ثقافات

هشام أصلان

ألعابنا البسيطة.. ذاكرة من رهانات كسبناها

2021.03.01

ألعابنا البسيطة..  ذاكرة من رهانات كسبناها

(1)

لم يكن إبراهيم قد رفع بنطلونه بالكامل عندما عاد النور إلى شارع محمد عباس. كانت أقدامنا الحافية تغرس في الوحل الذي خلفته مياه الأمطار بعدما اختلطت بأتربة الشارع، حيث لا أسفلت يغطي شوارع ورَّاق العرب. كنا في هذه السن المبكرة نستمتع بخلع الأحذية أو الشباشب والمشي حفاة في طبقات الطين العالية. وكان التيار الكهربائي مقطوعًا والظلام مخيم حين فكرنا أنه لا بأس من التبول في أثناء السير، يحمل كل منا، مع حذائه، مجموعة من الكلاب. والكلب هو عصا منتقاة، نحرص أن تكون قوية ومدببة. أيام المطر موسم للعبة الكلاب المشهورة في الحي البسيط.

تبدأ اللعبة بأن يرمي أحدهم عصاه لترشق في الطين، ثم يحاول من عليه الدور، في أثناء رمي عصاه، أن يوقع عصا من سبقه، من حق الفائز أن يحصل على العصا التي أوقعها، غير أنه دائمًا ما تكون هناك عصا جميلة يطمع الجميع في الفوز بها. كثيرًا ما كنت أرجع إلى البيت بحزمة من عصيان تحمل بقايا طين، بينما لم يعرف أحدنا سبب تسمية العصيان بالكلاب. وأنا أتذكر تلك اللعبة دائمًا، كلما انتشرت، على فيسبوك، صور الأطفال من أوروبا، مع دخول الشتاء، وهم يبنون رجل الثلج ويقذفون بعضهم البعض بكرات الجليد.

(2)

لا أستطيع تحديد اللحظة الزمنية التي انتقلت فيها لعبة البلياردو من الأحياء الراقية لتنتشر بين حواري إمبابة ووراق العرب حيث أسكن. ولكن أتذكر يوم داهم رجال الشرطة الصالة القريبة من البيت وفتشوها، وعندما لم يجدوا فيها شيء ممنوع راحوا يتحرون البطاقات الشخصية قبل أن يأخذوني إلى البوكس نظرًا إلى أنني لم أكن أحمل بطاقة. بعد قليل ناداني عسكري لأنزل من البوكس، وقادني إلى داخل المقهى المجاور لأجد أبي جالسًا مع الضابط. سألته بتعالي مصطنع عما أتى به:

- الموضوع بسيط وكان هايخلص إنت إيه اللي جابك؟

نظر إليَّ الضابط بحدة مؤكدًا أن الموضوع لم يكن سينتهي كما أظن وأن عليَّ أن "أتكلم عِدِل، واشكر أبوك اللي حطيته في موقف زي ده". ونظر أبي إلى الضابط وهو يشاور عليَّ قائلًا: "اللي قدامك ده عنده امتحان الصبح".

كنت قبل هذه الواقعة بسنوات قليلة، أرتدي أفضل ملابسي، لأذهب مع الأصدقاء إلى حي الكيت كات عند أول إمبابة لنستقل المعدية التي تعبر بنا النيل إلى حي الزمالك، حيث صالات البلياردو لا تتوفر إلا في الأحياء الأرستقراطية، وكان لا بد أن يعمل كل منا على توفير مبلغ معقول لنستطيع الخروج، وهو ما لم يكن متوفرًا لجميع أبناء الحي البسيط، ثم بين ليلة وأخرى انتشرت صالات البلياردو في وراق العرب، بل انتشرت الطاولات نفسها في الحواري أمام البيوت دون صالات، لتحل محل طاولات البنج بونج، وباتت الأسعار في متناول الجميع، كما لم يعد ضروريًا أن يرتدي الواحد أفضل ملابس الخروج للعب "جيمين بلياردو جنب البيت".

(3)

