دراسات

لين دويال

الأسس العملية للفهم الإنساني

2018.11.01

ترجمة : مصطفى عبد الظاهر

الأسس العملية للفهم الإنساني

يُعنى هذا المقال بأهمية «النشاط البشري الحسي»، وهو ما بات يُعرف لدى كثير من الماركسيين بـ«البراكسيس» (الممارسة)، ولدى الفلاسفة التحليليين والفينومينولوچيين بـ«الفعل». وإذا أردنا صياغة ما نريد إثباته في هذا المقال بعبارة واضحة، يمكننا القول إننا نطرح هنا أن المعنى ينشأ من العمل لا من اللغة أو الفكر، أي أن ما يفعله البشر –مفهومًا بشكل واسع، لا بالشكل الاقتصادي الضيق، كما سنبين لاحقًا– يمثل أساسًا منطقيًّا وضروريًّا للاتفاق حول ما يقولونه ويعنونه.

لن يُعنى معظم هذا المقال بالإشكاليات الماركسية الأكثر شيوعًا، لكننا سنطرح أن الموضوع الذي نتناوله حاسم بالنسبة للتماسك الفلسفي للنظرية الماركسية. يُمكن أن يُوصف موضوعنا من وجهة النظر الماركسية بأنه يدور حول التقسيم بين العمل الذهني والعمل اليدوي. على أننا سنناقش هذا التقسيم أنطولوچيًّا لا تاريخيًّا. نحن نزعم هنا أن العمل يمتلك صفة القَبْليّة للفهم بشكل يسبق قبلية كل من اللغة والفكر للفهم، ونزعم أيضًا أن هذه الأسبقية ضرورية لإظهار بنى المعنى المتضمنة في اللغة والفكر.

إن الرأي القائل بأن بنى المعنى تقوم على أساس العمل الإنساني لن يكون محل نزاع بين أغلب الماركسيين، لكن ما سيكون محلًا للنزاع هو دلالة وتماسك تلك الأطروحة التاريخية إذا ما فهمنا العمل الإنساني، أنطولوچيًّا، على أنه تركيب لاحق: خليط من المقولات المنطقية والأنطولوچية السابقة عليه -بالتحديد مقولات النشاط البدني ومقولات المعنى العقلي أو اللغوي، بهذا الترتيب. وبينما سيرفض بعض الماركسيين تصور العمل على أنه بناء لاحق، فإنه من الجدير بالملاحظة أن البعض الآخر لن يشاركهم هذا الرفض، معضدين رأيهم بالتفريق الذي قدّمه ماركس بين النشاط الذي يقوم به النحل أو العناكب وبين عمل «حتى أسوأ المهندسين... [الذي] يقيم مبناه في خياله قبل أن يشرع في بنائه على أرض الواقع».

لقد طَوّر ماركس مفهومه حول العمل من خلال نقده لمثالية هيجل. والأطروحات التي نحاول تقديمها هنا تصل إلى استنتاج مماثل لما وصل إليه ماركس، لكن عن طريق آخر. هي تنبع من نقدنا لواحدة من أكثر معضلات الفكر غير الماركسي شيوعًا، بالتحديد تلك المرتبطة بالمثالية «اللغوية»، التي بلغت أقصى أشكالها درامية في صورة النزعة النسبية التي تصدّرت المشهد في مجالات عدة في ستينات [القرن العشرين].لقد افترضت كل تلك المجالات أننا نحيا في العالم الذي نستطيع وصفه، وليس في العالم الذي نستطيع إدراكه حسيًّا كما طرح بيركلي. لقد استُهلكت النسبية الآن كموضة فكرية، لكننا لا نعتقد أن القضية الأساسية التي طرحتها قد تمت مواجهتها بشكل مباشر. وبالفعل لم تدرك معظم الأطراف المشاركة في النزاع الذي أثارته النزعة النسبية ما نقوله هنا. ففي كل الحالات، كانت النسبية المقترحة تستغل عناد مقولة المعنى إزاء أي تحديد موضوعي.

قد لا يبدو واضحًا بهذه البساطة أن الأمر هو كما نقول. فعلى الرغم من أنه يمكن تمييز اتجاهين للمثالية اللغوية يبدوان أنهما مختلفين عن بعضهما بشكل حاد، إلا أن المفارقة أن هذين الاتجاهين لا يلتقيان سوى في النقطة [التي نضعها هنا] محل تساؤل. أول هذين الاتجاهين يمثله بيتر وينش وباولفايربيند، وهو تيار منغمس -بلذة كبرى- في العوامل «الذاتية» ظاهريًا للمثالية اللغوية، ميال بذلك نحو مناصري «العقلانية العلمية الغربية» المتعجرفة. وعلى الجانب الآخر، وبما أن المعنى يفتقر لأي تحديد موضوعي خارجي، يؤسس الكُتّاب البنيويون وما بعد البنيويون (مثلًا: سوسور، وليڤي شتراوس، وألتوسير، وفوكو، وديريدا، وكريستيڤا، وتابعوهم) رؤيتهم على الزعم بأن بنى المعنى تحصل، بأشكال متعددة، على تحديداتها الموضوعية من داخلها.

ومن أجل تصور أن تلك البنى تتمتع بمثل هذه القدرة الفذة، لا بد من افتراض أنها موجودة بشكل مستقل عن ذاتية أي شخص. أما الفرد الذي يستخدم نظام العلامات الذي توفره تلك البنى من أجل أن يقول أو يعني شيئًا، فيُنظر إليه، بالتالي، على أنه ثانوي تمامًا بالنسبة للبنية ذاتها (أيًا كان الشكل الذي تتخذه تلك البنية)، وعلى أنه ذو قيمة إبستمولوجية ضئيلة أو معدومة. وبالفعل، ففي واحدة من الحالات القصوى تتعرض الإبستمولوجيا ذاتها للنبذ، حيث يُزعم أن «الكيانات المُشار إليها في الخطاب مؤسسة فقط على أساس، ومن خلال، أنماط الخطاب التي يشار إليها فيها» (وهذا يُلائم بالضبط التفريق الذي ذهبنا إليه بين المثالية اللغوية وبين مقولة بيركلي: الموجود هو ما يُمكن تصوّره).لكن الحقيقة هي أن الجزء من العالم الذي يتجاوز إمكانيات «خطابنا» الحالي أو «نمطنا المفهومي» على الوصف، لا يُعد، بالرغم من ذلك، عالمًا غير حقيقي بسبب عدم قدرتنا على وصفه، كما يزعم المثالي عندما يدعي أن ما هو حقيقي يعتمد على ما يمكن قوله أو كتابته!

نسبية كواين الأنطولوچية

عادة ما يطرح المناصرون المتنوعون للنسبية التي تنبع من هذا المنطق حججًا تعتمد، بشكل أو بآخر، على التبديل والتوفيق في المعاني والمعتقدات والمرجعيات. فبالتحديد بسبب هذه الإمكانية للتبديل والتوفيق، فإن أي تحديد ثقافي أو نظري محايد للمعنى يبدو كعقبة كؤود. وكان كواين قد استكشف على مستوى تحليلي محض، وبأكثر الطرق تدقيقًا، هذه الحجج وتبعاتها في أطروحته حول «إبهام الترجمة».حيث يقول إن الأنماط المفاهيمية المتنافسة المعبر عنها في كل لغة لا يُمكن تحديدها تمامًا من خلال التجربة. وعدم التحديد هذا ليس استقرائيًا فحسب، بمعنى أن الأنماط المفاهيمية دائمًا ما تكون أكثر عمومية، وبالتالي أكثر عرضة للغلط من أي تجربة قد تؤكدها، وأن قدرتنا على الإحالة إلى ما نعتقد أنه موجود في العالم، وقدرتنا على أن نذكر ما نعتقد في صحته، تمران بالضرورة عبر وساطة المفاهيم المتضمنة بالضرورة في اللغة التي نستخدمها، وهذا ما يغذي الصورة التخييلية القوية القائلة إن اللغة هي «سجن مفهومي».

فبما أنه ليس هناك أي وصف للتجربة يُمكن أن يُتجنب طرحه من خلال لغة ما، لذا فالتجربة نفسها لا يمكن أن تكون حكَمًا بين الأنماط المفاهيمية المتنازعة التي تتضمنها اللغات المختلفة. وهكذا، فأي مجال من مجالات الخبرة سيكون متُسقًا مع أنماط مفاهيمية مختلفة ومتنازعة. ولذا فلا يُمكن لأنماط الترجمة، وبالتالي أنماط الاتصال، أن تقدم ما هو أكثر من تسجيل مصادفة التطابق بين المنطوقات من ناحية، وحالات محددة من التحفيز الحسي من ناحية أخرى. أكثر من ذلك، ستصبح هوية المعنى مُبهمة، وعلى الأخص سيصبح ما يفترض المتحدثون بلغات متباينة أنهم يحيلون إليه (ويؤمنون بوجوده) منسوبًا كلية للأنماط المفاهيمية الكامنة في لغاتهم، وهذا ما يسميه كواين في أطروحته حول «النسبية الأنطولوچية».

