دراسات

فؤاد مرسي

أهل الصنايع طوائف الحرف.. رابطات العمال قبل النقابات

2021.01.01

مصدر الصورة : رويترز

أهل الصنايع طوائف الحرف.. رابطات العمال قبل النقابات

قبل أن يطلق الزعيم محمد فريد دعوته التاريخية لتأسيس نقابات للعمال، كانت طوائف الحرف في هزيعها الأخير، تعاني شحوب سلطانها الاقتصادي والاجتماعي، كما أن أصابع الرأسمالية كانت تعبث في هياكل المجتمعات، بما استلزم إيجاد صيغة لضمان حقوق العمال، الذين أقبلوا على المصانع الحديثة، وتخلوا عن المظلة القديمة التي جمعتهم على مدار قرون عديدة داخل سياق واحد، مع ذلك يمكن التعامل مع نظام طوائف الحرف بوصفه المفهوم المبكر لنظام النقابات الحديث الذي عرفته مصر في مطلع القرن العشرين، حين قضى ذلك النظام انضواء العاملين في كل حرفة تحت لواء رابطة واحدة يقودها شيخ الطائفة، فيما الروابط مجتمعة تخضع لشيخ مشايخ الطوائف وهو الرئيس الأعلى لها، الذي حمل في العصر العثماني لقب "شاهبندر التجار" وكان يمثل حلقة الوصل بين الطوائف والحكومة.

استقرت تلك الطوائف على هيئة كيانات اقتصادية واجتماعية ذات طبيعة إنتاجية، قائمة بذاتها، ضمت أصحاب المال والعمال معًا، وأوجدت نظامًا محكمًا لضبط بنيتها، فوضعت اللوائح التنظيمية والتنفيذية لتقنين شؤونها الداخلية، وتحديد العلاقات بين العمال وأصحاب العمل بما يضمن حقوق وواجبات كل طرف من جانب، وبين المنتج والمستهلك من جانب ثان، بما يضمن حقوق المشتري وعدم التدليس عليه أو الغش والمبالغة في الأسعار، كما أقرت فيما بينها نظامًا تعاونيًّا قضى بتقديم الإعانات للعمال في حالات المرض أو البطالة، فلضمان جودة الإنتاج قامت الطوائف بالإشراف على العملية الإنتاجية، وبالتفتيش على أصحاب الأعمال أو الحرف، لتتأكد من جودة منتجاتها ومدى مطابقتها للمواصفات الموضوعة، ومنعت العمل ليلاً حتى لا يتدهور مستوی الإنتاج من جهة، ولا يزيد عن حاجة السوق من جهة أخرى فينخفض الثمن، كما حتمت بعض الطوائف على الحرفي العمل في محله أمام الجمهور، ليسهل عليهم مراقبتهم وضمان عدم الغش، كذلك منعت بعض الطوائف عمالها من الاشتغال بحرف أخرى، أو الدعاية والإعلان عن منتجاتهم.

وإن كانت طوائف الحرف قد بزغ نجمها في العصر العباسي، وأدت دورًا بارزًا في حياته العامة، فإن نفوذها اتسع في العصر الفاطمي، ومُنحت امتيازات، والتفت إليها الفاطميون ووجهوا إليها الأموال من أجل تمكين مذهبهم الشيعي في نفوس المصريين؛ لذا نجد أن الدعوة الإسماعيلية حاولت النفاذ بين صفوفها لتكوين ظهير اجتماعي واقتصادي كبير يؤازر دعوتها من جانب، واستخدامه عند الضرورة في مواجهاتها السياسية من جانب آخر. كذا ارتبطت بعض الطوائف بالطرق الصوفية، بدافع تعزيز وجودها الاجتماعي.

 ويتضح من تصفح الحالة الاجتماعية في مصر المملوكية أن طوائف الحرف شكلت الجانب الأكبر من الطبقات الاجتماعية، وإذا كان معظمها انتقل سكنيًّا إلى أحياء القاهرة المملوكية فإن البعض منها ظل باقيًا في مكانه المتوارث منذ العهود الأولى، على نحو ما نجد من تمركز لطائفة الفخاريين والخزافين في الفسطاط، جنوب غرب القاهرة الفاطمية. حيث كانت الفسطاط واحدة من مراكز الصناعات الكبرى منذ دخول الإسلام مصر. وقد أطلق عليهم أحيانًا مسمى: أهل الصنايع، وأحيانًا أخرى اسم "الأصناف"، وتارة ثالثة: أصحاب الحرف. وكانت كل حرفة تتركز في منطقة جغرافية بعينها ترتبط بأسواق تصريف منتجاتها، كما كان أصحاب كل حرفة يسكنون، غالبًا، حارة بعينها، وهو الأمر الذي نستشفه من أسماء الحارات: الصنادقية، المغربلين، الصاغة، الخيامية، والسقايين.. إلخ، وإلى جانب خضوع كل طائفة مهنيا إلى شيخ يرأسها، فقد كانت هذه الحارات من جانب ثان يضطلع بأمورها الإدارية شيخ الحارة، ضمن الهيكل التنظيمي الذي وضعته الحكومة لتمكينها من مفاصل المجتمع.

