دراسات

شريف إمام

أكذوبة رمي اليهود في البحر – الجزء الأول

2024.06.29

مصدر الصورة : ويكبيديا

اختلاق الأكذوبة على ألسنة القادة العرب

 

قامت الحركة الصهيونية وصنيعتها دولة إسرائيل، على تعميم مجموعة من المفاهيم التي أصبحت مقبولة لدى الرأي العام الغربي، ولدى جزء لا يُستهان به من الرأي العام العالمي بما فيه المحيط العربي. وتبدو هذه المفاهيم في نظر كثيرين مُسلَّمات، قامت على إثبات صحتها أدلة أنطولوجية لا تقبل الشك، فهي تتسم بخاصية الوضوح الذاتي، تظهر صحتها بمجرد النظر فيها دون حاجة إلى إثبات أو برهان. ولعل أحد أكثر تلك المفاهيم رواجًا، شعار: "سعي العرب إلى رمي اليهود/إسرائيل في البحر"، تلك العبارة التي لاكتها أَلسنة كثيرة في الغرب والشرق، ورددتها إذاعات وتصريحات، وخاض فيها مؤرخون وصحفيون وساسة، وشقت طريقها إلى المؤسسات الأكاديمية والدولية. بل أمسى هذا الشعار إحدى ركائز عقيدة الاضطهاد التي لازمت التاريخ اليهودى، وهو اضطهاد نابع من "دُونيَّة" المُضطهِد أمام سمو شعب الله المختار. إن عقيدة الاضطهاد والسمو في العقل اليهودى، هي المحفزة لحالة البارانويا الجماعية التي يعاني منها اليهود ودولتهم. بل إننا لمسنا صناعة ركيكة لخطاب الاضطهاد قبل شروع إسرائيل في حربها البربرية على غزة، فقد بدأتها بصور رؤوس أطفال المستوطنين الإسرائيليين المقطوعة التي تمت فبركتها، وكان الغرض منها تقمص دور الضحية في حرب الإبادة التي خططت لها. 

ونحاول في هذا المقال تفكيك اليقين الذي التصق بعبارة رمي اليهود في البحر، عبر وضعها في مرمى النقد التاريخي لمعرفة حقيقة مَن قالها؟ ولماذا راجت تلك العبارة حتى صارت من المُسلَّمات؟ ومن أين أتى هاجس الإلقاء في البحر عند اليهود؟ وكيف استجابت الصهيونية لهذا الهاجس وحولته إلى مشاريع وممارسات لإلقاء الفلسطينيين في بحار الشَّتات؟

آباءٌ كثر لمقولة "الهولوكست العربي" المزعوم

تواترت المرويات الصهيونية عن سعي العرب إلى رمي اليهود ودولتهم في البحر، لكنها لم تُسنِد هذا القول إلى شخص بعينه، حيث نسبت المقولة للرئيس جمال عبدالناصر تارة، ولمؤسس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيرى تارة أخرى، وبينهما آباءٌ آخرون للمقولة، من بينهم: الصحفي أحمد سعيد، وعبدالرحمن عزام -أول أمين لجامعة الدول العربية- ومرشد الإخوان حسن البنا، ومفتي القدس أمين الحسيني وغيرهم. إنها تهمةٌ متجددةٌ لا زال يُبحث عن مرتكبها، ولا ضير في تأويل بعض الخطب التاريخية لشخصيات عربية، أو حتى إجراء بعض التحريف البسيط أو الفج عليها، من أجل إدخال متهمين جُدد.

