دراسات

شادي لويس

اضطهاد ووطنية ومواطنة: البنية الخطابية للمسألة القبطية

2019.01.01

مصدر الصورة : موقع الأقباط اليوم

اضطهاد ووطنية ومواطنة: البنية الخطابية للمسألة القبطية

منذ اندلاع أحداث الخانكة الطائفية في عام 1972، توالت أعمال العنف الطائفي في السبعينيات، حتى وصلت ذروتها في حادثة الزاوية الحمراء عام 1981؛ التي خلفت 81 قتيلاً. وبفعل تواتر أحداث العنف الطائفي لاحقًا، اجتذبت المسألة القبطية اهتمامًا بحثيًّا وسياسيًّا معتبرًا.لكن ذلك الاهتمام في معظمه ظل محصورًا في تحليل البنى السياسية والقانونية للطائفية، وآلياتها المؤسسية، سواء بالنظر في العلاقة التمييزية للدولة وأجهزتها بالأقباط وكنيستهم، أو الدور الذي تلعبه تيارات الإسلام السياسي وخطابها في مسألة التمييز والعنف الطائفي، أو فحص الوضع القانوني للأقباط في القوانين المصرية

مقدمة: الخانكة بعيون فوكو

وبالأخص فيما يتعلق بالأحوال الشخصية وبناء دور العبادة. يذهب بول سيدرا إلى أن محدودية النطاقات البحثية المتعلقة بالأقباط وكنيستهم يعود إلى عوامل سياسية وعملية كما يتعلق كذلك بالأسس النظرية، ومناهج البحث المستخدمة. فمن ناحية، تتحفظ كل من الدولة والكنيسة على التعرض إلى موضوع الهوية القبطية بوصفها تابوهًا سياسيًّا، يتعارض مع مبادئ الوحدة الوطنية. وفيما يخص الأسس النظرية، فإن النقد مابعد استعماري لإفراط السرديات الاستشراقية في التركيز على العناصر العقائدية والإيمانية في دراسات الشرق الأوسط وتاريخه، قد دفع الباحثين لتحاشي الجانب الديني بالكامل أو منحه دورًا هامشيًّا، لتفادي تهمة الميل الاستشراقي. وفيما يخص الجانب المنهجي، فالدراسات المتعلقة بتاريخ الأقباط الحديث، لاتزال، بحسب سيدرا، أسيرة «منهج بحثي تنويري»، يهمل الإمكانات السياسية المتضمنة في مجتمعات التابعين وفعلهم السياسي، ويتجاهل تأثير المؤسسات الروحية. يخلص سيدرا إلى الحاجة إلى الاهتمام بفحص الطرق التي أعاد بها الأقباط ومؤسساتهم الدينية، في القرن العشرين، تشكيل «التقليد الخطابي» القبطي، كوسيلة لإعادة الأقباط للسردية التاريخية الحديثة كموضوعات فاعلة، لا مجرد ضحايا، أو رموز. 

 لكن وإن نشر سيدرا ورقته في عام 2009، فإن اندلاع ثورة يناير، عام 2011، كان الحافز الأكبر لجذب انتباه أكاديمي وسياسي إلى الأقباط بوصفهم عنصرًا فاعلاً على الساحة السياسية، ومن ثم دفع لفحص الحركات القبطية الاحتجاجية والتي تشكلت في خضم الثورة وبعدها، والدور السياسي للكنيسة وعلاقتها الداخلية بالأقباط، وعلاقات الأقباط ببعضهم، والأهم النظر في العمليات الخطابية والرمزية ومواردها التي تبنتها واستخدمتها الاحتجاجات القبطية في تلك الفترة، وربطها تاريخيًّا بالتراث الخطابي والروحي للأقباط وكنيستهم، وكذلك النظر في تأثير العنف والتمييز الطائفي على الخبرة الحياتية اليومية للأقباط، وسلوكياتهم الفردية والجماعية. وعلى الرغم من التوسع في النطاقات البحثية المتعلقة بالأقباط وموضوعاتها، ومناهجها البحثية أخيرًا، إلا أن الدراسات المعنية بفحص العمليات والبني الخطابية عن الأقباط تظل محدودة جدًا. 