وإذا كانت هذه الطوائف قد نشأت من تلقاء نفسها تلبية لاحتياجات أعضائها وتنظيم شؤونهم وسنّ الحدود والحقوق والواجبات وضبط علاقاتهم من جانب، فإنها من جانب آخر عملت على تنظيم العلاقة مع أسواق منتجاتهم ووضع الأسعار المناسبة لمجهوداتهم، والتحكم في كمية المعروض منها بالأسواق، حدث ذلك دون تدخل مباشر من السلطة المملوكية التي اكتفت بإسناد الرقابة عليها إلى وظيفة المحتسب، وهو الرجل الذي كان معنيا بشؤون الأسواق، ومن خلاله كان يمكن السيطرة بطريق غير مباشر على حركة هذه الطوائف، سيِّما أنها كانت تمثل مصدر قلق دائم للحكومات، عبر هبّات وانتفاضات كانت تقوم بها ضد القرارات الاقتصادية الجائرة وتعسف الولاة أو نوابهم تجاههم، خصوصًا في أزمنة الأوبئة والمجاعات، سواء للمطالبة بتحسين أوضاعهم أو توفير الخامات اللازمة لصنائعهم، وفي يوميات ثورة القاهرة الثانية نطالع الكثير من الصفحات المشرقة لكفاح تلك الطوائف ضد الحملة الفرنسية.

 هيكل طوائف الحرف

انبنى الهيكل الإداري للطائفة نزولاً من القمة إلى القاعدة على النحو التالي:

أولاً: شيخ الطائفة: هو الشخص الأول المسؤول عن أبناء طائفته، وينتخبه العاملون بالحرفة، وتعتمد السلطة العليا هذا الانتخاب، وفي كثير من الأحوال تركز ذلك المنصب بطريق الوراثة في عائلة بعينها ولم يكن ينتقل إلى آخر إلا في حالات الوفاة أو الاستقالة أو العزل من قبل الحاكم سواء لعدم التوافق معه أو بسبب مطالب أبناء الطائفة. وكان لشيخ الطائفة صلاحيات واسعة في تأديب أعضاء الطوائف، ووضع القواعد الضامنة للالتزام بتقاليد الحرفة وأخلاقياتها، في سياق لائحتها الخاصة.

تولى شيخ الطائفة حل الخلافات بين الحرفيين أو بينهم وبين عملائهم، كما كان ضامنًا للحرفيين العاملين تحت رئاسته لئلا يهربوا إلى مكان آخر تخلصًا من ديون عليهم أو إتاوات مفروضة من جانب السلطة، أو فرارًا من مشكلات تورطوا فيها، ورغم كونه الشخص الأول المسؤول عن أعضاء طائفته، فإنه من العادات التي التزمها أصحاب الصنايع أن شيخهم حين يتعرض لضائقة مالية كانوا يتعاونون معًا من أجل فك ضائقته.

ومن وقائع كثيرة يُستدل أن بعض هؤلاء الرؤساء، ربما، اشتروا مناصبهم سواء بالرشوة أو ببذل الأموال، إضافة إلى اعتيادهم تقديم مبلغ من المال لكل محتسب جديد يتولى شؤون الحسبة.

ولتحقيق شرعية مناصب هؤلاء الشيوخ كانت المحكمة الشرعية تقر تعيينهم على رئاسة طوائفهم بحضور أعضائها وشهودهم بذلك، وتصدر مرسومًا يحدد نطاق عمله ومسؤولياته وواجباته، والالتزام بطاعته من قبّل طائفته.

ورغم عدم التدخل المباشر من جانب الحكومة في ذلك النظام، فإن شيوخ الطوائف وفق هذه الخلفية اعتبروا ذراع الحكومة في عالم الصنائع، و"كانت الحكومة تستعين بهم دائمًا لتوفير احتياجاتها من منتجات بعينها، أو إمدادها بصناع مهرة لإنجاز أعمال مخصوصة بها، ففي عام 1828 ألزم الديوان الخديو شيخ الخياطين بتدبير مائتي خياط وإرسالهم إلى ورشة الخياطة بالداورية، وذلك لإنهاء خياطة الملابس المطلوبة قبل العيد، كما كلف الديوان شيخ الترزية بتدبير 300 ترزي مصري ومائة ترزي من الأرناؤوط وخمسين من ورشة الترزية بالقلعة وإرسالهم إلى ورشة ترزية الجوخ لإنهاء الملابس المطلوبة للآلايات[1].

