دراسات

شريف إمام

أكذوبة رمي اليهود في البحر – الجزء الثاني

2024.07.06

مصدر الصورة : آخرون

لماذا راج شعار رمي اليهود في البحر؟ وما جذوره في العقل الصهيوني؟

 

لقد راجَ شعار رمي اليهود في البحر بين الأوساط الغربية والعربية على حد سواء، حتى تناقلتها الأجيال كحقيقة لا يرقى إليها شك، فأوردته كتابات المؤرخين والساسة والمفكرين، وتناقله قادة وحكام في خطبهم. وإذا حاولنا فهم سبب فُشو هذا الشعار في الأوساط الغربية، فإن البروباجنادا الصهيونية لها الفضل الأكبر في ذلك، فقد عملت على إشاعات هذه الفرية بغية تحقيق غايتين: أُولها داخلى يتمثل في تحفيز المجتمع الإسرائيلي على التماسك وإزكاء روح الكراهية للعرب، ففي أثناء حرب فلسطين تم ترويج تلك الفرية على نطاق واسع، وأظهرت البرامج التعليمية المقدمة للجنود أنه قد تم شيطنة العرب ووصفهم بأنه يعتزمون ذبح اليهود ونهب ممتلكاتهم. فعلى سبيل المثال، نشرت جريدة باماهاني الصهيونية الرسمية في يوليو 1948 خطبة لمناحيم تلمي، وهو جندي وصحفي في لواء جفعاتي، في حشد من الجنود قال فيها:" لقد رشقوا الحجارة علينا وأطلقوا الرصاص على جماجمنا، وهربوا بجنون ووعدونا بإلقاءنا في البحر. كان أملهم هو سقوطنا، ودماءنا المسفوكة كانت تروق لأعينهم، لذا فهذا هو عقابهم"[1]. وفى أثناء الحرب، وبينما كانت ملامح النكبة ترتَسم، نشرت إحدى التقارير التعليمية التي كانت تُتْلى على مسامع الجنود الإسرائيلين وقتها: "لقد تسرب الشك للعرب في أن تدمير المدن والمستوطنات الإسرائيلية ورمي اليهود إلى البحر، ليس بالمهمة التي يمكن القيام بها بسهولة. إن إسرائيل تريد السلام مع العرب، لكنها تطالب بالمفاوضات المباشرة، ورفض الدول العربية الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل، وإخلاء فلسطين لنا يشكل تهديدًا حربيًّا، ويظهر دليلاً على نواياهم"[2].

ويَخلص شاي هازكاني، إلى أن قيادة الجيش الإسرائيلي رأت فى الدعاية المؤسسة على إشاعة روح الكراهية للعرب، أمرًا مفيدًا وتجعل قتال العدو أسهل، فقد علق يهودا والاش، الذي كان قائد كتيبة جفعاتي أثناء الحرب وأصبح فيما بعد قائد اللواء، بأن الكراهية كانت واحدة من أهم العوامل المحفزة في عام 1948، فوِفق نظريته: "لا يمكنك أن تكون مقاتلًا جيدًا دون الكراهية"[3]. ولقد ظل هذا الخطاب يتردد حتى بعد نكبة 1948، فلم ينتهِ الغرض منه كمحفز لروح الكراهية للعرب، ففي أعقاب كل أزمة يُستدعى هذا الخطاب وربما بنفس المفردات؛ ففي أعقاب التوتر مع مصر عام 1955 على خلفية العدوان الصهيوني على غزة و شراء مصر صفقة الأسلحة التشيكية، صرح بن غوريون في الكنيست في نوفمبر 1955 قائلًا: "لقد رددت إذاعة القاهرة منذ وقت غير طويل عن أملها في تدمير إسرائيل وهو موضوع لم يتوقف العسكريون الحاكمون عن التحدث عنه. فأعداؤنا يعتقدون أن في استطاعتهم حل مشكلة إسرائيل حلًّا مطلقًا ونهائيًّا وذلك بتدميرنا"[4].

