عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

رؤى

راجي مهدي

مذبحة العلويين: سوريا إلى أين؟!

2025.03.23

مصدر الصورة : AFP

مذبحة العلويين: سوريا إلى أين؟!

 

استولت هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) على الحكم في دمشق، على خلفية فرار بشار الأسد وتداعي البعث وما تبقى من الجيش السوري. غير أن هذا الاستيلاء جاء في ظروف تجعل وصفه باستيلاء ثوري على السلطة أمرًا صعبًا. أول هذه الظروف هو طبيعة هيئة تحرير الشام وارتباطاتها ورؤيتها للوضع السوري. وثاني تلك الظروف هو أن الهيئة التي كانت تتمركز في إدلب مع غيرها من الفصائل المتشددة، كانت غير قادرة على الفكاك من الطوق الذي فرضه النظام عليها منذ عام 2017، هذا الطوق الذي صار في الإمكان كسره في ظل مشهد إقليمي شديد التعقيد، على خلفية عملية طوفان الأقصى التي أسفرت عن تقويض قدرة حزب الله القتالية، وبالتالي تقويض القدرة الإيرانية على مواصلة إسناد بشار الأسد عسكريًّا، أضف إلى هذا أن النظام السوري نفسه كان يقع في محور التجاذبات الإيرانية الروسية، ما جعل عملية إنقاذه مستحيلة. وبدون قتال حقيقي اجتاحت قوات الهيئة حلب وحمص وحماة وتداعت بقايا الجيش السوري بسرعة لا يمكن ردها إلى قوة هجوم الهيئة والفصائل الحليفة.

ومن غير الدقيق، قبل هذا كله، الحديث عن ثورة سورية كامنة في مكان ما طوال 14 عامًا، فما بدأ كانتفاضة سورية ضد نظام البعث في مارس 2011، انتهى تحت أقدام آلة القمع البعثية الجبارة ودفع أطراف إقليمية نحو عسكرة النزاع في سوريا، اعتمادًا على فصائل الإسلام السياسي السورية وغير السورية. عسكرة تولت ممالك الخليج وتركيا والولايات المتحدة أمر تدريبها وتسليحها وتمويلها، في المقابل تدخلت إيران وحزب الله وتلتهما روسيا لترتسم ملامح صراع جيوسياسي ونزاع على النفوذ الإقليمي غابت فيه المطالب الثورية للشعب السوري.

طُرد السوريون إلى المنافي، وطورد الوطنيون والديمقراطيون الثوريون الذين وقفوا ضد العسكرة كي لا تقع بلادهم تحت سنابك الخيول الإقليمية، وغُيبوا بالموت أو الاعتقال أو الضرب أو الاختفاء القسري، ليصبح الصراع بين المحور الروسي الإيراني والمحور الأمريكي التركي الخليجي، وعلى السطح بدا الصراع امتدادًا لثنائية سنة – شيعة، أو سنة - علوية.

بسقوط البعث وفرار رأسه، اعتبرت الفصائل الإسلامية أن سوريا عادت للسنة مرة أخرى، يبدو هذا الاعتبار وكأنه الغاية من إسقاط البعث، على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، يبدو الجولاني ماضيًا فيما كان بشار الأسد ماضيًا فيه منذ استلامه الحكم، المزيد من التوجه اليميني نحو التحرير الاقتصادي، عبر رسائل تطمينية للمؤسسات النقدية الدولية، بالترافق مع بناء هيكل سياسي استبدادي تمثَّل في تنصيب الجولاني رئيسًا لسوريا، والحديث عن مرحلة انتقالية لمدة خمس سنوات، إعلان دستوري يحصن رئيس الجمهورية ضد العزل، حل أحزاب الجبهة التقدمية، هذا مسار لا يفضي في النهاية سوى إلى إعادة إنتاج نسخة رديئة من نظام الأسد. فالحقيقة أن استبداد الأسد لم يكن هو المشكلة في حد ذاته بالنسبة إلى القوى الحاكمة في سوريا اليوم، بل لأنه استبداد علوي بالوصف الطائفي، وتلك هي القاعدة التي حشدت لها المعارضة السنية، هنا نواجه خطر الانجراف إلى استخدام لغة طائفية، لكن في الحقيقة ليس الغرض من إسقاط الأسد هو بناء دولة سنية سياسيًّا، بل بناء دولة خارج لعبة النفوذ الإيراني ولو كانت ملحدة.

حرب النفوذ تبقى حرب نفوذ، لا مكان فيها لمطالب السوريين، فسواء كان الأسد أو كان الجولاني فالسوريون كانوا وما زالوا مادة للإخضاع. صحيح أيضًا أن الأسد الأب والابن لم يستخدما اللغة الطائفية في خطابهما، البعث نفسه كان ضد الطائفية حسب دستوره الداخلي، غير أن الأسد الأب في بناء هيلمانه كان قد ارتكز على ولاء العلويين وحتى على أبناء عشيرته، ولا يساعد كثيرًا في دحض هذه الحقيقة ما يروجه أنصار البعث حول أن المناصب الكبيرة في نظامي الأب والابن كانت في أغلبها للسنة، فشبكات النفوذ والولاء كانت تعتمد على العلويين، غير أن هذا أيضًا لا يعطي نظام البعث وصفًا طائفيًّا إذ إن استبداده طال كل السوريين والتفاوت الطبقي كان يمس جميع الطبقات الشعبية السورية، الجميع عانوا من اللبرلة التي تبناها بشار الأسد والتي كانت دافعًا رئيسيًّا لاشتعال الانتفاضة ضد البعث من الأساس.