ويمكننا قول: إن ميلاد أسطورة رمي اليهود قد بدأت من اتِّهام مفتى القدس أمين الحسيني برفع هذا الشعار، إبَّان أحداث البراق عام 1929، فعندما شُكِّلت لجنة شو البريطانية في أغسطس 1929 لبحث أحداث تلك الاضطرابات، برز هذا الشعار. ففي أثناء التحقيقات سُئل المفتي بوضوح عن الهجرة اليهودية إلى فلسطين، أَبَان موقفه قائلًا: "إن عدد اليهود في فلسطين قبل الاحتلال البريطاني ستين ألفًا. وهؤلاء هم مواطنون فلسطينيون، لهم ما لنا وعليهم ما علينا. أما الآخرون فليسوا مواطنين شرعيين، دخلوا البلاد بغير حق، وينبغى أن يعودوا إلى أوطانهم الأولى". فعاجله محامي الوكالة اليهودية، محاولًا تحريف الْكَلِمِ عن مَواضعه: هل تريد يا سماحة المفتي إلقاء اليهود في البحر؟ فأجاب: "نحن لا نريد إلقاء اليهود في البحر. بلادنا لنا، واليهود المهاجرون يعودون إلى بلادهم". هكذا أوضح المفتي بشكل لا لبس فيه، أنه لا يقصد هذا المعنى الذي وصل إلى السائل، ورغم أن الواقعة دليل نفي، فإن اليهود اعتبروا دعوة المفتي إلى عودة اليهود الذين دخلوا في ظل الانتداب إلى أوطانهم بمثابة دعوة إلى إلقائهم في البحر، وهو ما لم يقُله[1]. ولعل تقرير لجنة شو جاء واضحًا في تحميل سلطة الانتداب قدرًا من المسؤولية عن الأحداث، من خلال السماح بالهجرة غير المحدودة لليهود إلى فلسطين، وبرَّأ المفتي من تهمة المشاركة في أحداث انتفاضة البراق أو التحريض عليها[2]. بل إن المفتي تراجع عن فكرة إعادة اليهود ممن ثبت عدم قانونية هجرتهم إلى أوطانهم الأصلية، فعندما أرسلت الحكومة البريطانية لجنة بيل إلى فلسطين في أعقاب الثورة الفلسطينية الكبرى، سأل اللورد بيل المفتي: تطلبون سماحتكم بإنشاء حكومة وطنية في البلاد، فماذا تفعلون مع أربع مئة ألف يهودي موجودين هنا؟ فرد المفتي: ليست هذه أول مرة يكون فيها اليهود في حماية دولة عربية. ويروي التاريخ دائمًا أن اليهود ما استراحوا في جميع العصور إلا في ظل الحكم العربي، وكان الشرق ملجأ اليهود الفارين من الضغط الأوربي[3]. ولم يطرح المفتي هذه المرة إعادة اليهود -ممن لم تكن هجرتهم شرعية- إلى أوطانهم الأصلية.

أما ما يتعلق بحسن البنا واتهامه بذلك، فإن مردَّه إلى مقال نشرته نيويورك تايمز في الثاني من أغسطس 1948، على خلفية حوار أجرته معه، ومن جملة ما أوردته على لسانه: "إذا أصبحت الدولة اليهودية حقيقة، وهذا ما أدركته الشعوب العربية، فإنها -أي الشعوب- ستدفع اليهود الذين يعيشون في وَسطهم إلى البحر"[4]. وهذا التصريح لم يرِد له ذكر في صحف الإخوان في تلك الفترة، ولا في رسائل ومذكرات الإخوان إبَّان حرب فلسطين، وهي معلومة للجميع، بل إن الإذاعة المصرية نفسها كانت تذيع بعضها[5]. كذلك استئثار صحيفة النيويورك تايمز -معروفة التوجه في الصراع العربي الإسرائيلي- يثير علامات من الريبة حول صدق القصة، خصوصًا وأنَّ مُراسلها دانا شميت Dana Schmidt -الذي نقل الحوار- عُرف عنه تحيزه لبني دينه من اليهود، وقد عمل مراسلًا لفترة طويلة في الشرق الأوسط وكان يُكثر من الأسئلة المفخخة عن وضع اليهود إذا حقق العرب انتصارًا، وهل سيتم رميهم في البحر. من تلك مقابلته مع ياسر عرفات عام 1968 الذي قال له بوضوح: "لن نرمي أحدًا في البحر"[6]. ومع ذلك، فإن مقولة البنا –على فرض صحتها- يتَّضح منها، أن المقصود بها اليهود في الوطن العربي وليس يهود فلسطين.