أما الغاية الثانية، التي استُخدم فيها هذا الشعار من قبل الدعاية الصهيونية، فهي إثارة التعاطف وتقمص دور الضحية وإذكاء الشعور بالذنب لدى سائر شعوب الأرض؛ لمؤازرة اليهود في حل مشكلتهم وإنقاذهم من العرب الذين يسعون لإبادتهم؛ فدولة إسرائيل تدين بقيامها مثلًا إلى المحرقة ليس لأنها أحدثت طفرة كبيرة في أعداد اليهود المهاجرين إلى فلسطين، وإنما لقدرتها على وجود مبرر لاستدرار إحسان العالم على هذا الشعب الذين عانى الإبادة[5]. وبالمثل فإن الترويج لمحرقة عربية محتملة، قد يصنع نفس الأثر ويخلق شعورًا دوليًّا داعمًا لإسرائيل وحقها في البقاء.

ففي محاولة من رئيس إسرائيل الأول وايزمان لحث إدارة الرئيس الأمريكي ترومان على مزيد من الدعم للهجرة اليهودية لفلسطين، ذكر للسفير الأمريكي في إسرائيل جيمس ماكدونالد James McDonald: "إن سياسة بريطانيا للتضييق على هجرة اللاجئين اليهود على نطاق واسع إلى فلسطين في عام 1945، استندت إلى سلسلة من الحسابات الخاطئة: منها أن إسرائيل لا تستطيع مقاومة العرب الذين سيدفعون اليهود إلى البحر، وأن إسرائيل موالية للروس[6]". ومن جانبه، روَّج ماكدونالد بحماس لمنطق ترومان، من أن إسرائيل استطاعت أن تجتاز اختبار حقها في البقاء، وأن على الإدارة الأمريكية الرهان عليها كحليف في منطقة الشرق الأوسط ومنع العرب من تدميرها. فذكر في مذكراته سعادته بما وصل إليه جون دالاس – كان وقتها عضوًا فاعلًا في الكونجرس- من نتائج بأن قرار تقسيم الأمم المتحدة عام 1947 كان مقامرة قائمة على الخوف من جدية التهديد العربي بدفع اليهود إلى البحر، وأن الأشهر الاثني عشر الماضية –يقصد فترة الحرب- كشفت بوضوح أين يكمن ميزان القوى، وأن المعلومات البريطانية عن الشرق الأوسط كانت مضللة"[7].

لقد آمن الأمريكان والغرب بصدق الدعاية الصهيونية وشعر بعضهم بضرورة منع حدوث هولوكست عربي لليهود، وعجَّت الوثائق الأمريكية المبكرة – نقصد القريبة من فترة تأسيس دولة إسرائيل- بطرح تلك الفرية على أنها خطر حقيقي قابل للوقوع، بل وشيك، إذا سهى الغرب عن إسرائيل يومًا. ففي لقاء بين الرئيس السوري شكري القوتلي والسفير الأمريكي جيمس كيلي James Keeley في الثالث من مارس عام 1949 قال كيلي: " كنت أعرف، من تصريحات سابقة أن السوريين يفضلون رمي الإسرائيلين في البحر، وأظن أن الإصرار على مثل هذه التطرف بات من غير الواقع"، ولم يناقشه القوتلي في هذا الزعم، ورد رئيس وزارئه خالد العظم: "دعهم يبقون، فقضية العدالة للاجئين وإعادة ترسيم الحدود الأهم ويجب مواجهتها بشكل واقعي"[8]. ومع توقيع معاهدات الهدنة بين إسرائيل والدول العربية، ناقشت ورقة لوزارة الخارجية الأمريكية في مايو 1953، فرص إيجاد تسوية سلمية بين العرب –خصوصًا الأردن حيث أكبر عدد من اللاجئين الفلسطينين- وإسرائيل وخلصت إلى صعوبة ذلك، في ظل رأى عام يرى أن الطريق الوحيد لتحقيق السلام هو رمي اليهود في البحر[9].

