هوامش
محمود هدهودإسرائيل في هيمنتها وأزمتها
2025.04.05
مصدر الصورة : AFP
الوجوه المتعددة لفائض القوة
في صباح الأربعاء الماضي، أعلنت إسرائيل إرسال الفرقة 36، رأس حربة القوات البرية الإسرائيلية - إلى قطاع غزة، بعد إعلان بدء عملية برية في رفح. نفس السيناريو تكرره إسرائيل للمرة الثانية بعد عام ونصف من عدوانها على قطاع غزة. غارات جوية كثيفة لأسبوعين، يليها توغل بري يخرج معه نتنياهو للإعلان عن إنجازات سريعة. في نوفمبر 2023، بعد أسبوع من بدء الهجوم البري الإسرائيلي على القطاع وقتها، كان الإنجاز هو احتلال محور نتساريم الفاصل بين شمال قطاع غزة وجنوبه. لم يستطِع نتنياهو الثرثرة وقتها حول الإنجاز بالنظر إلى أن شهرًا واحدًا كان يفصل بين الإنجاز الوهمي بالتمدد في مناطق فارغة من القطاع والإخفاق الأكبر لإسرائيل منذ عقود.
لاحقًا، خرج نتنياهو في الساعات الأولى من صباح السابع من مايو 2024 ليعلن إنجازًا جديدًا هو السيطرة على معبر رفح والتمدد في محور فيلادلفيا (خلال ساعات) وكأن نتنياهو يتقمص شخصية السادات عندما أعلن سقوط بارليف (في ست ساعات)، لكن التاريخ كان يكرر نفسه كمهزلة لأن مقارنة أراض خالية في قطاع محاصر بخط دفاع عسكري وصف بأنه الأقوى تاريخيًّا منذ خط ماجنو في شرق فرنسا، لا يمكن أن يوصف سوى بأنه مهزلة.
يستمر العود الأبدي لنتنياهو في الجولة الثانية من الحرب. هذه المرة يفتخر نتنياهو بالسيطرة على محور ميراج (موراغ) الفاصل بين رفح وخان يونس، ويسميه «محور فيلادلفيا الثاني» في محاولة لاستدرار الإنجاز من ثمرة يابسة. الثمرة اليابسة هي الحرب الإسرائيلية التي تبدو منذ أشهر طويلة بلا معالم، بل منذ البداية. بعد أيام من بداية الحرب، صاغ محررو رويترز السؤال بوضوح: هل لدى إسرائيل خطة إنهاء Endgame في غزة؟ لاحقًا، لم تتوقف إدارة بايدن عن تذكير نتنياهو بضرورة وضع خطة ما أسمته «اليوم التالي» Day-after في غزة.
عندما عادت إسرائيل إلى الحرب البرية في قطاع غزة، استخدم وزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتس، عبارة نتنياهو البائسة نفسها للرد على التساؤلات الإسرائيلية عن أهداف الحرب: «الضغط العسكري على حماس لإعادة الرهائن». إجابة لا تقنع النقاد الإسرائيليين بعد عام ونصف لم يسفر خلالها الضغط العسكري عن إعادة الرهائن ولم تطرح حكومة نتنياهو أهدافًا أخرى واضحة لهذا الضغط.
بدا التهجير أخيرًا وكأنه خطة إنهاء ممكنة في قطاع غزة بعد أن تبناها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأعلن كاتس تأسيس إدارة مخصصة في قطاع غزة، وبدأ التهجير يبدو خيارًا إنسانيًّا لأهل غزة إذا ما قورن بالإبادة. طرح التهجير لأول مرة في تقدير موقف أصدرته وزارة الاستخبارات الإسرائيلية في بداية الحرب باعتباره الحل الأمثل لمعضلة غزة الأمنية بالنسبة إلى إسرائيل. لكن حكومة نتنياهو منذ ذلك الوقت تعاملت مع التهجير كفانتازيا لا تتضمن تصورات عن كيف يمكن إجراء هذا التهجير طالما ظلت مصر متمسكة برفضها للتهجير وإغلاق المنفذ البري الوحيد والأرض البديلة لسكان القطاع. يبلغ عدد سكان قطاع غزة اليوم وفق الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء 2.1 مليون نسمة، وهو ما يجعل عملية نقلهم جوًّا أو بحرًا وإعادة توطينهم عملية شبه خيالية تتطلب تمويلًا هائلًا وتستغرق سنوات، هذا على افتراض توفير المواطن البديلة لهؤلاء السكان.
في مقابلة مع الأكاديمي الفلسطيني عزمي بشارة صبيحة السابع من أكتوبر، قال بشارة إنه لا يمكن أن يجزم بأي شيء في التحليل الجاري سوى بأمر واحد، هو أن المستقبل السياسي لبنيامين نتنياهو قد انتهى. المفارقة التي نراها اليوم هو أن كل شيء قد جرى سوى أن ينتهي المستقبل السياسي لنتنياهو. لم يكن بشارة مخطئًا، فما حدث في السابع من أكتوبر كان يستوجب قطعًا استقالة نتنياهو أو بقاءه لتصريف الأعمال حتى تنتهي الحرب ثم انسحابه من المشهد. كان من الواضح أن نتنياهو أدرك ذلك وقرر ألا تنتهي الحرب، ومنذ ذلك الوقت يلعب نتنياهو لعبة الهروب إلى الأمام.