ولضمان هذه السيطرة في العصر العثماني كان "الكتخدا" (نائب الوالي) يدير شؤون الطائف حال غياب شيخها. ثم استحدثت الدولة العثمانية في عام 935 هـ، الموافق 1528 م وظيفة أمين الخردة وكانت مهمته: إدارة الطوائف التابعة له والإشراف عليها وجمع الضرائب من أصحابها.

وكان شيوخ الطوائف يحصدون دخولهم من حاصل الضرائب الذي كانوا يجمعونه من أعضاء طائفتهم، وهو النظام الذي ألغي في عهد الخديو إسماعيل، الذي جعل تحصيل الضرائب في يد الحكومة وحدها.

ثانيًا: النقيب: وهو نائب شيخ الطائفة في إدارة أمورها، كما كان حلقة الوصل بين الطريقة الصوفية التابع لها وأعضائها من الحرفيين، فضلاً عن قيامه بتنظيم حفلات الترقية من مكانة إلى أخرى داخل دولاب العمل.

ثالثًا: المعلم أو الأسطى: وهو أكبر الشخصيات في مكان العمل (الورشة) ويشرف على العمال والصبيان، وغالبًا كان هو صاحب العمل نفسه ومالك رأس المال، ويمثل شيخ الطائفة داخل ورشته. وقد أطلق عليه أحيانًا لقب المختار.

رابعًا: العمال: وهم المزاولون للحرفة، ولم يكن مسموحًا لهم الانتقال من حرفة إلى أخرى إلا بعد إجراءات شديدة التعقيد ضمانًا لاستمرار الحرفة واستقرار شؤونها، فيما كان مسموحًا لهم بعد اكتساب خبرة معينة وإتقانهم مهارات العمل وادخار المال اللازم أن يستقلوا بأنفسهم وينتقلوا إلى ورشة أخرى أو يؤسسون ورشة جديدة لهم والاشتغال لحسابهم الخاص.

وفي كثير من المشغولات القديمة التي نطالعها في المساجد أو أسواق التحف نعثر على اسم الصانع محفورا على جانب المشغولة، كما هي العادة المتبعة حتى الآن لدى الخطاطين الذين يحرصون على تذييل اللافتة بأسمائهم، وهو أمر كان مُحفزا بالطبع لإتقان العمل وإبراز المهارة، وقد بلغت صور المنافسة بين أصحاب الصنايع، وفقًا لابن الوزان، الشهير بليو الإفريقي" أنه حين كان يقوم أحدهم "بعمل شيء يدل على الابتكار الذي لم يسبقه فيه أحد، كان يضع ما صنعه على كسوة حريرية ويطوف به على الدكاكين مصحوبا بموسيقيين، فيعطيه كل واحد بعض النقود مكافأة له على الابتكار والمهارة وقد بيّن ليو الإفريقي أن أحد السقائين الذين كانوا يتجولون حاملين القرب المعلقة برقابهم، راهن بأنه سيحمل قربة مليئة بالماء ومربوطة بسلسلة حديدية لمدة سبعة أيام من الصباح إلى المساء إلى أن ربح الرهان وقد تلقى الحفاوة لفوزه وسار في موكب ضم الموسيقيين وجميع سقائي القاهرة"[2].

وكأي هيئة اجتماعية؛ ظهر بين أعضاء الطوائف ثلة من الأدباء النابهين، ذوي الخصوصية اللافتة، فالشاعر الكبير أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم: من كبار شعراء الدولتين الأيوبية والمملوكية، كان جزارًا، ثم احترف الأدب، ونظم الأشعار، وكذا معاصرّيه: الشاعر بن أبي الربيع الخياط، والأديب السراج الوراق (ت: 695 هـ/ 1295م) والشاعر النصير الحمامي، والشاعر الصوفي أبو الحسن بن الصباغ (ت: 613 هـ) واللغوي البارع أبي منصور الثعالبي الفراء، الذي كان يعمل بخياطة جلود الثعالب، والإمام أبو حامد الغزالي، المنسوب اسمه لحرفة أبيه، وكان يعمل في الغزل.

