مراجعات
رياض حمّاديالأصل والصورة في فيلم "نسخة طبق الأصل"
2017.11.01
تصوير آخرون
الأصل والصورة في فيلم "نسخة طبق الأصل"
لنقل إن فنانًا شهيرًا عاصر دافنشي، واستنسخ لوحة الموناليزا، هل كانت ستساوي اليوم قيمة موناليزا دافنشي؟ ولو أن دافنشي نفسه رسم لوحتين للموناليزا، واكتشفنا اليوم النسخة الثانية، هل ستساوي قيمة الأولى؟ هذان سؤالان مضمران ضمن أسئلة أخرى ودلالات يثيرها فيلم عباس كيارستامي "نسخة طبق الأصل"(CertifiedCopy) المعروض عام 2010.
ما وراء القصة
يقول صانع الأفلام الألماني فيم فيندرز "أنا لا أفكر، أنا أرى". ويُكملتاركوفسكي "ينبغي أن نضيف التفكير لكي نرى بشكل صحيح". ينطبق ذلك بشدة على أعمال كيارستاميوبشكل خاص "طعم الكرز"1997، و"نسخة طبق الأصل".والأخير من بطولة الفرنسية جولييت بينوش في دورإيلي، والبريطاني وليامشيمل في دور جيمس ميلر، ويحمل أسلوبكيارستامي الذي يجمع بين البساطة والعمق الفلسفيوتناغم الصورة الرمزية مع الحوار، وجدل الثنائيات والنهاياتالمفتوحة.
ينقِّب كيارستامي في تاريخ الأعمال الفنية، ويأخذنا في رحلة تُشكِك في معايير الأصالةوقيمة الإبداع البشري مقابل إبداع الطبيعةهل يمكن للنسخة أن تساويالأصل؟أين تكمن قيمة العمل؟ ولماذا تتسم الأعمال القديمة بقيمة أعلى؟وينقب في المعدن الإنسانيهل أنت روح أم جسد؟نسخة أصلية أم مقلدة؟ويدير حوارًا أزليًّا بين الرجل والمرأة، والصورة والكلمات، وجدالاً بين ثلاث لغات؛ الإيطالية والإنجليزية والفرنسية.
المشهد النواة
تترك النهاية المفتوحة الإجابات للمتفرج، لكن كيارستامي يقدم لنامفاتيح إجابات محتملة: الأشياء في جوهرها ليست أصلاً ولا تقليدًا، نظرتنا إليها هي التي تحدد ما إذا كانت أصلية أو نسخ عنها، أو كما قال جيمس "ليس المهم العمل بل كيف ننظر إليه".يتناول الفيلم فكرة الأصالة والتقليد،والبساطة والتعقيد. وينسجكيارستاميأدواته السردية (سيناريو، وحوار، وصورة) بطريقة تتناغم فيها الحوارات مع الصورة ولغة الجسد، وتحيل المشاهدبعضها إلى بعض، ويقوم أولها بدور الأساس.
عادة ما تشتمل الأفلام الفلسفية على مشهد أساسي يلخص مضمونها. وهو هنا –في "نسخة طبق الأصل"-مشهد البداية؛ عبارة عن محاضرة يلقيها جيمس ميلر،مؤلف كتاب يحمل عنوان الفيلم.يصوركيارستامي المشهد بلغتين بصرية وسمعية.وينتهي المشهد برنين هاتف جيمس، الذي يرد قبل أن يستكمل شرحه لمعايير الأصالة. لإنهاء المشهد بهذه الطريقة دلالة ستظهرلاحقًا عندما يسرد جيمس لإيلي المعايير من وجهة نظره. وبمقارنة المعايير الرسمية بمعاييرهتبرز علامة استفهام أولىحول أي المعايير هي الأصل، الرسمية؛ تلك التي تقدمها لنا المؤسسة، أم الشخصية؟
لم يكن رنين الهاتف وحده هو ما شوَّش على سير المحاضرة،فقد سبقه دخول إيلي، ثم دخول طفلها جوليان، وتبادلهما الحديث بالإشارات، ثم انصرافهما قبل انتهاء المحاضرة. يشير جوليان لأمه وهو يمسكببطنه علامة على جوعه،فتبدر منها إشارة تذمُّر تحثه على الصبر،وبعدها يوزعجوليان نظراته اللائمة والغاضبة. سلوك الطفل، وانشغاله بألعابه، يشيران إلى أولوية المعدة والمتعة على الفكر والثقافة. ويشير التشويشالذي تخلل المحاضرة إلى ثانويتها،وهامشية الكلام والإلقاء مقارنة بالأفعال والصور، ليس لإيلي وطفلها فقط ولكن للمتفرج أيضًا الذي ينتظره ما هو أهم من المحاضرة.