ومع تنامي مد القومية العربية أواخر الخمسينيات، عبر وزير الخارجية الأمريكية جون دالاس عن سعي السوفييت لاستغلال فيضان القومية العربية الجارف ورغبة العرب في إلقاء إسرائيل في البحر، لبسط نفوذهم، وأن الإدارة الأمريكية ملتزمة بالحيلولة دون ذلك"[10]. ويحتفظ الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بالنصيب الأكبر في استخدام شعار رمي إسرائيل في البحر لتبرير الدعم الأمريكي لإسرائيل، ففي حوار مُتلفز له في الأول من يوليو 1970 خاطب الجمهور الأمريكي شارحًا لهم سياسة بلاده في الشرق الأوسط: " سألخصها لكم في كلمة واحدة، نحن ندرك أن إسرائيل لا ترغب في دفع أي من الدول العربية إلى البحر، بينما هناك من يريد دفعها إلى البحر، وبمجرد أن يتغير ميزان القوى وتصبح إسرائيل أضعف من جيرانها، فسوف تنشب حرب لفعل ذلك. وعليه، فإن مصلحة الولايات المتحدة الحفاظ على توازن القوى، وسنحافظ عليه. ولهذا السبب، عندما يتحرك الاتحاد السوفييتي لدعم الجمهورية العربية المتحدة، فإنه من الضروري بالنسبة للولايات المتحدة القيام بما يكفي للحفاظ على قوة إسرائيل في مواجهة جيرانها، ليس لأننا نريد أن تكون إسرائيل في وضع يسمح لها بشنّ حرب -وهذا ليس هو الحال-، ولكن لأن ذلك هو ما سيردع جيرانها عن مهاجمتها"[11]. وذكر في مذكرته إنَّ احتمالية حدوث مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ازدادات في منتصف عام 1970 –مع تزايد الدعم السوفيت لمصر وسوريا-، فالولايات المتحدة لم تكن تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي وتشاهد إسرائيل يُدفع بها فى البحر[12].

وإذا انتقلنا إلى الأوساط العربية والإسلامية، فإن هذا الشعار لاقى رواجًا كبير بين الكثيرين على اختلاف مشاربهم، فريق منهم من خصوم الناصرية سواء كانوا من الساداتيين أو الإخوان ممن رأوا في إلصاق تلك العبارة بناصر فرصة مواتية للتندر بعنتريته التي ما قتلت ذبابة، وآخرون مردُوا على جلد الذات رأوا أن تلك العبارة –التي ألصقوها بالشقيري أو أمين الحسين- هي التي جلبت للعرب ويلات النكسة وجذبت بعض اليهود "المؤلفة قلوبهم" إلى معسكر الصهيونية الدينية، وطائفة أخرى من العجم قد أَهَمَّتْهُمْ أنفسهم، وجدوا في تلك الفرية طريقة سهلة للنيل من القومية العربية والانتصار لقومياتهم.

ومن الفريق الأول، يقول الشيخ محمد الغزالي: "إن عبد الناصر سنة 1967 زعم أنه سوف يرمي بإسرائيل في البحر، ودخل حربًا لم يحسن بدايتها ولا نهايتها، فماذا كان؟ انهزم خلال ساعات وتضاعفت مساحة إسرائيل مرتين، وانتفضت أطراف وأوساط مصر والأردن وسوريا، وصبغ القار وجوه العرب أجمعين"[13]. وعلى منوال الغزالى نسج عائض القرني توهَّماته، فيقول: "إلى متى نصدق عواطفنا المجنَّحة، فجمال عبد الناصر وعدنا أنه سوف يرمي إسرائيل في البحر، ثم سلّم لهم سيناء وسجن علماء وطنه ثم شنقهم"[14]. ويشاطر الأثري زاهي حواس هذا المنطق، وإن كان من منطلق ساداتي- ففي مذكراته يقول: "مع بداية شهر يونيو عام 1967 كنا نهلَّل عندما نسمع أننا سنرمي بإسرائيل في البحر، وأننا على أعتاب الدخول إلى تل أبيب وتحرير فلسطين، لكن تفاجأنا بما كان وعرفنا حقيقة الهزيمة، وزاد حزننا وانكسارنا عندما سمعنا قصص التعذيب وانشغال كبار المسؤولين بزيجاتهم الفنية وحياتهم الخاصة"[15]. وتعطي لنا الوثائق الأمريكية مفاجئة فيما يتعلق بموقف السادات نفسه من تلك الفرية الإسرائيلية، ففي برقية من السفارة الأمريكية بإسرائيل إلى وزارة الخارجية، تكشف عن صدى لقاء بين بيجن بالسادات في الإسماعلية ديسمبر 1977، وكان هذا هو اللقاء الأول بينهما، تقول البرقية: "لقد تفاجأ surprised بيجن برد فعل السادات، عندما شرح له بشيء من التفصيل طبيعة حرب الأيام الستة باعتبارها حرب دفاع مشروع عن النفس، وأنه بموجب القانون الدولي، وإلى أن يتم التوقيع على معاهدة سلام، فإن احتلال إسرائيل لسيناء ناشئ عن صراع للدفاع عن النفس، وهو أمر مشروع تمامًا. وكانت حجته في ذلك الشعار الذي هتف به العرب قبيل بدء حرب الأيام الستة؛ فقاطعه السادات قائلاً: "نعم، ألقوهم في البحر". ويعلق التقرير: "على ما يبدو أن السادات نفسه أمَّن على حجة بيجن[16]"