ويوضح كواين وجهة نظره حول الإبهام والنسبية في الإطار المتكلف بعض الشيء الذي يُسميه «الترجمة الجذرية»–وهي الحالة التي يحاول فيها المترجم أن يفهم ثقافة غريبة عنه لا يدري عنها أو عن لغتها شيئًا. تتضح في هذا السياق فكرة الأنماط المفاهيمية وتتخذ أكثر صورها جلاءً. هنا تقدم حجة كواين حول الاتصال واللغة أقوى دعم للأشكال المشتقة والأقل تعقيدًا من النزعة النسبية التي ظهرت في السنوات الأخيرة، ومن أمثلتها النقاشات حول «الباراديمات» في حقل تاريخ العلم، وتواصل الحضارات في حقل الأنثربولوچيا، وفهم الأيديولوچيات المختلفة في الثقافات الفرعية في حقل الاجتماع، ورفض «أسطورة المرض النفسي» في حقل علم النفس. لكن بعيدًا عن تأثيره الصريح أو الضمني، فعندما نفحص بعض عواقب موقف كواين -وما يرتبط به من أشكال للنسبية- سيكون من الواضح أنه يعاني من بعض المثالب الخطيرة؛ اثنان من هذه المثالب على الأخص سيهماننا هنا.

أولًا، يبدو تبعًا لوجهة نظر كواين أنه من المستحيل من حيث المبدأ التمييز بين تلك الخلافات المتعلقة بالحقائق من ناحية، وبين سوء فهم معنى ما يقال من ناحية ثانية. ففي حالة «الترجمة الجذرية» يبرز السؤال «هل يعني هؤلاء الغرباء حقًا ما يبدو أنهم يزعموه حول العالم أو حول أنفسهم؟ فنحن قد نعتبر أن معتقداتهم خاطئة، وقد نكشف فهمنا لما يقصدونه بشكل صحيح. يطرح توماس كون على سبيل المثال إشكالًا مشابهًا بإحالته الشهيرة إلى «النقلات البنيوية» في معرض مناقشته لصعوبات التواصل بين الباراديمات.

ومع ذلك فلا يُمكننا حصر مشكلة ثنائية الرفض وسوء الفهم في حالة الترجمة الجذرية، لأنه من الممكن، وبالقدر نفسه، أن نسيء فهم ما يقوله أحد جيراننا، تمامًا كما يمكننا أن نسيء فهم الغريب. فإذا ما رُبطت أطروحة الإبهام بنظرية ما للاتصال، فسوف يترتب على ذلك أننا لن نتأكد أبدًا من أننا قد تواصلنا مع أي إنسان آخر، وهذا ينفي أي تمييز بين الفهم العادي والترجمة الجذرية. وهذا لأن «الاتصال» عند كواين لا يعدو أن يكون تلفظ أفراد مختلفين بالأصوات نفسها في شروط متماثلة من التحفيز الحسي.

فقد أوضح كواين بجلاء أكثر من أي مفكر آخر أنه ليست هناك أي «معاني» قابلة للتحديد موضوعيًّا للمنطوقات المتشابهة التي يصدرها متحدثان أو أكثر يتكلمان بلغات مختلفة (أو حتى باللغة نفسها)، أكثر من ظرفهما المتماثل في التحفيز الحسي، وأنه نسبةً لتلك الظروف تكون معاني ما ينطقونه غير محددة.

ولكن إذا كان الأمر لا يتعلق بفهم أو سوء فهم ما يُقال، فما الذي يُنقل إذًا عندما نتحدث [مع بعضنا البعض]، بحيث يؤدي أمر ما إلى الاتفاق وآخر إلى الاختلاف؟ بتعبير آخر: بما أنه لا مناص من شيء من الفهم ليكون قول ما موضعًا للاختلاف أو الاتفاق، فليس من الواضح من وجهة نظر كواين ماهية ما قد يكون موضوعًا للاختلاف أو الاتفاق. لا بد أن يكون اتفاقنا شيئًا أكبر من مجرد مصادفة أننا جميعًا نصدر الأصوات نفسها في مواقف متماثلة من ناحية المحفزات الحسية، كمجموعة من الببغاوات ذات التدريب المتشابه التي تردد أغنية شعبية [واحدة] في مناسبة ما.

إذًا، وهذه هي نقطتنا الثانية، فمن الممكن استنتاج أمرين من هذا فيما يتعلق بإمكانية فهمنا للتغيير الثقافي والمفهومي. فـ[إذا أيدنا النسبيين] سيكون مثل هذا التغيير بالضرورة غير قابل للفهم في مضمونه وغير قابل للتفسير في دوافعه. لنفترض أن كواين على حق وأن المعيار الوحيد للاتفاق/الفهم ليس أكثر من قول الشيء نفسه في ظل المحفزات [الحسية] نفسها. إن كان هذا صحيحًا فسيترتب على ذلك أن أي تغيير فيما يُقال يُفترض فيه مُسبقًا أنه غير مفهوم، لأننا في هذه الحالة لم نعد نقول الشيء نفسه في ظل المحفزات نفسها. وبشكل أكثر تحديدًا، فنحن لن نستطيع أبدًا عبر معيار كواين أن نفرّق بين شكنا في حقيقة آراءنا المُسبقة وبين توقفنا عن فهم ما كنا نقوله، وتلك هي بالضبط المعضلة التي طرحها توماس كون فيما يخص الثورات العلمية. وعلاوة على ذلك، فإن كان ذلك وصفًا مناسبًا لما هو حقيقي وعقلاني، وإن كان محددًا كلية بواسطة الثقافة الحالية، فما الذي يمكنه أن يحفز التغيير الفكري أو الاجتماعي، ناهيك عن تحديد ما يمكن أن يكون أو لا يكون تقدميًا في أي تغيير بعينه؟ إذا كان المرء حبيس «سجن مفهومي» ولكن ليس لديه أية وسيلة لمعرفة ذلك، فالهروب من هذا السجن سيكون بلا معنى، ولن يرغب فيه أحد على كل حال.

إذًا، فإن هناك ذلك المنطق القائل إن الاتصال بين الجيران وعبر الثقافات لا يعدو أن يكون نطق الأصوات نفسها في الشروط نفسها. فإن كان هذا المنطق ليس صحيحًا بين الجيران، [وهو بالفعل ليس كذلك]، فإنه لن يكون واضحًا ماذا نعني عندما نتحدث عن «الاتصال». ومن ناحية أخرى، ونظرًا لميلهم لاستخدام الأمثلة الأنثروبولوچية التفصيلية، فإنه من الواضح أن النسبيين يعتقدون أنه من الممكن فهم الثقافات المختلفة جذريًّا. كذلك، لا أحد سيُنكر أننا أصبحنا الآن قادرين على القيام بأشياء كان يُعتقد في الماضي أنها من ضروب المستحيل، وأن تلك الاختيارات الجديدة غالبًا تعكس تغييرات تقدمية. في هذا السياق، لا شك أن الاتفاق أو الاختلاف على مثل تلك الأمور لا بد وأنه يتضمن عبئًا أكبر من ذلك الذي يمثله تطابق المنطوق مع المحفز الحسي.

وينطبق الأمر نفسه على الثقافات التي حُرِمت من مثل تلك الاختيارات. فبالفعل، ربما يكون المنتمون إلى هذه الثقافات غير واعين بتلك الاختيارات نتيجة لأنماطهم المفهومية، إلا انه سيكون ضربًا من الإمبريالية والعنصرية أن نزعم أنهم ليسوا في حاجة إلى الاختيار أو ليسوا قادرين عليه من حيث المبدأ، تمامًا كحالنا نحن الذين ننتمي إلى الثقافات التي لم تعان مثل هذا الحرمان. على سبيل المثال، إذا كان متوسط الأعمار المُتوقع في ثقافة ما لا يُجاوز الأربعين عامًا، وإذا كان السكان هناك يقبلون ذلك، فلن تكون سوى عنصرية فجة إن قلنا إنهم يجب ألّا يفعلوا شيئًا تجاه هذا الأمر. وبما أن توافر الخيارات ينبني على المعتقدات بشأن ما هو ممكن وما هو غير ممكن، وبما أن بعض المعتقدات تقدم أكثر من غيرها في هذا الصدد، فإن اتساع الاختيارات عبر التاريخ يعكس ما سماه هيجل «مسيرة العقل» التاريخية. إن مشكلة التقييم العقلاني للنشاط البشري لا تكمن في التساؤل حول إمكان نشاط البشر أو استحالته، ولكن في البحث في سبب حدوثه وكيفية استمراره. وبشكل أو بآخر، يجب التوفيق بين وقائع هذا التقييم وما يرتبط به من تواصل بشري، وبين فهم الآثار الفلسفية الصائبة لإبهام الترجمة.

لقد اقترح بيتي وماكدونالد مؤخرًا مقاربة أكثر جدوى لتلك الإشكالية، حيث ذهبا إلى أن النشاط العملي المشترك [للبشر] يقع في القلب من عملية الترجمة الناجحة ومن التقييم العقلاني للممارسات الثقافية المتنافسة. النقطة المفتاحية في أطروحتهما هي أن بعض النشاطات لا يُمكن بالقطع إنكار تشابهها في كافة الثقافات، وأنه بمجرد قبول ذلك يُمكن اعتبار الأنماط المفهومية التي تتيح مجموعة أكثر تنوعًا من تلك الأنشطة - وبالتالي مجموعة أوسع من الخيارات- أكثر عقلانية من منافسيها. إننا نذهب في هذا المقال إلى أن فهم أية لغة يعتمد على فهم مسبق لمجموعة من النشاطات العملية التي يُمكن أن تُفهم بدرجة ما في حد ذاتها. سنحاول هنا أن نبين أن اتباع مثل هذا النهج يُمكننا من تحويل أرضية النقاش والتقييم العقلاني إلى خارج الدائرة المغلقة لنمط مفهومي واحد، دون نسبته إلى النجاح البراجماتي في مثل تلك النشاطات. فإذا نجحنا في هذا الصدد، سيترتب على ذلك أن النشاطات من هذا النوع، وليس اللغة أو الفكر، هي ما يوفر الأساس لفهم الحياة الاجتماعية، ولفهم العالم المادي الذي تدور فيه تلك الحياة الاجتماعية. النشاطات العملية، التي تمتلك القابلية للفهم في حد ذاتها، ستكون هي الأساس الحقيقي للحياة الاجتماعية، ليس فقط بمعنى ضرورتها لاستمرارية حياتنا، ولكن أيضًا بالمعنى الأكثر عمقًا المتمثل في أنها كمفهوم نظري – العمل Labour– لا بد أن تكون في قلب أي فهم نُحصّله للحياة الاجتماعية كمشاركين أو كعلماء اجتماعيين.