أما اتهام أمين جامعة الدول العربية عبدالرحمن عزام، فمَبْعَثه كتابات الصحفي الأمريكي الصهيوني إسرائيل جولدبرج -المعروف باسمه المستعار روفوس ليرسي- حيث ذكر في إحداها أن عزام صرح في 15 مايو 1948 -مع بداية حرب فلسطين- بأن الحرب القادمة ستكون حرب إبادة ومجزرة جسيمة، وسيتم الحديث عنها مثل المذابح المغولية والحروب الصليبية[7]. لكن بالعودة إلى الوثائق يتضح أن هذا التصريح يعود إلى أكتوبر 1947، وكان عبارة عن سؤال عن الحرب القادمة في فلسطين، وكان جواب عزام: "إنني شخصيًّا أرجو ألا يضطرّنا اليهود إلى هذه الحرب، لأنها ستكون حرب إبادة وستكون مجزرة خطيرة في التاريخ"[8]. ولقد سلط المؤرخ الإسرائيلي توم سيغف Tom Segev الضوء على اقتباس عزام باشا، وأكد أنه استُخدم خارج سياقه الأصلي من قبل جهاز الدعاية الحكومي الإسرائيلي[9].

ولعل إلحاح الدعاية الصهيونية على تصدير فكرة أن العرب رفعوا شعار رمي إسرائيل في البحر أثناء حرب فلسطين، ما دفع بالمؤرخ الإسرائيلي شاي هازكاني Shay Hazkani صاحب كتاب: "عزيزتي فلسطين" إلى دراسة وثائق تلك الفترة بموضوعية، فقاده بحثه إلى غياب أي دليل -سوى تصريح حسن البنا سالف الذكر- على رفع العرب شعار رمي اليهود في البحر إبَّان حرب فلسطين، فكتب مقالًا في صحيفة هآرتس عام 2022 يقول: "أمضيت أكثر من خمسة عشر عامًا من البحث في مئات الوثائق الحكومية في الفترة من (47/1949)، فلم أعثر على دليل واحد يشير إلى أن عربيًّا قال: سنرمي اليهود في البحر، باستثناء تصريح لحسن البنا[10]. ويستطرد قائلًا: "تلك الاقتباسات المنسوبة إلى عبدالرحمن عزام وغيره غير مدعومة بمصادر موثوقة. وعلى أي حال، لم أجد أي دعوات إلى قتل اليهود لمجرد أنهم يهود، سواء في الدعاية أو المواد التعليمية التي كانت تقدم إلى المُقاتلين العرب"[11].

ولعل ما ذكره هازكاني يؤكده نص محادثات في أكتوبر 1948 أجراها الدكتور محمود فوزي -كان مندوبًا لمصر في الأمم المتحدة وقتها وقنصلًا لها في واشنطن بل اُختير ممثلًا للوفود العربية المشتركة في حرب 1948 في الولايات المتحدة- مع المسؤولين الأمريكان، ذكر فوزي أن الغرب يواصل تسليح اليهود وإمدادهم بالذخائر والطائرات والطيَّارين بالمخالفة لشروط الهدنة، والأمر معروف سواء اعترفنا بذلك رسميًّا أو لم نعترف. إن فرقًا خطيرًا في التسلح بين اليهود والعرب ينمو، ويجب أن يكون لدى العرب ما يكفي من الأسلحة للدفاع عن أنفسهم. ويعلق التقرير الأمريكي: "إنهم لا يطلبون السلاح لدفع اليهود إلى البحر، ما يكفي فقط للدفاع عن أنفسهم"[12].