 Sadat himself apparently accepted Begin’s argument

ومن نماذج الهزيمة النفسية وجلد الذات نظرة الكاتب العراقي خالد القشطيني «برنارد شو العرب» -كما كان يلقبه مريدوه- إلى تلك المقولة على أنها ليست مجرد شعار "واه" عاجز عن التنفيذ، وإنما أداة ساعدت إسرائيل على تعبئة اليهود عالميًّا ضد العرب وتحويل الرأي العام العالمي إلى جانبها. فقد كان هناك قطاع كبير من اليهود الأمريكان غير مؤمنين بالصهيونية ولا بإقامة إسرائيل، انتظموا في ما سمي بالمجلس الأمريكي لليهودية، كان من أقطابه الحاخام ألمر برغر صديق العرب، والكاتبان موشي منوحين وألفريد لننتال اللذان نشرا كتابين مهمين في التنديد بإسرائيل والصهيونية، انهار هذا الجناح كليا بعد قول تلك العبارة، التي جعلت يهود العالم يشعرون بأن العرب عقدوا العزم فعلا على إلقاء اليهود في البحر[17]. ويُحمَّل الدكتور عبد الجليل شلبي هذا الشعار –الذي لم يُقل- مسؤولية القوة العسكرية التي وصلت إليها إسرائيل، فيقول: "بعد تولى عبد الناصر الحكم، كان إعلان العداء لإسرائيل والتغنى بوعيدها والاستعداد لحربها أو لمحوها وكانت تهديدات ناصر دائما، سأرمي إسرائيل في البحر، وكانت نغمة حلوة على مسامع المصريين، وربحت منها إسرائيل واستوردت بها أسلحة"[18].

ويبقى الموقف الإيراني شاهد على الفئة الثالثة؛ ففي محاولة لإعادة تقديم نفسها للغرب، وإبراز سماحتها مع إسرائيل بالمقارنة بجيرانها من القوميين العرب المتشددين، صرح قائد الثورة الإسلامية الإيرانية، السيد علي الخامنئي في 2018: "إن بعض الناس في العالم يتحدثون عن آراء الجمهورية الإسلامية بشأن المنطقة ويقولون زورًا إن إيران تعتقد أنه يجب رمي اليهود والصهاينة في البحر، لكننا لم نقل هذا أبداً. نحن لا نرمي أحداً في البحر، فجمال عبد الناصر أطلق شعار رمي اليهود في البحر، ولكن نحن لم نقل ذلك منذ البداية"[19]. وأعاد تأكيد هذا الموقف، مع اتهامات غربية بمساعدة إيران لحماس في عملية طوفان الأقصى أكتوبر 2023، فرد المرشد الإيراني علي خامنئي على من يرددون أن "إيران تريد أن ترمي اليهود أو الصهاينة في البحر"، التأكد من صحة الكلام، مؤكدًا أن ذلك الكلام كذب وأشخاص آخرون من العرب هم من قالوه سابقا[20].