الترجمة الجذرية و«النشاطات التأسيسية»

من الواضح أن بعض الأنشطة سيكون من المستحيل تحديدها، وبالتأكيد المشاركة فيها، دون فهم مسبق ما للقواعد الثقافية المرتبطة بها. بهذا المعنى، يُمكن القول إن هذه الأنشطة ذات خصوصية ثقافية، ومن أمثلة ذلك النشاطات التي تعطي لأية ثقافة هويتها الخاصة. وهكذا، فإن الألعاب والطقوس والاعتقادات الكوزمولوچية -أي مجموعة التقاليد ذات الخصوصية «المحلية» الواضحة- كلها ظواهر محددة ثقافيًا بهذا المعنى. هذه هي النشاطات التي يستخدمها كُتّاب مثل ونش ودوجلاس لدعم حججهم النسبية. قد يكون التقييم العقلاني لمثل تلك النشاطات مهمًا أو لا. فبقدر ما إن المشكلة هي مجرد تحديد للأنشطة الغريبة، فإن مسألة التقييم العقلاني ترتبط ببساطة بمدى نجاح الترجمات ذات الصلة. وهنا فإن النظام المفهومي الذي يبدأ المرء في استيعابه نتيجةً لذلك، لن تكون له إلا أهمية ضئيلة، لا تتجاوز بأي حال الفضول اللغوي. أما إذا كانت أهميته تتجاوز ذلك، مثلًا بتحفيزه الرغبة في تقييم فضائل الطرق المجاوزة للطبيعة  لفهم وعلاج المرض مقارنة بالطرق الطبيعية، فسوف يستتبع ذلك بالقطع حتمية الترجمة الدقيقة. وبشكل أدق، فإذا لم يطوّر المرء الكفاءة اللغوية لتحديد الفارق بين الأشياء الطبيعية وفوق الطبيعية، سيبقى من المستحيل حتى أن يفهم ما يحدث، ناهيك عن تقييمه. وبالتالي، فإن المشكلة التي يواجهها كل من أصحاب الطرح النسبي والطرح غير النسبي تتعلق بقدرة المترجم الجذري على النفاذ إلى اللغة الغريبة دون أن يمتلك أية معرفة بقواعد هؤلاء الغرباء -وهذا يعد بالنسبة للنسبي تناقضًا في المصطلحات.

يتضح من ذلك شيء واحد: إذا لم يكن هناك تواصل ما، بصورة ما، بين البشر قبل تعلم لغة الغرباء، ستصبح الترجمة الجذرية مستحيلة. بتعبير آخر: من الضروري أن تكون هناك ثقة في وجود جسر للترجمة لا يعتمد على اللغة. إذا اختفـى مثل هذا الجسر، لن يكون لدى المترجمون طريقة لتعريف أنفسهم على أنهم بشر، ناهيك بأصدقاء، والأهم أنه لن تكون لديهم وسيلة لتقييم فرضية الترجمة الأولى التي سينبني عليها عملهم فيما بعد. باختصار، يجب عليهم أن يفترضوا مسبقًا أن بعض أنشطة الغرباء تتطابق مع أنشطتهم هم، وأن اللغة التي يستخدمها الغرباء لوصف تلك الأنشطة من الممكن ترجمتها إلى لغتهم هم. إذا لم يكن الأمر كذلك، سيجد المترجمون أنفسهم أمام متاهة لغوية لا يمكن لمن هم خارجها دخولها ولا يمكن لمن هم بداخلها أن يخرجوا منها.

من الآن فصاعدًا سوف نسمي الأنشطة التي يُمكن أن نجد فيها درجة من الاتفاق سابقة على الترجمة «النشاطات التأسيسية». يمتلك كل من المترجم والغريب، كل حسب لغته الخاصة، نظرية حول طبيعة تلك الأنشطة، نظرًا لأهميتها، بشكل أو بآخر، بالنسبة لأي نمط من أنماط الحياة البشرية، من أجل البقاء المادي. على سبيل المثال، وأيًا ما كانت الخلفيات الثقافية، سيشترك كل من المترجم والغريب في قدر معين من الفهم للطرق الإنسانية والاجتماعية المتميزة للقيام بمجموعة متنوعة من الأشياء المختلفة (مثل الأكل والنوم والإنتاج الزراعي والتكاثر والبناء والإيواء والتداوي واللعب وما إلى ذلك). لا يمكن لأي من تلك الأنشطة أن تُمارس من خلال أية طريقة عشوائية، لأنها مقيدة بقوانين الطبيعة التي تؤثر ، على سبيل المثال، في الصحة البشرية وتوصيل أنواع معينة من المشاعر، وعمليات الزراعة والإنتاج التكنولوجي، وإمكانية تمثيل ونقل وحفظ المعلومات.

على أن هذا التصور حول وجود نوع من الاتساق [والتماثل] بين أنواع معينة من الممارسات الاجتماعية [التأسيسية] يجب ألا يتم خلطه مع المفهوم الرجعي القائل إن «الشرط الإنساني» لا يتغير. فصحيح أن قوانين الطبيعة لا تتغير، لكن الذي يتغير هو الطرق التي تقيدنا بها على خلفية الحدود التي يفرضها علينا فهمنا النظري والعملي. على سبيل المثال، لم تتعرض طريقة التناسل البشري لأي تغيير، وهي بالقطع تضع ما يمكن النظر إليه بوصفه قيودًا مطلقة حول ما يُمكن ولا يمكن فعله، لا سيما في صلتها بماضينا التطوري. ولكن حتى في حالة التكاثر، فإن التكنولوجيا الحديثة (مثل وسائل منع الحمل، والتلقيح الصناعي) قد غيرت من طبيعة القيود التي نواجهها. ويُمكن أن يُقال الشيء نفسه عن الشيخوخة والألم والمتعة. وهذا يختلف عن حالة بقية الكائنات التي لا حيلة لها أمام القيود الطبيعية التي تتعرض لها. وبدون تمييز كافي، يدمج سيباستيان تيمبانارو كلا النوعين ضمن ما يسميه بالشرط الإنساني. وسنقوم لاحقًا بتوضيح مفهوم القيد في هذا الصدد في محاولة أخرى لتوضيح الفرق بين ما هو إنساني مميز وبين السياق العام للقوانين الطبيعية الثابتة المشتركة بين جميع الكائنات الحية.

وبالتالي، وبالعودة إلى السؤال حول ماهية ما قد يُعد نشاطًا تأسيسيًا وما ليس كذلك، فإن الاختبار الأساسي هو قدرة المترجم على المشاركة في «النشاط»، وعلى إدراك ما يمثل نجاحًا فيه وما يمثل فشلًا، دون أن يحتاج إلى أن يقول أي شيء بالضرورة. هنا فقط سيكون ممكنًا حل مشكلة «غموض المرجعية غير القابل للتجاوز» التي يطرحها كواين في مثاله الأثير حول الإشارة والتسمية.فبما أنه من الممكن أن يبدو أن الأجنبي يشير إلى شيء معين (الأرنب على سبيل المثال) ثم نكتشف بعدها أنه يشير إلى شيء آخر (على سبيل المثال جزء من أجزاء الأرنب)، فإنه فقط بالعودة إلى مرجعية الاتفاق العملي سيتمكن الطرفان من الوصول إلى قرار دقيق بشأن ما الذي تتم الإشارة إليه.

وهكذا، فإنه قبل أن يكون ممكنًا، مثلًا، تعريف نشاط محدد ثقافيًا مثل تزيين المأوى، سيكون من الضروري تعريف النشاط التأسيسي المتمثل في «بناء المأوى» في حد ذاته. حينئذ، سيكون ممكنًا التمييز بين ما هو تزييني وبين ما هو بنيوي/تأسيسي. تخيل أن المترجم يواجه مسألة بناء كوخ في ثقافة غريبة عنه، هناك الكثير من الأشياء التي ستكون معروفة لديه عن عملية البناء تلك (مثلًا: كيفية تثبيت عامود الدعم قبل وضع السقف). في هذه الحالة، ودون أن يقال أي شيء، سيكون من الممكن مبدئيًا أن يُشارك المترجم ويساعد في تلك العملية، وهو ما يوصل رسالة للغرباء أن المترجم قد فهم شيئًا ما مما يدور، وأنه (ضمنيًا) يستخدم الأكواخ أيضًا. هذه القابلية للفهم المسبق هي التي تضع المترجم في موضع يسمح له بترجمة شيء من اللغة الغريبة المرتبطة بنشاط البناء التأسيسي (مثلًا: استخدامهم لكلمة سقف أو دعم أو حائط، وللكلمات المرتبطة بمواد وأفعال البناء والتعرف على الأدوات النحوية في أقوالهم). الأمر نفسه ينطبق على بعض الأنشطة الأخرى التي قد تكون أقل اقتصادية، حيث يمكن أن يشترك المترجم مع الأجنبي في: احترام الموتى، والتأليف الموسيقي، وطهي الطعام وما إلى ذلك.

