تحقيقات
دينا عزتمعاناة لقمة العيش: حوارات مع حنان وحامد وحسن
2025.03.08
مصدر الصورة : آخرون
ماذا فعلت موجات التعويم بموائد إفطار المصريين في رمضان؟!
لم تجد حنان حلًّا آخر من أن تقبل بمهام تنظيف منازل بعض الميسورين في حي مصر الجديدة. تركب توكتوك من منزلها في دار السلام حيث تعيش مع زوجها وأبنائها الثلاثة يومي الجمعة والسبت لتصل إلى محطة المترو ثم تركب المترو لتصل إلى وجهتها.
"ما كانش في حل تاني، أنا وجوزي شغالين والولاد بيشتغلوا في الصيف والفلوس مش بتقضي أي حاجة، كل حاجة بقت غالية وكل يوم العيشة أصعب والحاجات أغلى".
هكذا تفسر حنان الثلاثينية، الحاصلة على بكالوريوس خدمة اجتماعية قرارها بقبول ما لم تكن تود أو تتصور يومًا أن تقبل به.
حنان هي أخت لثلاث فتيات، ولدت في حي دار السلام الذي ما زالت تعيش فيه بعد زواجها. والد حنان المتقاعد الآن كان يعمل موظفًا في وزارة التربية والتعليم. والدتها لم تحصل على شهادة جامعية ولم تكن تعمل أبدًا، قبل أن تقرر أخيرًا أن تستغل كفاءتها في الخياطة لتحسين دخل الأسرة الذي تراجع كثيرًا مع وصول رب الأسرة إلى نهاية سنواته خدمته الحكومية، التي تمكن من خلالها، على التغلب على كثير من الصعوبات، من ضمان حصول بناته الأربع على قدر معتدل من التعليم. تقول حنان:
"أبويا كان نفسه إن يحسن لنا (وضعنا) شوية، وشقي علينا الصراحة.. بس ما كانش يفتكر إن ييجي يوم إن بنته تروح تنضف في البيوت علشان تكفي مع جوزها مصاريف الشهر، وبالعافية كمان".
قرار قبول حنان العمل في مهام التنظيف جاء تاليًا لقرارها القبول بالالتحاق بإحدى شركات التنظيف لتحصل من خلالها على مرتب ثابت، أفضل من ذلك الذي كانت تحصل عليه من خلال عملها بائعة في أحد المحلات. وبعد شهور من التحاقها بشركة التنظيف وعملها في تنظيف أحد المقار الحكومية البعيدة عن مكان سكنها، أخبرتها إحدى زميلاتها بأن هناك من يبحث عن مساعدات لتنظيف المنازل.
كان شرط القبول عندها أن تكون المنازل التي تعمل فيها بعيدة تمامًا عن نطاق سكنها وأن تكون هناك سيدة متواجدة باستمرار من لحظة وصولها لأداء عملها وحتى انصرافها. تشرح حنان أن الشرط الأول يتعلق بأبنائها الذين وصل أكبرهم إلى التعليم الجامعي ولا تريد لهم الإحراج المتعلق بطبيعة عملها غير الرسمي. أما الشرط الثاني فهو لراحتها هي وللحصول على قبول زوجها، الموظف بأحد المصانع والذي يؤلمه كثيرًا أن زوجته تضطر إلى العمل في التنظيف سواء في أحد المقار الحكومية البعيدة أو في منازل البعض.
في كل الأحوال، كانت حنان قررت قبل الانتقال من عملها بائعة في أحد المحال في المنيرة أن ترتدي النقاب بحيث لا يتعرف عليها أحد إن رآها متجهة إلى عملها الجديد. وتقول:
"أنا مش باخلع النقاب من على وشي أبدًا".
فهي تغطي وجهها قبل الخروج وتبقي وجهها تحت النقاب حتى أثناء عملها.
لم يكن هذا الأمر بالمقبول، خاصة من قبل شركة التنظيف التي ارتابت في سلوك حنان وكادت ترفض قبولها لولا أن شرحت ظروفها وأحسنت عملها. كذلك لم يكن الأمر معتادًا لسيدات المنازل التي تعمل لديهن يومي الجمعة والسبت عندما لا يكون عليها الذهاب إلى عملها.
في النهاية، بحسب ما تقول، كان عليها أن توازن بين سعيها مع زوجها لضمان حد معقول من الغذاء ومصاريف التعليم لأبنائها وبين أن تتسبب لهم في:
"عقدة نفسية إن العيال يقول واحد لهم إن أمك بتنضف في البيوت".
تقول حنان إنها وزوجها، لم يكن لديهما مشكلة في العيش "مستورين" في بداية حياتهما الزوجية وحتى بعد إنجاب الأبناء الثلاثة.