اللقطة الأولى من المشهد الأولمرتبة وفقًالثلاث طبقات حضارية: واجهة حجرية عليها نقوش بالإيطالية،والنسخة الإيطالية للكتاب على طاولة خشبية، وأخيرًا الكاميرا التي تصور ما سبق. تختزل هذه الطبقات تاريخ الإنسان الحضاري في لغتين مكتوبة ومرئية. ولهذا الترتيب علاقة بموضوع الفيلم الجدلي(عن الأصل والنسخة) من خلالمقابلة جدلية بين الصورة والكلام. وتركيز الكاميرا على ما تفعله إيلي وطفلها يجعله حدثًا رئيسيًّا وما يقوله جيمس خلفية له، وهذايعطي أولوية للصورة، أو أسبقية للغة الإشارة على لغة الكلمة، وأهمية الفعل في مقابل القول. من جهة أخرى، يشكك في قيمة المعلومات التي يعرضهاجيمس. ويكشف رده على هاتفه، رغم تنبيهه بإغلاق الهواتف، عن تناقضبين القول والفعل.
تشير اللقطةالثابتة للكتاب إلى سؤال الفيلم الرئيسي حول الأصالة والتقليد؛حيث يظهر في نسخته الإيطالية وتختفي نسخته الأصلية الإنجليزية، ويظهرعنوانه الفرعي "النسخة أجمل من الأصل"،وبعدها يشيد جيمس بالنسخة الإيطالية، ويقلب معيار الأصالةبتفضيلها على الأصل الإنجليزي.وبدخولجوليان القاعة، وهو منشغلبجهاز ألعابهغير عابئ بالمحاضرة، تحل التقنية مقابلاً ومنافسًا للكتاب. وستكشف المشاهد التالية عن مقابلاتأخرى: الكبار مقابل الصغار، النظرية مقابل التطبيق، القول مقابل الفعل، الرجل/الزوج/الذكر مقابل المرأة/الزوجة/الأنثى.
جدل الثنائيات
مواصفات الأصالة، وفقًا لجيمس هي الإبداع والابتكار والجمال والعمر والفعالية، وهويستشهد بأشجار السَرْو مثالاً للإبداع لأنهاجميلةوفريدةوعتيقة وبسيطة، على الرغم من تعقيدها. فيلفتنظرنا إلى أصالة الطبيعة وبساطتها مقابل عمل الإنسان. يتسمالأطفال أيضًابالبساطة مقابل الكبار، فهم "يعيشون كي يستمتعوا باللحظة".ويظهر جوليانمثالاً؛فلديه حس فضول للاكتشاف والمعرفة،وسريع البديهة، وقوي الملاحظة،ويفعل عدة أشياء في وقت واحد، وفي سبيل المتعة لا يبالي بالتوجيهات والعواقب ولا يهتم بقيمة الزمن.
تتجلى الشخصية العملية في ماري، أخت إيلي، فهي بسيطة ولا تحاول أن تقنع أحدًا، تعيش في العالم العادي حيث يتشابه الأصلي والمُقلَّد، تؤمنأن الحمقى هم من يبذلون جهدًا في الحياة، تفضل موقد الغاز لسهولة استعماله، تحب المجوهرات المقلدة، وتزوجت رجلاً بسيطًاتعتبر تلعثمه حين ينطق اسمها أغنية حب.بينما يختفي الفرق بين الأصل والنسخة تحت تأثير جمال لوحة بوليمنيا، التي يطلق عليها الإيطاليون "جيوكانداتوسكانا" أو "النسخة الأصلية".