خامسًا: الصبية: وهم المبتدئون، المتدربون الناشؤون، أصغر حلقة في هذا البناء، ولم تكن هناك مدة محددة لتدريبه، بل كانت ترتبط غالبًا ببلوغه مرحلة الرجولة واكتسابه مهارات الحرفة وإتقان أشغالها حتى يرتقي إلى مرتبة العامل، كما لم يكونوا يحصلون على أجور إلا في أضيق الحدود، مع السماح لهم بالحصول على البقشيش من الزبائن.

وكان الصبي يعيش فترة تدريبه غالبًا لدى معلمه، إذ يتولاه بين أبنائه إيواء ورعاية مقابل طاعة الصبي إلى أن يتعلم الحرفة ويصبح قادرًا على تحمل مسؤولية العمل. وهذه العلاقات كانت تنتهي غالبًا بزواج الصبي من ابنة معلمه، إضافة إلى أن معظم الصبية كانوا من أبناء الأسطوات أو الحرفيين أنفسهم، فأساس العمل الحرفي في مصر يتسم بالنظام العائلي ضمانا لتناقل وتوارث الحرفة، ومن هنا نطالع أسماء عائلات تخصصت في حرفة بعينها، وتوارثتها فيما بينها، حتى باتت تُعرف بها وتحمل لقبها، مثل عائلة الزيّات، نسبة لصناعة الزيوت، والطبّاخ نسبة لاشتغالهم بشؤون الطبخ والمطابخ، السقا، العسّال، السرّاج، اللبّان، القفّاص، الشماع، النساج، النشار، النجار، الطحان، الدباغ، القزاز، والوزان... إلخ.

 

طقوس العبور

كان الانتقال من مرحلة حرفية إلى أخرى أعلى مكانة حدثًا مهمًا، ذا طبيعة طقوسية تشبه "طقوس العبور"، التي يقوم بها المجتمع عند انتقال الإنسان من طور إلى طور حياتي آخر (الميلاد، الختان، الزواج، الحج، الوفاة)، وهي طقوس رمزية محتشدة بالدلالات والتلميحات، فانتقال الصبي إلى مرحلة العامل كان يتم من خلال احتفال يُقام في بيت والد الصبي وهي الاحتفالية التي أُطلق عليها لدى الطوائف مسمى "الشد والحزم".. تصف لنا "محاسن الوقاد" مراسم الاحتفال بترقية الصبي إلى حرفي، بقولها: عند انتهاء الصبي من تدريبه تحت إشراف أحد المعلمين، فإن معلمه يخبر شيخ الحرفة بذلك فيدعو الشيخ أهل الحرفة لحضور حفل ترقيته، فيأخذ النقيب باقة من أي عشب أو من زهور ويوزعها على المدعوين، ثم يعلن عن ميعاد الاحتفال، وفي الاحتفال كان المعلم يصطحب صبيه إلى مكان الاحتفال حيث يكون هناك شيخ الطائفة والنقباء والمخاترة مجتمعين وتبدأ مراسم ذلك الاحتفال بأن يقرأ الجميع الفاتحة، وبعد ذلك يسأل الشيخ المعلم والصبی سؤالاً تقليديًّا يستفهم به عن سبب مجيئهما، فيجيب المعلم بأن الصبي قد أتم تعلم الصنعة ويرغب في فتح حانوت يمارس فيه المهنة التي تعلمها باختباره، فإن اطمأن إلى إجادته للصنعة يقترب منه ويشد حول وسطه حزامًا أو شالاً، وهنا يعتبر (الشد) شعيرة مميزة لدخول الشخص في الحرفة، كما أنه دلالة على تقيد الداخل في الحرفة بواجبات بعينها نحو الجماعة كلها.

 وفي أثناء عملية الشد تعقد عدة عقد أقلها ثلاث وأكثرها ست بالنسبة لعدد المعلمين الكبار الموجودين في الاحتفال، ولهم في ذاك اصطلاح فالعقدة الأولى تعد هي الأسطاوية، ويحلها معلمه الذي رباه وعلمه الصنعة، والثانية تسمى الرتبة ويقوم بحلها شيخ الطائفة، والثالثة يحلها أحد الأسطاوات الموجودين في الحفل.

وبعد الشد يحلق للمحتفى به أحيانًا جزء من شعره ثم يلبس ملابس خاصة كاللباس أو السراويل عند أهل الحرفة أو الخرقة على الكتفين، ويؤخذ عليه العهد وبعض التعاليم المتعلقة بواجباته الجديدة مع إجازته بممارسة الصنعة، ثم يأخذ مكانه على السجادة إلى جانب زملائه لتناول الطعام التقليدي ويطلق عليه الوليمة أو التلميح. (ص 151).

