دراسات

محسن الميرغني

الأسس المعرفية لتجربة صلاح عبد الصبور في المسرح الشعري

2021.08.01

الأسس المعرفية  لتجربة صلاح عبد الصبور في المسرح الشعري

يمتد تاريخ فن المسرح العربي، بوصفه ظاهرة فنية واردة إلينا من الحضارة الأوروبية، عبر بعدين؛ الأول زمني ويرجع إلى أكثر من قرن ونصف من الزمن تقريبًا، والثاني مكاني ينطلق من بلاد الشام، تحديدًا سوريا ولبنان، مرورًا بمصر ومن ثم باقي بلدان العالم العربي، وهكذا يمكن اعتبار فن المسرح المصري واحدًا من أهم نتاجات حركة الحداثة العربية في مطلع القرن العشرين. وبالرغم من قلة إنتاج الأعمال المسرحية التي تنتمي فنيًّا للمسرح الشعري مقارنة بالنثري في مصر، فالتطور الحادث في تجاربه عبر عقدي الخمسينات والستينيات من القرن العشرين، مثَّل إضافة وتغيرًا ذا قيمة على مستوى الكيف، في تحديث مفاهيم وتصورات كتاب المسرح الشعري المصري، وقد انعكس هذا بشكل واضح في أعمال صلاح عبد الصبور.

بالإضافة إلى أن التغير والتحول الحاصل في شكل وبنية المجتمع المصري على مدى السنوات والعقود التي لحقت الثمار الناضجة في تجربة المسرح الشعري المصري، أسهم بشكل مباشر في تحديد مدى قابلية هذا النوع المسرحي للتطور ونكوصه المرتبط بتفاعله مع جمهور المسرح، الذي تبدت فيه رغمًا عنه، كل مساوئ وعيوب التغيرات الحاصلة في المجتمع، من تدن واضح في مستويات الذوق العام، والتعليم، وتراجع الاقتصاد، وهو ما أدى لانحسار الظاهرة المسرحية المصرية الجادة، في مقابل صعود الظاهرة المسرحية الزائفة، التي لا تحمل من المسرح غير شكله الخارجي.

تاريخيًّا يبدأ فن المسرح الشعري في مصر من تجربة الشاعر أحمد شوقي 1868 - 1932 م وهي التجربة التي سعى شوقي من خلالها لكتابة نصوص مسرحية بالشعر الملتزم بالبحور الشعرية العربية القديمة، وهنا يستخدم المؤلف المسرحي، مادة الشعر وسيلة وأداة يعبر بها في قالب درامي عن صراع مسرحي، يدور بين شخصيات، يختار المؤلف صورتها الدرامية، وموضوع مأساتها وحبكتها، وينسج تفاصيل أحداثها وفقا لما ترتضيه ذائقته وطريقته في التعبير والإبداع شعرًا.

وقد ظهرت محاولات أحمد شوقي في المسرح الشعري نحو عام 1927 م، واتسمت مسرحياته بمجموعة سمات رئيسية يمكن إيجازها في: اختيار موضوعات الأعمال من التاريخ الواقعي أو الشعبي (العربي أو المصري القديم والحديث)، ثم تقليد النموذج الكلاسيكي الغربي للبناء المسرحي، واستخدامه للشعر في صياغة لغة الحوار بين الشخصيات أبطال المسرحيات، وقد قدم شوقي للمسرح الشعري سبع مسرحيات شعرية هي: مصرع كليوباترا وقمبيز وعنترة ومجنون ليلى وعلي بك الكبير ثم مسرحيتيه البخيلة والست هدى. ولا تخلو أعماله من وجود آثار لمؤثرات غربية واضحة. وهو ما أشار له محمد مندور في دراسته عن مسرحيات شوقي بأنها تختص بالبناء الدرامي أو الشكل، دون المضمون الذي حاول شوقي أن يكون مصريًّا أو عربيًّا خالصًا. وقد انتهى مندور إلى أن شوقي استمد بناءه الفني وهيكله من النمط الغربي، ولكنه تناول الموضوعات والأفكار والشخصيات من التاريخ والموضوعات المصرية والعربية بحس فنان روحه شرقية عربية.(1)