وهكذا، فباختبار فرضية الترجمة بهذه الطريقة يكون قد تحقق ما هو أكثر من «الإشارة والتسمية والتوكيد»، (ما يحب كواين أن يُسميه «تسجيل أنماط التوكيد والنفي لدى الغرباء»). إن استعمال اللغة هنا يستلزم استخدامها بشكل نشط للقيام بالأشياء–أي لتحقيق أهداف مفهومة بالفعل إلى حد ما (على سبيل المثال: التواصل الناجح حول الطريقة المثلي لتثبيت السقف أو الأرضية أو ما إلى ذلك). أما في حالة استخدام استقصاء الترجمة المقتصر على التنبؤ بأنماط التوكيد والنفي في ظل ظروف معينة من التحفيز الحسي، فسيكون هناك بالقطع تنوعًا لا نهائيًّا من الغوامض التي ستعيق التحديد الحاسم لمعنى المفاهيم الغريبة؛ على سبيل المثال: ستصبح ترجمة كلمة سقف مبهمة، وسيصبح من الممكن أن تعني جزءًا من السقف أو القش المستخدم في صنعه، أو أي حائل للمطر. وهكذا، فإن احتمالات الإبهام سوف تتناقص إذا فهمنا الدور الذي تلعبه اللغة الغريبة في إنجاز الأنشطة التأسيسية. في مثال السقف السابق ذكره، سيتم اعتماد ترجمة لكلمة السقف بناءً على الترجيح في سياق عملية بناء السقف أو إصلاحه (فعليًا أو افتراضيًا). وبالتالي، فإنه حين يتكشّف أمر ما عمليًا باستخدام الكلمات، يمتلك المترجمون ما يمكن تسميته بالسبق فيما يتعلق بالغموض الظاهري. فبما أن الأنشطة العملية ذات الصلة ستصبح تأسيسية ومن الممكن المشاركة فيها دون استخدام اللغة، سيكون من الممكن، منذ بدء عملية الترجمة، الاتفاق مع الغرباء -إلى حد ما على الأقل- حول المطلوب فعله، وحول كيفية استخدام اللغة في القيام بذلك. يجب أن يُنظر إلى هذا النوع من النشاط على أنه شديد الاختلاف عن مجرد الإشارة إلى الأشياء وتسميتها.

وبالمثل، وفيما يتعلق بمثل كواين الشهير[المذكور سابقًا]،فإن كلمات مثل «أرنب» و«جزء من أرنب» و«لحظة من لحظات الأرنب» إلخ، قد تكون جميعها معادلات محتملة لكلمة «جافاجاي» [gavagai] التي سيسمعها المترجم ببساطة عند أخذه في جولة في غابة الغرباء. لكن الأمر نفسه لن يحدث إن سمع الكلمة نفسها على مائدة العشاء. إذ لن يكون ممكنًا ساعتئذ أن يأكل المترجم «لحظة من لحظات الأرنب» أو «لمحة من الأرنب»، ولن يكون ممكنًا أن يقترح على الغريب أن يفعل ذلك. وعلاوة على ذلك، فإنه ليس من المحبذ في مثل هذه الظروف أن يخلط المترجم بين الأرنب وبين الجزء الذي تحث الأعراف المحلية على أكله أولًا.

لا شك أن النشاطات التأسيسية ستوصف بلغة المترجم ولغة الغريب. ولكنها، على العكس من الأنشطة ذات الخصوصية الثقافية الخاضعة لتنوعات لا نهائية، تتحلى بثبات لا يتعرض للتغير بتغير اللغة. فعلى سبيل المثال؛ لا يمكن للمرء أن يبني مأوى أو أن يستخدم اللغة في عملية بناء مأوى إلا إذا تم استيفاء شروط معينة، هذا بغض النظر عن الكيفية التي يفهم بها العالم الذي يأتي هذا المرء منه معنى «المأوى». فالمأوى الذي لا تتوفر فيه القدرة على «الإيواء» لا يعد مأوى على الإطلاق بالنسبة لأي شخص. فلو كان ما يقوم به الغرباء، على سبيل المثال؛ بناء ينهدم باستمرار بمجرد تشييده، سيكون من سوء الفهم أن يطلق على هذه العملية بناء مأوى. وإذا كانت اللغة الغريبة لا تتضمن عناصر تسهل حقًا من عملية بناء المأوى -والحقيقة أن بعض الثقافات لا تكترث بذلك- فإنها لا تحتوي على عناصر يُمكن نقلها إلى المفردات الإنجليزية الخاصة بعملية البناء.

ليس من الحتمي أن تكون الأنشطة التأسيسية عالمية بالنسبة لكل البشر من أجل أن تخدم الغرض الذي أنطناه بها [غرض خلق جسر للتواصل بين الثقافات]. فالتداخل بين الأنشطة التي يمارسها مجتمع المترجم ومجتمع الغرباء هو أمر عرضي وليس حتميًا. فنشاط البيع والشراء على سبيل المثال، وهو بالتأكيد نشاط لا يمارس بشكل عام في كل المجتمعات الإنسانية، سيكون مفهومًا فورًا لك كمترجم، حتى لو كنت قد هبطت على المجتمع الذي يمارس مثل هذا النشاط وأنت لا تفهم كلمة واحدة من لغته. وفي المقابل، فإن نشاطًا عالميًا بحق مثل «الولادة» يمكنه أن يكون -مثلما هو الحال بالفعل في بعض المجتمعات- أمرًا يدور فقط في أوساط النساء، إلى درجة أن أي مترجم ذكر لن يتمكن من استخدامه في إقامة جسر تواصل بين ثقافتين من خلال الترجمة.

وفيما يتعلق بالأنشطة ذات الخصوصية الثقافية، فإن الأمر يبدو كما لو أن في مقدورنا أن نفعل أو نقول أي شيء، بمعنى أنه يبدو أنه لا يوجد أي قيد قبلي على الخيال الأسطوري. بيد أن هذه الأنشطة لم تدخل حيز الإمكان بشكل مادي إلا عن طريق الأنشطة التأسيسية في المجتمع المعني، حيث إن هناك طيف من القيود الطبيعية المحيطة بها. فعلى سبيل المثال، فإن الاستخدام الناجح لأي لغة في النشاط التأسيسي لبناء مأوى لن يتوقف فقط على ما يمكن قوله عن طريق اللغة، ولكن أيضًا على ما يمكن القيام به تبعًا للقيود البيئية والمادية والجسدية، وهذا لن يتضح سوى عن طريق ما ينتجه الفاعلون. ومن ثم، ثانية، كما هو الحال بالنسبة للأنشطة التأسيسية الأخرى، إلى الحد الذي ينتج فيه الناس الأشكال نفسها ويتشاركون  الطرق الإنتاجية الهادفة نفسها، يُمكن أن يُقال إنهم متفقون فيما بينهم. وبقدر ما يُمكننا، كمترجمين، أن نتشارك ونُشارك بنجاح في هذه الأنشطة، يُمكن لنا أن نتفق معهم، بدلًا عن أن نبدو هكذا ظاهريًا. ومن هذا الاتفاق الحقيقي، يُمكن - على العكس من سوء الفهم- الاعتراف بعد الاتفاق، ويمكن للمترجم التمكن من لغة غريبة. بالطبع، يُمكن أن يُكتشف فيما بعد أن اعتقادات الغرباء مختلفة أتم الاختلاف، ولا شك أن هناك حالات يصعب فيها التفريق بين الخلاف وسوء والفهم، ومع ذلك، فإن المترجمين إما امضوا أيامًا في مساعدة الغرباء في بناء مأوى، أو اشتركوا معهم في لعبة مطاردة، أو في أحد الأنشطة التأسيسية الأخرى قبل التمكن في لغتهم لمناقشة اعتقاداتهم حول السحر أو الأرواح وما إلى ذلك، حينئذ، يبدو أنه ثمة مخرج من المعضلة الأصلية في عملية الترجمة. يُمكن حينها أن يمتد احتمال الخلط بين سوء الفهم والاختلاف إلى نقاش حول سبب نجاحهم في مطاردة على سبيل المثال. هل، مثلًا، منحتهم « روح الغزال» فرصة لاقتناص فريستهم أم لا؟ لكن المترجم لن يكتشف فجأة، بعد يوم طويل من مطاردة غزال واصطياده وأكله مع الغرباء، هو أن سوء فهم ما قد حدث، أو أن عملية الصيد لم تحدث على الإطلاق.

لقد أوضحنا حتى الآن أنه من أجل إجراء ترجمة جذرية بأي شكل، أو على الأقل تحقيق أي قدر من النجاح في ذلك، يجب أن يكون ثمة قدر من الاتفاق بين المترجم والغريب حول ما يجري عمله وحول طريقة استخدام اللغة في ذلك. توفر النشاطات التأسيسية الفرصة لمد «جسر الترجمة» الذي يساعد على تفسير اللغة الغريبة لتصبح مفهومة بقدر ما قبل استعمال اللغة، وتوفر مثل تلك النشاطات السياق الاجتماعي الذي يتعلم الأطفال من خلاله اللغة من خلال ثقافة نشأتهم. في مسار تطور تلك الحجة، يتساوى اكتساب اللغة مع الترجمة الجذرية بما أنها تعتبر حالة اختبار مفيدة لاعتبارات متعلقة بمشكلات المعنى والإبهام والحقيقة، إلا أن هذا التساوي إشكالي للغاية. فإذا كانت أوجه الغموض في الإشارات الظاهرية تثير مثل تلك العقبات الكبرى أمام المترجمين الجذريين الذين يمتلكون خبرة لغوية بالفعل، فإن الأطفال في مواجهتهم للغموض نفسه، وبدون أية أدلة لغوية، يمكن أن يغرقوا في الصمت إلى الأبد. وبما أن ذلك ليس صحيحًا، فقد قيل إن تحليل كوين السلوكي لمسألة تعلم اللغة لا يمكن أن يتم التوفيق بينه وبين أطروحته حول الإبهام. سنذهب الآن إلى توضيح كيف أن الغموض المرجعي يشير إلى ضرورة وجود سياق عملي للاتفاق بين المعلم ومتعلم اللغة.