منذ انتقلت من إمبابة إلى المقطم لم آكل القصب، ربما لم آكله حتى قبل تركي إمبابة بسنوات، والمسألة ليست بسبب قلة بائعيه، ولكن بسبب أنني لم أتعود شرائه ولكن كسبه من المراهنة. في تلك الأيام كان سعر عود القصب الكبير لا يتجاوز الربع جنيها، كنا نذهب إلى البائع ونتراهن على كسره إلى عقل بحركات مختلفة، رميه مثل رمح إلى مسافة بعيدة مراهنين على أنه سينزل إلى الأرض مكسورًا إلى عدد من العقل، أو بضربات من سيف اليد، أو بخبطه على الركبة. بعضنا كان أكثر خبرة وشقاوة فيخبطه بالرأس، الأقوى كان يراهن على ضم عدة عقل إلى بعض وكسرها، تراهن البائع وتأخذ العود مجانًا أو تدفع ثمنه ولا تأخذه. أحيانًا كان الرهان يقوم فيما بيننا، أحدنا يدفع ثمن العود والآخر يكسبه مجانًا، ما كان يضمن للبائع عدم الخسارة. والمسألة لا تقتصر فقط على القوة البدنية، لكن الخبرة تلعب دورًا كبيرًا في المسألة. فعلى سبيل المثال، كلما كان العود صلبًا كان كسره أسهل، وهي مسألة لا يعرفها كثيرون؛ فيتصورون أن العود اللين يسهل كسره قبل أن يتفاجئون بأن ينثني ما بين العقلتين وتتشقق القشرة ليخرج بعض من عصارة القصب ولكن دون أن تنفصلا عن بعضهما تمامًا ويخسر الرهان، بينما لا يحتاج العود الصلب الجاف سوى خبطة ليست بالضرورة قوية، ولكن في المكان الصحيح، لتنفصل العقلتين عن بعضهما.

بين عقلتي القصب يوجد نتوء صغير يسمى "البِز"، كان صاحب الخبرة الأكبر يستطيع أن يزيله بأظفره دون أن يلتفت المنافسين، فيسهل عليه كسره ببساطة أكبر. لم أذق قصبًا أكثر حلاوة مما كسبته في المراهنات، ذلك الذي عدت حاملاً عقله إلى البيت، بينما لم يخرج من جيبي الربع جنيه.

(4)

كلٌ من ألعاب طفولتنا كان له موسم، لم يفهم أحدنا، قط، معايير تحديد هذا الموسم. أنت تجد أن الجميع فجأة يلعب الكلاب أو القصب أو البلي أو الأساتك. الرابط الوحيد بين هذه الألعاب أنها مرتبطة دائمًا بالمراهنة، من يخسر يدفع حق متعة الفائز، متعة الأكل أو اللعب أو الجمع والاقتناء، في الأساتك كنا نتراهن برفَّة العملة المعدنية، وكنا نصنع حبلاً من الأساتك التي فزنا بها، صاحب أطول حبل هو الأمهر بطبيعة الحال. حتى في لعبة الطائرات الورقية، لم يكن الأمر متوقفًا عند الاستمتاع بإمساك الخيط حيث تعلو في السماء والفرجة عليها؛ فلا توجد أي متعة في ذلك، المتعة الحقيقية كانت في الاشتباك والمعارك فيما بين اللاعبين بها. والطائرات الورقية كانت، ولا تزال، أحب الألعاب الشعبية إلى قلبي. هي اللعبة الوحيدة القادرة، فور أتذكرها، أن تعيدني إلى كل تفاصيل المكان والزمان. تعيدني إلى شرفة بيتنا القديم الصغيرة، والتي زاد من ضيقها حبال ملفوف عليها لبلاب وأصص ريحان مرصوصة على الأرض، وزلعتي فلة وياسمينة ألفتهما الحشرات وتختبئ فيهما الفئران أحياناً. أمسك طرف خيط بينما في الظلامتتوارى الطائرة، تلمح بصعوبة لمعة ذيلها المصنوع من أكياس البلاستك، وطرف الخيط يشد ويرخي في يدك، حيث صاحب البيت يعترض على اللعب بها فوق السطح.

البيت أعلى بيوت الحي، ويستطيع الواقف فوقه أن يكشف أسطح البيوت الصغيرة المجاورة، بالحيوات الكاملة فوق أسطحها، والتي غالبًا ما تشغلها نساء يمارسن الأعمال المنزلية بملابس تُظهر أكثر مما تخفي. 

كنت من أمهر أولاد الحي في صناعتها واللعب بها. والمهارة ليست أن ترتفع الطائرة في السماء، ولكن في تلك المعارك التي بينك وبين الطائرات الأخرى وعوامل الانتصار فيها، من اختيار نوع الخيط، مرورًا بتكسير عدد من الأمواس وربطه في ذيل الطائرة حتى إن اشتبكت مع أخرى تساهم الأمواس في قطع الخيط الآخر. عشت سنوات كثيرة أنتظر الانتقال إلى بيت في منطقة واسعة المساحات توفر حرية اللعب بالطائرة. كنت أعلم أن هذه رغبة لن تزول بالتقدم في العمر.

لم تزل الرغبة بمرور السنين، وانتقلت إلى حي أوسع يسمح بصنع طائرة ورقية واللعب بها، لكن الحي الجديد لم يكن به من يمارس نفس اللعبة، ولم يعد هناك معنى لأن أقف ماسكًا الخيط وفي نهايته طائرة وحيدة في السماء. وأدركت أن بعض الأحلام يستحيل تحقيقها ولو سمحت ظروفك، ذلك أن تحقيقها يرتبط بوجود شركاء بعينهم، وإن كانت علاقتك بهؤلاء الشركاء ليست سوى معركة دائمة بينكما.