وفي هذا السياق، تسعى هذه الدراسة لتتبع تشكل الخطابات الاجتماعية عن الأقباط، وتغيراتها، والنظر في مواردها السياسية واللاهوتية والتاريخية، اعتمادًا على الإطار النظري لنظريات البنيوية الاجتماعية، وأبستمولوجيا الواقعية النقدية، والتي ترى أن الإمكانات والقيود الكامنة في العالم المادي وبنياته الاجتماعية تشكل وتقيد البني الخطابية الاجتماعية. لذلك فإن تحليلنا مؤطر داخل إمكانات الشروط المادية، أي يأخذ في الاعتبار البنى والعوامل الاجتماعية والسياسية، وسياقاتها التاريخية، في مصر، والطرق التي تؤثر بها على تشكيل الخطابات الاجتماعية عن الأقباط. 

وفي سبيل ذلك، سنستعين بمنهج تحليل الخطاب الفوكوي، والذي وإن كان يفتقد لمبادئ منهجية دقيقة، تحدد قواعد وإجراءات بعينها، إلا أنه يعتمد بشكل مرن، على تنظيرات فوكو عن الطبيعة البنائية للغة، ومفهومه عن المعرفة بوصفها بنية اجتماعية تُشكَّل خطابيًّا، والتي لا تعكس الواقع بالضرورة، لكن تنتج طرق بعينها لرؤية العالم، وإمكانات محددة للفعل الاجتماعي. لذا فالدراسة تركز على تحليل الطرق التي تشكل بها الخطابات الاجتماعية المتعددة عن الأقباط إمكانات بعينها للخبرة الفردية، والفعل الاجتماعي بينهم. يذهب فوكو إلى أنه طالما هناك سلطة، فهناك مقاومة، لذلك فإن الدراسة ستفحص الطرق التي تعمل بها المقاومة من داخل الخطابات القبطية، وكيف لتلك المقاومة أن تنتهي أحيانًا بترسيخ الخطابات المهيمنة التي كانت [المقاومة] هادفة لزعزعتها بالأساس.

من الاضطهاد إلى الاستشهاد الجديد 

في حوار للأنبا مكاريوس، أسقف أبرشية المنيا، مع وكالة رويترز، على خلفية تفجيرات أحد الشعانين عام 2017، صرح «نحن في موجة اضطهاد، لكن الكنيسة مر عليها كتير جدًا، من 20 قرن...التاريخ مليان»، قبل أن يضيف «فيه موجة اضطهاد وبتوصل لأعلى نقطة زي الهرم وبتنزل تاني».
تقدم تصريحات مكاريوس، نموذجًا شديد الكثافة لخطاب الاضطهاد القبطي، فهو يرى الهجمات في ضوء عشرين قرنًا من الاضطهاد، هو عمر المسيحية في مصر. لكن تلك الإحالة التاريخية لا تعني أن الاضطهاد حدث تاريخي، أي عارض، بل العكس أنه طبيعة الأمور. وفي الوقت نفسه فإن الإحالة التاريخية تلك، لا تعني زمانية الاضطهاد، أي طبيعته الأرضية أو العالمية. فتصريحات مكاريوس تحيلنا إلى الكنيسة التي مرَّ عليها موجات من الاضطهاد، والذي بحسب كلامه لا يبدو موجهًا للأقباط كأفراد أو جماعة اجتماعية، بل إلى الكنيسة تحديدًا، بوصفها جماعة المؤمنين، رافعًا الاضطهاد من نطاق الزماني والعالمي إلى الروحي والمقدس. 

تبدو استعارة مكاريوس لصورة الموجات الصاعدة والهابطة لوصف الاضطهاد، الذي يشهد مدًا وجزرًا متتابعًا، للتأكيد على أن الاضطهاد هو الحالة الدائمة للوجود القبطي، والذي لا يغيب الاضطهاد عنه ولو للحظة واحدة، بل يشهد تغيُّرًا في كثافته وحدته فقط، هكذا فإن أمر الاضطهاد حدث طبيعي ومعطى مسبق بشكل دائم. تدفعنا تلك الصورة عن الاضطهاد بوصفه حدثًا روحيًّا متجاوزًا، وفي الوقت نفسه معطى دائمًا مستمر الحضور، إلى التساؤل عن الخطاب المتداول عن الاضطهاد القبطي، وأركانه، وأصوله التاريخية اللاهوتية وتحولاته، وتفسيراته السياسية، وتبعاتها على سلوك الأقباط السياسي والاجتماعي وكنيستهم. 