المعاناة بدأت قبل نحو عشرة أعوام، وأخذت منحنى تصاعديًّا مع توالي موجات التعويم التي كان أولها في نوفمبر 2016 والتي صعدت بسعر صرف الدولار من نحو ثمانية جنيهات إلى ضعف ذلك. حنان، التي كانت تفكر في التوقف عن العمل لرعاية الأبناء الثلاثة، اتفقت مع زوجها حامد على أن يتم تقليص المصاريف الشهرية برفع بعض المشتريات وقصر الاستهلاك على بعض آخر. كما هو متوقع تراجع الإنفاق على اللحوم والدواجن والأسماك مرات ومرات وتراجع استهلاك حنان وحامد من الفاكهة والجبن والألبان لصالح الأبناء، وتوقف الاثنان بالكلية عن شراء أي ملابس جديدة لأنفسهما تحت أي ظرف.
ومع كل هذا لم تستقِم الأمور أبدًا واضطر حامد، الحاصل على بكالوريوس تجارة، أن يقبل بالعمل مساءً في أحد المطاعم كاشير، اختار هو الآخر أن يكون المطعم بعيدًا جدًّا عن منزله. ويقول: "كاشير مش شُغلانة وحشة يعني، أحسن من اللي حنان فيه".
ويقول حامد إن عمله في المطعم سمح له بتحسين نوع الأكل الذي تحصل عليه الأسرة لأنه يحصل مرة كل نهاية أسبوع على وجبة جيدة بسعر زهيد جدًّا يأخذها لأبنائه. لكن حامد لم يخبر أبناءه عن طبيعة العمل الإضافي واكتفى بالقول إنه يعمل لساعات أطول.
ومع هذا لم يتمكن حامد -وهو ما يؤلمه جدًّا- من التكفل بمصاريف أسرته أو الحيول دون أن تترك زوجته عملها بائعة في أحد المحال، لا لتتفرغ لأسرتها حسبما كان يود، ولكن للقيام بأعمال يراها لا تليق بابنة موظف وزوجة موظف.
ومع كل هذا، عندما يأتي شهر رمضان الذي يحتفل به المصريون بتنوع، كل على قدر استطاعته في ألوان الطعام، لم يعد بمقدور حنان وحامد توفير تنوع معقول من الأطعمة إلا من خلال اللجوء إلى إحدى المؤسسات الخيرية للحصول على مساعدات غذائية يتم توفيرها خصوصًا لشهر رمضان، إلى جانب ما يحصل عليه من خلال عمله في المطعم الذي أصبح يتطلب منه الغياب عن مائدة إفطار الأسرة معظم أيام شهر الصيام، وما تجلبه حنان من منح يقدمها أصحاب المنازل التي تساعد في تنظيفها.
يقول حامد إن الموضوع كان "صعب قوي لما حنان رجعت يوم جمعة آخر النهار ومعها أكل" منحته لها السيدة التي تساعدها. كان الطعام الذي جلبته حنان تم طهوه في نفس اليوم في أوانٍ لا يعاد استخدامها.
تقول حنان إنها حصلت على صينية مكرونة باشميل وصدور دواجن محمرة ورغم ترددها في جلب الطعام إلى أسرتها فإنها قررت أن الطعام تم إعداده لها ضمن قائمة غذاء الأسرة التي تساعدها، وأن تغليفه تم بعناية ونظافة أمام أعينها وأن الأمر كما قالت لها السيدة التي تعاونها عبارة عن "عزومة بسيطة". قررت حنان أن الوجبة ستدخل السرور على نفس أبنائها ولكنها تألمت جدًّا عندما بكى حامد لرؤيتها وهي تخرج الأطباق الألومنيوم من حقيبة تسوق بلاستيكية.
لم يطلب منها حامد ألا تعود إلى قبول أي "عزومة" إضافية، ولم يعلق بقليل أو كثير عندما عادت حنان في آخر جمعة سابقة لرمضان العام الماضي، وهو أول عام لها في مهام التنظيف المنزلي، وهي تحمل أطباق لحم مفروم وأكياس أرز منحتها لها نفس السيدة. قرر حامد أن لا فرق كبير بين أن تجلب حنان "عزومة" أو "هدية رمضان"، بحسب تعبير السيدة نفسها، وبين ما يجلبه من المطعم الذي يعمل فيه كاشير، وفي كل الأحوال كان ذلك سابقًا لرمضان الحالي عندما قرر حامد وحنان أن لا مفر من القبول باللجوء إلى إحدى الجمعيات الخيرية للحصول على الدعم الغذائي، بل إن حنان قررت أن تحصل على دعم إضافي تقدمه لوالدتها دون إخبار والدها:
"إللي ممكن يروح فيها لو عرف إننا بقينا بنشحت لقمتنا".
