غزة تقاوم

إيفيزا لوبين

الحرب ضد معاداة السامية في ألمانيا - الجزء الأول

2024.05.11

مصدر الصورة : الجزيرة

الدعم الألماني للإبادة الجماعية في غزة

ترجمة: نهى مصطفى

لم تدعم أي حكومة أخرى بعد إدارة بايدن إسرائيل في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها ضد السكان الفلسطينيين في غزة، مثل الحكومة الفيدرالية الألمانية، سواء كان ذلك في الهيئات الدولية، مثل الأمم المتحدة، أو من خلال منع الدعوات لوقف إطلاق النار داخل الاتحاد الأوروبي، وسواء من خلال زيارات التضامن المتكررة، التي يقوم بها وزراء ألمان، أو من خلال شحنات الأسلحة التي تضاعفت عشرة أضعاف منذ بداية الحرب على غزة.

وفي الوقت نفسه، وبذريعة مكافحة معاداة السامية، لا تترك سلطات الدولة أي إجراء لجعل الخطاب السياسي في ألمانيا يتماشى مع الرواية الرسمية المؤيدة للصهيونية بطريقة غير مسبوقة. وقد أدى هذا الدعم داخل ألمانيا إلى تحول سياسي هائل نحو اليمين، تشمل أعراض هذا التحول الدعم غير المحدود للدعاية الحربية الإسرائيلية من قبل السياسيين ووسائل الإعلام الرسمية، وتقييد حرية التعبير والتجمع، وإلغاء الأحداث الثقافية الدولية التي تنتقد إسرائيل، وتزايد كراهية الأجانب والعنصرية ضد المسلمين.

في مهرجان برلين الأخير، أهم مهرجان سينمائي دولي في ألمانيا، والذي يقام كل فبراير في العاصمة الألمانية، حصل الفيلم الإسرائيلي الفلسطيني "ليس هناك أرض أخرى" على جائزة أفضل فيلم وثائقي. يصور الفيلم مقاومة القرويين في بلدة "مسافر يطا" (وهي عبارة عن مجموعة من 19 قرية فلسطينية في محافظة الخليل) جنوب الضفة الغربية المحتلة، ضد محاولة الطرد التي قام بها المستوطنون الإسرائيليون المتطرفون بدعم من جيش الدفاع الإسرائيلي. في خطاب قَبوله، وصف المخرج الإسرائيلي يوفال أبراهام بإيجاز نظام الفصل العنصري الذي يفصل بينه وبين مديره المشارك باسل عدرا، فيقول: "أنا تحت القانون المدني، وباسل تحت القانون العسكري، نعيش على بعد 30 دقيقة من بعضنا البعض، ولكن لدي حقوق التصويت، وباسل لا يملك حقوق التصويت، أنا حر في التحرك حيث أريد في هذه الأرض، باسل -مثل ملايين الفلسطينيين- محاصر في الضفة الغربية المحتلة. حالة الفصل العنصري هذه بيننا يجب أن تنتهي".

وأضاف باسل عدرا: "من الصعب جدًّا بالنسبة لي أن أحتفل عندما تذبح إسرائيل عشرات الآلاف من أبناء شعبي في غزة". ودعا ألمانيا إلى وقف توريد الأسلحة. كما استخدم الفائزون الآخرون بالجوائز مسرح مهرجان برلين للدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة، مثل: بن راسل الذي ظهر في حفل توزيع الجوائز مرتديًا الكوفية الفلسطينية.

وأثار هذا الحدث ضجة كبيرة في وسائل الإعلام الألمانية الرئيسة، التي اتهمت مهرجان برلين بمعاداة السامية. وشدد عمدة برلين فاجنر على أن برلين تقف بحزم إلى جانب إسرائيل، واتهم مهرجان برلين بأنه يعمل على "إضفاء طابع نسبي" على معاناة إسرائيل. ودعت منظمة الشباب التابعة للحزب الديمقراطي المسيحي إلى سحب التمويل الحكومي لمهرجان برلين. ووصف المتحدث باسم السياسة الثقافية للحزب الديمقراطي الاجتماعي الحاكم (الحزب الاشتراكي الديمقراطي) تصفيق الجمهور بأنه "صادم"، وتحدث سياسيو حزب الخضر عن "تدنٍّ أخلاقي"، وعلق المستشار شولتس قائلًا: إن مثل هذا الموقف الأحادي الجانب لا يمكن السماح له بالبقاء دون تعليق.