يتخذ التقويم الرسمي للكنيسة القبطية، والمعروف بتقويم الشهداء، تولى الإمبراطور دقلديانوس عام 284 كبداية له. تعود النقطة التأسيسية للوعي الكنسي بالتاريخ، إلى حقبة الاضطهاد التي شنَّها الإمبراطور دقلديانوس ضد المسيحيين بداية من عام 303، والتي تطلق عليها الكنيسة عصر الشهداء. يهمين خطاب الاضطهاد على الوعي والمخيلة الجمعية للأقباط، فغير كتاب السنكسار، الذي يستخدم يوميًّا في الصلوات التعبدية في القداس الكنسي، وهو كتاب يحتوي على سير القديسين والشهداء مرتبة حسب التقويم القبطي، وهي سير نادرًا ما تخلو قراءتها اليومية من قصص الاستشهاد والعذابات حتى الموت، فإن الموالد السنوية والزيارات الدورية لأضرحة الشهداء، وأيقوناتهم التي تزين منازل الأسر القبطية وكنائسهم وحليهم الشخصية، والحنوط التي يحملها البعض على سبيل التبرك، وغيرها من ممارسات وطقوس يومية ورموز وصور وخطابات كثيفة التركيز، تعمل على ترسيخ حضور ثقيل لخطاب الاضطهاد وتشيئه بشكل دائم وعياني. 

تذهب المؤرخة صافيناز نجيب إلى أنه، وفي خضم مذابح عصر الشهداء، أسست الكنيسة القبطية محورًا لتاريخ مشترك للأقباط، هو سردية الاضطهاد، عبر سلسلة طويلة من سير الاستشهاد، بغية الحفاظ على تجانس ووحدة الهوية الجماعية لهم ضد التهديدات الخارجية، متمترسة داخل حواجز من العزلة، لمقاومة أي محاولات لأذى الأقباط. لكن خطاب الاضطهاد لم يكن معنيًّا فقط بتهديدات السلطة والأغلبية، ففي كتابها «المسيحية القبطية في مصر العثمانية»، تستخدم فيبي أرمانيوس، سيرة القديس «صليب»، الذي استشهد في نهاية العصر المملوكي، للتدليل على الطبيعة التراكمية والديناميكية لخطاب الاضطهاد. فالتغير الجذري والمفاجئ لوضع الأقباط بعد دخول العثمانيين لمصر، وحالة القلق والبلبلة التي اجتاحت المجتمع المصري وبالأخص الأقليات الدينية، دفعت لإحياء سيرة القديس صليب، لتضخ دماء جديدة إلى سردية الاضطهاد، لا لترسيخ تجانس الهوية الجمعية للأقباط فقط في ظل الظروف المضطربة، بل لتدعيم موقف الإكليروس الكنسي في مواجهة طبقة الأراخنة، من كبار التجار والموظفين الأقباط، والذين تصاعد دورهم في إدارة شؤون الطائفة في عهد العثمانيين، وشكَّلوا تهديدًا لحق الكنسية في التمثيل السياسي للطائفة وإدارة شؤونها داخليًّا. تطلق أرمانيوس على سردية الاضطهاد التي تطورت في مصر العثمانية، «الاستشهاد الجديد». 