الصورة والظل - وجهان لحياة واحدة
تظهرماري وزوجهافقط من خلال حكايات إيلي عنهما، وهو ما يُعرف بتقنية الحجب. هما مقابلانلإيلي وجيمس، دون أن يعني حجبهما أنهماالنسخة والأخيران الأصل. وتبدو إيليوكأنها التجسيد المرئي لماري، ولما يتمناه جيمس،كأنها بالنسبة له الصورة وأختها الظل، بينما واقعيًّا العكس هو الصحيح. أما زوج ماري فيدَّعي جيمس أنه نسخته؛ كي تنظر له إيلي كما تنظر ماري لزوجها. "إن كان اسمك ماري يمكنك فعل ذلك، أعني أن الطريقة التي تنظر فيها إلى زوجها غيَّرت من قيمته". وهو ما سيتحقق في نهاية الفيلم.
يهتم جيمس في كتابه بالتأثير النفسي والفلسفي للفنون على الجمهور، لكنه لا يشير فيه إلىلوحة بوليمنيا ولا شجر السَرْو. وكانت إيلي قد أخبرتهبأن اللوحة أصلية؛ لترى إن كان يميز بين الأصلوالنسخة. لكنهفشل للمرة الثانية، ربما لأنه يريد أن يثبت "القيمة الحقيقية للنسخة المقلدة، فهي ترشدنا للنسخة الأصلية"، أو لأن اللوحة "جميلة كاللوحة الأصلية"،فالجمال معيار للأصالة يساوي بين الأصل والنسخة. ويقرر دفاعًا عن نفسه إعادة الأمور إلى أصولها، فالصورة الأصلية "ليست سوى نسخة من جمال الفتاة الحقيقية. ومن الممكن القول إن لوحة الموناليزا ليست سوى استنساخ للجيوكندا"، وفي النهاية "نحن نسخة طبق الأصل عن أسلافنا". تسأله "هل تقصد أنه لا يوجد نسخة أصلية مطلقا؟"،فيرد "ليس تمامًا..هناك العديد من النسخ الأصلية". وكانت المرة الأولى التي لم يميز فيها بين الأصلي والتقليد عندما زارها في محل الأنتيكات.عندما أخبرته أن بعض التحف مقلدة وبعضها أصلية، في إشارة إلى عدم قدرة العين غير الخبيرة على التفريق بين ما هو أصلي وما هو تقليد.
تكشف نكتة ألقاها عن تناقضهما،فهي تهتم بظاهرهاوتضحك، رغم أنها تعتبرها سخيفة، لأنهاوفقًا لنظرياته، تهتم بالجانب العملي من النكتة: "المتعة لا العبرة".أما هو فيهتم بالعبرة على خلاف تصريحاته السابقة. يتضحتناقضهما كذلك عند مقارنةموقفيهما من النبيذ،وتمثالالساحة. فعلى عكس تعاملها مع النكتة، لم تنظر إلى التمثال كقطعة فنية وفقط، كما فعل هو، لكنها غاصت إلى عمقه باحثة في فلسفة الفن عن معنى وراء مظهره الخارجي. على جانب آخر اعتبر هو أن مذاق النبيذ فاسد، ولم يطبق نظريته"المهم ليس العمل بل كيف ننظر إليه"، أو كيف نتذوقه، و"الحديقة بلا أوراق، من يتجرأ على القول إنها ليست جميلة!". أما هي فلم تر النبيذ بذلك السوء،فما يهمها هو الوقت السعيد الذي تقضيه معه.وحين يفتعل مشكلة، تقول له "ألا يمكنك الاستمتاع بما عندك بدلاً عن أن تشتكي طوال الوقت؟ ألا يمكنك التغير قليلاً هنا؟". وهكذا تتخذ من النكتة والنبيذ مناسبة للدعابة، وتضع نظريته عن الأصل والنسخةمحل اختبار.
تسير إيلي في المقدمة وخلفها ابنها، ما يكشف عن الهوة بين الجيلين. وتظهر ازدواجيتها في علاقتها به، فهي تعترض على الكثير من تصرفاته، بينما حوارهما يظهرهما كصديقين. تعلق،وهي تتابعسعادة عروسين أمام الكاميرا،"لو يعلمان كيف ستصبح حياتهما عندما يرزقان أطفالاً لما ارتسمت على وجهيهما هذه الابتسامة الغبية في يوم زفافهما". فيوافقها جيمس"لا شك في ذلك".