الغريب أن هذا الموقف يتعارض ظاهريًّا مع عقيدة آية الله روح الله الخميني، الداعية إلى محو إسرائيل من الخريطة، وهو ما ردده الرئيس الأسبق الإيراني محمود أحمدي نجاد في خطبة ألقاها في العاصمة طهران بمناسبة يوم القدس عام 2012 من أن إسرائيل "ورم سرطاني سيزول قريبا"، وأن دول المنطقة ستنهي قريبا وجود المغتصبين الصهاينة على أرض فلسطين"[21]. لكن هذا التراجع الإيراني يعكس أن موقف مؤسس الثورة كان دعائيًّا، وأن رجال الحكم في إيران على استعداد للرجوع عنه، إن كان سيدرأ عنهم مواجهة حقيقية مع الغرب.

يبقى لنا سؤال، ما هي جذور تلك الأسطورة. فمن المعلوم أن الأباطيل الصهيونية مؤسسة على روافد لاهوتية، فكما يذكر روجيه جارودي في دراسته الرائدة "محاكمة الصهيونية الإسرائيلية": "إن الصهيونية عمدت إلى تحويل الأساطير الكبرى إلى تاريخ غير صحيح، بهدف تبرير سياسة قومية عنصرية للتوسع الاستعماري، فمثلًا تحول العهد الذى قطعه إبراهيم لتحقيق الاتحاد بين الله والإنسان، وبين "كل عائلات الأرض"، إلى مجرد عهد بأرض لبني إسرائيل، وتحولت أسطورة الخروج، النموذج الأول لكل حركات التحرر العالمي، إلى مجرد معجزة رب الانتقام، الذى يدعو إلى ذبح الشعوب الأصلية رجالًا ونساء وشيوخًا وأطفالًا، بل وحتى الحيوانات"[22]. لذلك كان علينا البحث عن الروافد اللاهوتية وراء هاجس إلقاء اليهود في البحر.

حقيقة إلقاء اليهود في البحر: هواجس توراتية وحقائق صهيونية

كما قلنا ليس للصهيونية أي أساس أو مرجعية يُعتد بها، إلا بالرجوع الانتقائي للعهد القديم، وانتزاع بعض نصوصه التاريخية وتأويله لخلق الأساطير. إن استخدام الدين كأداة سياسية من أجل تأمين العملية الاستعمارية؛ مسألة واضحة بالنسبة لكبيرهم الذي علمهم الإفك هرتزل. فهذا العلمانى، كما يطلق على نفسه، كتب يقول: "الحاخامات سيكونون أعمدة منظمتي. فهم يكونون طبقة نفخر بها، ولكنهم سيبقون دائمًا تحت سلطة الدولة"[23].

وإذا أردنا أن نفتش عن جذور قصة الرمي في البحر؛ فمردها إلى سفر المكابيين الثاني، ففي إصحاحه الثاني عشر الآيتين الرابعة والخامسة ترد قصة إغراق أهل يافا لليهود في البحر فيذكر: "وَأَتَى أَهْلُ يَافَا اغْتِيَالًا فَظِيعًا، وَذلِكَ أَنَّهُمْ دَعَوُا الْيَهُودَ الْمُسَاكِنِينَ لَهُمْ أَن يَرْكَبُوا هُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ قَوَارِبَ كَانُوا أَعَدُّوهَا لَهُمْ، كَأَنْ لاَ عَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ. وَإِذْ كَانَ ذلِكَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كُلِّهِمْ، رَضِيَ بِهِ الْيَهُودُ وَهُمْ وَاثِقُونَ مِنْهُمْ بِالإِخْلاَصِ، وَغَيْرُ مُتَّهِمِينَ لَهُمْ بِسُوءٍ؛ فَلَمَّا أَمْعَنُوا فِي الْبَحْرِ أَغْرَقُوهُمْ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ يَبْلُغُ الْمِئَتَيْنِ" [24].

تعود القصة التاريخية خلف هذا النص إلى القرن الثانى قبل الميلادى وبالتحديد في عام 167 ق.م حيث أصدر حاكم سوريا السلوقي أنطيوخس الرابع إبيفانيس (175/ 164 ق.م) مراسيم اضطهاد بحق اليهود، حملهم فيها على أكل لحم الخنزير، والعمل يوم السبت، والتوقف عن ختان أبنائهم[25]. ثم مالبث أن حظر ممارسة الشعائر الدينية اليهودية، وصُدرت الأضرحة والمذابح اليهودية وأرغم اليهود على عبادة الآلهة اليونانية، حيث أقام تمثالًا للإله اليوناني زيوس في الهيكل، وقدم عليه خنزيرًا، وهو ما سمي في سفر دانيال "رجسة الفساد"[26].