في مايو 2024، وعندما كانت إدارة بايدن قد وصلت إلى قناعة بضرورة إنهاء الحرب، قرر نتنياهو الهروب إلى رفح، وعندما ظهر أن الهجوم على رفح لن يسفر عن شيء جديد، انتقل نتنياهو إلى لبنان. ورغم تحقيقه إنجازًا فعليًّا في لبنان خلال شهري سبتمبر وأكتوبر، قفزت المعضلة مرة أخرى في وجه نتنياهو: كيف يمكن أن يؤطر استراتيجيًّا إنجازات تكتيكية متناثرة دون خطة إنهاء واضحة؟
المشكلة في الواقع ليست مشكلة نتنياهو الشخصية فقط، فبنهاية الحرب تقفز الأزمة والمحاسبة والانتخابات التي قد تطيح به من الوزارة وتصعد بأحد خصومه الذين يشحذون له السكاكين، ولا حل في مواجهتهم سوى معادلة صفرية، إما تتويج نتنياهو ملكًا على إسرائيل مع مؤسسات ومحاكم وأحزاب خاضعة لأوامره، وإما أن يتحول التقاعد الهادئ في منزله في هرتسيليا إلى أمنية بعيدة المنال. المشكلة هي مشكلة إسرائيلية في عمقها.
في مطلع التسعينيات، رأت إسرائيل الدنيا وهي تفتح لها ذراعيها، وأطلق وقتها رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز، أحد عرابي أوسلو، شعار «الشرق الأوسط الجديد» الذي تنعم فيه إسرائيل بموقع ممتاز ضمن سوق شرق أوسطي ينبني على السلام. وبعد فشل الانتفاضة الثانية، ثم إخفاق الانتفاضات العربية، فتحت المنطقة ذراعيها من جديد لإسرائيل، خاصة مع الصعود اليميني العالمي الذي تَوجَّه فوز ترامب بالانتخابات الأمريكية سنة 2016، ورعايته اتفاقات أبراهام والتصفية الهادئة للقضية الفلسطينية (تقويض الأونروا، نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وشرعنة الاستيطان، والاعتراف بضم الجولان، واقتراح ضم الضفة الغربية) تحت شعار «صفقة القرن».
لقد انتهى هذا العالم بعد السابع من أكتوبر. لم ينتهِ بهزيمة إسرائيل بالتأكيد، لكنه انتهى بتورطها في حالة حرب دائمة، بحيث يظل وجودها الإقليمي واستقرارها الداخلي مرهونًا باستمرار تلك الحرب. لا تملك إسرائيل خطة إنهاء ليس فقط في غزة ولكن أيضًا في لبنان وسوريا وإيران والضفة الغربية، وهي تتعامل في كل تلك الساحات مع المعضلة غير القابلة للإزالة في السياسة، السكان أنفسهم.
أزمة إسرائيل الوجودية في المنطقة هي أن وجودها في الصيغة الاستعمارية الاستيطانية التي اختارتها لنفسها منذ نشأتها، وازدادت جنوحًا إليها بمرور السنوات، مرهون بقمع السكان وإلغاء الوجود السياسي لهم. رفضت إسرائيل مرارًا أن تتخارج مع السكان في الإقليم عبر حل الدولتين وتبادل الأراضي والسكان بما يضمن داخلًا إسرائيليًّا بلا أقلية عربية تستخدمها الفاشية الإسرائيلية لتبرير وجودها (الجوهر الأيديولوجي للصهيونية الدينية هو عداء العرب anti-Arab لا أي شيء آخر). وفي كل مرة تتصور إسرائيل إمكانية القفز على معضلة السكان في فلسطين أو جنوب لبنان أو جنوب سوريا إلى تفاهمات مع الأنظمة العربية، ينفجر السكان في وجهها وفي وجه حلفائها العرب الذين يمنون أنفسهم بثمار التحالف. ومع الانفجار، تنهار التفاهمات ويسقط القناع التكنولوجي الإسرائيلي ليكشف العنف وفائض القوة الذي تستعرضه إسرائيل عن وحش هائج يهدد الحياة البشرية في المنطقة.
تتمدد إسرائيل اليوم في سوريا ولبنان وغزة. يبدو هذا للعين انتصارات ومكاسب إسرائيلية جديدة تضاف إلى سجل انتصارات إسبرطة الصهيونية، وهزيمة جديدة تحيق بعرب يقتربون من الفناء التاريخي. لكنه يبدو للعين الأخرى تمددًا هلاميًّا في الفراغ يضيف إلى إسرائيل مزيدًا من السكان، ومن ثم مزيدًا من المشكلات، وحالة من الحرب الدائمة أو الاستثناء الدائم الذي ينتقل من الخارج إلى الداخل، ويهدد بانفجار المجتمع اليهودي الإسرائيلي نفسه.