وامرأة، يبدوان كأنهما متعانقيَن. تلك العظام الرميمة تكون قادرة على تحريض المخيلة العاطفية لعلماء الآثار ومن ورائهم بقية الناس، لتخيل ونسج شكل الحكاية التي كُللت بعناق أبدي، بقدر ما يمكن للعِظام أن تحظى بحياة أبدية.
قد نلمح شيئًا من المُبالَغة في التعامل مع تلك المكتشفَات أو إضفاء قيمة وجدانية عليها، ومع ذلك فَلا تعوزنا الحكايات الشعبية التي تنتهي بدَفن حبيبين معًا في القبر نفسه، مهما تباينت الأحداث والتفت الطرق التي قادتهما إلى تلك النهاية. حكايات لا تنتهي بالموت بقدر ما تبشّر بالحياة، حكايات لا تختتم بمشهد جماعة من علماء الآثار يقتحمون عزلة وحميمية قبر عاشقين متعانقين، بل تكون صورتها الختامية شجرة أو بالأحرى شجرتان متعانقتان أو حتى ثلاثة إذا فرض نفسه عليهما عذول شرير كأنه إبليس.
إنها رسالة من عالمٍ آخر، رسالة من الراحلين الذين عاشوا وشافوا، الذين عشقوا وتعذبوا، رسالة إلينا، نحن الأحياء على وجه الأرض، رسالة تحث على الاستمرار والمواجهة والمحبة، رسالة تقول إن ثمَّة أشجار ونباتات لا سبيل لاجتثاثها، مهما حاول الناقمون وخصوم العشق وامتدت سيوفهم وأشواكهم إلى جذوعها وفروعها، كما أن ثمة حكايات (أو ربما جوانب بعينها من حكايات) ستظل تبزغ من طين الأرض، ومن بين تراب القبور، مرة بعد أخرى، في ثقافات وأراض وبيئات متباينة ومتباعدة للغاية، أو هكذا تبدو لنا على الأقل، ولا يهم - إلا قليلاً - متى ظهرت أوّل حكاية طلعَ فيها نبات أخضر ملتف على قبر عاشقين.