They are not asking for arms to drive Jews into sea, only enough to defend selves.

في منتصف الستينيات، عاد التوتر إلى المنطقة العربية من جديد، وظهرت الدعاية الصهيونية بشعارها القديم. وكان عبدالناصر والشقيري أكثر من التصقت بهم عبارة: سعي العرب إلى رمي اليهود في البحر، من بين كل المُتهمين القدامى والجدد. وبالنسبة إلى الأخير فإن قصة اتهامه تعود إلى أيام ما قبل النكسة، ففي عمَّان في الثاني من يونيو 1967 حل الشقيري ضيفًا على الملك حسين الذي اصطحبه معه على متن طائرته من القاهرة، وفي مؤتمر صحفي غاص بالمراسلين الأجانب والعرب، سُئل الشقيري عن هدفه من المشاركة في الحرب حال وقوعها، فقال تحرير وطننا من الاحتلال الإسرائيلي. فسأله أحد الصحفيين، وما هو مصير الإسرائيليين، هل تلقونهم في البحر؟ فأجاب: "لا نريد إلقاء اليهود بالبحر، سبق لي عام 1957 أن تقدمت باقتراح إلى الأمم المتحدة دعوت فيه إلى إنشاء وكالة تُعرف بـ"وكالة العودة"، تعمل على تسهيل إعادة الإسرائيليين إلى مواطنهم الأولى. فنحن ضد إسرائيل الدولة ولسنا ضد اليهود. إن اليهود الفلسطينيين يستطيعون البقاء في فلسطين، وكذلك اليهود الذين جاءوا من البلاد العربية، أما اليهود الباقون، فيعودون كما جاؤوا، لقد جاؤوا بالبحر وبالبحر يعودون"[13].

وقد أجرت الصهيونية تحريفًا على تصريح الشقيري ليتحول إلى دعوة إلى إلقاء اليهود في البحر، ولعلنا نلمس صدق رواية الشقيري من خلال تتبع التأريخ المبكر لحرب الأيام الستة في الكتابات الغربية، ونحسب أن أول كتاب أرَّخ للحرب ما وضعه نجل رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، المؤرخ راندولف تشرشل Randolph Churchill وفيه ذكر نص ما جاء في التصريح -كما أورده الشقيري- ولم يذكر الدعوة إلى إلقاء اليهود في البحر[14]. كما حاول المؤرخ الإسرائيلي موشيه شيمش Moshe Shemeshأن يثبت صحة التهمة على الشقيري، لكن أهداب الموضوعية قادته إلى القول: "صحيح أن تصريحات الشقيري كانت بالفعل تعبر عن عداء شديد لإسرائيل، لكنه لم يقل ضمنًا أو صراحة بإلقاء "اليهود الذين بقوا في فلسطين في البحر". وكانت نيته أن أولئك الذين بقوا سيتم ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية، في السفن عبر البحر، بنفس الطريقة التي وصلوا بها إلى إسرائيل[15].

وفي الحقيقة، فإن الشقيري وهو يدلي بهذا التصريح كان يعبر عن رأي آمن به، وهو تقريبًا موقف الهيئة العليا التي رأسها أمين الحسيني وانضم إليها الشقيري عند نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد سلّمت بحق البقاء في فلسطين لأولئك اليهود المقيمين في البلاد منذ ما قبل الانتداب البريطاني دون سواهم، وطالبت بعودة جميع اليهود الآخرين إلى بلدانهم الأصلية[16]. بل إنه نفس الموقف الذي تبنته منظمة التحرير بعد الشقيري في ظل رئاسة ياسر عرفات، ولقد قالها صراحة للرئيس الأمريكي جيمي كارتر في لقاء جمعهما عام 1990: "إن منظمة التحرير الفلسطينية لم يسبق لها أبدًا أن دعت إلى إفناء إسرائيل، الصهاينة هم الذين بدؤوا شعار: "رمي اليهود إلى البحر" ونسبوه إلى المنظمة[17]. والحقيقة أن الأمريكان هم أكثر من روجوا لهذا الشعار، كما سنوضح فيما بعد.