لكن القصة لم تنتهِ هنا. ووُجِّهت دعوات لاستقالة وزيرة الثقافة كلوديا روث، التي كانت تجلس بين الجمهور المصفق، وحاولت كلوديا روث -التي تنتمي إلى الجناح اليساري لحزب الخضر- إنقاذ مسيرتها السياسية بإعلانها أنها صفَّقَت فقط للمخرج الإسرائيلي، وليس لزميله الفلسطيني، التي قالت -على حد تعبيرها- إن كلمته "لم تعجبني". ووعدت –مع كثير من الندم- أن يكون مهرجان برلين في المستقبل "مكانًا خاليًا من خطاب الكراهية".

إن المناقشة الهستيرية الصريحة التي دارت حول مهرجان برلين هي مجرد مثال واحد من أمثلة لا حصر لها لحملات التشهير السياسية الهائلة ضد معارضي الإبادة الجماعية الإسرائيلية الجارية في غزة داخل ألمانيا، وخاصة في المجال الثقافي أو في الأوساط الأكاديمية. وهو ذو دلالة في كثير من النواحي عند تجريم مصطلحات، مثل: "الإبادة الجماعية" و"الفصل العنصري" و"الاستعمار الاستيطاني" لوصف السياسة الإسرائيلية بأنها "مقارنات غير مقبولة"، ومحاولات تجريم أي انتقاد لإسرائيل، وحظر أي سياق تاريخي لهجوم حماس في 7 أكتوبر باعتباره "انعكاسًا بين الجاني والضحية" أو "مبررًا" لحماس، التي تم إعلانها بالفعل كمنظمة إرهابية في عام 2014. ويُظهر أيضًا النظرة العنصرية البيضاء، التي تكون فيها كلمة (وحياة) الإسرائيلي أكثر أهمية من كلمة (وحياة) الفلسطيني، كما ظهر ذلك في بيان كلوديا روث.

من فِقْدان الذاكرة التاريخية إلى سبب وجود الدولة في ألمانيا:

في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، بدا الأمر وكأن ألمانيا الغربية تعاني من فِقدان الذاكرة العام فيما يتعلق بالمحرقة وجرائم الحرب التي ارتكبتها الدكتاتورية النازية، والتي راح ضحيتها ستين مليون أوروبي. تمكن العديد من النازيين السابقين من العمل في مؤسسات دولة ألمانيا الغربية المعلنة حديثًا، واستغرق الأمر أكثر من عشرين عامًا حتى بدأ جيل عام 1968 من الحركة الطلابية الراديكاليين في ألمانيا الغربية في التشكيك في مسؤولية جيل آبائهم عن الجرائم النازية.

لقد استغرق الأمر وقتًا أطول حتى بدأ التيار السياسي السائد في مواجهة الماضي النازي لهذا البلد. فقط بعد إعادة توحيد ألمانيا، بدأ فقدان الذاكرة المجتمعي يفسح المجال أمام ثقافة التذكر التي تركزت على المحرقة التي تعرض لها يهود أوروبا باعتبارها جريمة فريدة تاريخيًّا. في عام 2008، وبمناسبة الذكرى الستين لتأسيس إسرائيل، ألقت المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل خطابًا أمام الكنيست الإسرائيلي: "إن المحرقة تملؤنا نحن الألمان بالعار"، وأعلنت ووعدت بما يلي: "كل حكومة اتحادية وكل مستشار اتحادي قبلي كان ملتزم بمسؤولية ألمانيا التاريخية الخاصة عن أمن إسرائيل. وهذه المسؤولية التاريخية لألمانيا هي جزء من سبب وجود بلادنا (Staatsraison). وهذا يعني أن أمن إسرائيل غير قابل للتفاوض أبدًا بالنسبة لي كمستشارة لألمانيا".

تم تخصيص نصب تذكاري جديد لضحايا النازية، مثل النصب التذكاري لليهود القتلى في وسط برلين، الذي تم افتتاحه في عام 2005. وأنشأت العديد من الوزارات وجهاز المخابرات الفيدرالية لجان خبراء من المؤرخين (Historikerkommissionen) من أجل التحقيق في دور هؤلاء المذكورين أعلاه (النازيون السابقون الذين تمكنوا من العمل في المؤسسات الألماني الغربية)، الأدوار التي شاركوا بها في الحزب النازي، واحتمال استمرارهم في ذلك بعد الحرب. كما تم تخصيص مساحة كبيرة لإعادة تقييم الحزب النازي والمحرقة في المناهج المدرسية. في الوقت نفسه، تحولت عبارة "لن يحدث مرة أخرى" إلى ساحة معركة استطرادية: هل كانت عبارة "لن يحدث مرة أخرى" وعدًا حصريًّا لليهود تجسده إسرائيل، كما وعدت أنجيلا ميركل أمام الكنيست، بناءً على فرضية تفرد حدث المحرقة؟