هنا من الضروري أن نميز بين الخطاب أو الشعار وبين الممارسة، فصحيح أن هيئة تحرير الشام وهي منظمة طائفية بالنشأة والهدف ترفع شعار تمكين الإسلام في سوريا، إلا أن هذا لم يكن سوى المدخل لحشد السنة في سوريا وخارجها حول مشروع إقليمي عنوانه تمزيق النفوذ الإيراني وضرب التمدد الروسي، وصحيح أن النظام كان يتمسك بشعار الممانعة، غير أنه فشل في أن يمارس تلك الممانعة خارج إطار التحرك كبيدق إيراني، ينطبق هذا بشكل تام على حقبة بشار، بينما كان حافظ الأسد يحاول أن يجعل سوريا رقمًا ثابتًا مستقلًّا في الصراع الإقليمي.

ماذا لدينا الآن؟ سقوط نظام قمعي وطبقي عتيد، وهو أحد مطالب الانتفاضة السورية، لكن هذا السقوط في حد ذاته ليس ثوريًّا لأن بديله لم يتشكل في الحقيقة كتطور سوري مستقل بل كنتاج مجهود قوى إقليمية، هذا لا يحيلنا إلى تفسير سقوط النظام بمؤامرة خارجية، ففي الحقيقة ليس فيما حدث أي مؤامرة بل كان في العلن وعلى المكشوف، حالة التعايش التي شهدتها خريطة سوريا وثباتها النسبي منذ 2017 تقريبًا، كانت نتاج تفاهمات مكشوفة بين الروس والأمريكيين والأتراك والإيرانيين، البعث سقط لأنه كان منخورًا من الداخل وفقد طاقته الثورية وقاعدته الشعبية تدريجيًّا، منذ انقلاب حافظ الأسد على صلاح جديد، البعث سقط لأنه كان قد خلق مبررات سقوطه، لكن الصيغة التي سقط بها ليست امتدادًا ثوريًّا لانتفاضة شعبية، فلم نشهد زحفًا شعبيًّا على دمشق، بل طريقًا مفتوحًا من إدلب إلى دمشق في لحظة مفصلية في المشهد الإقليمي.

هنا لدينا خريطة معقدة، بقايا نظام مكروه شعبيًّا، تنظيمات إرهابية مدعومة خارجيًّا، مشهد إقليمي تعيد إسرائيل تشكيله بالكامل بالشراكة مع الإمبريالية الأمريكية، ليست في هذه اللوحة أي مؤشرات ثورية، بل هي لوحة تحتوي على تمدد إسرائيلي في الأراضي السورية، تواجد لقوات تركية وأمريكية وفصائل من الإيجور والطاجيك وأيضًا قاعدة عسكرية روسية في حميميم، لدينا بقايا السلطة الساقطة ولدينا من جديد مشهد 14 عامًا مرسوم على الأرض، إيران وحزب الله كشيعة ضد المحور الخليجي التركي كسنة.

لذا لم يكن غريبًا أن تحصل المجازر الأخيرة ضد العلويين في الساحل، إنها ليست فقط نتاج أيديولوجيا الإسلام السياسي الحاكم في سوريا اليوم، وليست فقط نتاج 14 عامًا من اقتتال إقليمي بالوكالة في سوريا اتخذ صبغة طائفية شكلًا، بل ﻷن بقايا النظام قد قررت تنفيذ مغامرتها انطلاقًا من الساحل العلوي الأغلبية، وكأنها بذلك تمنح الجلاوزة الجدد سياقًا لحمَّام دم طائفي، يعمقون به دعايتهم لسوريا سنية دون بقية مكوناتها، سواء بالتطهير أو التخويف بالتطهير، سياقًا كان هؤلاء يسعون إلى خلقه، فمنذ حماة 1982 وهم يحاولون الترويج لمظلومية سنية، رغم أن المظلومية كانت سورية من الأساس، الأسد لم يسحق حماة لأن من تمردوا سنة، بل سحق حماة لأنها كانت معقلًا لتمرد، فلو كانت حماة تمردًا شيوعيًّا لعوملت بنفس القسوة أو أشد.