ويعطي لنا فيصل الحوراني في شهادته رواية مهمة في هذا السياق فيقول: "عندما سُئل الشقيري عن مواطني إسرائيل اليهود، أجاب مراسل إذاعة لندن بالقول الذي اعتاد أن يستخدمه: من البحر جاءوا وإلى البحر يعودون، لكن المراسل –الذي يعرف اللغة العربية معرفة تامة ويعرف سياسة منظمة التحرير- زوَّر إجابة الشقيري وصارت العبارة سوف نرميهم في البحر". ويمضي الحوراني في شهادته بالقول: "إنه قابل أستاذًا نمساويًّا كان صديقًا للمراسل البريطاني الذي زور التصريح، وأقر له بأنه زوَّر العبارة متعمدًا وأن رؤساءه عرفوا أنها مزورة"[18]. 

ولعل الوثائق الأمريكية تُمدّنا بدليل قاطع لا يقبل الشك، على تبرئة الشقيري من تلك الفرية. ففي 24 مايو 1967، أي قبل التصريح المنسوب إلى الشقيري، اجتمع وفد بريطاني برئاسة وزير الخارجية جورج طومسون George Thomson في واشنطن بمسؤولين في الخارجية الأمريكية، لبحث تبعات إعلان عبدالناصر إغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية، وفي أثناء الاجتماع قال وزير الخارجية الأمريكي دين راسك Dean Rusk: "إننا لا نستطيع أن نبقى بعيدين عن مشاكل الشرق الأدنى، وأنه لا يمكن السماح للعرب بدفع الإسرائيليين إلى البحر[19]".

Arabs cannot be permitted to drive the Israelis into the sea.

لقد كان راسك يعبر عن الذي سمعته الإدارة الأمريكية من اليهود، حتى قبل قيام دولتهم، وصدَّقت به وصارت عقيدتها في التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي، تبرر به دعمها اللامحدود لإسرائيل.

وقبل الانتقال إلى آخر المتهمين وربما أهمهم جمال عبدالناصر، تجدر الإشارة إلى اتهام الصحفي ألكسندر هورن Alexander Horne-في مقالة حديثة له- الرئيس السوري السابق حافظ الأسد برفع هذا الشعار، فيذكر هورن: "لقد اعترفت صحيفة الجارديان، التي نادرًا ما تكون صديقة للحكومة الإسرائيلية، أخيرا، أنه في عام 1966 أعرب الزعيم السوري حافظ الأسد عن رغبته في إلقاء اليهود في البحر". وكلام هورن يحمل في طياته أدلة بطلانه، فالصحيفة لم تنشر الخبر في حينه كما يذكر، وأما كون الجارديان معادية لإسرائيل فإنه أمر يثير السخرية[20].

على كل، يمكن النظر إلى الرئيس عبدالناصر باعتباره آخر من لحقهم الاتهام بجدية، وهنا التشديد على الجدية، لأن الاتهام طال بعد ذلك حكام هم أبعد ما يكونون عن قول مثل هذه العبارات، كما في اتهام جولدا مائير السادات بأنه يسعى إلى رمي اليهود في البحر. ويعود اتهام ناصر إلى ما بعد نكسة 1967، حيث استخدمتها الدوائر السياسية الأمريكية لتبرير دعمها لإسرائيل وإطفاء طابع أخلاقي على موقفهم من العرب "العدوانيين" الساعين إلى إبادة اليهود. ففي وثيقة للمخابرات الأمريكية في يوليو 1967 تبرر حرب إسرائيل، بخُطب ناصر العدوانية الداعية إلى رمي إسرائيل في البحر[21]. واستمرت الصحف الأمريكية تردد تلك النغمة، ففي مقابلة مع جيمس ريستون James Reston، نائب رئيس صحيفة نيويورك تايمز، بدا ناصر أكثر انفتاحًا على إيجاد حلول سلمية للصراع، فعلقت الصحيفة: "الإسرائيليون منزعجون بعض الشيء من لهجة الرئيس عبدالناصر التصالحية، إن الأمر يبدو كما لو أنهم يفضلون الزعيم المصري بأسلوبه القديم، المهدِّد بدفع الإسرائيليين إلى البحر"[22]. 