مع تصاعد العنف الطائفي منذ مطلع السبعينيات، فإن خطاب «الاستشهاد الجديد»، كامتداد لخطاب الاضطهاد التاريخي، أطَّر ضحايا العنف الموجه ضد الأقباط، بوصفهم «شهداء المسيح»، سواء كانوا من ضحايا الاشتباكات الطائفية الأهلية كما في الزاوية الحمراء 1981، أو الصدامات مع الدولة كما في ماسبيرو في 2011، أو عمليات الدولة الإسلامية في ليبيا عام 2015، أو في هجماتها في مصر في العامين الماضيين. يؤكد خطاب الاستشهاد الجديد، والذي لا يميز بين السياقات المختلفة لأحداث العنف الموجه ضد الأقباط ودوافعها السياسية ومرتكبيها وغيرها من العوامل، على صيغته الاختزالية، والتي لا ترى في معاناة الأقباط سوى قدرًا روحيًّا مستمرًا عبر العصور، وفي الاضطهاد موضوعًا لاهوتيًّا لا يقع في نطاق الأرضي أو السياسي. 

يعمل خطاب الاستشهاد الجديد، على ترسيخ وحماية تماسك هوية وذاكرة جماعية لدى الأقباط، تُهمين على التاريخي واليومي، ويدفع للتمترس داخل حواجز من العزلة، والتسليم للإكليروس بحق التمثيل الحصري لعموم الأقباط، مُقيدًا أي إمكانية للفعل الاجتماعي والسياسي خارج الكنيسة، كما ينفي مفاهيم الوطنية أو المقاومة أو المواطنة إجمالاً، فهي غير ممكنة في عالم حُكِمَ على أبناء الله فيه بالألم والاضطهاد بالضرورة، والأسوأ أنها تنفي عن مخيلة الأقباط أي دور لمواطنيهم، أو للمجتمع في دعمهم أو حتى التعاطف معهم. هكذا فإن خطاب الاضطهاد وإن كان يُشحذ في مواجهة العسف الذي تعرض له الأقباط تاريخيًّا، فإنه لطالما رسخ عزلتهم واستثنائهم من المجال العام. 

خطاب الوطنية «الدين لله والوطن للجميع»

عندما اندلعت التظاهرات ضد الاحتلال البريطاني في مارس 1919، كان القس سرجيوس في زيارة لعائلة قبطية بالقرب من كنيسة الفجالة بالقاهرة. وعندما سمع الهتافات المؤيدة لسعد زغلول ورفاقه، يقول سرجيوس «شعرت برعشة غريبة، والدم كان يغلي في عروقي، ووجدت قدماي تأخذاني مباشرة إلى الجامع الأزهر».

كان القس سرجيوس، المعروف بخطيب المنبرين، أول قس قبطي يعتلي منبر الأزهر في تاريخه، حيث خطب في جموع المتظاهرين والمصلين لـ59 يومًا متتالين. لعبت أيقونة خطيب المنبرين، وشعارات «الدين لله، والوطن للجميع»، ومشاركة الأقباط جنبًا إلى جنب مع مواطنيه المسلمين في نضال ثورة 1919، تحت راية الهلال مع الصليب، دورًا محوريًّا في صياغة خطاب الوطنية القبطي. لكن ربما ينبغي علينا أن نتعامل ببعض التحفظ مع سردية العصر الذهبي للوحدة الوطنية في حقبة الليبرالية البرلمانية بعد الاستقلال. فعلى سبيل المثال، تذهب فيفيان إبراهيم في كتابها «أقباط مصر: تحديات الحداثة والهوية» للتشكيك فيما تسميه سردية «الاضطهاد الأبدي»، وتذهب أيضًا للتشكيك في سردية الوحدة الوطنية إبان ثورة 1919، إلى حد التساؤل عن إن كانت راية الهلال مع الصليب، قد رفعت بالفعل في أثناء التظاهرات، أم تم تبنيها لاحقًا. تبدو شكوك إبراهيم مبررة، فقبل أقل من عقد واحد من الثورة، وعلى خلفية اغتيال رئيس الوزراء القبطي، بطرس غالي، عام 1910، كانت التظاهرات تجوب الشوارع هاتفة «الورداني قتل النصراني»، بينما كانت أعمال العنف الطائفي ضد الأقباط على أشدها.