ومن اللافت هنا أن أعضاء الطائفة كانوا يتمتعون بحق الاعتراض على ترقية أحد العمال في حال إذا ما تقدم أحدهم بما يثبت عدم إتقانه لحرفته، أو لم يراع اعتباراتها وأخلاقياتها.

 

المعتقدات واللغة السرية

على المسار الثقافي؛ تكونت لدى الطوائف الكثير من الأدبيات والعادات والمعتقدات الثابتة، خصوصًا المتعلق منها بنسب الحرفة، فالخطاطون والخياطون ينسبون أنفسهم إلى سيدنا إدريس، الذي كان "أول من خط وخاط". والحداودن ينتسبون إلى سيدنا دواود الذي عمل بحرفة الحدادة، ولذلك فإن كثيرا من الخطاطين والخياطين بمن فيهم صانعي الخيام أو المطرزين لايعملون فإن كانوا متوضئين، كما أن الحدادين يرفضون صناعة أعمال سحرية من عنصر الحديد، فإن كان فيما يفيد، على نحو مانجد في بعض التمائم ومنها "الماسكة" وهي قلادة تصنع للمرأة التي تتعرض للإجهاض المستمر بغرض تثبيت حملها، وكذلك لا يسمح الخبازون أبدا بإلقاء أي قطعة من العجين رسمت على هيئة شخص في جوف النار بغية حرقها، في إطار ما يعرف بالسحر التشاكلي، الذي يظن أنه يمتلك إحدى تأثيراته من تمثل صورة الشخص المطلوب إيذائه على قطعة العجين وإحراقها... إلى آخر هذه السلسلة من المعتقدات المرتبطة بالحرف التقليدية.

ومن خصائص "أهل الصنايع" وجود لغة اصطلاحية خاصة، تسري بين أبناء الحرفة الواحدة، لا يتقنها غالبًا إلا من يصل إلى مرحلة الصانع/ العامل، وعلى الصبية ملاحظتها والتقاطها من خلال المحادثات وإدراك رموزها حتى يجيدونها، وهي لغة اصطلح على تسميتها بــــ "السيم"، وتقوم على استبدال الألفاظ التقليدية بمصطلحات مستخدمة داخل الحرفة ومن بينها استخدام أسماء العدد والأدوات للإشارة إلى دلالات أخرى، بحيث لا يفهمها إلا أبناء الحرفة، وهذه اللغة تتيح لأبناء الحرفة أن يتحدثوا معا دون أن يفهم الزبون ما يقولونه، بل إنها تسمح لهم بالسخرية من الزبون نفسه أو التهكم عليه أو الإيعاز بغشه دون أن يفهم ما يدور بينهم.

 فطائفة النقاشين على سبيل المثال استخدمت لفظ (الجفت) للإشارة إلى الرجل، و(السكينة) للإشارة إلى المرأة. والجفت هو الأداة المعروفة من أدواتهم وتستخدم في تغذية الأماكن الضيقة بالمعجون، أما السكينة فتستخدم للغرض ذاته ولكن في المساحات الكبيرة. كما يُشار هنا أن طائفة المنجدين والخياطين يستخدمون لفظ الإبرة للإشارة إلى المرأة، أما (الكستبان) فللإشارة إلى الرجل، وهي ألفاظ مستمدة من أدواتهم في العمل كما هو معروف.

 وعن المشروبات؛ فالشاي يُطلق عليه بين النقاشين (الشيخ سرور) لما يحدثه من انتشاء، والقهوة (الشيخ حبشي) إشارة إلى لونها البني الغامق. أما أسماء العملات؛ فالجنيه يسمى: قايم، والجمع: قوايم، والخمسة جنيهات يطلق عليها كف، توظيفًا لأسماء الأدوات المستخدمة في المهنة، أما العشرة فيطلق عليها (المادنة)، مستلهم من مئذنة الجامع. والخبز يطلق عليه (المدماك) والجمع "مداميك"، والمدماك هو الدعامة المعمارية. أما اللحم فيطلق عليه (الصُرفان)، وهو المصطلح المتداول مهنيًّا للإشارة إلى بقايا الجير التي تتراكم في قاع البرميل بعد تذويب أحجار الجير في الماء، وخلافه.