تأتي محاولة عزيز أباظة (1898 - 1969 م) في الكتابة للمسرح الشعري، التي قدم من خلالها عشر مسرحيات اشترك في تأليف إحداها مع كاتب آخر هو عبد الله البشير. لتسقط في نهج التكرار الذي اعتبره بعض النقاد، ومنهم أحمد شمس الدين الحجاجي لا يتعدى مرحلة الانتكاسة والتبعية، لأنها لم تضف إلى هذا الفن إلا بمقدار ما أضاف مؤلفها إلى تراث الشعر العربي من تأخر ونكوص عن التطور، من حيث الإصرار على استخدام لغة غريبة مهجورة دون فن حقيقي. فلا طور في أداته المتمثلة في اللغة الشعرية، ولا أحسن اختيار موضوعاته لتجاوز المألوف فكرًا، وقد استقى موضوعاته كلها من ذات النبع الذي استقى منه شوقي موضوعاته أي التاريخ، إلا أن كتابته كانت مجرد تقليد واتباع لتجربة شوقي لا إبداع فيها. بل إنه لم يضاهي شوقي أبدًا في عذوبة شعره وفنه المبثوث بين سطور قصائده الغنائية التي تسرب شيء منها إلى سطور مسرحياته الشعرية. (2)

 لكن وعلى النقيض تعتبر تجربة عبد الرحمن الشرقاوي( 1920، 1987 م) خطوة أبعد في الكتابة لفن المسرح الشعري، إذ زودته برافد فكري جديد تمثل في تبني المؤلف للواقعية الاشتراكية، وقد أجمع غالبية نقاد المسرح ممن تناولوا مسرحيات الشرقاوي على أن أفكارها كانت انعكاسًا فنيًّا لفكر المؤلف المسرحي، فكان وهو يكتب حوار شخصياته شعرًا، ينساب وراء نفسه الشعري، ويقول ما يريده، دون اعتناء بالبناء الفني، فخرجت مسرحياته ببناء يشوبه كثير من العوار والنقص فني، لاعتماده على المونولوج الدرامي الطويل، الذي يجريه على ألسنة أبطاله، وهنا غلب الأداة/ اللغة الشعرية على المادة والموضوع والبناء الفني، قدم الشرقاوي مسرحيات مأساة جميلة و ثأر الله و وطني عكا والفتي مهران ثم ثلاثيته صلاح الدين النسر الأحمر، ويرى بعض النقاد أن أعماله تلك أقرب تصنيفيًّا إلى الشعر المسرحي منها للمسرح الشعري.(3)   

يعتبر صلاح عبد الصبور(1931- 1981 م) صاحب أوضح الخطوات الفنية في تاريخ المسرح الشعري المصري، بما أضفاه من تجديد وتطور فني على عنصري الأداة والمادة للبناء المسرحي الشعري، بصفته واحدًا من بين رواد حركة الشعر الجديد، التي ظهرت في أواسط خمسينيات القرن العشرين في مصر، ثورة وتمردًا على منظومة الشعر القديم شكلاً ومضمونًا، وبنشره ديوانه الأول الناس في بلادي عام 1957 م. الذي أسس به مفاهيم شعرية جديدة لم تكن حاضرة في الوجدان الشعري المصري آنذاك من حيث الموضوعات واللغة والبناء الفني للقصيدة، وقد تطور هذا التأسيس فيما بعد ليظهر أثره في كتابته لمسرحياته الشعرية، التي بدأها بمسرحية مأساة الحلاج في عام 1964 م، وهو نفس العام الذي أصدر فيه ديوانه الثالث أحلام الفارس القديم أي بعد أن خضع له الشعر الغنائي وأقر له الكثيرون جمهورًا ونقادًا بالتميز والريادة. وتأتي بعدها مسرحيته الثانية مسافر ليل 1968 م والثالثة الأميرة تنتظر 1969 م، ثم ليلى والمجنون في عام 1971 م فمسرحيته الخامسة بعد أن يموت الملك التي ظهرت في عام 1975 م.(4)