أم أن عبارة "لن يحدث مرة أخرى" كانت وعدًا عالميًّا من جانب المجتمع الدولي ببذل كل ما في وسعه؛ لضمان عدم تكرار عمليات الإبادة الجماعية -بغض النظر عمن يرتكبها أو ضد من- كما كانت نية رافائيل ليمكين، الذي يُعتبَر الأب الروحي للاتفاقية الدولية للإبادة الجماعية. كان ليمكين، وهو نفسه أحد الناجين من المحرقة، قد درس عمليات الإبادة الجماعية بشكل مكثف وأدرك خطر تَكْرارها. وكانت هذه الأفكار بالتحديد هي التي دفعته إلى إنشاء آليات دولية؛ لمنع عمليات الإبادة الجماعية في المستقبل في شكل الاتفاقية الدولية؛ لمنع الإبادة الجماعية التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948.

وفي ألمانيا، ساد التفسير الأول استنادًا إلى مقدمات أدت إلى عواقب سياسية داخلية خطيرة: فألمانيا الرسمية لم تعترف بادعاء إسرائيل باعتبارها الممثل الجماعي لضحايا المحرقة فحسب، بل تبنت السرد القائل بأن إسرائيل تأسست نتيجة للحرب العالمية الثانية. وبالتالي، كانت المحرقة نتاج الذنب الألماني، بغض النظر عن الجذور الاستعمارية للمشروع الصهيوني الذي سبق الفاشية الألمانية. تبنت ألمانيا الرواية الإسرائيلية بأنها دولة تتعرض للتهديد بشكل مستمر، وألزمت نفسها بالدفاع غير المحدود عن إسرائيل. واستنادًا إلى هذه الافتراضات، فإن أي وصف لإسرائيل كدولة فصل عنصري، أو مشروع استيطاني استعماري، أو وصفه بأنه "انعكاس بين الضحية والجاني" غير مقبول.

تم حظر أي إشارات عن أن تأسيس إسرائيل قد سمح بالتطهير العرقي لفلسطين من خلال المجازر والاستبدال القسري من الخطاب الرسمي، وتم حجب أماكن إقامة المعارض للنكبة، وتم إلغاء المحاضرات عن التطهير العرقي في فلسطين، وكذلك المظاهرات لإحياء ذكرى النكبة محظورة بانتظام. يُحرَم اللاجئون الفلسطينيون في ألمانيا من حقهم في الحداد على الصدمات التي لحقت بعائلاتهم، وفي الوقت نفسه يُحرمون من إحياء ذكرى ضحايا الإبادة الجماعية الاستعمارية الأخرى التي ارتكبتها ألمانيا الاستعمارية، مثلما حدث مع قبائل ناما وهيريرو في ناميبيا أو ماجي ماجي في شرق أفريقيا التي احتلتها ألمانيا، إذ تم التقليل من شأنها.

البيروقراطية المناهضة للسامية في ألمانيا:

في مايو 2019، وافق البوندستاج على اقتراح مشترك قدَّمَه حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر، والذي أدان حملة المقاطعة باعتبارها معادية للسامية، ودعا مؤسسات الدولة إلى التوقف عن توفير أماكن لحركة المقاطعة BDS، والامتناع عن تمويل المشاريع والمنظمات التي تشكك في سيادة إسرائيل، أو الحق في الوجود، أو الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل. قبل عام بالفعل من إنشاء البوندستاج لمكتب مفوض معاداة السامية، وهو "مفوض الحكومة الفيدرالية للحياة اليهودية في ألمانيا ومكافحة معاداة السامية"، كما يقرأ في العنوان الرسمي.