يرى كوين، انه بمجرد أن يتعلم الطفل تطبيق اسم محدد، مثل «أزرق» أو «قطة»، بشكل صحيح على تجربة ملائمة، فسيمكنه بعد ذلك تطبيقه على تجارب مماثلة أخرى من خلال تقرير ما إذا كان الشيء الجديد يتطابق بما فيه الكفاية مع القديم. لذلك، على سبيل المثال، عندما يواجه الطفل درجة مختلفة من اللون الازرق، أو نوعًا مختلفًا من القطط، سنجد أن الطفل، بشكل أو بآخر، يمتلك القدرة الفطرية على أن يرى أوجه التشابه والاختلاف. وعلى أساس هذه القدرة، سيعمم بشكل استقرائي ويستخدم الأزرق والقط بشكل صحيح أو غير صحيح حسب الحالة. وهذا أمر غير معقول، فعلى جانب، يُمكن استخدام اسم ما، مثل القط، للإشارة إلى مجموعة واسعة من التجارب، ومن ناحية أخرى، سيتم توظيف مجموعة من الأسماء، مثل الأزرق والفيروزي، للإشارة إلى تجارب شديدة التشابه في الواقع. لذلك، حتى لو كان الطفل مؤهلًا لاستخدام كلمة الأزرق وتطبيقها على أحد درجات اللون، فلماذا نفترض أنه سيكون قادرًا على الأمر  نفسه مع كافة الدرجات الأخرى التي لم يتعرض لها؟ وبالمثل، إذا واجه الطفل مجموعة أخرى من الأسماء لدرجات أخرى من اللون، والمشابهة إلى حد بعيد إلى اللون الذي تعلمه في البداية، فهل يمكن نفي أثر ذلك التدميري على أي تكيّف ثابت تم إنشاؤه بالفعل؟ وهكذا، فإن الإشارة الظاهرية وحدها - حتى مع أنماط ثابتة من التعزيز- تبدو أكثر غموضًا من أن تشكل أي أساس بسيط لتعلم اللغة.

بالقدر نفسه لا يوفق التحليل السلوكي في تفسير اكتساب القدرة على الجمع النحوي بين الكلمات، فيرى كوين، أن القدرة الفطرية على التعميم الاستقرائي توفر هذه الآلية، على سبيل المثال، يتعلم الطفل أولًا كلمات مثل «قدم» و«جرح»و«يد»، ويحدث التعزيز الإيجابي عندما تدمج «جُرحت يدي» في موقف ملائم والأمر نفسه يحدث عندما تدمج «جرحت قدمي» في حالة ذات صلة. لذلك، يقال ان الطفل يعتاد على دمج الكلمات وعلى البحث عن المرادفات ويؤدي فهمه للجملة إلى تعزيز عادات نحوية تعمل بالتوازي مع قدرته الفطرية الاستقرائية. ولذلك، يتعلم الطفل قواعد نحوية محددة تتميز بأنها متوقعة من قبل تعلمها بالنسبة إليه، إلا أن تجارب الطفل الأولية مع القواعد النحوية لا تقل غموضًا عن تجربته الأولى مع الأسماء، على سبيل المثال، لنلاحظ الفرق بين التسمية والتوكيد. لماذا قد يتعلم الطفل التفريق أو التمييز الإيجابي بين «قدمي» و «جُرحت» كأسماء في جملة «جرحت قدمي؟» فهي مترتبة ببساطة على تكرار الألفاظ، والوالدان لن يكونا قادرين على تحديد ما الصحيح وغير الصحيح في استخدامه، ومن المفترض تبعًا لذلك أن الطفل لن يتضح له ما يمكن أن يحصل مقابله على مكافأة وما ليس كذلك. في الواقع، حتى لو كان الطفل يجمع بشكل صحيح بين مجموعة من الكلمات بطريقة توحي أنه يتبع قاعدة نحوية معينة، سيظهر الغموض نفسه حين يحاول أن يستخدم القاعدة نفسها بالنسبة لكلمات مختلفة مثل «جرحت يدي» وكما هو الحال، ستبقى الاستجابات اللغوية لكل من الوالدين والأطفال مبهمة، وليس لها نمط واضح من التعزيز الإيجابي أو السلبي يمكن تعلمه.

ليس هناك شك في أن الإشارة الظاهرية مبهمة، كما يقترح كوين. لكن ليس هناك شك أيضًا في أنه إذا تم تعلم اللغة بنجاح، ستحل مسألة الإبهام بشكل من الأشكال من خلال الممارسة. ما يجب توضيحه هو طبيعة تلك «الممارسة» فكما في حالة المترجم الجذري، لا تتشكل الممارسة بداية من خلال نشاط الإشارة أو التسمية أو تسجيل انماط التوكيد والرفض لدى أولئك الذين يستخدمون الأسماء بشكل افتراضي. بل تنطوي الممارسة على استخدام اللغة لفعل أشياء قد تم تعلمها بالفعل. على سبيل المثال، فإن لغة الأدوات في الإنجليزية موضوع لكل ما وصفناه من غموض مرجعي، فالأطفال لا يتعلمون ما هي «المطرقة» لأنها عادة ما تدعى بهذا الاسم وتحمل تشابه الإدراك الحسي نفسه مع أشياء يُشار إليها بالطريقة نفسها. إن الإبهام أكبر على مستويات متعددة من أن يكون ذلك ممكنًا. إن تعلم اللغة يسبقه تعلم (أو على الأقل «إدراك» فكرة «الطَرق» وفهم أن طرق الارتباط مع النسب إلى اسم المعني لا تتعلق فقط بالتصور ولكن بشبكة علاقات النشاط العملي، الأمر الذي يتحول إلى نجاح أو فشل في استخدام اللغة. جرب مثلًا أن تطرق بعض المسامير بدقماق (مطرقة خشبية) وسترى فجأة أن التشابه كبير جدًا لكنهما شيئين مختلفين. بدون القدرة على المشاركة الفعالة في بعض الأنشطة قبل تعلم اللغة المرتبطة بها لن يكون الرضيع في وضع يسمح له باختبار ما هو مناسب وغير مناسب لغويًا لتلك الأنشطة إلى الدرجة التي تمكنه من تحديد التمييز اللغوي. إن التحفيز الحسي ليس هو الأمر المرتبط بهذه الأحكام؛ بل ما يفعله الطفل والأخرون مما يركز الانتباه على ما يتحدثون عنه. وحدها المدخلات الحسية لدى الطفل فيها من الثراء والاستمرارية لتوفير التركيز على اهتمامها.

مشكلة العقلانية

من هنا، يمكن أن نقول إن كل من الأطفال والمترجمين يطورون مهاراتهم اللغوية العامة من خلال تحديد النشاطات التأسيسية والمشاركة فيها. فإذا قلنا إن المترجم والغريب يقيمون مثل تلك الأنشطة عقلانيًا بشكل سابق على تطوير ملكاتهم اللغوية، فإن التقييم العقلاني، كما يقترح النسبيون، لا يمكن أن يُبنى على أساس الاستعمال اللغوي لدى أصحاب اللغة الأصليين. يبدو أن هذا هو الحال في الممارسة، على سبيل المثال، هناك بعض الحالات التي لا يمكن فيها بناء مأوى، أو زراعة محصول أو علاج مرض؛ بغض النظر عن الثقافة. فالمحاصيل لا تنمو عن طريق إحراقها، ولا تلتئم جراح مريض بقطع رأسه. فقبل اكتساب الملكة اللغوية، فإن المترجم الجذري المشارك في النشاط التأسيسي سيكون قادرًا على التعرف على الشيء الصحيح الذي يمكن فعله، على سبيل المثل: تثبيت دعامة المأوى في الزاوية الصحيحة تمامًا لوضع السقف بشكل صحيح، أو] أن يتجنب[، بالطبع، الشيء الذي لا يمكن فعله. وسيكون من الممكن أيضا إظهار طرق أفضل لتحقيق الأهداف المتفق عليها التي يقبلها الغرباء ويتبنونها، أو الطرق الجديدة التي من الممكن أن يعترفوا بها.