تصف الزواج لاحقًا بأنه "وهم جميل". ويرى جيمس أن وعود الزواجتذهب أدراج الرياح. فالحب لا يضمن استمرار الزواج، ولا يستمر هو نفسه. "لن يستمر زواجهما إلا بوجود الاهتمام، الاهتمام والوعي. الوعي بأن كل شيء يتغير ولن توقف الوعود ذلك التغيير". بينما تكشفه هي فينهاية الفيلم "أتر؟ لم يتغير شيء، أنت لم تتغير، لم تتغير. أنت كما كنت، لطيفًا وجذابًا وباردًا". يدَّعي الإنكار فتسأله "هل تغيرت؟"، يجيب "لقد أصبحت أجمل". فتضيف "وأكثر غباء".
تحكي إيلي عن أختها، فيعلق بأنها تشبهه، وعندما تستنكر التعليق يؤكد"أتمنى أن أكون مثلها. لقد ألّفتُ الكتاب لأحاول إقناع نفسي بفكرتي، لكنها مقتنعة بذلك بشكل طبيعي، لذا أنا أحسدها".تسأله لاحقًا"أين النسخة الأصلية منك؟". فيجيبها "في منزل أختك". فتتساءل مستغربة "حقًا؟ أين؟"، يرد "في زوجها".وهكذا يحاول دفعها إلى تغيير نفسها"إن لم تحاولي رؤية الأشياء من منظوري فما الفائدة؟". فتقرر هي ذلك في نهاية الفيلم، وتنطق اسمه"جـ.. جـ.. جـ.. ـيمس"كما ينطق زوج أختها اسم زوجته.
تتناقض نظرة إيليللحياة مع نظرة جيمس.فهي شخصية عاطفية وعملية ومتسقة مع ذاتها،ترتدي ملابس بسيطة، ولا تستعمل مساحيق تجميل، ولا ترتدي الحُليّ والمجوهرات. وكي تختبر قدرته على الملاحظة ذهبت إلى حمام المطعم لتتزين، ووضعت أحمر شفاه وقرطينرخيصين، وعادت إلى الطاولة، لكنه لم يلاحظ تغيرها، تنظر إليه وتقول "انظر إلى زوجتك التي جملَّت نفسها من أجلك اليوم. انظر، افتح عينيك".
تحدث بينهما مشادة كلامية تتداخلفيها لغتها الفرنسية ولغته الإنجليزية. تشير له وهما أمام الفندق"لم تلاحظ أني مسحت أحمر الشفاه، ولم تلاحظ القرطين. المشكلة أنك لا تراني. بينما أنا لاحظت أنك غيرت عطرك". وهو ما يكشف عن المزيد من تناقضاته، فهو في نظرته للَّوحة والتمثالين يرى سطحهما الخارجي، لكنه لم يلاحظ التغير في مظهر إيلي.
هو لا يُفرِّق بين الأصل والتقليد، وينظر إلى الأشياء من وجهة نظر شخصية، وهو ما رفضه عندما حاولت هي البحث عن فلسفة التمثال.لكنهما يتفقان في أمر، فهو يعطي للنسخة قيمة مساوية للأصل،أما هي فأعجبها العنوان الفرعي للكتاب "انسَ الأصل واحصل على نسخة جيدة". وفي وضعها لأحمر الشفاه والقرطين دلالة على قدرتها أن تكون نسخة أخرى من نفسها. كما أن اللقطة المقربة التي تصور وضعها للقرطين وأحمر الشفاه، والأخرى التي لوَّحت فيها للكاميرا،تجعلاها وكأنها تنظر إلى المتفرج مباشرة فتقحمه حكما بينها وبينه، ولسان حالها يخاطب المتفرج كيف تراني، أأصل أنا أم صورة؟!
الظل والضوء
لا يظهر التمثال كاملاً إلا وهو منعكس على المرآة في لقطة بعيدة،وهما يبتعدان عن الساحة،وهو أحد استخدامات تقنية الحجب داخل الفيلم:حجب ماري وزوجها، حجب ما قالته النادلة لإيلي، حجب طبيعة العلاقة بين إيلي وجيمس، وحجب كثير من المعلومات التي لمَّحا لها..إلخ.كما أن انعكاس الصورة في المرآة يؤكد على سؤال الفيلم عن الأصل والنسخة، الصورة وظلها، وسيتكرر هذا الرمز في مشهد ظل النافذة، وظل زوج الحَمَام على جدارغرفة الفندق.