وتبع ذلك إضفاء الطابع المؤسسي على مقرري معاداة السامية في معظم الولايات الفيدرالية ومؤسسات الدولة الأخرى، مثل مكاتب الشرطة، والنيابة العامة. وصفت عالمة الاجتماع الأمريكية الروسية ماشا جيسن هذا الأمر بأنه "بيروقراطية واسعة النطاق" في مقال نُشر في عدد ديسمبر 2023 من النيويوركر: "ليس لديهم وصف وظيفي واحد أو إطار قانوني لعملهم، ولكن يبدو أن الكثير من عملهم يقوم على فضح أولئك الذين يعتبرونهم معادين للسامية علنًا، غالبًا بسبب "إزالة الطابع الفردي للمحرقة" أو لانتقاد إسرائيل". ولاحظت جيسن، وهي نفسها من أصل يهودي: "عدد قليل من هؤلاء المفوضين يهوديًّا. وفي الواقع، فإن نسبة اليهود بين من يستهدفونهم أعلى بالتأكيد، ومن بين هؤلاء عالم الاجتماع الألماني الإسرائيلي موشيه زوكرمان، الذي تم استهدافه لدعمه حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات B.D.S، كما هو الحال بالنسبة للمصور اليهودي الجنوب إفريقي آدم برومبيرج".

منذ أحداث 7 أكتوبر، التي وضعتها ألمانيا على خط تاريخي واحد مع المحرقة، اكتسبت الحملة زخمًا. في الواقع، أي سياق لأعمال حماس يتم تفسيره في ألمانيا الرسمية على أنه معاداة للسامية، بل إن بعض الأصوات في ألمانيا طالبت باستقالة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش بعد تصريحاته بأن السابع من أكتوبر لم يأتِ من فراغ.

في الواقع، أصبحت ماشا جيسن نفسها محور حملة تتهمها بالتقليل من شأن المحرقة. وفي المقال المذكور بعنوان "في ظل المحرقة" شبهت ماشا جيسن غزة بالأحياء اليهودية في أوروبا الشرقية تحت الاحتلال النازي، "الجيتو الذي يجري تصفيته". تعرف جيسن ما يتحدثون عنه، استنادًا إلى تاريخ عائلتها، حيث كان جدها رئيسًا للمجلس اليهودي، في الحي اليهودي في بيالستوك جيسن، فقد بحثت على نطاق واسع في تاريخ يهود أوروبا الشرقية. في ديسمبر 2023، كان من المفترض أن تحصل جيسن على جائزة هانا أرندت المرموقة للفكر السياسي، والتي يدعمها ماليًّا كل من مجلس الشيوخ (الحكومة) في ولاية بريمن الفيدرالية، ومؤسسة بول التابعة لحزب الخضر، وقد سحب كلاهما تمويلهما بسبب تصريحات جيسن، التي اعتبراها "مقارنة غير مقبولة" تشكك في "التفرد التاريخي للهولوكوست".

ما هي معاداة السامية؟ اعتماد تعريف IHRA المتنازع عليه في البرلمان الألماني

منذ أن أعلنت أنجيلا ميركل أن أمن إسرائيل هو "سبب وجود الدولة" الألمانية، وهي مذكرة مكيافيلية تعرضت لانتقادات واسعة من قبل خبراء القانون الدستوري؛ لأنها وضعت سياسات الدولة فوق سيادة الشعب وسيادة القانون، استخدمت النخبة السياسية الألمانية الحرب ضد معاداة السامية من أجل إسكات أي انتقاد لدعمها اللامحدود لإسرائيل.

في عام 2017، قرر البوندستاج استخدام تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة (IHRA) وهو التعريف العملي لمعاداة السامية كأساس لجميع تدابيره. يقول هذا التعريف الغامض للغاية: "معاداة السامية هي تصور معين لليهود، والذي يمكن التعبير عنه على أنه كراهية تجاه اليهود. (IHRA) هي منظمة حكومية دولية تأسست عام 1998 من قبل 34 دولة معظمها من أمريكا الشمالية وأوروبا، بالإضافة إلى إسرائيل، وتهدف إلى تعزيز التعليم والبحث وإحياء ذكرى المحرقة في جميع أنحاء العالم.

الجزء الأكثر إشكالية في التعريف ليس التعريف في حد ذاته، بل الأمثلة العديدة المرفقة لمعاداة السامية التي ذكرها التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست والتي يرتبط ثلثاها بإسرائيل، ويتم الاعتراف بهذه الأمثلة من قبل البوندستاج كجزء من التعريف، على سبيل المثال: يقول التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست إنه من معاداة السامية "حرمان الشعب اليهودي من حقه في تقرير المصير، على سبيل المثال، من خلال الادعاء بأن وجود دولة إسرائيل هو "مسعى عنصري" أو "تطبيق معايير مزدوجة من خلال مطالبة [إسرائيل] بسلوك غير متوقع أو مطلوب من أي دولة ديمقراطية أخرى" أو "عقد مقارنات بين السياسة الإسرائيلية المعاصرة وسياسة النازيين".