لقد أنتج تزامن الإبداعين الشعري الغنائي والمسرحي الدرامي تداخلا بين مستويات الكتابة الغنائية والدرامية في إنتاجه، إذ نجد كثير من صياغاته الشعرية متكررة، في مسرحياته وهو ما يراه أحمد شمس الدين الحجاجي في دراسته المسرحية الشعرية في الأدب العربي الحديث ظاهرة مميزة لمسرح صلاح الشعري "تعد الغنائية إحدى الظواهر الأساسية في مسرح صلاح عبد الصبور لم تخل مسرحية منها"(5)

ويرصد وليد منير في دراسته لمسرح صلاح عبد الصبور الشعري، نوعًا من التمهيد لحالة امتزاج وذوبان بين العالمين الدرامي والغنائي، ويدلل على ذلك بملاحظة بدر الديب في المقدمة التي كتبها لديوان الناس في بلادي من تنامي خاصيتي "مسرحة المشاعر والمواقف" لدى الشاعر، وكذلك "زيادة الاهتمام بالتفاصيل الجزئية" وهو ما اعتبره نوعًا من "الولع المتنامي بالحكي والرواية" في قصائده.(6) لكن هذا لا ينفي أنه كان على وعي تام بالحدود الفاصلة بين الأنواع الفنية والأدبية، من قصيد غنائي ومسرح شعري، بل إن هذا التداخل المشار إليه سابقًا، ما هو إلا من قبيل التضافر بين مكونات وعناصر البنية الواحدة، التي تتبدى تنويعاتها وتجلياتها في مجمل إنتاجات الشاعر وتطوراتها. وهو ما يطلق عليه أحمد عبد الواحد "الهم الشعري الواحد" في تفسيره لتلك الصياغات المتكررة "منذ طفولته الشعرية حتى ذروة نضجه كان يقول أشياءً، ثم يشعر بعد حين أن هذه الأشياء ما زالت تحاصره وتلح عليه، فيصوغها ثانية بتشكيل آخر في تجربة أخرى، ثم يكتشف في مرحلة ثالثة من حياته أن نفس الفكرة قد كبرت معه، فهي تسري منه مسرى الدم، وأن رؤيته لها قد كبرت ونضجت مع الزمن، فيقولها ثالثة بطريقة مغايرة.. وهكذا" (7).

من ثم يمكننا قراءة مسرحيات صلاح عبد الصبور ببصيرة أكبر، إذا ما جمعنا ما بين عالمي شعره الغنائي ومسرحياته الدرامية، بما يسهل علينا تقصي أوجه التطور والتبدل التي شكلت رؤيته للعالم كشاعر معاصر، عبر استخدامه لشخصيات أبطال مسرحياته، كقناع درامي فني يفصح من ورائه عن ورؤيته الشعرية التي سبكتها روحه في مواجهتها لهذا العالم الواقعي الذي يعيش فيه، والعالم المثالي الذي يفتقده ويطلبه ويتمناه.

جذور المفهوم الدرامي المؤسس لتجربة المسرح الشعري

في قراءة تجربة صلاح عبد الصبور الإبداعية (شعرًا ومسرحًا) بالإضافة إلى مقالاته النثرية التي تحمل بين سطورها كثير من أفكاره وآراءه. وهو ما يمكن أن نعبر عنه بتراكم الخبرات الفنية، بما يؤدي إلى حدوث تغير كيفي يطبع كتاباته كلها بالأصالة الأدبية، وهوما يدفع ناقدا مثل على الراعي لأن يصرح "أما الميلاد الحقيقي للمسرح الشعري، فإننا خليقون بأن نجده لو رحنا نتفحص أعمال صلاح عبد الصبور للمسرح"(8).

هذه المحاولة ستحاول رصد الجذور المفاهيمية أو المكونات التي أسس عليها صلاح عبد الصبور بناءه المسرحي، وهي محاولة لا تسعى لتكون نهائية أو شاملة، لكنها خطوة أولية لاكتشاف هذا البنيان الفني، ومن ثم يمكن إيجاز هذه المكونات في ثلاث نقاط

1- وجود الحس الدرامي في قصيدته الغنائية.