تظل سردية دور الأقباط في النضال الوطني للاستقلال، وما يرتبط بها من خطاب الوحدة الوطنية، أمرًا شديد التعقيد وعدم الوضوح، وهو ما ينسحب أيضًا على الحركة الوطنية إجمالاً. فوضع الإسلام، والأقليات، والعروبة داخل خطاب الحراك الوطني كان شديد الغموض والتناقض، وموضوع لصراعات عنيفة بين أطراف عدة. لكن ما يعنينا هنا هو العوامل التي شكلت خطاب الوطنية، الذي جسَّد الأقباط بوصفهم أحد عناصر نسيج الأمة، وشركاء في نضال أبناءها من أجل الاستقلال ونهضتها. أدى صعود طبقة من ملاك الأراضي والرأسماليين وكبار الموظفين الأقباط، في عهد محمد علي وسلالته، مع عمليات التحديث التي أدخلها البابا كيرلس الرابع، «أبو الإصلاح»، على مؤسسات الكنيسة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واتساع نشاط الجمعيات الأهلية القبطية لاحقًا، إلى تفجر صراع بين طبقة الإكليروس وطبقة برجوازية قبطية صاعدة على حق التمثيل للطائفة وإدارة شؤونها. وفيما وجدت طبقة العلمانيين الجديدة، المتأثرة بالتعليم الحديث وقيم «القومية» غايتها في خطاب وطني، لإزاحة سيطرة رجال الدين المسيحي، فإن الكنيسة وإكليروسها كانوا يواجهون تهديدًا أكثر ضراوة هو النشاط المتسارع للإرساليات البروتستانتية والكاثوليكية الغربية بين الأقباط، وهو الأمر الذي دفع الكنيسة هي الأخرى لتبني صيغة وطنية، تتمحور حول مصرية الكنيسة ومصرية أبنائها في مواجهة المحاولات الأجنبية لتلويث نقاوتها التاريخية. الأمر الأكثر جدارة بالانتباه هو توظيف الكنيسة لسردية الاضطهاد التاريخية، لتعزيز خطاب الأصالة الوطنية، فالاضطهاد لم يُصوَّر بوصفه قدرًا إلهيًّا لجماعة المؤمنين، بل نضال للمصريين للحفاظ على نقاوة الإيمان الصحيح، ضد الأجنبي: الرومان والبيزنطيين وأخيرًا الإرساليات الأمريكية.

دفع فقدان الأقباط للكثير من مزايا وضعهم التفضيلي في الإدارات الحكومية، بعد دخول البريطانيين إلى مصر في 1882، والذي كان بحجة حماية الأقليات، بالإضافة إلى القلق الذي ساورهم من إمكان أسلمة حراك الاستقلال، مع الخوف من التبعات الانتقامية في حالة وقوفهم إلى جانب البريطانيين، إلى تبني كل من الأكليروس والعلمانيين الأقباط لخطاب وطني، يضمن لهم مكانًا في الهوية الوطنية التي كانت ما تزال في حالة من المخاض الصعب. 

لكن وإن ظل خطاب الوحدة الوطنية هو الصيغة الرسمية المعتمدة لدى الدولة والكنيسة المصريتين إلى اليوم، فإن تأثيره كان له أن يتداعى سريعًا. فالطبيعة المرحلية والبرجماتية سواء للحراك الوطني، أو خطاب الوطنية، الذي كان معنيًّا حصرًا بمقاومة الاحتلال، وخلا من مشروع وطني أشمل وأكثر اتساعًا، قد ساهمت في تفريغ خطاب الوحدة الوطنية من معناه، ليتحول إلى شعارات، لا تستدعي سوى السخرية اليوم من صور القساوسة والشيوخ المتعانقين على صفحات الصحف بعد كل حادثة للعنف الطائفي. كان صعود تيارات الإسلام السياسي، وتأسيس جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928، أي بعد أقل من عقد واحد من ثورة 1919، ولاحقًا وصول الضباط الأحرار إلى الحكم، من أسباب تراجع خطاب الوحدة الوطنية، وانسحاب الأقباط إلى الكنيسة مرة أخرى، فيما فقد العلمانيون تأثيرهم بفعل سياسيات تأميم المجال العام في الحقبة الناصرية.