لا يمكن إنكار وجود معاداة للسامية في ألمانيا، بالإضافة إلى أشكال أخرى من العنصرية ضد المسلمين أو العرب أو المهاجرين أو الأشخاص الملونين. وصحيح أيضًا أن اليمين المتطرف يحاول التقليل من شأن النازية الألمانية، أو إنكار الهولوكوست، على سبيل المثال: تصريح رئيس حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف، ألكسندر جاولاند، الذي أثار غضبًا كبيرًا بأن النازية كانت مجرد فضلات في تاريخ ألمانيا المجيد الذي يبلغ 1000 عام. شهدت ألمانيا أعمالًا إرهابية معادية لليهود، مثل تلك التي وقعت في هالي عام 2019، حيث حاول إرهابي يميني مسلح اقتحام كنيس يهودي بنية ارتكاب مذبحة بين المصلين، أو الهجوم الأخير لحرق متعمد لكنيس في أولدنبورج، أو رسم الصليب المعقوف على القبور في المقابر اليهودية.

لكن التركيز على تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، مع تركيزه القوي على ما يسمى "معاداة السامية المرتبطة بإسرائيل"، أدى إلى إضفاء طابع نسبي على جرائم الكراهية ضد اليهود بدلًا من مكافحتها، بينما تم استخدامه في الوقت نفسه لتجريم الأصوات المؤيدة للفلسطينيين. لا عجب، كما لاحظت جيسن في مقالتها، أن تطبيق تعريف IHRA أدى إلى زيادة في الجرائم المعادية للسامية المسجلة رسميًّا في ألمانيا إذا اعتبر المرء إدانة إسرائيل أعمالًا معادية للسامية.

ومع ذلك، هناك تعريفات بديلة لمعاداة السامية، مثل ما يسمى بإعلان القدس، الذي وضعه أكثر من 400 مؤرخ دولي وباحثين في المحرقة، وخبراء في القانون الدولي، وخبراء في الشرق الأوسط، بما في ذلك أكاديميون إسرائيليون. ويفضِّل الخبراء إعلان القدس بسبب وضوح تعريفه الأكبر، والخط الفاصل الواضح بين معاداة السامية والانتقاد المشروع لإسرائيل. وبسبب هذا التعريف البديل، فإنه يُعتبَر من معاداة السامية "ترسيخ التعميمات السلبية عن اليهود"، "الإنكار أو التقليل من شأن الإبادة الجماعية النازية المتعمدة لليهود"، أو "جعل جميع اليهود مسؤولين عن أعمال إسرائيل".

ولكن في الوقت نفسه، وبسبب إعلان القدس، فمن غير المعادي للسامية بشكل واضح معارضة الصهيونية كشكل من أشكال القومية، وانتقاد دولة إسرائيل، ومؤسساتها وحتى مبادئها التأسيسية، ومقارنة إسرائيل بالاستعمار الاستيطاني أو الفصل العنصري أو الدعوة إلى حركة المقاطعة BDS باعتبارها شكلًا سلميًّا من أشكال المقاومة. كما أنه لا يعتبر معاداة للسامية دعم ترتيبات مثل دولة ثنائية القومية، أو دولة ديمقراطية وحدوية، أو دولة فيدرالية، بشرط أن تمنح المساواة الكاملة للجميع. لكن إعلان القدس يتم رفضه عمدًا من قبل صُنَّاع القرار، ووسائل الإعلام الألمانية، والمؤسسات المؤيدة للصهيونية.

دعم غير محدود لإسرائيل والرقابة المتزايدة:

يتم استخدام أحداث 7 أكتوبر من قبل السياسيين الألمان ووسائل الإعلام الرئيسة لتقييد الخطاب السياسي بشكل أكبر؛ من أجل تبرير الدعم الألماني غير المحدود لحكومة نتنياهو. وفي حين أوقف أصدقاء إسرائيل الأوروبيون الآخرون، مثل هولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا، شحنات الأسلحة إلى تل أبيب، فقد زادت صادرات الأسلحة الألمانية عشرة أضعاف منذ بداية حرب غزة. ووفقًا لمعهد أبحاث السلام السويدي SIPRI، فإن ألمانيا هي المورد الثاني للأسلحة لإسرائيل بحصة 30%، بعد الولايات المتحدة التي توفر 60% من واردات الأسلحة الإسرائيلية (للسنوات 2019-2023)، وأصبحت ألمانيا نفسها سوقًا مهمَّة لصناعة الأسلحة الإسرائيلية، وفي يونيو 2023، تم الإعلان عن خطط تعتزم ألمانيا بموجبها الحصول على نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي Arrow-3 بسعر 4 مليارات يورو.