لكن بعد رحيل الرئيس عبدالناصر عام 1970 عادت الأبواق الصهيونية إلى استخدام هذا الشعار ضده، ما استفزّ الوزير العُمالي الأسبق في الحكومة البريطانية كريستوفر ميهيو Christopher Mayhew -وكان صديقًا لناصر ومؤمن باعتدال توجهه حيال الغرب- فقرر أن يفضح الأكذوبة الصهيونية، فنشرَ عام 1973 في الصحف البريطانية إعلانًا قال فيه إنه سيقدّم مكافأة قدرها خمسة آلاف جنيه إسترليني لمن يستطيع أن يُثبت أن عبدالناصر دعا إلى رمي اليهود في البحر، وفي عام 1974 كرر العرض نفسه لمن يستطيع أن يثبت أن أي أحد من الزعماء العرب، دعا يومًا إلى رمي اليهود في البحر أو إبادتهم بأي طريقة[23]. يقول ميهيو: "وصل إليَّ عديد من العبارات المزعومة التي قيل إنها صدرت في السابق عن مسؤولين عرب بارزين، وعند تمحيصها ثبت أن جميع هذه العبارات كانت إما عبارات أُسيء ترجمتها وإما أُسيء اقتباسها، وإما أنها صدرت عن عرب لم يكونوا في موقع المسؤولية. ولقد رُفِعت عليَّ دعوة قضائية في المحكمة العليا عام 1976، ما لبث صاحبها أن اضطر إلى سحب دعواه والاعتذار إليَّ والاعتراف علنًا بأنه وبعد بحث طويل، لم يتمكن من إيجاد عبارة صدرت عن أي زعيم عربي مسؤول يمكن وصفها، بأنها تدعو إلى إفناء اليهود"[24]. 

وفي دراسته عن العرب والمحرقة النازية، تعرض جلبير الأشقر إلى اتهام عبدالناصر بالسعي إلى إبادة اليهود فذكر: "إن خطب الرئيس جمال عبدالناصر، التي أمست متاحة على موقعه الإلكتروني، التي تتضمن 1.359 تصريحًا وخطبة لا يوجد فيها أي حديث عن رمي اليهود في البحر، سوى كلمة ألقاها البكباشي عبدالناصر في نادي فلسطين في الإسكندرية عام 1953، وفيها يقدم ناصر تعليقًا ساخرًا على الموقف العربي، في الفترة التي كان يجرى خلالها ترجمة المشروع الصهيوني إلى فعل في ظل الانتداب البريطاني، فقال ناصر: "كنا نقول في اجتماعاتنا وخطبنا سنلقي اليهود في البحر، وبعد انتهاء الخطبة نطمئن، ويذهب كل منّا إلى بيته"[25].