يمكن أن يحدث هذا النوع من الجدال في الممارسة لأن، من خلال الفرضية، بعض النشاطات التأسيسية تتشابه بين كافة الثقافات. إذا تم بناء المأوى أو زراعة المحصول أو علاج المرض بالشكل المرضي بالنسبة للمترجم وبالنسبة للغريب، فذلك يعني أن التواصل العملي (الممارسي) يحدث بشكل واضح. وإذا كان هناك خلافات أو سوء فهم في الممارسة العملية، فيمكن حله أيضًا من خلال الممارسة. ولكي تظهر معضلة كوين حول الترجمة الجذرية، يجب ان تبذل بعض الجهود للتواصل من خلال اللغة حول أسباب النجاح والفشل، ومن الواضح أنه يمكن أن يقع الخلط بين سوء الفهم وعدم الاتفاق، والعكس بالعكس. ومع ذلك، في المثال السابق للتواصل العقلاني في ممارسة البناء، فالملكة اللغوية بين المترجم والغريب، السابقة على الفرضية، لم تتطور بعد. ما الذي يمكن أن يعنيه الاقتراح أننه عند اكتساب تلك الملكة، سيكتشف المترجم والأجنبي انهم أساءوا فهم بعضهم دائمًا، على الرغم من النجاحات الاتفاقية المستمرة حول مشكلاتهم العملية؟

وعندما تكتسب ملكة اللغة، وسيكون اختبار ذلك هو قدرة المترجم على استخدام قواعد اللغة الغريبة في تنفيذ المزيد من الأنشطة التأسيسية، سيكون من الممكن حينها البدء في طرح الأسئلة. وسيمكن ذلك من مناقشة سبب مشاركة الغرباء في هذه الأنشطة بطرقهم الخاصة، وستكشف إجاباتهم عن القواعد التي يتصورون أنهم يتبعونها وعن اعتقاداتهم عن العالم التي يبدو انهم يعتنقونها. وفي هذا الصدد، بينما يكون النشاط تأسيسيًا، كزراعة البذور، لا تكون اللغة كذلك. مرة أخرى، يُمكننا أن نقول أي شيء تقريبًا حول ما نقوم به وأسبابه. وبما انه لا شيء قطعي سيترتب على ما يقال، لن تصبح أسئلة التقييم العقلاني ذات مغزى. إذن، لنفترض أن المترجم لا يتفق مع تفسير مفارق للطبيعة للمرض، فلو كان الغرباء أصحاء بطريقة يقبلونها، ويقبلها المترجم أيضًا، ولم يحاول كل منهما أن يتدخل بطرقه المحددة ثقافيًّا في هذا الحكم، فإن النقاش العقلاني سيثبت عدم جدواه. فبالنسبة لأطوار الصحة والمرض التي يجري تصورها من خلال ثقافات معينة، ليس هناك سبب عملي، على سبيل المثال، لمعالج تقليدي ان يأخذ الآراء الطبية بعين الاعتبار. وفي هذه الحالات، ستبدو طرق العلاج التقليدية ناجعة وسيتم إنكار النجاحات الطبية الغربية، والعكس بالعكس. هذا التكافؤ بين الثقافات نادرًا ما يحدث، لكن لا أحد، بما فيهم نحن، يحتكر الحكمة أو الجهل.

ولنفترض أنه من خلال ترجمة أكثر حسمًا، أدرك المترجم بالفعل أن زخارف المأوى هي عبارة عن محاولات لردع الأرواح الشريرة التي يُعتَقد أنها تتسبب في نشر الأمراض الجديدة، ولنفترض أيضًا أنه على الرغم من تلك الزخارف، يعاني الغرباء من الزيادة المتسارعة للمرض، ولنفترض أخيرًا انه من وجهة نظر الطب الغربي استطاع المترجم أن يُشخّص المرض بشكل صحيح على أنه نوع من انواع «الديزنتاريا» التي يمكن معالجتها بأنواع متاحة من المضادات الحيوية. في هذه المرحلة من التدخل، حيث يمكن أن يتبين اختلاف جوهري بين الأنشطة التأسيسية، يمكن هنا، أن يبدأ جدال عقلاني بين الغرباء والمترجمين. وسيتمكن المترجم، باستخدامه لملكته اللغوية التي تحصل عليها مؤخرًا، أن يوصل خلافه مع طرق الغرباء العلاجية، وأن يقترح تفوق طرقه الخاصة في هذه الحالة. وبشكل أكثر تحديدًا، سيكون الغرباء في وضعية تسمح لهم أن يؤكدّوا أن وجود مادة معينة واستخدامها قد أوقف المرض. فمن وجهة نظر الغرباء، ليس هناك مانع مبدئي من تجربة مادة جديدة أو وضع جديد قد يؤدي إلى أخذ المترجم على محمل الجد، وليس هناك سبب للشك أيضًا في أن الأطباء الغربيين قد يفعلوا الأمر نفسه في الظروف نفسها، فإذا كان العلاج ناجحًا باستمرار في مواجهة طرق الغرباء، فليس هناك سبب، من حيث المبدأ، للاعتقاد أنه لن يتم تبنيه بدلًا من الطرق القديمة.

اختصارًا، وعلى الرغم من الاختلاف بين الثقافات يمكن للمترجم والغريب أن يتفقوا أو يختلفوا وأن يتجادلوا حول ما يمكن فعله في ظروف محددة، وبقدر ما يصل جدالهم إلى نتيجة سيتم العمل على أساسها عند الطرفين، فسيكون اختلافهما – بالطريقة نفسها التي قد يقوم بها الجيران من حيث المبدأ- اختلافًا عقلانيًّا. بالطبع، لا تكون نتيجة الجدال تجربة حاسمة، إن أخذنا في الاعتبار أن الوخز بالإبر يعتبر أحيانًا دحضًا لنظريات العلاج الفسيولوجي التقليدي. فالنتائج العقلانية لمشاكل محددة، حتى في العلوم، يجب أن تُعزى إلى حالة عامة من حالات المعرفة. ليس هناك ضرورة لإثبات عقلانية الحل لمجرد أنه لا يمكن إثبات إلزاميته بشكل نهائي، وإلا فإن تاريخ الفكر الغربي سيتحول إلى سلسلة طويلة من الحلول الخرقاء، وهو كل ما نعتقد اليوم بعقلانيته.

ومن ثم، ليس هناك فرق مبدئي بين إقناع الغرباء غير اللغوي حول أفضلية وضع ثلاثة دعامات بدلًا عن اثنين في عملية بناء المأوى وبين إقناعهم في الممارسة التي تتضمن اللغة بأن نوع من أنواع الحبوب سيكون أكثر فاعلية من الزخارف في علاج بعض مظاهر المرض المتفق عليها. وبقدر ما تؤخذ الأنشطة التأسيسية في الاعتبار سيمكن التعامل مع اللغة على أنها أداة مثلها مثل «الرافعة»، وبمساعدتها يُمكن تحقيق الأهداف التي تتطلب الإجراءات نفسها بغض النظر عن اختلاف الثقافة، ومن ثم، فإن الجدال التأسيسي الذي يوظف اللغة هو من الناحية النوعية النقاش نفسه غير اللغوي حول جدوى استخدام أداة محددة، فبدون فهم طريقة استخدام الرافعة يمكن لأحد الأشخاص أن يظن أن مهمة ما مهمة مستحيلة، لكن يمكن لشخص آخر يفهم استخدام الرافعة أن يقنعه بالعكس دون استخدام اللغة بالضرورة. وبالمثل، يمكن للغرباء أن يعتقدوا ان مهمة ما مستحيلة، شيء متعلق بمحصول زراعي على سبيل المثال، لأن النجاح فيها لا يندرج ضمن معتقداتهم. كما في حالة الرافعة، يمكن للمترجمين أن يظهروا تفوق أدواتهم اللغوية، ونظرياتهم حول طرق زيادة المحصول على سبيل المثال، وأن يعترف الغرباء بهذا التفوق بالطريقة التي سبق وصفها. ويمكن أيضًا أن يتعلم المترجم من الغرباء بالشكل نفسه، وكلاهما، بالطبع، يمكن أن يقرر لأسباب أخرى، دينية أو اقتصادية أو سياسية، ألّا يُطبق ما تعلمه.

وبمجرد قبول تأسيس معيار قائم على اللغة، فقد أشرنا بالفعل أن الصعوبة ستكمن في القضايا التي يشوبها عدم التمييز بين سوء الفهم وعدم الاتفاق. لكن هذه المشكلات لا تنشأ إلا عندما يكون هناك هدف مشترك إلى حد ما بين المترجم والغريب، فعندما تكون الأهداف محددة ثقافيًا، في لعبة «الكريكيت» على سبيل المثال، ربما لن يتمكن المترجم من الفهم الكامل، لكنه لن يجد ما يخالفه. تدور أسئلة الاختلاف حول إنجاز الأهداف المشتركة، مثل الولادة والبيع والشراء والعلاج والزراعة والصيد والبناء، الأمر الذي يتحول في جزء منه إلى نوع من أنواع القدرة على توقع الأحداث المستقبلية من خلال التدخل الإنساني أو دونه، في مثل هذه الحالات، لا يتم حل تلك القضايا من خلال التحاكم إلى الملاحظة المحايدة موضوعيًّا، بل يحدث بشكل نسبي بناءً على الاتفاق المؤقت بين الطرفين بشأن ما يحاولون فعله. هذا النوع من الحلول، من الناحية العملية، لا يُدخل في عملية الترجمة التحديد المُتوخّى الذي يتوق إليه الباحثون عن الترادف والحلول الإجرائية الدائمة التي تصلح لكل وقت. لكنه يحدد الاتجاه الذي يجب أخذه من أجل تفسير أكثر دقة حول ما يقوله الناس من أجل التفاهم الذي يمكن أن يحدث في العالم.