لكن إشكالية خطاب الوحدة الوطنية، لا تكمن في مجرد تحوله إلى سردية رسمية أرشيفية مفرغة المعنى والتأثير، بل في تناقضاته الداخلية الأصلية. فتجسيد الأقباط بوصفهم أحد عنصري الأمة، ووحدتها، كان له أن يقيد قدرة الأقباط على الفعل السياسي المنفرد أو المستقل، في سبيل قضايا تخصهم، فالوحدة هي الإطار الوحيد الصالح للفعل القبطي. هكذا فإن أي محاولة للفعل السياسي القبطي، بخصوص قضايا تتعلق بالتمييز أو الطائفية وغيرها، كان يوصم بخيانة القيم الوطنية، وبالخروج على الصف الوطني، بل وفي أحيان كثيرة استدعاء للتدخل الأجنبي في الشأن المصري الداخلي. هكذا فكما ساهم خطاب الوحدة الوطنية، في تعزيز شعور الانتماء والشراكة لدى الأقباط، فإن تناقضاته الداخلية، حصرت فعلهم السياسي في إطار الحشد الجماهيري للقضايا ذات الطبيعة الوطنية العامة، والموجهة نحو الخارج بالأساس، وهو الأمر الذي قيد إمكانات الفعل السياسي والاجتماعي للأقباط ذات الطبيعة الفئوية. 

المواطنة: خطاب حقوقي وأقلية

في عام 1994، قوبل إعلان مركز «ابن خلدون» في القاهرة، عن تنظيم مؤتمر عن الأقليات في الشرق الأوسط، ضم الأقباط على أجندته، بهجوم شديد في وسائل الإعلام ومن أجهزة الدولة، وأثار «جدلاً عامًا كان هو الأكبر منذ أزمة الخليج وعاصفة الصحراء»، بحسب الدكتور سعد الدين إبراهيم مدير المركز. كان تأطير الأقباط بوصفهم أقلية أمرًا متعارضًا مع الخطاب الوطني الرسمي المعتمد لدى كلا من الدولة والكنيسة، وموضوعًا لحساسية حركات الإسلام السياسي في الوقت ذاته. لكن المؤتمر والجدل المثار حوله لم يكن سوى علامة واحدة على سلسلة طويلة من التحولات في الخطاب المتعلق بالأقباط. فمنذ سقوط الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينيات، ركزت الحكومات الغربية على دعم عمليات التحول الديمقراطي والإصلاح الاقتصادي الليبرالي، في منطقة الشرق الأوسط، عبر وسائل عدة كان من بينها دعم منظمات المجتمع المدني، وخصوصًا المنظمات ذات الطبيعة الحقوقية. كان للتسامح النسبي الذي أبداه نظام مبارك تجاه تلك المنظمات وأنشطتها الحقوقية، سببًا في صعود خطاب المواطنة الحقوقي، فيما يتعلق بعموم المصريين، وحقوق الأقليات الدينية والنساء وأصحاب الميول الجنسية المغايرة. لكن وعلى خلاف خطاب الوطنية، الذي تطلب تماهيا للأقباط في نسيج الأمة، وفرض لا مرئية عليهم داخلها، فإن خطاب المواطنة ينطلق من ركيزتين أساسيتين، أولا تساوي جميع المواطنين أمام القانون والدولة في الحقوق والواجبات بغض النظر عن جنسهم، أو عرقهم، أو انتمائهم الديني وغيرها، وثانيا الحق في التمايز، أو الإقرار بالقضايا والحقوق والمسائل ذات الطبيعة الفئوية لكل جماعة اجتماعية بعينها. يتجاوز الخطاب الحقوقي، كلا من سردية الاضطهاد والوحدة الوطنية التي كبَّلت قدرة الأقباط على الفعل السياسي، وهو الأمر الذي فتح الطريق أمام صعود حراك قبطي واسع ذي طبيعة حقوقية، كما يطالب بمواطنة متساوية أمام القانون، فإنه كان معنيًّا بترسيخ هوية متمايزة للأقباط، لا تتهيب من التعامل مع قضاياهم الفئوية والمجاهرة بخصوصيتها.