السلطة الجديدة قيد التشكل، المتعاطفون معها يطالبون بمنحها الوقت لفرض سيطرتها على أرضها، قبل الحديث عن مواجهة التوسع الصهيوني، أو المطالب الاجتماعية والسياسية، وهم في هذا يفترضون أن تلك السلطة تتشكل في فراغ، أو وفق التصور المستقل لقادتها، بالرغم من أن التصور المستقل لقادتها لا يبشر بأي مسار تقدمي في سوريا، سواء من جهة تبنيها علنًا خيار اقتصاد السوق، أو عدم إعلان موقف ولو شفهي تجاه ما تقوم به الولايات المتحدة وإسرائيل من حراثة الإقليم كله. بالرغم من هذا أو بسببه فإننا نقول إن السلطة الجديدة هي تعبير عن مصالح إقليمية بديلة، حلت محل ما مثله البعث من مصالح إقليمية في مرحلته الكلي. السلطة الجديدة في سوريا هي سلطة وراثة النفوذ الإيراني، والجهات التي تتنازع هذه الوراثة هي تركيا وإسرائيل والممالك الخليجية. إدراك تلك الحقيقة مهم لقطع الطريق على أوهام تدور حول احتمالية أن يقوم الجولاني بانعطافة نحو تبني نموذجًا تعدديًّا ديمقراطيًّا يحافظ على سوريا موحدة، تعيش فيها الرايات جميعها. ليست لدى الجولاني تلك الرفاهية، فهو على رأس تجمع من الجهاديين قاتلوا أساسًا من أجل تلك اللحظة التي يسمونها "فتح سوريا"، فهذا الفتح يلزمه تعميق الطائفية، من أجل شحن كل السنة السوريين في القطار الجديد، على أرضية التهديد الذي تمثله العلوية واحتمالية عودتها. فإذا كانت سلطة البعث قد ارتكزت على عدم الحسم في قضية الجولان، وبالتالي إخضاع السوريين لمعركة لم يسعَ إليها البعث يومًا، فإن الجولاني يدرك أن لا ديمقراطية حقيقية ستضمن له الاحتفاظ بالسلطة، بل يمكنه فعل هذا فقط على أرضية تجييش طائفي، مخوفًا السنة من العلويين، بصفتهم طائفة تمثل المعقل السياسي للأسدية التي سامت السنة العذاب. الأسدية المرفوضة هنا ليست الأسدية التي قوَّضت لُحمة المجتمع السوري وسحقته بكل تكويناته، ولا الأسدية باعتبارها ممثلة الرأسمال الكبير الذي ولغ في الدم السوري حفاظًا على مصالحه، تعريفها هنا يقتصر فقط على طبيعتها الطائفية في مواجهة السنة. أما الرأسمال الكبير فلازال موجود ومسيطر ولديه مصالح سيقاتل من أجلها تحت رايات طائفية، وبدلًا من الراية الروسية الإيرانية ستأتي الراية التركية الأمريكية.

غير أنه من الضروري ألَّا نغفل أنه في قلب المشهد السوري المعقد، توجد الجماهير السورية التي اكتوت بحكم البعث طوال عقود، ثم اكتوت بنيران حرب أهلية مدمرة خرجت منها في وضع أكثر قسوة، وأُهملت خلالها مطالبها الثورية وغابت وراء لهيب حرب الوكالة. وهي الجماهير التي لا زالت صاحبة المصلحة في الحفاظ على وحدة سوريا، وإنجاز استقلالها الوطني وتحرير ترابها من الاحتلالات كافة، وبناء اقتصادها المستقل وديمقراطيتها السياسية. كلها مهام معقدة في ظرف محلي وإقليمي ودولي معقد، لكن إنجازها ضرورة حتمية لتلافي تمزيق سوريا وتحويلها إلى كانتونات طائفية ومناطق نفوذ، وفناء خلفي للنفوذ الصهيوني، الذي يسعى إلى ترتيب إقليمي يحسم قضية أمن إسرائيل في المدى البعيد.

إن نهوض الشعب السوري رهن بتنظيم قواه خارج نطاق المحدودية الطائفية، والكفاح من أجل بناء نظام سياسي ديمقراطي حقًّا، لا يستبدل بباستيل البعث باستيلات هيئة تحرير الشام. وفي هذا الصدد يجادل البعض حول أن الحفاظ على وحدة سوريا يتطلب دعم السلطة الجديدة، وفي هذا الطرح مغالطة أساسها أنها تتناول الوضع معكوسًا فتبدأ من تناول السلطة الجديدة لا باعتبارها تعبيرًا عن مصالح إقليمية، بل باعتبارها سلطة في ذاتها ولذاتها، وهذا يتجاهل حقيقة أن تقسيم سوريا إذا تم فستكون هيئة تحرير الشام أحد أدواته، لأن التقسيم لن يكون سوى نتيجة تسوية إقليمية ودولية. وفي الدعوة إلى الانطلاق من الأمر الواقع دعوة أخرى لتأبيد هذا الأمر الواقع، الذي يتضمن حقيقة وجود مساحات واسعة من سوريا خارج هيمنة الهيئة، ويتضمن أيضًا التكوين الأيديولوجي للهيئة، بما هو طارد لبقية المكونات الطائفية في سوريا. إن وحدة سوريا لا تُبنى سوى ببناء تضامن شعبي على الأرض،  يقوم على إبراز أن مصالح الجماهير السورية بكل طوائفها لن تتحقق سوى في إطار سوريا الموحدة العربية الديمقراطية، وهذا طريق عسير لكنه الطريق الوحيد.