إن هذا الدليل الواهن، الذي يقدمه الأشقر في معرض التندر، يرقى إلى أن يكون شهادة نفي لا إثبات، وما يؤكد ذلك ما ذكره ناصر لريتشارد كروسمان Richard Crossman – عضو حزب العمال البريطاني- في نفس التوقيت في ديسمبر 1953 بالقول: "إن فكرة رمي اليهود في البحر ليست سوى دعاية"[26]. إن عبارة عبدالناصر في خطاب الإسكندرية قريبة من عبارة لأحد المتهمين بالسعي إلى رمي اليهود في البحر، وهو فاضل الجمالي ممثل العراق في الأمم المتحدة. فحسب مدونة شيخ صهيون Elder of Ziyon المؤيدة لإسرائيل فإن جمالي تحدث في جامعة الدول العربية في السادس من فبراير 1955 عن سبب ضياع فلسطين، فقال: "ضاعت فلسطين لسببين أساسيين: الأول أننا خدعنا أنفسنا من خلال التقليل من شأن قوة خصمنا والتفكير في أن اليهود لم يكونوا أقوياء، لقد قال لنا أحد مسؤولي الجامعة إنه مع ثلاث مئة جندي أو متطوع يمكن إلقاء اليهود في البحر. السبب الثاني هو أننا اعتقدنا أننا أقوياء بما يكفي لمواجهة العالم ولكن الحقيقة هي أننا لم نقدِّر قوتنا بشكل صحيح، ولم نكن نعرف أن وراء يهود فلسطين تقف الصهيونية العالمية بمواردها في كل بلد كبير.[27]

إن مثل هذا الحديث، يقال من باب ضرب الأمثال على مقدار تهوين القيادات العربية من قدرة العصابات الصهيونية وسهولة الانتصار، وليس شعارًا رُفع أثناء المعركة. إنها حالة من رثاء النفس وبكاء الحال، ولقد شاعت لدى كثيرين بعد نكبة 1948، فيذكر لنا جان لاكوتير حدثًا شاءت الظروف أن يكون شاهدًا عليه. ففي أوائل عام 1954، عندما قام ثلاثة من قادة النظام الجديد، بينهم عبدالناصر، بزيارة جامعة القاهرة، قوبلوا بصيحات الاستنكار من جانب الطلاب الذين طالبوا بالسلاح لتحرير قناة السويس وفلسطين. وقد ردَّ صلاح سالم –أحد الثلاثة- على الطلاب: عندما كنا في مثل عمركم، طالبنا، نحن أيضًا، بالسلاح، كي يتسنى لنا رمي اليهود في البحر! لكن اليهود هم الذين رمونا"[28]. 

ومع كل الردود التي سقناها -التي تفرض علينا الموضوعية، القول: إنها لم تناقش حالة كل المتهمين بالسعي إلى رمي اليهود في البحر، وإن أتت على أشهرهم·- ظل تناقل تلك الفرية باعتبارها حقيقة، خصوصًا عند عبدالناصر، ولعل شيطنة ناصر تحديدًا ورسم صورة له باعتباره معاديًا للسامية، قامت على أساس مقارنة منهجية جد مثيرة للسخرية من شأنها أن تثير الضحك لولا أنها تذكر في معرض المأساة، وتذهب المقارنة إلى أن ناصر هو هتلر، و"فلسفة الثورة" مثل "كفاحي"، والوحدة بين مصر وسوريا أشبه بضم ألمانيا النمسا، وتحالف ناصر وخروشوف أشبه بميثاق أغسطس 1938 بين هتلر وستالين، وهكذا من المقارنة التي تجعل ناصر عازمًا لا محالة في أي لحظة على إحداث هولوكست عربي لليهود[29]. لكن يبقى السؤال لماذا راجت تلك الفرية بهذه القوة حتى أمست في حكم الحقيقة المقضي بصحتها؟ هذا ما سنجيب عليه في المقال القادم.

[1] أحمد الشقيري، الهزيمة الكبرى، ج 2، دار العودة، بيروت، 2005، ص 300- 301.

[2] Report of the commission on the Palestine Disturbances of August 1929, London, 1930, p. 82.

[3] محاضر جلسات الاستماع للجنة العربية العليا بفلسطين، بيروت، 1937، ص 44.

[4] Dana Adams Schmidt, “Aim To Oust Jews Pledged By Sheikh; Head of Moslem Brotherhood Says U.S., British ‘Politics’ Has Hurt Palestine Solution,” New York Times, (August 2, 1948).

[5] جمع إبراهيم بيومي غانم كل وثائق الإخوان المسلمين المتاحة ولم يذكر ذلك التصريح. للمزيد إبراهيم البيومي غانم، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2011.