لكن وإن كان خطاب المواطنة العامل الأكثر حفزًا لإمكانات الفعل السياسي لدى الأقباط، فإنه لا يخلو من معضلات بدوره. فالنقد الذي يوجهه جوزيف مسعد للخطاب الحقوقي، وسياسات الهوية، والذي يرى فيها محورًا لهيمنة الأجندة النيوليبرالية الغربية، وللاستعمار الثقافي، ولإنتاج هويات مشوهة مفروضة من الخارج، مع حدته ومبالغته، التي تصل إلى حد اتهام منظمات حقوق الإنسان في المنطقة بالعمالة للغرب، إلا أنه لا يخلو من منطق جدير بالنظر. فالخطاب الحقوقي كما يختزل الأقباط في صورة الأقلية، فإنه يختزلهم أيضًا كأفراد إلى مجرد موضوعات قانونية خاضعة لشبكة من علاقات الحقوق والواجبات أمام مؤسسات الدولة. وكما ينتج ذلك الاختزال صورة مشوهة ومنقوصة عن الذات والهوية الجمعية للأقباط، فإنه يستبدل خطاب الوطنية ووحدته القسرية، بتماهي كامل مع الأجندة النيوليبرالية المعولمة وقيمها، والتي تتجاهل السياقات التاريخية والاجتماعية، والمواريث الثقافية واللاهوتية للأقباط وغيرهم من جماعات الأقليات. هكذا وعلى الرغم من أن إحدى ركائز الخطاب الحقوقي هو النضال من أجل الاعتراف بالتمايز والخصوصية الفئوية، فإنه يقود في النهاية إلى فرض هوية معولمة واحدة على الجميع. وفي الوقت نفسه فإن تأطير الخطاب الحقوقي، للأقباط، كأقلية، على الرغم من أنه يتيح لهم إمكانات للفعل السياسي للمطالبة بحقوقهم الفئوية، فإنه يتضمن في الوقت ذاته إمكان التمترس حول تلك القضايا والحقوق الفئوية، وعزل الأقباط عن قضايا أكثر شمولاً، وعن المشاركة في نضالات مواطنيهم، التي لا تقل إلحاحًا وجوهرية. 

خاتمة: لاهوت التحرير وخطابات أخرى

في أحد الأيام الأولى من اعتصام التحرير، إبان ثورة يناير2011، ألقى إيهاب الخراط، أحد شيوخ كنيسة قصر الدوبارة الإنجيلية، كلمة على منصة ميدان التحرير، ختمها بقوله «من ألفين سنة، كان فيه شاب زيكم ثار على فساد وظلم عصره. ومات شهيد زي شهداء الثورة. الشاب ده كان المسيح عيسى ابن مريم». وفيما انطلقت حشود التحرير، على وقع تلك الكلمات التي ألقاها الخراط بحماسة نارية، في الهتاف «الله أكبر...الله أكبر»، كان تأكيد الخراط على أن المسيح كان ثائرًا سياسيًّا ومُصلحًا اجتماعيًّا، لا مجرد مخلص إلهي، وأن صَلبه كان استشهادًا في سبيل قضية إنسانية، لا فقط فداء للعالم من الخطيئة الأصلية، وأنسنته للمسيح وضم شهداء الثورة إلى زمرته في أخوية نضالية ضد الفساد والظلم، هو امتداد لخطاب «لاهوت التحرير»، الذي طوَّرته الكنيسة الكاثوليكية في أميركا اللاتينية منذ الخمسينيات، كلاهوت منحاز للفقراء ومعاناتهم، مدفوعًا لتأطير ممارسة معاشة ونضال عملي ضد السلطات القمعية والأنظمة الاجتماعية الظالمة، كركن أساسي من التجربة الإيمانية ومسؤولية المؤمن تجاه العالم. 

