عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

مراجعات

مصطفى قاسم

رواية "السيرة قبل الأخيرة للبيوت"

2025.04.05

مصدر الصورة : آخرون

رواية "السيرة قبل الأخيرة للبيوت"

 

القاهرة، عبارة عن تجربةً غير مُعلنة - تجربةٌ لم يُخطط لها أحد، لكن الجميع يُشارك فيها. مجتمعاتٌ بأكملها تحركت إلى مساكن مكتظة بُنيت على عجل، في أحياءٍ ضيقةٍ بغرباء من خلفياتٍ مُختلفةٍ جذريًا: المتعلمون والأميون، والطبقة العاملة والعاطلون عن العمل، والمُكافحون والمُتشككون. في هذه الأحياء الجديدة، يتمدد النسيج الاجتماعي، كاشفًا عن توترات حادة وعن لحظات غير متوقعة من التضامن. رواية "السيرة قبل الأخيرة للبيوت"، لمريم حسين، محاولةٌ أدبيةٌ عميقة وجميلة وجادة لتوثيق ما يعنيه العيش داخل تلك التجربة الاجتماعية.

في جوهرها، تُقدم الرواية قصة بقاء - ليس بالمعنى المادي فحسب، بل بالأساس البقاء العاطفي، كما ترصد رحلة البحث المُستمر عن وطنٍ في مدينةٍ تزداد اغترابًا عن سكانها.

نتابع الراوية وعائلتها وهم ينتقلون من شقةٍ ضيقةٍ إلى أخرى، مُواجهين ليس فقط النزوح المادي، بل أيضًا نوعًا من الدوار النفسي. كل منزلٍ مؤقت؛ وكل انتقالٍ، تفاوضٌ مع عدم الاستقرار. لم يعد "أمن السكن" مجرد قضية اجتماعية واقتصادية، بل أصبح قضية وجودية.

تكتب مريم حسين بتعاطف عميق مع أولئك العالقين في هذا الفراغ الحضري. شخصياتها نابضة بالحياة، مليئة بالعيوب، وصامدة. نتابعهم وهم يتقاتلون، يقعون في الحب، يخونون بعضهم البعض، يربون أطفالهم، يشيخون ويموتون داخل هذه الشقق المتقلصة والمتداعية. ومع ذلك، ورغم الظروف القاتمة، لا تغفل الرواية عن إنسانيتهم. هناك حنان وفكاهة، ولحظات من الجمال الأخّاذ. قد تكون المدينة فوضوية، لكن الناس حقيقيون.

ما يجعل رواية "السيرة قبل الأخيرة للبيوت" آسرة بشكل خاص هو أسلوبها السردي الفريد. تمذج مريم حسين بين السيرة الذاتية، وتيار الوعي، والتراث الشفوي الغني للقصص المصرية. والنتيجة رواية حميمة وواسعة النطاق. ينتقل فيها النثر بسلاسة بين الذاكرة والملاحظة، وغالبًا ما يطمس الخط الفاصل بين عالم الراوية الداخلي وعالمها الخارجي. تعكس هذه السيولة السردية ارتباك الراوية نفسها، فهي لم تستقر تمامًا، وربما لن تستقر أبدًا.

 من المواضيع المؤثرة بشكل خاص قصة والد الراوية، رجل من الطبقة المتوسطة اختار أن يعيش في فقر على أن يتخلى عن مبادئه. يخيم حضوره على الكتاب، رمزًا للكرامة واليأس الهادئ. من خلاله، ومن خلال آخرين، تستكشف مريم حسين معنى العيش بين الطبقات، وبين العوالم، بين من نكون وما نضطر إلى أن نصبح عليه للبقاء.

من المواضيع المؤثرة الأخرى وصف لقاء الراوية بـ"السلطات" متمثلة فى الشرطة والمستشفى. في كل لقاء، تتحول الراوية إلى مجرد هدف تافه للعدوان العشوائي، وتحيا صدمة عميقة مصحوبة بالألم والخوف والإدراك بأن المرء يعيش في عالم كافكا: متهَمًا دون أن يعرف أي جريمة ارتَكب.

هناك أيضًا شعور بشيء مراوغ يخترق الرواية، كفكرة تحوم بعيدًا عن متناول اليد. تبدو الراوية مسكونًة بفكرةٍ مجهولة، ربما الانتماء، ربما الهوية، أو ربما مجرد التوق إلى الديمومة. مهما كانت هذه الفكرة، فإن مراوغتها تُضفي على الرواية توتّرها العاطفي. نشعر، كقراء، بنفس الاضطراب الذي تشعر به الراوية.

لا تُقدّم الرواية إلينا حلولًا لهذا الاضطراب. بل تدعونا إلى مُواجهة انزعاج عدم اليقين، لنفهم، ولو للحظة، معنى العيش في عالمٍ يكون فيه الانتماء إلى مكانٍ مؤقتًا، زائلًا، متحولًا ومتحورًا، وتُعاد فيه صياغة الهوية باستمرار.