يصور التمثال عائلة متماسكة مكونة من رجل وامرأة وطفل،تحتضن المرأة الرجل من الخلف وتريح رأسها على كتفه، بينما الطفل على كتفه الآخر. ترى إيلي في التمثالامرأة تجد الأمان في كنف رجل قوي، وهو ما تتمناه لنفسها. أما جيمس فيرفضهذا التفسير متهربًا "هذا الرجل لا يفعل شيئًا سوى حماية هذه السيدة"، فترد "لهذا السبب هو مُخلَّد". ويأتي تأكيدها على معنى الخلود هذا، ليجعل من التمثال أصلاً ومن جيمس نسخة.
يكشف موضوع التمثال عن عدم اتساق جيمس مع نظرياته حول التأثير النفسي والفلسفي للفن على الجمهور. كما يكشف عنالاختلاف بين شخصيتهالنظرية وشخصيتها العملية. التمثال واللوحة والتحف في محل الأنتيكات والنبيذ،كلها دروس عملية تفضح ازدواجيته وتناقضه.كما تقلب وضع التلميذ والأستاذ،فتجعلها معلمة وتجعله تلميذًا.
يفهم السائح الفرنسي مغزى تفسيرها فينصحه بأبوية "كل ما تريده منك هو أن تسير إلى جانبها، وتضع يدك على كتفها. ذلك ما تتوق إليه. هذا مهم بالنسبة لها. كل مشكلاتكما يمكن حلها بإيماءة بسيطة، افعلها وحرِّر نفسك". يستجيب لنصيحته، ويضع يده على كتفها،ما يكشف عن التحول في شخصيته من القول إلى الفعل، وهي خطوة ستتلوها أخرى.اللافت أن السائح والنادلة ينظران إليهما بالطريقة نفسها:زوجان يعانيان، ويحتاجان إلى خبرتهما ونصائحهما. بينما يشير اقتراب عازفالأوكورديون منهما أنه يظنهما حبيبين. فما طبيعة علاقتهما؟
الرجل والمرأة
تظل علاقة جيمس وإيلي غامضة طوال الفيلم، وتُترك كسؤال مفتوح أمام المتفرج: أهما زوجان حاليان، أو سابقان، أم حبيبان انفصلا بعد إنجابها؟هل هو نسخة من زوجها؟أم أنها مجرد قارئة معجبة تريد التقرب منه، وكل التلميحات عن علاقتهما الزوجية خلال حوارهما هو مجرد لعبة استعراضية بينهما، يجسدان فيها شخصية الزوج الغائب والزوجة المحبطة؟
يأتي أول تلميح لعلاقتهماالغامضة عندما يشير لها ابنها مرحًا "تريدين رؤيته مجددًا...أعرف أنه يعجبك وتريدين الوقوع في حبه وأعطيت رقم هاتفك لصديقه كي يتصل بك". ترد ضاحكة "لا، على الإطلاق. أعطيته رقم هاتفي لأني أريد أن أعرف المزيد عن كتابه، فلم أتمكن من سماعه بسببك". يبدو عليها الكذب، وتكشف نظراتها له ولكتابه عن إعجابها به.كما أن الإشارة إلى تواجدها معه هي وابنها في فلورنسا قبل سنوات يستبعد احتمالالصدفة. ويلمح بكاءها، حين أخبرها بقصة الأم وطفلها، إلى علاقة سابقة ربما أخفقت بسبب عدم توافقهما.
حبكة مخاتلة
لماذا يخفي كيارستامي طبيعة علاقتهما؟ربما لأنها تُجسدعمليًّامضمون المحاضرة، وتختبرالمتفرج في نظرتهللفيلم، المختزل في عبارة "المهم ليس العمل بل كيف ننظر إليه". وتؤكد تقنيةالفيلم، المؤسسة على خداع المتفرج والشخصيات. حيث تبدو علاقتهما في البدايةعلاقةًبين قارئة وكاتب، لكن تتسرب التلميحاتتدريجيًّا لتشي بوجود معرفة سابقة بينهما.
تخدع الشخصيات بعضها:ينخدع هو بمظهر التحف في محل الأنتيكات معتقدًا أنها أصلية، وتخدعه هي بقولها إن لوحة بوليمنيا أصلية، وتخبر العروسين أنها وجيمس سعيدان واليوم يصادف عيد زواجهما الخامس عشر، وحين تقول لها النادلة "إنه زوج جيد"، لا تصحح لها بل تسألها "كيف عرفت؟"، فترد "من نظراته". هي لا توهمها، وإنما توهم المتفرج، مثلما أن توجيهها لجيمس "افتح عينيك"، وهي تنظر إلى الكاميرا، وكأنه تنبيه للمتفرج كي يمعن أكثر فيما يشاهده.