ما تكشفه كلمات الخراط، وخطاب «لاهوت التحرير» التي تبنته الكنيسة الإنجيلية المشيخية، أكبر الكنائس البروتستانتية في مصر، إبان الثورة وبعدها هو أن الخطابات التي تناولتها ورقتنا ليست حصرية، وأن خطابات أخفت صوتًا، لكن لا تقل تأثيرًا، تجد مكانًا لها بين الأقباط. تكشف تلك الخطابات المقاومة والتحريرية الطبيعة المعقدة للمجتمع القبطي، فإن كان معظم الاهتمام البحثي والسياسي منصبًّا على الكنيسة الأرثوذكسية القبطية، التي ينتمي لها غالبية الأقباط، فإن تنوع خريطة الطوائف القبطية وتعقيدها يبدو جديرًا بالالتفات، وبالأخص مع الأخذ في الاعتبار الدور الجوهري الذي لعبته الكنيسة الإنجيلية في ثورة يناير، والذي ساهم في صبغها بصفه الوحدة والتنوع، لكن على أسس تتجاوز مفهوم الوطنية الضيق. 

فإن كان القس سرجيوس خطيب ثورة 1919، فإن الخراط الذي التحق بالعمل السياسي والحزبي بعد الثورة، جدير بلا شك بلقب «واعظ الميدان». تكشف التحولات التي شهدتها ثورة يناير وما بعدها أن الخطابات الثلاث التي تناولتها ورقتنا ليست خطابات مستقلة عن غيرها، فتضمين عناصر من خطاب الاضطهاد، داخل الخطاب الحقوقي والثوري، في أثناء اعتصام ماسبيرو وبعد مذبحته، والذي استعان بمفردات الاستشهاد التاريخية ورموزها الخطابية والبصرية لأيقنة «مينا دانيال» بوصفه شهيد الثورة والكنيسة، يكشف عن الطبيعة الديناميكية لتلك الخطابات، وسيولة حدودها، وعن عمليات التطعيم والاقتراض المتبادلة بينها وبين غيرها من الخطابات.
يظل خطاب الاضطهاد أكثر هيمنة على الوعي القبطي، وخصوصًا بعد انكسار الموجة الثورية، فيما يلعب خطاب الوحدة الوطنية دورًا هامشيًّا وطقسيًّا على المستوى الرسمي. لكن وإن كان كلا الخطابين يفرضان قيودًا على إمكان الفعل السياسي على الأقباط، فإن خطاب المواطنة الحقوقي، على الرغم من معضلاته، كان هو الأكثر حفزًا إلى اليوم للأقباط على الفعل الجماعي والولوج إلى المجال العام. يكشف السرد التاريخي الموجز لتطور تلك الخطابات، الذي قدمته هذه الدراسة أن صعود خطابات مغايرة أرحب وأكثر حفزًا على الفعل السياسي والاجتماعي للأقباط كان مرتبطًا بعوامل سياسية واجتماعية كان من شأنها تصعيد طبقة من العلمانيين، وعلى تحفيز منافستهم لسلطة الإكليروس على تمثيل الطائفة وإدارة شؤونها، في مراحل تاريخية بعينها، وعن أنه في اللحظات المفصلية للتاريخ المصري الحديث، والتي استدعت مشاركة الأقباط في النضال الوطني، فإن خطابات بديلة ولاهوتات منافسة، لا تستسلم بالضرورة لمظلومية الاضطهاد، بل تجد فيه منطلقًا لطموح إلى دولة للمواطنة، والمساواة، والتعايش على أسس دستورية وقانونية، تستلهم روايات وطنية ولاهوتية وتاريخية عدة، وجدت فرصتها للتشكل والانتشار.

وهكذا، ومع الاعتراف بمحدودية هذه الدراسة، في تركيزها على عرض خطابات ثلاثة فقط بإيجاز، فإن هناك حاجة ماسة لتوجيه الاهتمام البحثي إلى البنى والعمليات الخطابية المتعلقة بالأقباط، وسياقاتها الاجتماعية والتاريخية، وفاعليتها في تشكيل الوعي والهوية القبطية، وإتاحتها أو تقييدها إمكانات بعينها لفعلهم السياسي، مع الأخذ في الاعتبار، البنية المعقدة والمتنوعة للمجتمع القبطي وطوائفه وطبقاته، وذلك بغية الوصول إلى فهم أعمق للمسألة القبطية، والوصول إلى حلول ممكنة لفك عزلة الأقباط ومقاومة استثنائهم من المجال العام.