 

كرنفالات الطوائف

ورغم توتر العلاقات في غالب الأوقات بين الحكومة وأهل الصنايع بسبب القرارات المجحفة، فقد كانت الحكومة تستخدمهم كفقرة أساسية في الاحتفالات العامة والمناسبات الدينية، إلى جانب حفلات زواج الأنجال (آل الأسرة الحاكمة). وحين نطالع وصف موكب الاحتفال بخروج المحمل أو موكب رؤية هلال شهر رمضان أو الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، فإن مشهد حرفيي مصر وهم ينتظمون في هذا الموكب أو ذاك، كان من الأمور المدهشة والمحتشدة بالدلالات والمعاني الاجتماعية. فقد كان الحرفيون جميعا يشاركون في ذلك الموكب بأن يقوم كل واحد منهم بتقديم نموذج مصغر لورشته محمولا فوق عربة كارو يستأجرها خصيصًا ويزينها لهذه المناسبة، فيبدو وكأنه انتقل بمحله ليمضي في هذا الطابور مستعرضًا أدائه لحرفته، فهذا جزار وقد علق أمامه ذبيحة وإلى جانبه (قُرمة) تقطيع اللحم والميزان، وبدا كأنه يزن لزبون رطل لحم، أما الكنفاني فقد وقف أمام الفرن يرش فوق صينيته النحاس عجين الكنافة السائل ثم يجمعها بيديه أمام الجماهير، وذلك الإسكافي جلس أمام البنك يخيط حذاء، أما الترزي فتراه منهمكا في تركيب أزرار جلباب.. إلى آخر هذه اللوحة البديعة التي كان يستعرض الصُناع من خلالها فنون صناعاتهم وإبراز مهاراتهم وعرض بضاعتهم أمام الجماهير المحتشدة لرؤية هذا الكرنفال البديع، الذي لم يكن يقل فخامة عن أكبر معرض للصناعات في عصرنا الحديث، يتولى تعريف الجماهير المحتشدة بالصناعات المحلية وأشهر رجالها، بما كان يعمل، من جانب، على دعم أهل الصنايع وترويج منتجاتهم.

يذكر "محمود الشرقاوي" في كتابه "مصر في القرن الثامن عشر" أن أهل القاهرة أقاموا مهرجانًا شعبيًا احتفالًا بختان ابنة زعيمهم عمر مكرم، وسار فيه أصحاب الحرف المختلفة، يقودون عرباتهم وهي تمثل الحرفة أو العمل، الذي تمارسه الطائفة منهم.. وعندما احتفل محمد علي في 31 ديسمبر سنة ۱۸۱۳ بعقد قران ابنه إسماعيل، استمر الحفل إلى ليلة الجمعة التالية ليلاً ونهارًا، وخلال تلك الفترة نبه على أصحاب الحرف والصنائع بعمل عربات مشكلة وممثلة لحرفتهم وصنائعهم ليمشوا بها في زفة العروس، ولذا فرض رئیس كل حرفة على أفرادها فرائض ودراهم يجمعها وينفقها على العربة، وما يلزمها من زينة وأدوات الصنعة التي تتميز بها عن غيرها، وما يحتاجه أيضًا من أخشاب وجمال وحمير أو رجال يسحبونها، فتصير في الشكل كأنها محل والبائع جالس فيها.. وبلغت جملة العربات ۹۱ عربة بخلاف أربع عربات مخصصة للعروس، وكان أمام كل عربة أهل حرفتها وصناعها مشاة خلف الطبول والزمور، وهم مزينون بالملابس الفاخرة، التي كان أكثرها مستعارة. وأخذوا منذ يوم. الأربعاء يمرون من تحت بیت الباشا. ويأتي كبير الحرفة بورقته الى المتعين لملاقاتهم، فينعم عليه بخلعة ودراهم كما يعطي البعض شال كشمیری وألفين فضة، أو البعض طاقية تفصيلة قطن وأربعة أذرع جوخ، على قدر مقام الصنعة وأهلها، واستمر مرورهم من أول النهار إلى آخره ولما أصبح يوم الخميس رتبوا مرور الزفة[3].

 

أطياف أخرى

لم يكن نظام طوائف الحرف منتشرًا فقط بين أصحاب الحرف الإنتاجية، ذات البعد الاقتصادي المباشر، بل كانت هناك أيضًا تشكيلات من الطيوف الاجتماعية الأخرى تتبع ذلك النظام، فالخانقاوات الصوفية كان لها شيخها المشرف على شؤون الخانقاة واحتياجات المتصوفة، وذلك المنصب لم يكن يُعهد به إلا للورعين الأتقياء، العارفين بالعلوم الشرعية.

والخانقاوات هي منشآت دينية، عرفتها مصر في العهد الفاطمي، ووجدت خصيصًا من أجل إقامة المنقطعين للعبادة بها، وتوسع الموسرون في إقامتها ووقف الممتلكات للإنفاق عليها.