2- ثقافته الموسوعية.

3- تأثره بنموذج (إليوت) ووعيه بهذا التأثر.

هذه النقاط تشكل مدخلاً نقديًّا أوليًّا، نسعى من خلاله لتتبع المراحل اللاحقة، التي قد تكون أكثر تعقيدًا عند محاولة القيام بقراءة نقدية لمشروع صلاح عبد الصبور الإبداعي فكريًّا وجماليًّا.

أولاً: الحس الدرامي في القصيدة الغنائية

منذ قصائده الأولى والروح الدرامية المولعة بالحكي موجودة في أشعار صلاح عبد الصبور، وإذا رجعنا لما كتبه إليوت عن أصوات الشعر الثلاثة وعن تحديده للصوت الثالث الذي يمثل صوت الشاعر، الذي يحاول خلق "شخصية درامية تتحدث بالنظم"، وتعريفه لهذا الصوت الثالث تحديدًا"، أما الثالث فهو صوت الشاعر وهو يحاول خلق شخصية درامية تتحدث بالنظم، صوته لا عندما يقول ما يستطيع هو شخصيًّا أن يقول، بل ما يستطيع فحسب أن يقول في حدود شخصية وهمية تخاطب أخري وهمية"(9)

وبمطالعتنا قصائد ديوان الناس في بلادي يمكننا التعرف على هذا الحس الدرامي، ويبدو واضحًا في قصيدته الأولى "رحلة في الليل" إذ يبدأ الشاعر القصيدة بحكيه لصديقته عن يومه الذي قضاه بين أصدقائه، وكيف يدخل الليل عليه بين أصوات رفاقه وكلماتهم "الليل يا صديقتي ينفضني بلا ضمير

.......................

فحين يقبل المساء يقفر الطريق،

والظلام محنة الغريب

يهب ثلة الرفاق، فض مجلس السمر

"إلى اللقاء" - وافترقنا - "نلتقي مساء غد"

"الرخ مات - فاحترس. الشاه مات "

"لم ينجه التدبير، إني لاعب خطير"

"إلى اللقاء" - وافترقنا - "نلتقي مساء غد" (10)

هذه الأصوات المختلفة، في نص قصيدته تنذر بروح درامية وهو ما يتكرر لديه    

"ما زال في عرض الطريق

تائهون يظلعون..

ثلاثة أصواتهم تنداح في دوامة السكون

كأنهم يبكون..

- "لا شيء في الدنيا جميل كالنساء في الشتاء "

-  "الخمر تهتك السرار"

- "وتفضح الإزار"

- "والشعار... والدثار"

ويضحكون ضحكة بلا تخوم...

ويقفر الطريق من ثغاء هؤلاء" (11)

لم تكن هذه القصيدة الأولى في حياة الشاعر، لكننا نعلم من سيرته المكتوبة، أن سنوات صباه الباكر اتسمت بذاتية صارخة ورومانتيكية اشتهرت بها تجارب نجوم شعراء ذلك الوقت ممن قرأهم صلاح وتأثر بهم؛ من أمثال محمود حسن إسماعيل وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي وغيرهم.

يمكننا أيضًا تتبع الحس الدرامي المتنامي بشكل واضح في بقية قصائد الديوان الأول مثل قصائد "السلام "و"الحزن" و"الملك لك" و"أناشيد الغرام" و"رسالة إلى صديقة". ثم في قصائد الديوان الثاني (أقول لكم) مثل قصائد "الظل والصليب" و"أقول لكم" والتي اعتبرها كثيرون من النقاد البذرة الأولى لشخصية الحلاج المسرحية (12).