قرر يهود/يهوذا المكابي أن يقود حرب تدور رحاها في السبت، وأخذ عصاباته في سلسلة حروب عرفت لديهم "الثورة المكابية" "מרד החשמונאים" حققت نتائج مفاجئة على السلوقيين بالسيطرة على الهيكل وتطهيره من الوثنية اليونانية[27]. وفي خضم تلك الأحداث وقعت حادثة إغراق اليهود في البحر من قبل سكان يافا، وهى الواقعة التي شكلت تلك العقدة لديهم. استمرت حركة المكابيين بعد قتل يهوذا المكابي، وخلفه إخوته الذين انسحبوا بجيوشهم حتى انتصروا بالسياسة حين دعموا أحد المتنازعين على الكرسي السلوقي، واستمروا في هذه الألعاب السياسية حتى نالوا استقلالهم، لتقوم الدولة الحشمونية عام 140 ق.م وتستمر حتى عام 37 ق.م، والحشمونيون امتداد للمكابيين، حيث يعودون إلى أحد أجداد يوسف المكابي[28].

لا يمكن تقديم فهم دقيق لمدى مركزية هذا النص في العقيدة اليهودية، حيث إن النصوص التوراتية مشفَّرة لا يمكن فهمها بشكل مباشر. ولذا فإن التفسير الحاخامي لتلك النصوص ليس مجرد مقدمة لفهم المعنى الحقيقي للنص المقدس، كما هو الحال في التفسيرات المسيحية، وإنما هو جزء مكمل للوحي الإلهي الأصلي وبالتالي يتداخل النص المقدس والتفسير الإنساني وتظهر حالة من التناص والسيولة. لكن المؤكد أن تلك القصة اللاهوتية كغيرها من أساطير العهد القديم شكلت مادة خصبة للحركة الصهيونية، فقد لجأت الأخيرة إلى تبني الرموز والأفكار الدينية المألوفة لدى الجماهير اليهودية، وحولتها إلى رموز وأفكار قومية[29].

وعلى الرغم من النظرة المتدنية تاريخيًّا إلى سفري المكابيين باعتبارهما كُتبا بعد الترجمة السبعينية ولا يوجد أصل عبري لسفر المكابيين الثاني، فإن الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر أعادت اكتشاف الثورة المكابية، واحتلت حيزًا كبيرًا في معتقداتهم، حيث اعتبروها مثالًا على الاستقلال والنصر. وليس أدل على ذلك من احتضان النادي المكابي فى لندن الاجتماع الأول الذي أعلن فيه هرتزل عن فكرته الصهيونية في عام 1895 ونشر برنامجه الصهيوني لتوطين اليهود في فلسطين[30]. بل ظهرت الثورة في مسرحيات الكتاب المسرحيين أمثال أهارون أشمان ويعقوب كاهان وموشيه شامير، وتعددت المنظمات في إسرائيل وغيرها التى تسمي نفسها على اسم المكابيين[31].

ويبدو أن قصة إلقاء أهل يافا من الوثنيين لليهود في البحر كانت معروفة في الموروث الثقافي الفلسطيني أيضًا، ففي الرواية التاريخية لعبد الجبار عدوان "بومة بَرْبَرَة" -والتي يرسم خطوط رحلة الشَّتات الفلسطينية عام 1948 وما سبقها من أحداث مهمة، على ألسنة من عايشوا هذه الأحداث من كبار السن في قرية بربرة الفلسطينية- يُورد الراوي على لسان إحدى بطلات الرواية "فاطمة" قصة إغراق أهل يافا لليهود فتقول: "بمناسبة عيد يافاوي طلب السكان من اليهود أن يذهبوا معهم في نزهة بحرية ويخذون معهم النساء والأطفال، وافق اليهود إذ لم يخطر في بالهم ما جهز الجيران لهم من مفاجآت، عندما وصلوا إلى عرض البحر كبَّوا المئتين يهودى في الماء فغرقوا عن بكرة أبيهم"[32].