كذلك خضعت المنافع العمومية كالحمامات الشعبية لذلك النظام المحكم، حفاظا على صحة الناس وحرمة أسرارهم. فالحمام مسؤول عنه شخص يسمى "الحمامي" وكانت لهذه المهنة شروط صحية لابد أن تتوافر فيمن يشغلها، من أهمها النظافة الشخصية إلى جانب الأمانة والاستقامة، وكان يساعده فى عمله مجموعة من الناس، منهم من يختص بحفظ ملابس الرواد ومنهم من يقوم بتدليك أجسام المترددين على الحمام، أو حلاقة شعرهم.

 وكان "الحمامي" يشرف على كل العاملين بالحمام، بل ويختارهم بنفسه وفقا لآداب ومتطلبات المهنة، متخذا مجلسه فى مدخل الحمام ليتمكن من متابعة العمل. وهؤلاء الحمامية جميعا يخضعون لشيخ طائفة الحمامية.

 

ضامنة المغاني

حتى الطوائف المنبوذة اجتماعية، كالبغاة واللصوص، عرفت هذا النظام فيما بينها!، فقد توسع العصر المملوكي في الاعتراف ببنات الخطأ أو الخواطيء، إلى الصورة التي جعلت منهن طائفة مهمة تجني الحكومة من ورائها الضرائب، وعينت لهذا الشأن مشرفة عرفت باسم "ضامنة المغاني"، "تذهب إليها محترفة البغاء لتسجيل اسمها، وكانت هذه الضامنة تتعهد بدفع مال إلى الدولة في مقابل أن تتولى جمع ضريبة المغاني من النساء البغايا في مقابل حماية الدولة لهن... ويبدو أن الموقف الرسمي للدولة المملوكية من ممارسة البغاء ارتبط بالظروف الاقتصادية والاجتماعية وطبيعة من يتولى السلطنة، فعندما ينقص منسوب مياه النيل؛ يسود اعتقاد بأن ذلك مرجعه إلى غضب من الله سبحانه وتعالى على الرعايا لانتشار الرذيلة والفساد ومن هنا يأتي تحريم الحرف المرتبطة بهذا الفساد ومنها البغاء، وحينما يتولى سلطان جديد السلطنة تصدر بعض القرارات لاسترضاء الرعايا منها إلغاء الضريبة المفروضة على مهنة البغاء"[4].

وكان من بين مهام ضامنات المغاني البحث عن الأصوات الجديدة المميزة بين الجواري واكتشاف مواهبهن وتعهدهن بالرعاية لإمداد حفلات السلاطين والأمراء بهن، من هنا نستطيع أن نفهم كيف نفذ هؤلاء إلى بلاط السلاطين وحظين بمكانة مهمة لدى أولي الأمر، بل ضالعات أحيانًا في توجيه القرارات. كذا اتسعت سلطة ضامنة المغاني لتشمل الإشراف على الواعظات والقارئات والندابات والعازفات والمغنيات وجميعهن أدرجن تحت مسمى "المغاني"!

ومع الربع الأخير من القرن السابع عشر باتت البغايا تسجلن في سجلات الشرطة وتحصى أعدادهن، وتحفظ الشرطة هذه السجلات التي تضم أسماء محترفي البغاء من النساء ومن الذكور لأغراض الضرائب، وكانت هناك ثلاثة نطاقات لمن يسمون (شيوخ العرصات) يعمل أحدهم في القاهرة، والثاني في بولاق، والثالث في مصر القديمة. كانت مهمة هؤلاء الشيوخ هي جمع الضريبة من النساء والصبية، وكان تحت إدارة قائد الشرطة (الصوباشی) أربعون رجلا يعرفون بجاويشية باب اللوق مهمتهم حصر الصبية والبغايا ومعرفة من قضى منهم الليل خارج منزله أو داخله. وظل هذا النظام ساريا حتى أبطله الوالي حسين باشا جنبلاط (1673_1675م)[5].

ورغم أن القوانين كانت تحدد أماكن ممارسة البغاء وحصرها داخل أحياء بعينها، لسهولة السيطرة عليها ومراقبتها إلا أنها كانت تتمكن من اختراق هذه السيطرة والنفاذ إلى الأحياء الأخرى.

يذكر الجبرتي في "عجائب الآثار" أن الحملة الفرنسية، استحدثت بغيط النوبي المجاور لحي الأزبكية أبنية على هيئة مخصوصة منتزهة يجتمع بها النساء والرجال للهو والخلاعة في أوقات مخصوصة وقرروا على كل من يدخل إليها قدرًا مخصوصا يدفعه أو أن يكون قد حصل على إذن بذلك من السلطات.