حالة التنامي للحس الدرامي تلك التي تبدأ من قصائده الغنائية، تصبح بناءً مكتملاً من المشاعر والأحاسيس والخلجات الدرامية التي تسري على ألسنة شخصياته في مسرحياته الشعرية، تعد في رأينا نوعًا من التطور الفني الناتج عن تمثله لمراحل سابقة، واجتيازه كثير من المحاولات، التي كان يجرب فيها السعي لتحقيق تلك الدرامية التي اكتملت وتشكلت في أبنية مسرحياته وشخصياتها. وتمثلات الصور التي نجدها متسربة في أشعار صلاح عبد الصبور الغنائية، هي التي دفعته مع تطوره الفني وامتلاكه لأداة الشعر بصدور ديوانه الثالث "أحلام الفارس القديم"، لاستخدام وسيلة فنية هي قصيدة القناع التي جسد من خلالها فهمه لفكرة المعادل الموضوعي التي أشار إليها إليوت.

أخذ صلاح عن إليوت فكرة المعادل الموضوعي بوصفه وسيلة وأداة فنية يستطيع من خلالها الشاعر أن يعبر عما يجول في خاطره وعقلة من تجسدات لصور فنية، يرى فيها مشاهد وشخصيات امتلأت بها أشعاره، وقد آن لها أن تظهر في الوجود الفني بشكل فني أكثر تطورًا، فخلجات الشاعر تظهر في شخصيات لها ما للبشر من صفات وملامح، وهو ما يؤكد، في رأينا، وعيه بالنوع الفني المسرح، ووظيفته في خلق الجدل وتبادل الحواس ما بين شخصية درامية وأخرى، وبين هذا الصراع الدائر على خشبة المسرح والمتلقي الجالس على مقعد المتفرج، ولكن بأثر أكثر بلوغًا وتحققا من ذلك الأثر الذي تحدثه القصيدة الغنائية والتي يمكن ألا تصل إلى قطاع عريض من القراء بعكس المسرحية.

وتمثل هذا جليًّا في اكتمال أولى المسرحيات "مأساة الحلاج" وصدورها في ذات العام الذي صدر فيه الديوان الثالث "أحلام الفارس القديم"، ولا نغفل حقيقة يذكرها صلاح نفسه، هي أن تجربته في الكتابة للمسرح لم تكن "مأساة الحلاج" أولى محاولاتها، بل سبقتها أكثر من تجربة غير مكتملة "ظل المسرح الشعري طموحا يخايلني سنوات حتى كتبت مسرحيتي (مأساة الحلاج) وكانت لي قبلها تجربة لم تتم في كتابة مسرحية عن "حرب الجزائر".. وخطرت لي فكرة ثانية هي كتابة قصة المهلهل بن ربيعة.."(13).  

أقدم صلاح إذن على كتابة المسرح الشعري نتيجة لاكتمال مفهوم ما عن المسرح الشعري لديه، عبر عملية متتالية من التمثلات لمفاهيم ومؤثرات وروافد، مر بها خلال تجربته الشعرية والفنية.

ثانيًا: ثقافته الموسوعية

يكتب صلاح عبد الصبور "الثقافة إذن تراث حي متصل بين الماضي والحاضر متجهة إلى المستقبل وليست دراسة مواطن نشوئها إلا لونا من إلقاء الأضواء عليها بغية مزيد من الفهم والاستنارة... وقد درجت في السنوات الأخيرة على أن أوطن نفسي على الإحساس بقرابتي إلى الشعراء في كل صقع من أصقاع العالم وفي كل فترة من تاريخه، بحيث انتظم موروثي الأدبي أبا العلاء وشكسبير، وأبا نواس وبودلير، وابن الرومي وإليوت، والشعر الجاهلي ولوركا، فضلاً عن عديد من الشعراء والقصائد المتفرقة، والأفكار والخواطر الشعرية"(14). ويدرك من يطالع كتابات صلاح عبد الصبور النثرية قبل أعماله الشعرية ومسرحياته، إلى أي مدى كانت تتسع معارفه وثقافته إلى الحد الذي أوصله من مجرد مدرس للغة العربية في بداية حياته، إلى شاعر ومفكر وناقد موسوعي من أهم رواد القرن العشرين في مصر. ودون أن نعول على هذا الأمر كثيرا في تحديد قيمة ونضج أعماله المسرحية، يمكننا البدء بما أورده أحمد عبد الحي عن تعدد منابع ثقافته، والتي يرجعها لرافدين رئيسين هما وعيه بالتراث واستيعاب الحداثة الشعرية المعاصرة وهو ذات ما كتب عنه صلاح نفسه في "مسرحنا المصري.. إلى أين؟ والتي لخص فيها رأيه عن أن ما يحتاجه المسرح المصري لينهض هو الجمع بين هذين الرافدين "وفي ظني أن مسرحنا المصري ليس في حاجة إلى التوفيق بين الأصالة والمعاصرة ولكنه في حاجة إلى الجمع بين الكلمتين في أقنوم جديد هو أصالة المعاصرة"(15).