ثمة خدعة أخيرة عندما تدخل الكنيسة فيظن أنهاأصبحتمتدينة. ثم يثيرانتباهنا بتعجبه "لم أكن أعلم أنك تذهبين إلى الكنيسة". وهي عبارة أخرى تثبت ليس فقط معرفة سابقة بينهما ولكن معرفة وثيقة. هذه كلهاأمثلةتؤيدموضوع الفيلم عن الأصلي والمزيف، الظاهر والباطن، المظهر والجوهر، وكيف أن المظهر قد يكون خادعًا،ما يجعل المتفرج يعيد النظر في طبيعة نظرتهلعلاقتهما.
يقول هو للنادلة "تعيش عائلتي حياتها وأنا أعيش حياتي، هم يتحدثون بلغتهم وأنا أتحدث بلغتي"،فتغضب هي وتغادر المقهى. ثم تتهكم عليه، وهي تشير إلى ابنها"أهنئك على هذه الحكمة العظيمة. ما نوع الفلسفة هذه؟! هراء! كن حقيقيًّا واستمع إلى ما يفعله بي. تحدَّث معه ربما يمكنك التصرف أفضل مني". كيف إذن تغضب وتطلب منه أن يتحدث مع ابنها، وهو لا يمت لهما بصلة؟
تعلق عليه مرة "هذا كلام جيد من أجل الكتب. إنه كلام لطيف وذكي، لكن لا يمكن تطبيقه في الواقع، عندما تتعامل معه بمفردك يكون صعبًا". وتحمل حواراتهما دائمًا إشارات لماضٍ مشترك.وثمة شواهد تؤكد معرفتهما المسبقة، فبعد المشادة بينهما في المطعم يقول لها "أعتذر عما حدث منذ خمسة أعوام سابقة، أعتذر عما حدث في هذا المطعم، عن النادل والنبيذ، أعتذر عن السنوات الخمس عشرة السابقة، أعتذر عن وجودي". لماذا يعتذر؟لماذا يشير لتواريخ بعينها في الماضي؟
ثم تأتي الإشارة الأهم على طبيعة علاقتهما، عندما تثرثر معالنادلة، وهو خارج المقهى "زوجي يحلق لحيته بين يوم وآخر. حتى يوم زفافنا لم يحلق ذقنه". ثم تشير له في مشهد تالٍ وهما جالسان على درج الفندق "كان بإمكانك أن تحلق لحيتك اليوم من أجلي، من أجل ذكرى زواجنا". فيرد "إنها عادة. أنا أحلق لحيتي بين يوم وآخر". ثم تسأله "هل تتذكر الفندق الذي قضينافيه ليلة زواجنا؟". يُخمن لكنه يعجز عن التذكر.فتصعد هيوتطلب من موظف الاستقبال مفتاح الغرفة رقم تسعة لتستعيد ذكرى الزواج.يبدو هو وكأنه فاقد للذاكرة، أما هيفتتذكر أدق التفاصيل.وعندما يدخلان الغرفة تطلب منه النظر من النافذة لتذكره بالماضي.
مراحل الزواج
يظهر الزواجداخل الفيلم في ثلاثة مراحل عمرية: الشبابومنتصف العمروالشيخوخة. جيمس وإيلي يمثلان متوسطي العمر، والعرسان يمثلان الشباب،بينما تمثل النادلة والسائح الفرنسي وزوجته والزوجان العجوزان أمام الكنيسة مرحلة الشيخوخة.كما يظهرالعُرْس في نموذجين؛ عروس سعيدة وأخرى تعيسة، على وجهها آثار بكاءفي إشارة إلى بداية متعثرة. فالتقاط صورةلإيلي وجيمس مع العريسين السعيدين ذو دلالة مرتبطة بنهاية قصتهما، كما سيأتي لاحقًا.