كما كانت الحكومة تقوم بتوقيع الكشف الطبي على تلك الطائفة من الممارِسات للتأكد من خلوهن من الأمراض المعدية، وكن يمنحن رخصة لمزاولة المهنة هي التي عرفتها السجلات باسم (أورنيك نمرة 11)

وإذا كان نظام طوائف الحرف بدأ في الانسحاب النهائي من الحياة مع أواخر القرن التاسع عشر، فإن طائفة البغايا، ظلت تعمل بنظامها القديم حتى الأربعينيات من القرن العشرين، حيث بدأت تغلق تلك المحال على مراحل، ففي "عام 1942 صدر أمر عسكري بإغلاق (بيوت العاهرات) في البلاد ما عدا عواصم المديريات والمحافظات - أي "المدن" بما فيها القاهرة التي ظلت مسرحا لممارسة الدعارة المنظمة.

تبع ذلك صدور الأمر العسكري رقم 384 لسنة 1943 بإعطاء الحق للمديرين والمحافظين في إغلاق بيوت العاهرات في عواصم المديريات والمحافظات التي كانت مستثناة من الإغلاق في الأمر العسكري وفي النهاية صدر الأمر العسكري رقم 76 لسنة 1949 بإغلاق بيوت العاهرات في جميع أنحاء البلاد"[6].

نهاية عصر الطوائف

إن التوسع الصناعي ونظام الاحتكار الذي شهده عصر محمد علي؛ لاشك كان لها تأثيراته السلبية الواضحة على أصحاب الحرف، فقد راحت مصانع الباشا تمنح العمال أجرًا ثابتًا، وتغريهم بمزايا الالتحاق بها وتعويدهم على نظام الإنتاج الكبير، مما جعل الكثير من الحرفيين يؤثرونه على العمل الحر، الخاضع لقوانين السوق وتقلبات الأحوال السياسية والاقتصادية بالبلاد، مع ذلك لم يكن العمل في مصانع الباشا على هذه الصور الحسنة، فقد كان سوء المعاملة داخل هذه المصانع من قبل المشرفين على العمل يضطرهم للهرب، بل وبعضهم التجأ إلى عمل آخر وتنازل عن حرفته وترك بلده وهاجر بعائلته إلى بلد آخر، فرارًا من الملاحقة، وهو ما جعل محمد علي يقوم بتأسيس مراكز لتدريب وتعليم الحرفيين للتعويض عن الفارين.

وإزاء تلك الحركة انقسم الحرفيون إلى فصيلين، الأول انخرط في ورش الحكومة التي أنشأها الباشا، والآخر ظل يعمل بمفرده تحت إشراف الحكومة، وفيما راح الأول يتقاضى أجورا ثابتة وكبيرة نسبيًّا، فقد عانى الثاني من القرارات المالية التي كان يتحمل عبئها لتمويل الحكومة، وهو ما أدى إلى اختيار القطاع الثاني للعمل في مصانع الحكومة، وهو المسلك الذي عكسه المثل الشعبي القائل: إن فاتك الميري اتمرغ ف ترابه.

ومع التوسع الرأسمالي في صبيحة القرن العشرين وإقبال الأجانب على الاستثمار في مصر، بالاستفادة من الامتيازات والحماية الممنوحة لهم؛ تفاقمت مشكلات الحرفيين على المستويين: المادي والفني، بصورة واضحة، وانسحب إسهامهم الاجتماعي والاقتصادي الأصيل، وذوّت المواهب الفردية جراء إدماج العاملين في قالب نمطي واحد، فطفت على السطح مشكلات نفسية واجتماعية جديدة، فرضت البحث عن نظام بديل يضمن حقوق العمال، وهي الفكرة التي التقطها الزعيم "محمد فريد" وجرى بها بين ربوع البلاد.

ــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - عبد السلام عبد الحليم عامر، طوائف الحرف (1805-1914م)، هيئة الكتاب، صص 54-55.

[2] - راجع: محاسن الوقاد، الطبقات الشعبية في القاهرة المملوكية، هيئة الكتاب، سلسلة تاريخ المصريين، 1999، ص 150.

[3] - انظر: عبد السلام عبد الحليم عامر، مرجع سابق، صص 42- 43.

[4] - محاسن الوقاد، مرجع سابق، ص 147، 148.

[5] - د. عبد الوهاب بكر، مجتمع القاهرة السري (1900- 1950)، العربي للنشر والتوزيع، 2011، صص 12-13.

[6] - المرجع السابق، ص 18.