[6] Dana Adams Schmidt, Armageddon in the Middle East, New York, 1974, p. 6. 

[7] Rufus Learsi, Fulfillment The Epic Story Of Zionism, New York ,1951, p. 405.

[8] جريدة أخبار اليوم، اجتماع الزعماء العرب عند الملك عبدالله، 11 أكتوبر 1947.

[9] Tom Segev, The Makings of History The Blind Misleading the Blind Haaretz Oct 21, 2011

[10] Shay Hazkani, Who’s Afraid to Reveal the Palestinian ‘Secrets’ of 1948?, Dec. 4, 2022

[11] Ibid.

[12] FRUS, The Near East, south Asia, and Africa, Vol. V, part 2, The Secretary of State to the Acting Secretary of State, Paris, October 20, 1948, p. 1500.

[13] الشقيري، مرجع سابق، ص 304- 305.

[14] Randolph S. Churchill and Winston S. Churchill, Th e Six Day War , London, 1967, 52.

[15] Moshe Shemesh, Did Shuqayri Call for "Throwing the Jews into the Sea" ? Israel Studies, Volume 8, Number 2, summer 2003, pp. 78, 79.

[16] جلبير الأشقر، العرب والمحرقة النازية: حرب المرويات العربية – الإسرائيلية، ترجمة بشير السباعي، المركز القومي للثقافة، القاهرة، 2010، ص 324.

[17] جيمي كارتر، فلسطين السلام لا التمييز العنصري، ترجمة محمد محمود التوبة، مكتبة العبيكان، الرياض، 2006، ص 64.

[18] فيصل حوراني، العلاقات الفلسطينيّة الأردنيّة: في عهد الشقيري، الياقوتة الحوراء للبرمجيات، نسخة إلكترونية، 2019، الفصل السابع.

[19] FRUS , Arab-Israeli Crisis and War, Volume XIX, Memorandum of Conversation, Washington, May 24, 1967, p. 86.

[20] Alexander Horne ,The case for prosecuting ‘from the river to the sea’, spectator, 4 November 2023

[21] CIA Records, Israel A Nation Too Young To Die, July 31, 1967.

[22] The New York Times, Nasser Touches Raw Nerve In Israel , Feb. 22, 1970

[23] Elder of Ziyon (an American pro-Israel blog), Did Arab States Really Promise to Push Jews Into the Sea?,.algemeiner, February 20 2014.

Did Arab States Really Promise to Push Jews Into the Sea? Yes! - Algemeiner.com

[24] كريستوفر ميهيو، نظرة الغرب إلى العرب، ترجمة هشام الدجاني، عدد 201، نوفمبر 1978، ص41- 42.

[25] كلمة البكباشى جمال عبدالناصر في نادي فلسطين بالإسكندرية ١٣/١٢/١٩٥٣

nasser.bibalex.org/TextViewer.aspx?TextID=SPCH-92-ar

 الأشقر، مرجع سابق،، ص 320.

[26] Laura James, Nasser at war: Arab Images of the enemy, Basingstoke, 2006, pp. 7,8.

[27] Did Arab States Really Promise to Push Jews Into the Sea? Yes! avatar by Elder of Ziyon, algemeiner, 20 February 2014.

النص مأخوذ من مذكرات الجمالي، محمد فاضل الجمالي، العراق الحديث: آراء ومطالعات في شؤونه السياسية، 1969، ص 110

[28] Jean Lacouture, Nasser: A Biography, New York, 1973, p. 236.

· هناك متهمون لم تناقش الورقة حقيقة اتهامهم برفع هذا الشعار من عدمه، إما لعدم تواتر الروايات بشأن رفعهم لهذا الشعار، أو لغياب الصفة السياسية والجماهيرية عنهم.

[29] جلبير الأشقر، مرجع سابق،، ص 325- 326.