لكن والد حنان وأبناءها هي وحامد يبقون في وضع أفضل من حسن الذي قرر أن يقبل بالعمل في مهمة تعليق الإعلانات عالية الارتفاع عوضًا عن العمل في صيدلية فترة المساء لأن دخل العمل الأول ثلاثة أضعاف دخل العمل الثاني.
كان حسن يود لو يعمل في الصيدلية، خاصة وأن حلمه كان الالتحاق بكلية الصيدلة وهو حلم لم يتحقق بسبب الوفاة المبكرة للوالد، الذي كان يعمل سائقًا بإحدى الشركات، لمساعدة الأم في الإنفاق على أختين أصغر. عمل حسن في تقديم المشروبات بأحد المقاهي في حي المرج، وعمل أيضًا في تغليف الساندويتشات في أحد المطاعم الصغيرة، وقرر تأجيل دراسته الجامعية حتى يتكفل بأمه وأختيه.
وتمكن حسن من الحصول على دخل ساهم مع المعاش المستحق لوالده من الشركة الخاصة التي يعمل بها على تغطية المصاريف الأساسية للأسرة، رغم ما حل بحياة الأسرة من تراجع في مستوى حياتها، المحدود أصلًا، خاصة مع موجات التعويم التي حولت سعر الصرف من نحو ستة جنيهات للدولار، عند وفاة والده، إلى ما يزيد على خمسين جنيهًا اليوم.
في خلال قرابة العشرين عامًا الماضية منذ وفاة الوالد تراجعت حياة أسرة حسن كثيرًا. غابت أصناف من الطعام عن مائدة الأسرة بصورة تدريجية إلى حيث أنها أصبحت لا تظهر إلا في المواسم مثل رمضان أو من خلال تبرعات لجأت الأم إلى الحصول عليها من خلال جمعية خيرية.
بعد الموجة الأولى من التعويم في 2016 التي تزامنت مع استعداد حسن لزواج أخته الأولى، التي اكتفت بالشهادة الثانوية وقررت مساعدة والدتها في تجهيز الخضراوات للطهي لبيعها من خلال منفذ للجمعية الخيرية التي تحصل الأسرة منها على الدعم، قرر حسن أن حلم الدراسة الجامعية لم يعد له مكان في حياته. واستمر في العمل في مجالات الخدمة في المقاهي، البناء، وتنظيف السيارات، وكان يشعر بالسرور "والعوض لما الواحد يدخل على أمه وأخواته في موسم زي رمضان وهو جايب شوية حاجات"، خصوصًا في حال ما إذا كان إفطار رمضان سيتسع ليشمل الأخت الأولى التي ستأتي للإفطار مع زوجها وابنهما أو كان خطيب الأخت الثانية، التي سارت على درب الأولى في الاكتفاء بالشهادة الثانوية ومساعدة الأم في تنظيف وتجهيز الخضراوات.
لكن العامين الماضيين كانا بالغي القسوة بالنسبة إلى حسن، الذي يستهلك دخله في دعم أسرته:
"من الأساس أكل ودوا ويعني لما جهزنا فاطمة على الضيق وبنجهز زينب".
كان عليه أن يفكر في مسارات مختلفة، لم يعد دخله من عمله صباحًا في تقديم الطعام بأحد المطاعم ومساءً بإحدى محطات الوقود يغطي الأساسيات، يقول حسن في أسى:
"أنا مش باقول لحمة ولا غيره طول السنة، لكن رمضان هو الشهر الوحيد في السنة، ومش باتكلم إن كل يوم ولا كده، لكن بردو يوم آه ويوم لأ ولا يومين في الأسبوع، مش كتير يعني والواحد لا كمل تعليمه ولا اتجوز".
كان بإمكان حسن أن يحصل على وظيفة مساعد بيع في إحدى الصيدليات لمدة ثلاثة أيام في الأسبوع في فترة الليل المتأخر:
"لكن دخلها ماكانش يغطي".
وبالتالي كان قبوله بالعمل في تعليق اللافتات الدعائية رغم خطورته هو الحل الوحيد.
بدأ حسن مهمته الأولى في نهاية يناير، واستطاع أن يوفر ما يكفي حتى تقوم والدته بدعوة أخته وأسرتها وأسرة خطيب أخته إلى مائدة إفطار كريمة لم تخلُ من الحلوى التقليدية، كنافة وقطايف.
يشعر حسن بالسرور لما قام به ولكنه لا يستطيع أن يصدق أن مثل هذه المائدة الرمضانية التي كان الوالد يستطيع أن يوفرها للأسرة من عمله قبل عشرين عامًا والتي كانت الأسرة تحصل عليها بقدر من المساعدات "من هنا ولا هنا" حتى قبل عشرة أعوام صارت تستحق كل هذا العناء.
ترشيحاتنا