لقد كان وعي صلاح عبد الصبور مؤسسًا على الرجوع لمنابع كبرى في الثقافتين العربية والغربية، فأنجز مشروع قراءة كبرى في بدايات الثلاثينيات من عمره، لتحديد مواقفه واختياراته والتثبت من أهدافه التي تمثلت فيما بعد في إنتاجه الشعري والمسرحي "إننا نتألم لأننا نحس بمسؤوليتنا، ونعرف أن هذا الكون هو قدرنا، لقد كنت مرة أقرأ بيت المعري العظيم:

وهل يأبق الإنسان من ملك ربه

ويخـــرج مـن أرض له وسمـــــاء

لقد ارتعدت حينما قرأته، لم تكن تلك قراءاتي الأولى له، ولكنها قراءة ما، قد تكون الثانية أو العشرين أو المائة، فتحت فجأة أمام نفسي طريقًا طويلاً مخيفًا، وأحسست كأني أصبت بالحمى، وأدركت فجأة ما دار في خلد هذا الفنان النبيل الأعمى- الذي حمل وحده في تراثنا العربي كله عبء الإنسان على كتفيه العجوزين الناحلين"(16).

نحن إذن أمام قراءة واعية تتأمل فيما تطالعه وتستلهمه بوعي الناقد المفكر، وليست مجرد قراءة وظيفية أو قراءة عابرة، إنه يقرأ تراثه ليتأمله، ثم هو يتمثل ما يقرأه ليعيد إنتاجه مرة أخرى بصورة أكثر نضجًا وجمالاً، ولعل هذا التأمل القلِق، كان هو السبب الرئيسي في تسرب الحزن والولع به في مجمل أشعاره.

وتبدو أوجه تأثرات أخرى بالمتنبي، بالإضافة إلى تأثره بشعراء معاصرين مثل محمود حسن إسماعيل وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي وإيليا أبي ماضي وقد تأثر صلاح بجبران خليل جبران كواحد من الذين تشربتهم روح الشاعر في بدايات تأثراته الفنية والفكرية، وبقي هذا الأثر ممتدًا حتى النهاية، ثم يأتي تأثره بالكتاب المقدس والذي يظهر جليًّا في "مأساة الحلاج" كما تأثر فكره أيضًا بقراءاته لكبار الفلاسفة والشعراء الغربيين مثل نيتشه وبريخت ووليم بليك ولوركا وشكسبير وفرانز كافكا. (17)

تشكلت تجربة المسرح الشعري إذن عبر مراحل متتالية من التلقي والتمثل والتأمل وإعادة صياغة كل هذه الروافد الفنية والفكرية مرة أخرى بما يمس الإنسان محليًّا وعالميًّا، وهو ما صبغ إنتاجه المسرحي والدرامي بتلك الصبغة الإنسانية.

ثالثًا: تأثره بإليوت  

عرف صلاح عبد الصبور إليوت أول ما عرفه وسمع عنه في سنوات دراسته بالجامعة المصرية - وقت أن كان طالبا بكلية الآداب قسم اللغة العربية بين عامي 1947و1951 م "كان صديقي القديم وزميلي في الجامعة عبد الغفار مكاوي قد قدم إلى بعض قصائد إليوت ورلكه مع شعره الرومانتيكي الصافي وقرأنا وتناقشنا وتبادلنا قصائدنا"(18).