التغيير المفاهيمي، الأيدولوجيا والممارسة

الأنشطة التأسيسية - الاتفاقات العملية التي استندنا إليها صراحة في معالجتنا لمسألة الترجمة واكتساب المعنى والتقييم العقلاني – تقوم أيضًا بدور حاسم في عملية الابداع المفاهيمي، وبشكل من الأشكال، هذا هو الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في هذا النشطات، وهو ما يُبرر مصطلح «التأسيسية». إننا ندعي أن استمرارية التواصل بين الأجيال، والانقسامات الثقافية والتغيرات المفاهيمية، على حد سواء، لها أساس غير اعتباطي مبني على اتفاق مسبق مرتبط بنوع من أنواع النشاط العملي. إنها غير اعتباطية لان العالم، بغض النظر عن طريقة فهمنا له، أو ما إذا كان كذلك، يفرض قيودًا على الأشكال الممكنة للاتفاق العملي التي قد نتوصل إليها فيما بيننا. إن مادية هذه القيود، وإمكانية التعرف عليها ومشاهدتها من الناحية العملية، هو ما يسمح لنا أن نتحدث عن إمكانية أن يتشارك الناس في نشاط واحد بشكل مستقل عن المصطلحات التي قد تؤطر نواياهم. لذلك، وفقط من خلال العلاقة بعناد العالم، يُمكن أن يكون لدينا دليل على قدر من الاتفاق الحقيقي بين البشر، بدلًا من مجرد مظهره. هذا « العناد» سببه هو أن العالم يقاومنا، ولا يكشف نفسه فجأة أمام عقولنا أو أنظمتنا العصبية. من خلال علاقتنا بذلك العناد فقط، يمكننا أن نتفق. وهذا الاتفاق لا يعني اننا ننحصر في قوالب محددة، كأننا مجرد متلقي سلبي للانطباعات ومؤثرات البيئة، فكما رأينا، نحن لا نتفق فيما بيننا بحكم أننا نقول الأشياء نفسها في الظروف نفسها، بقدر ما قد تتفق الكتب لأنها صادرة من المطبعة نفسها. بل لأن العالم يقاومنا بالطرق نفسها التي قد تجعلنا متضافرين بدلًا عن أن يكون ما بيننا هو مجرد تشابه، ومن خلال تصرفنا في هذا التضافر يكتسب التوكيد والنفي والحقيقة والخطأ معناهم. وليس الأمر كما في التورية التي تقول أن حقيقة أو زيف اللغة لن يكون له تأثير على المعنى إن لم يكونوا ذوي تأثير. إذا لم يتحول أي فعل قام به أي أحد إلى شيء يُقال فما تقوله وما تعتقد أن الآخرين يقولونه يُمكن أن يكون أي شيء تود أن يكونه، أي أن: الكلمات ستعني ما تريد لها أنت أن تعنيه. إن القيود المادية المرتبطة بالأنشطة التأسيسية لا تظهر إلا على هذا النحو، ولا تكتسب معناها أيضًا، إلا في سياق التطور التاريخي للنشاط التأسيسي البشري. وفيما يخص كل قيد من هذه القيود، فإن انتشاره يمتد، كما يمتد نطاقه، على كل المشاركين في بعض الممارسات البشرية المحددة. وتشكل مجمل هذه الممارسات، في الماضي والحاضر، نسيجا متشابكا متصلا بكل قيد من قيود قوانين الطبيعة، بما في ذلك بالطبع القوانين التي لم تكتشف بعد. وعبر مجمل هذا النسيج، يمتد قليل من النشاطات التأسيسية، إن وجدت، بشكل غير متقطع أو كموضوعات موحدة. وبهذه الطريقة يصبح من الواضح أن الاتفاقات العملية ذات طابع تطوري ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون كاملة أو دائمة؛ وهذا هو الذي يقودنا إلى مسألة الابتكار المفاهيمي.

تخيل أن اثنين من العلماء يتعاونون لسنوات في عملهم، إلى يوم اختلفوا فيه حول أهمية ملاحظة أو حول شيء من النقد النظري، على افتراض أن هذا لا ينجم عن خطأ بسيط يُمكن أن يعترف به كليهما، مثل خطأ في الحساب، فيقر واحد منهما أنه من الأجدى الحفاظ على النظرية القديمة، وأن هناك طريقة ما لاستيعاب نقطة الخلاف، بينما يقرر الثاني أن هناك حاجة ماسة للتنقيح الجذري. هل يعني هذا الخلاف أنهما بالرغم من تعاونهما كانوا قد اعتنقوا نظريات مختلفة تمامًا، أي انهم لم يتفقوا يومًا؟ من الواضح، أنهما قبل الخلاف، كانا قد اتفقا بكل قدر ممكن، وبعد ذلك، بالرغم من عمق النزاع، فإنهما ما زالا متفقين على ما كانا يحاولان إنجازه. على سبيل المثال، الأمر لا يشبه لاعبا كرة قدم، يكتشف أحدهما انه يلعب كرة القدم الأمريكية، ويكتشف الآخر أنه يلعب كرة القدم الخماسية. ليس علينا أن نصل إلى قاع تجربة الصيد أو البناء أو ما شابه ذلك لنجد أن الممارسة غير الإعتباطية المشتركة بين العلماء، مثل ما نجحوا فيه أو تلاعبوا به خلال تجاربهم، هي ما يتوسط اختلافهم في الإعتقاد أو الإدراك المفهومي الذي أدى إلى الخلاف بينهما. عبر هذه الممارسات، يمكن لنظريتين أن يرتبطا فيما بينهما على أنهما متنافستان، بغض النظر عن الاختلافات في أسسهما المفاهيمية. ولهذا السبب، غالبًا ما ستكون الاتفاقات العملية في الأنشطة التأسيسية غير مرئية بشكل ما، فلن يتم تسجيل طبيعتها بالكامل في أي بيان للأغراض التي يُعتقد انها تخدمها ولا عن طريق التفكير في كيفية تنفيذ هذه الأغراض، لذلك، فإن احتمالية اكتشاف طرق جديدة لتحقيقها تظل مفتوحة ويمكن أن تحدث في مجالات متخصصة مثل الفيزياء الذرية أو في المجالات الأكثر عمومية كتنظيم العمالية المنتجة في الرأسمالية.

بوضع ذلك في الاعتبار، أصبحنا الآن في وضع يسمح لنا أن نعطي وصف أوسع بكثير مما كنا وصلنا إليه للأنشطة التأسيسية. إنها تؤسس مناطق من الاتفاق العملي الإنساني التي تجعل أشكال محددة من الحياة الثقافية ممكنة ماديًا، ومن ثم تُرسي قواعد تساعد على تعظيم نجاحها في هذا الصدد. ومع ذلك، فإنها لا تملي القواعد المنسوبة إليها على وجه التحديد، ولا يُمكن أن تكون شاملة، بعكس الأنشطة المحددة ثقافيًا، عن طريق القواعد التي أنشئت لتحكمها. ولنأخذ شركة صنع أدوات على سبيل المثال، فعلى جانب، يُعد صنع الأدوات نشاطًا تأسيسيًا، إن كان ثمة نشاط تأسيسي بشكل عام. وهي تتجاوز الحواجز الثقافية والابتكارات المفهومية لتوفر استمرارية واسعة بوضوح للنشاط نفسه بغض النظر عن الطرق المختلفة التي يمكن أن تفهم بها، وعلى الجانب الآخر، تسجيل شركة صنع أدوات كشركة محدودة بما يتضمن ذلك من تحديدات لوجودها ككيان قانوني – مسؤولياتها في القانون الإنجليزي تجاه موظفيها وعملائها ودائنيها- هو عمل محدد ثقافيًا بشكل واضح. وقد يتغير إطار خصوصيتها إذا تحولت الشركة، على سبيل المثال، إلى شركة قطاع عام، أو أُمِمَت. لقد تطورت تلك الشركات تاريخيًّا، بالطبع، عبر نظام القرون الوسطى المشكل من الطوائف والمعلمين والحرفيين والمتدربين، وهناك الكثير من الأمثلة على الخصوصية الثقافية، في حين أن نشاط صناعة الأدوات قد تغير بشكل جوهري وأصبح أكثر دقة، لكن يمكننا أن نرى بسهولة الاستمرارية في صناعة الأدوات عبر التطور من الحدادة البسيطة إلى الشركات القومية لصناعة الأدوات، عبر عدد من التغيرات البينية في القواعد التي أمكن من خلالها فهم فكرة صناعة الأدوات.

تبين هذه الأمثلة مدى اتساع نطاق الإبتكار المفاهيمي مقارنة بما رسمه فلاسفة تاريخ العلم في أمثلتهم المعتادة. تتشابه مفاهيمنا حول الإتفاق العملي والنشاط التأسيسي مع «نمط الحياة» عند فتنجنشتين، ومع بعض الكتابات المبكرة حول النشاط العلمي لدى ماركس، غير أن مفهوم «نمط الحياة» لا يفسر نفسه بنفسه بأي شكل من الأشكال. وفي حين أن بعض الكتاب قد تعاملوا معه على أنه مزيج من الجوانب المفاهيمية والعملية للحياة الاجتماعية، هناك اتجاهان واضحان يمكن تمييزهما بين أولئك الذين حاولوا شرح الفكرة. فمن ناحية، يتم اعتباره اتفاقًا سريًّا موجودًا في مجموعة من القواعد: خلفًا للنظريات التعاقدية حول الحياة الاجتماعية. ومن ناحية أخرى، هناك تفسير طبيعي لذلك كجزء من أجزاء الفطرة البشرية. إن كلا التفسيرين خاطئ بشكل جوهري، فأطروحة الاتفاق المفاهيمي تتجاهل حقيقة أن القواعد المستخلصة من الممارسة لها طابع مبهم. على سبيل المثال، وفي نقاشه الشهير، يذهب فيتنجنشتين إلى أنه حتى في القواعد التي تبدو صارمة في الرياضيات، لا يمكن أن « تستمر بالطريقة نفسها» دون علاقة بطريقة قائمة من الممارسة الاجتماعية. وبهذا المعنى، فإن المحتوى القصدي للقاعدة، في الواقع، يستمد تفسيره من الممارسة، وليس العكس. إن أطروحة إمكانية فهم نمط الحياة بشكل فطري لها الطابع الإشكالي نفسه، فلكي تكون هناك قاعدة واضحة، فيجب أن يكون من الممكن تطبيق ما تقوله القاعدة (ما يجب أن يكون، تعني ما يُمكن أن يكون). ولكن على قدم المساواة، يجب أن يكون من الممكن فعل ما تحظره القاعدة، لإن عدم إمكان فعله يعني استحالته، وهو أمر غير منطقي أن تحظر شيئًا مستحيلًا، ومن ثم، يجب أن يكون اتباع أو مخالفة قاعدة ما متسقًا مع قوانين الطبيعة، ولا يمكن لقواعد الطبيعة، بدورها، أن تحدد ما يجب اتباعه أو نبذه من قواعد.