لعدة أشهر، منعت ألمانيا الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار داخل الاتحاد الأوروبي، وأعلنت بدلًا من ذلك وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية؛ من أجل عدم وضع عقبات في طريق الجيش الإسرائيلي. وبرر المستشار أولاف شولتز الموقف الألماني زاعمًا أن الجيش الإسرائيلي "يلتزم بالقواعد الناشئة عن القانون الدولي"، حيث إن إسرائيل على حد تعبير شولتز "دولة ديمقراطية ذات مبادئ إنسانية للغاية". وبعد أن وجدت محكمة العدل الدولية في حكمها الأوَّلي في قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أن هناك أدلة قوية على أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، رفضت ألمانيا هذه الادعاءات، وأعلنت أنها ستدعم إسرائيل في الإجراءات الرئيسة برأيها القانوني الخاص.

تم حظر حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وصمود، وهي منظمة تدعم السجناء السياسيين في فلسطين، بعد 7 أكتوبر مباشرة، وفي الوقت نفسه تم تلقائيًّا استبعاد كل من استشهد بالاحتلال والحصار المفروض على غزة منذ أكثر من 17 عامًا كسياق لما حدث في 7 أكتوبر، وتم تصنيفه على أنه مؤيد لحماس، وتم استبعاده من المناقشات العامة، أو البرامج الحوارية. شعارات مثل: "من النهر إلى البحر فلسطين ستتحرر" أو "الفصل العنصري الإسرائيلي" تم منعها في المظاهرات، وصادرت الشرطة الملصقات التي تحتوي على هذه الشعارات. تبدو منطقة نويكولن في برلين، التي تضم جالية كبيرة من المهاجرين العرب، وكأنها تحت الاحتلال بسبب الوجود المكثف لقوات الشرطة المستعدة للتدخل كلما كان هناك احتجاج غير مصرح به، أو ملصقات تحمل شعارات محظورة رسميًّا، حتى إن سلطات المدارس في برلين منعت ارتداء الرموز الفلسطينية، مثل الكوفية الفلسطينية، أو الأساور بألوان الأعلام الفلسطينية داخل مباني المدرسة.

يعد الدليل الداخلي الذي تم تسريبه في 18 أكتوبر، المكون من 40 صفحة، لمحطات البث التلفزيوني والإذاعي العامة حول الصراع في الشرق الأوسط، مؤشرًا على تقييد حرية التعبير، وكذلك على الرقابة الذاتية الصحفية أيضًا. وبناءً على هذه التعليمات، يُطلب من الصحفيين التأكيد على "أن جيش الدفاع الإسرائيلي يستهدف فقط أهدافًا عسكرية، وأن حماس هي المسؤولة عن سقوط ضحايا من المدنيين؛ لأنها تستخدم المدنيين كدروع بشرية". يتم حث المشرفين على استبدال مصطلح "مقاتلي حماس" كما تستخدمه وكالات الأنباء الدولية بمصطلحات بديلة، مثل "الإسلاميين المتشددين" أو "الإرهابيين". وحذر المعلقون من أن وصف إسرائيل بأنها "دولة استعمارية استيطانية" أو "نظام فصل عنصري" والمطالبة بحظر تصدير الأسلحة يُعتبَر معاداة للسامية، لأن مثل هذا الحظر من شأنه أن يترك إسرائيل بلا دفاع. بالمناسبة إسرائيل الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك أسلحة نووية.

حتى الرموز الثقافية للقومية الفلسطينية، مثل: شخصية "حنظلة" التي ابتكرها الفنان ناجي العلي، أو "المفتاح" الذي يستخدمه اللاجئون الفلسطينيون كرمز للحنين إلى ديارهم المفقودة في فلسطين، توصف بأنها معادية للسامية. إن الادِّعاء بحق العودة من شأنه أن يدمر إسرائيل، كما يقول الدليل بأن الدولة اليهودية تتغلب طوعًا أو كرهًا على القانون الدولي، الذي يضمن في شكل قرار الأمم المتحدة رقم 194 حق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، أو الحصول على تعويض من إسرائيل. (اعترفت إسرائيل نفسها بالقرار 194 كشرط مسبق للانضمام إلى الأمم المتحدة كدولة عضو، لكنها رفضت تنفيذه منذ ذلك الحين).