وكانت هذه الفترة مرحلة تبدل وتحول في حسه الفني والشعري من الذاتية الصبيانية وفورة المراهقة الأولى، إلى حال النضج الفكري وبدايات تطوره الفني، بعد أن تأكد له وعيه بكونه شاعرًا اختار الشعر وسيلة أدبية وفنية للتعبير عن ذاته "كنت قد عبرت بطريقتي الساذجة عن هموم حياتي كلها من حب وإخفاق ومخاوف وأحسست أني أكرر نفسي في كل ما أحاول أن أكتب كما أن قراءاتي وسماعاتي من الأصدقاء كانت قد زلزلت نفسي زلزالاً كبيرًا لقد بدأت الأسماء الغريبة تقرع آذاننا بعنف عنيف، إليوت، أندريه بريتون، بودلير، فليري، رلكه، شللي، وردزورث..".(19)

كان تعرفه بإليوت في تلك المرحلة بمثابة نقطة تحول، وموقف فصل بين عالمين ومرحلتين الأولى هي مرحلة الصبا والمراهقة الأولى، والثانية مرحلة التكون والنضج الفكري، التي مر فيها بتحولاته الجوهرية، وتنوعت خلالها ميوله الفنية والأدبية، ما بين محاولات لكتابة القصة القصيرة ثم معاودته لكتابة الشعر، التي يحدد لها تاريخًا في أوائل عام 1951 م، لتنتهي تلك المرحلة بتشكل وعيه لاتخاذ موقف من الحياة التي يعيشها، متمثلاً لموقف نابع من يقينه وإيمانه بضرورة وأهمية أن يكون لما يقوله ويفعله جدوى:

 "ما جدوى الحياة؟ ما جدوى الحب؟ ما جدوى الفن؟"(20)   

لقد كان تأثر صلاح بإليوت، سببًا رئيسيًّا من أسباب انجذابه نحو مفاهيم الحداثة الشعرية واختراقه لحجب الثقافة المحلية "إن تأثر صلاح بإليوت كان بالدرجة الأولى تأثرًا مضمونيًّا، قبل أن يكون مجرد استعارة تعبير أو صورة أو تكنيك فني، أو حتى الإعجاب بأسلوبه الجسور في التعامل مع اللغة"(21)

وهو ما رآه ماهر شفيق فريد تأثرًا يتجاوز الأسلوب أو التقنيات الفنية، ليمتد إلى حساسية الشاعر، وأسلوب استجابته للمواقف والأشخاص والأفكار، وأحواله النفسية. (22) وسنجد في كلامه وآرائه النقدية والقيمية صدى واضحا لمقولات وآراء وكلمات إليوت النقدية، ويمكننا أن نقف عند أمثلة كثيرة، منها على سبيل المثال، عندما يكتب إليوت في مقالته عن الموهبة الفردية وعلاقتها بالتقاليد "والواقع أن خير ما في عمل الشاعر وأكثر أجزاء هذا العمل فردية، هي تلك التي يثبت فيها أجداده الشعراء الموتى خلودهم... وأنا لا أتكلم عن فترة المراهقة الانطباعية للشاعر، وإنما عن فترة النضوج الكامل"(23) أو عندما يكتب "ومعنى الشاعر أو معنى الفنان في أي فن كان، لا يستمد منه وحده، فتقديره إنما هو تقدير للعلاقة التي تربطه بالشعراء والفنانين الموتى، وأنت لا تستطيع أن تقيمه على حدة وإنما يتحتم عليك أن تضعه جنبًا إلى جنب مع الموتى، لتجري المقارنة والمفارقة وليس هذا من مبادئ النقد التاريخي فحسب، بل من مبادئ النقد الجمالي أيضًا"(24)

ولنقرأ كلام صلاح عبد الصبور عن الشاعر المعاصر وضرورة وعيه ومعرفته بآبائه الفنيين "إن الفنان يولد في الفن، ويعيش فيه، ويتنفس من خلاله، وكل فنان لا يحس بانتمائه إلى التراث العالمي ولا يحاول جاهدًا أن يقف على إحدى مرتفعاته فنان ضال، وكل فنان لا يعرف آباءه الفنيين إلى تاسع جد لا يستطيع أن يكون جزءًا من التراث الإنساني، وهو في الوقت ذاته لا يستطيع أن يحقق دوره كإنسان مسؤول في هذا الكون"(25)