ولهذه الأسباب يوضح تفسيرنا لشكل نمط الحياة أن التقسيم التقليدي بين العمل اليدوي والعقلي يستند بشكل أساسي على الوضوح المفترض للنشاط العملي. وبالتالي، فإن تعبيراتنا اللغوية لا تتخذ معناها إلا من خلال « كل ما تبقى من الآلية» بعبارة فيتنجنشتين. إلا أن أجزاء الآلية التي يبدو انها قد فاتته هي السياقات العملية التي تلعب فيها اللغة دورًا، وهذا يجب أن يعني أن التنظيم الكامل للنشاط العملي في وقت معين له تأثير على ما قد تعنيه التعبيرات في اللغة، ومن ثم، ينبغي توقع أن تتطلب التغييرات في هذه المنظومة تغييرات مفاهيمية رئيسية. ثانية، هذا ليس لندعي أن النشاط العملي يحدد المفاهيم بشكل ميكانيكي، فيمكن للتغييرات في الممارسة العملية أن تدعو لاختراع تقنيات وقواعد متعلقة بمعناها دون تحديد الكيفية التي سيستجيب بها الإبداع البشري على الإطلاق. كل ما يمكن أن نقوله عندما نصف طريقة جديدة لفهم الحياة الاجتماعية أو العالم الطبيعي كرد فعل على مشكلة، سواء كانت واضحة أو ضمنية، هو أن هذا الفهم الجديد قد دفع بالتعاطي مع ما دعت إليه المشكلة، لكن لم تتسبب فيه بشكل مباشر أو يترتب عليها، بالإضافة إلى أنها، بالرغم من كل شيء، يمكن أن تبقى بلا حل. وبشكل مشابه، قد لا يتوقع المبتكرون التبعات المادية أو الاجتماعية التي قد تترتب على إبداعاتهم. وهكذا، فإن وصف مفهوم «بالأيديولوجي» لأنه يُمكن أن يُرى على انه قد استدعي عن طريق ضروريات الحياة العملية لا يعني أن فاعليته وأهميته مرتبطة بشكل كامل بمصالح منشأه الخاصة، كما لا يمكن تحدد أهمية وفاعلية اختراعات مثل العجلة أو التفاضل والتكامل فقط عن طريق ما إذا كانت قد خدمت أغراض مخترعها الأصلي أم لا.

لذلك فمن المعقول جدًا أن نفترض أن هناك تعاضد يربط ظهور العلم الحديث بتحول نظرتنا إلى الكون في عصر النهضة وعصر الاستكشاف والاستعمار، والإصلاح، وصعود الرأسمالية التجارية وتراجع الإقطاع. لقد تصور علم العصور الوسطى (السكوني الهيراركي) الكون أيضًا على أنه ساكن وتراتبي يسير إلى غرض إلهي. وقد أزيح هذا العلم عن طريق علم أخر سعى إلى فهم الإطار غير الشخصي للقوانين السببية التي تحكم جميع الأحداث الطبيعية، لقد وضع الأول الإنسانية في موضع مركزي بالنسبة للكون مع خضوعها للغرض الإلهي عبر الولادة والنمو والموت والمواسم الزراعية، وحل محله العلم الذي أتقن قوانين السببية وأعطى البشرية إمكانية التدخل والتمكن من الطبيعة بشكل لم يسبق له مثيل، لقد حدثت هذه التغيرات في الوقت نفسه الذي نمت فيه التجارة والاستكشاف، ونما معها الميل إلى رؤية العالم والبشر بشكل أداتي واستكشافي، أي رؤية كل شيء من خلال ما يمكن أن يتحقق من خلاله من مصالح شخصية، وتجارية بالأساس. تكشف قصة «روبنسون كروزو»، التي كتبت في المرحلة الأولى من هذا التحول، القليل من تأثير الاكتشافات الجديدة في العلوم الطبيعية، ولكن الكثير من النظرة الفردية الاستغلالية الجديدة التي استمدت قوتها بشكل متزايد من التحول الاقتصادي. لقد كانت السيادة على البيئة وعلى الآخرين هي حتمية كروزو، الأمر المختلف عن الموقف في زمن الإقطاع الذي استكان لحكم الإله في منح الحياة وسلبها.

لا يمكن أن يقال إن هذه النظرة تختزل النهضة العلمية إلى مستوى «الأيديولوجيا المجردة» بتقييمها فقط من النواحي التي يسرت بها صعود الرأسمالية. إلا أنه، في الوقت نفسه، سيكون من العسير أن نتجاهل التوازي الواضح بين رؤية الطبيعة في العلم كمزود للموارد الطبيعية، وهو الأمر نفسه الذي انتشر بالقدر نفسه مع صعود الرأسمالية التجارية، أو نفترض أن هذا التوازي مجرد صدفة. ومن هذا المنطلق، فإن تنظيم النشاط العملي والإطار الاقتصادي الذي يحكمه له تأثير حاسم على التطورات المفاهيمية داخل مجتمع معين. وهو أمر لا يجري على نحو سببي أو منطقي، ولكن من خلال مصفوفة الاتفاق العملي التي تضمن استمرار التواصل داخل تلك التطورات وفيما بينها. إن «العلوم البحتة» لا يمكن أن تفسر إلا على أنها تابعة للأنشطة الاقتصادية والعملية، كمثل الفن والدين والأدب والفلسفة، لكن كل منها يعتمد على شكل معين من تقسيم العمل الاجتماعي الذي يؤدي إلى إمكانية أن يتصور الناس أنفسهم وعلاقتهم مع هذه الأشياء بالشكل المقبول. وعلاوة على ذلك، فإن المشاكل التي يسعى العلماء إلى حلها، والمسائل التي يصورها الفنانون، أو القضايا التي توجه إليها الأدب، والمذاهب الدينية والفلسفية، لا تنشأ في فراغ. ولكي يوجد نمط حياة ولغة، يجب أن يكون من الممكن بالنسبة للشخص أن يتصور مواقفه من داخلها مع تلك الأشياء بشكل مفهوم إلى حد ما، وإلا فإنها لا يمكن أن تبدأ في الانخراط في الممارسة ذات الصلة؛ بصرف النظر عن مدى إبداعها في نهاية المطاف، وبطبيعة الحال، فإن النقطة نفسها تنطبق على الآخرين القادرين على فهم التغيرات المفاهيمية ورؤية ملاءمتها لحل المشاكل التي تحافظ على هويتهم العملية طوال الوقت. ولو كانت ابتكارات أينشتاين أصلية تمامًا، فلم يكن هو ولا معاصريه ليفهموها أو ليتصرفوا بناءً عليها علميًّا.

وختاما، تكتسب تلك اللغة معناها على أرض الواقع من خلال مشاركتها في الأنشطة العملية، ومن أن أهم الأنشطة في هذا الصدد تمتلك قدرًا من الوضوح في حد ذاتها. في الترجمة، وفي اكتساب اللغة، وفي التقييم العقلاني وحيث يحدث الابتكار المفاهيمي، اقترحنا أن الاختلاف في المعتقدات يمكن تمييزه من حيث المبدأ فقط عن سوء فهم المعنى إذا كان لاستخدام اللغة المشتركة ما هو أكثر من مجرد تشابه الألفاظ مع الظروف من التحفيز الحسي. إن المشاركة المتضافرة في المهام نفسها هي الرمز الوحيد للاتفاق الحقيقي الذي يجعل التواصل اللغوي والتقدم البشري ممكنا في نهاية المطاف. إن اتفاقنا في الأنشطة العملية له القدرة على أداء الدور التأسيسي المطلوب لاتفاقنا فيما نقوله لأنه هو الحامل النهائي لإدراك المعنى الذي تتطلبه اللغة. وبهذه الطريقة، تتوسط هذه الأنشطة عمليا بين النماذج المفاهيمية المتعارضة. إنها تتطلب وتقيد ولكنها لا تحدد المعنى الذي يخرج منها. وهذا ما نود أن نقول إنه هو العلاقة بين العمل، عبر اللغة، ووعي الإنسان، وبالتالي بينه وبين أي فهم للعالم الطبيعي والاجتماعي. في الواقع، من الجدير بالملاحظة أن هذه العلاقة نفسها هي بالضبط ما ذهب إليه ماركس - دون الاستفادة من فلسفة اللغة المعاصرة -  في هجماته المبكرة على المثالية.