أكثر من ألفي عام مضت، قبل أن يُلقى باليهود مجددًا في البحر، هذه المرة ليس على يد الوثنيين، وإنما على يد بني دينهم من عصابة الهاغاناه الصهيونية. ففي نوفمبر 1940، وصل إلى ميناء حيفا 3500 مهاجر غير شرعيين قادمين من شرق أوربا، فقررت السلطات البريطانية ترحيل بعضهم على متن السفينة باتريا[33]. شعرت الهاغاناه أن مثل هذا لو تمّ سوف يشكل سابقة خطيرة لا يمكن السماح لها أن تحصل، ومن ثم بيتت النية على منع ذلك، فقام أفرادها بتفجير السفينة باتريا فغرقت على الفور مما أسفر عن موت مائتين وخمسين لاجئًا كانوا على متنها[34].. وسرعان ما زعمت الوكالة اليهودية أن هذا الحادث كان بمثابة انتحار جماعي احتجاجًا على الترحيل، وروج -يوسيفوس العصر الحديث- المؤرخ آرثر كوستلر لفكرة أن المهاجرين قتلوا أنفسهم بإغراق سفينتهم، كما حدث في أسطورة ماسادا التوراتية[35]، لكن تبيَّن أن التفجير كان من فعل منظمة الهاغاناه التابعة للوكالة تحت إمرة "موشي شاريت"، الذي أصبح رئيسًا للوزراء في إسرائيل فيما بعد، مما سبَّب إحراجًا بالغًا للوكالة اليهودية أمام المجتمع الدولي[36]. كان اليهود الغرقي حطب الصهيونية لقيام دولتهم المزعومة، فزادت أعداد المهاجرين، وتعهدت الولايات المتحدة بممارسة ما في جعبتها لحمل لندن على زيادة عدد المهاجرين. وأعلن الكونغرس الأمريكي موافقته على مخرجات مؤتمر بلتيمور 1944، ومعارضته القيود التي فرضتها لندن على الهجرة اليهودية إلى فلسطين[37].

هكذا يتضح أن أصل الفرية مركب ثلاثي الأبعاد، فهو من حيث الجذور يعود لنصوص دينية مفتوحة على كل التأويلات، نصوص يراها أصحابها حية رغم قدم السنيين، فالتاريخ اليهودي -بالنسبة لأهله- يتسم بالثبات والاستمرار، فإسرائيل تتعامل مع كتابها المقدس بوصفه مرجعًا تاريخيًّا يجب تكرار أحداثه التاريخية، فما دولة إسرائيل إلا الكومنولث الثالث لليهود، بعد الأول الذى حطمه الأشوريون والثانى الذى دمره الرومان، وما بن جوريون ووايزمان إلا أحفاد يهوذا المكابي وورثته، وما حرب 1948 إلا صورة حية من الثورة المكابية. أما قلب هذا المركب، فهواجس قومية، تعلم هشاشة دولة إسرائيل، هواجس تخشى على هذا الوطن الوليد من التفكك إن غاب هذا الخطر الذي يجمع شتات هذا المجتمع المتنافر. وبين جذر هذا المركب وقلبه، محيط غربي صدق كل ما قالته الصهيونية، بل مدها بالحجج أن فقدتها يومًا. 

 

[1] Shay Hazkani, 1948 from Below: A Transnational History of the War for Palestine, PhD dissertation, Department of History, New York University, 2016, pp. 80, 81.

[2] Ibid, pp. 82, 85.

[3] Ibid, p. 85.

[4] David Ben-Gurion, Israel: a personal history, New York, 1971, p. 458.

[5] Voir Segev, 1967: Israel, the war, and the year that transformed the Middle East, New York, 2007, p. 284.

[6] FRUS, The Near East, south Asia, and Africa, Vol. V, part 2, Telegram The Special Representative of the United States in Israel (McDonald) to the Acting Secretary of State secret us urgent Tel Aviv, November 17, 1948, pp. 1606, 1607.

[7] James McDonald, My mission in Israel, 1948-1951 , New York, 1951, p. 106

[8]FRUS, The Near East, south Asia, and Africa, Vol. VI, The Minister in Syria ( Keeley ) to the Secretary of State confidential Damascus , March 5, 1949, p. 797.