وما كلام صلاح عن عمليتي التشكيل والتلوين في القصيدة ثم عمليتي التلوين والتمكين وبحثه في قاموس الصوفية عن تعبيرات ومصطلحات فنية يستطيع أن يفسر من خلالها مراحل تكون القصيدة في روح ووجدان ونفسية الشاعر وعقله، سوى بحث منه عن مدخل فكري وثقافي يقترب به من المضمون الذي قال به إليوت عن عملية تكون القصيدة والشعر عامة، في روح ووجدان ونفسية الشاعر، عبر تشبيهه لهذه العملية بالمعادلة الكيميائية وكل منهما، صلاح وإليوت، اختار ما تعينه عليه مكونات ثقافته من أمثلة.

وليس أكثر من ترجمته لمقال (الشعر والمسرح) لإليوت في مقدمة ترجمته لمسرحية (جريمة قتل في الكاتدرائية) من دليل نسوقه على استقاء صلاح عبد الصبور لمفهومه عن المسرح الشعري من خلال تمثله لآراء إليوت النقدية وإعادة إفرازها بما يتناسب وواقع المجتمع المصري والعربي الذي يعيش فيه صلاح أولاً ويقدم له منتجه الفني وإبداعه المسرحي ثانيًا (26).

الهوامش:

1) د. محمد مندور، مسرحيات شوقي، القاهرة، دار نهضة مصر، 1982 م.

2) د. أحمد شمس الدين الحجاجي، المسرحية الشعرية في الأدب العربي، القاهرة، دار الهلال، 1995 م.

3) د. كمال محمد إسماعيل، الشعر المسرحي في الأدب المصري المعاصر، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006 م.

4) د. على الراعي، المسرح في الوطن العربي، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، ط 2، 1999 م.

5) د. أحمد شمس الدين الحجاجي، المرجع السابق.

6) د. وليد منير، فضاء الصوت الدرامي في مسرح صلاح عبد الصبور، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992 م.

7) د. أحمد عبد الحي، شعر صلاح عبد الصبور الغنائي الموقف والأداة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1988 م.

8) د. على الراعي، المرجع السابق، ص 169.

9) توماس ستيرنز إليوت، مقالات في النقد الأدبي، ت: لطيفة الزيات، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، د.ت، ص 61.

10) صلاح عبد الصبور، الناس في بلادي، الأعمال الكاملة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج 1، 1993 م، ص 175.

11) المصدر نفسه، ص 176.

12) صلاح عبد الصبور، حياتي في الشعر، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 1995 م، ص 154.

13) المصدر نفسه، ص 150.

14) صلاح عبد الصبور، الأعمال الكاملة، ج 6، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 431.

15) د. أحمد عبد الحي، مرجع سابق، ص 32.

16) صلاح عبد الصبور، حياتي في الشعر.

17) صلاح عبد الصبور، المصدر السابق.

18) صلاح عبد الصبور، المصدر السابق.

19) صلاح عبد الصبور، المصدر السابق.

20) صلاح عبد الصبور، المصدر السابق.

21) د. أحمد عبد الحي، مرجع سابق، من ص 31 إلى ص 81.

22) انظر مقال بعنوان "مسرح صلاح عبد الصبور المعنى والمبنى" منشور بمجلة فصول" الشاعر والكلمة "، المجلد الثاني، العدد الأول، أكتوبر 1981 م.

23) ت. إس. إليوت، المرجع السابق.

24) ت. إس. إليوت، المرجع السابق.

25) صلاح عبد الصبور، الأعمال الكاملة، ج 9، مقال بعنوان "على الشاطئ الغربي لأول مرة"، ص 394.

26) انظر، مقدمة مسرحية "جريمة قتل في الكاتدرائية"، ت. إس. إليوت، ترجمة: صلاح عبد الصبور، الكويت، سلسلة من المسرح العالمي، العدد 148.