[9] FRUS, The Near and Middle East, Vol. IX, Part 1 Department of State Position Paper , Washington , May 5, 1953, p. 1201.

[10] FRUS, Near East Region; Iraq; Iran; Arabian Peninsula, Vol XII, Memorandum of Conference With President Eisenhower , Washington, July 23, 1958, p. 98.

[11] Public papers of the Presidents of the United States: Richard Nixon: containing the public messages, speeches, and statements of the President, 1970 year, Washington, 1971, p. 558.

[12] Richard Nixon, The memoirs of Richard Nixon, Vol. 1, New York, 1979, p. 598

[13] محمد الغزالي، الجرعات الأخيرة من الحق المر، ج 6، دار نهضة مصر، القاهرة، 2003. 

[14] عائض القرني، سنابل وقنابل، مكتبة العبيكان، الرياض، 2008، ص 34.

[15] زاهي حواس، الحارس: أيام زاهي حواس، دار نهضة مصر، القاهرة، 2021،

[16] FRUS, Arab-Israeli Dispute, January 1977– August 1978, Vol. VIII, Telegram From the Embassy in Israel to the Department of State1 Tel Aviv, December 27, 1977, p. 894.

[17] خالد القشطيني، رمي اليهود في البحر، جريدة الشرق الأوسط، 15 يونيو 2004.

[18] عبد الجليل شلبي، اليهود واليهودية، دار أخبار اليوم، 1997، ص 198.

[19] خامنئي: نحن لم ندعُ لرمي اليهود بالبحر مثل عبدالناصر، موقع العربية نت، 12 يونيو 2018.

خامنئي: نحن لم ندعُ لرمي اليهود بالبحر مثل عبدالناصر (alarabiya.net)

[20] خامنئي: لسنا نحن من قال سنرمي اليهود أو الصهاينة في البحر، موقع روسيا اليوم، 29 نوفمبر 2023.

خامنئي: لسنا نحن من قال سنرمي اليهود أو الصهاينة في البحر - RT Arabic

[21] سلمان العزي، إسرائيل والتحولات السياسية في البلدان العربية منذ عام 2010، دار دجلة، عمان، 2018، ص 164.

[22] روجيه جارودي، محاكمة الصهيونية الإسرائيلية، دار الشروق، القاهرة، 2002، ص 29.

[23] Theodor Herzl, The Complete Diaries Of Theodor Herzl, 15 June 1895 , Vol I, London , 1960, p. 104.

[24] William Fairweather, The first & second books of the Maccabees London, London, 1903, p. 137.

[25] Martin Hengel, Judaism and Hellenism: Studies in Their Encounter in Palestine during the Early Hellenistic Period, London, 1974, pp. 281, 282.

[26] Sylvie Honigman, Tales of High Priests and Taxes: The Books of the Maccabees and the Judean Rebellion against Antiochos IV, California, 2014, pp. 388, 389.

[27] Bezalel Bar-Kochva, Judas Maccabaeus: The Jewish Struggle against the Seleucids, Cambridge, 1989, pp. 276, 282.

[28] Sylvie Honigman, Op. Cit., p. 163

[29] عبد الوهاب المسيري، الأيديولوجية الصهيونية دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة، سلسلة عالم المعرفة، ع 60، الكويت، 1982، ص 176.

[30] إلياس شوفاني، إسرائيل في خمسين عامًا المشروع الصهيوني من المجرد إلى الملموس، ج 2، دار جفرا، دمشق، 2002، ص 160.

[31] Allan Arkush, "In Memory of Judah Maccabee" ,The Jewish Review of Books, December 4, 2018.

[32] عبد الجبار عدوان، بومة بربرة، دار الفارابي، بيروت، 2010، ص 73- 74.

[33] Yehuda Bauer, American Jewry and the Holocaust, Detroit, 1981, pp. 143, 144.

[34] Leslie Stein, The Hope Fulfilled: The Rise of Modern Israel, London, 2003, pp. 227–228.

[35] Arthur Koestler, Promise and Fulfilment Palestine 1917/1949, London, 1983, p. 60.

[36] Eva Feld, "The Story of the S/S Patria". Jewish Magazine, August 2001.

[37] Israel Cohen, The Zionist Movement: its aims and achievements, London, pp. 369, 370.