تؤكد لها النادلة "ستفهمين ذلك عندما تصبحين في عمري"،وهو ما تتحقق منه إيلي عمليًّا، حين تتابع زوجين عجوزين يخرجان من الكنيسة لحظة دخولها. المضمر في كلمات النادلة تنقله صورة صامتة لهذين الزوجين وهما يسيران ببطء حتى يصلا إلى بيتهما جوار الفندق، بينما تتجه إيلي مع جيمس إلى الدرج ويجلسان.صورة العجوزين تجسد مستقبلهما الذي تتمناه:"إن كنا متسامحين بشكل أكبر عن أخطاء بعضنا سنكون أقل وحدة. أليس كذلك؟ أعرف أن بإمكان الشخص أن يعيش وحيدًا، لكن..أرأيت الزوجين في البيت المجاور؟ أحسدهما..ابق معي. ابق، هذا أفضل لكلينا، لأجلنا نحن الاثنين. امنحنا تلك الفرصة". فيردبصوت واهن متردد"لقد أخبرتك. يجب أن أكون في المحطة الساعة التاسعة". ترد "نعم. أعلم ذلك"، ثم تنطق اسمه بطريقة زوج أختها "جـ جـجـ جيمس".
تقمُّصها لشخصية زوج أختها،إشارة إلى أن نسخة الزواج الناجحة (نظريًّا) بين ماري وزوجها يمكن لإيلي وجيمس تطبيقها (عمليًّا) لتصير أصلاً، وتأتي اللقطة التالية لظل النافذة وظل زوج حمَام لتدعم ذلك.هي تحاول دفعه للبقاء معها بتقليدها لتلعثم زوج أختها، وهي بذلك تقول الكلمة الأخيرة في جدل الأصالة والتقليد.
إغلاق الدائرة
يجسد مسار الفيلم توجهين إنسانيين: نظري،يمثله جيمس، وعملي، تمثله إيلي. وتنجح هي في إخراجه من حياة الكتب إلى الواقع، فتصحبه في مشوار من عدة محطات محل التحف والمقهى والمتحف وساحة المدينة والمطعم والكنيسة، وأخيرًاالفندق الذي شهد بدايتهما. وكأنه -مسار الفيلم على هذا النحو-فلاش باك أو عودة إلى الوراء من أجل بدء صفحة جديدة، لا تتسم بالمثالية النظرية. فهما معًا سيكونان أقل وحدة، كما عبرت هي.
التحول الأهم في شخصيته يبدأ باعتذاره لها أمام الفندق.وداخل الغرفة تتحدث هي، أما هو فيبقى منصتًا معظم الوقت، في إشارة إلى تفكيره في علاقتهماواقتناعه بما تقول. وبعد أن تنطق اسمه بتلعثم تَصدُر عنه ابتسامة رضا خفيفة، ثم يظهر على الجدار ظل لنافذة وزوج حَمَام يطيران.وبعدها يظهر هوفي لقطة مقربة ثابتة واقفًا يتبول في الحمام،وخلفه نافذة تظهر منها كنيسة تدق أجراسها. يظل واقفًا يفكر بعد انتهائه من التبول، بينما أصوات الأجراس المتداخلة تُعبِّرعن الضوضاء في رأسه،وتحثهعلى إعادة التفكير في طلبها.
يهم بالخروج وهو يمرر يده اليمنى في شعر رأسه، ويلوح في نظرته الأخيرة أنه اتخذ قرارًا. بينما ينتهي الفيلم باللقطة الثابتة نفسها للكنيسة وصوت الأجراس تخفت تدريجيًّا،بينما يمرزوج الحَمَام وهما يطيران معًا. لقطة زوج الحَمَام هذه "أصل"، وهي تقابللقطة ظلهما في المشهد السابق"الصورة"، وهكذا تكثف قضية الفيلم عن الأصل والصورة، بينما يعيدنا ظهور الكنيسة في المشهد الأخير إلى مشهد خروج الزوجين العجوزين منها، وكأن أمنية إيلي ستتحقق بأن يجسد الزوجان العجوزان مستقبل العلاقة بينها وبين جيمس.
تتشابه لقطةالكتاب في المشهد الأول، مع لقطة الكنيسة في المشهد الأخير، تجمعهما عناصر مشتركة: ميكرفوناتفي مقابل أجراس،والكتاب في مقابل الكنيسة، وفتحة الإطار في الجدار (أشبه بنافذة مغلقة) في مقابل النافذة المفتوحة. وتلخص اللقطتان مسيرة الحضارة الإنسانية، وكأنهما تلقيان بسؤال أخير أيهما الأصل والآخر النسخة، الكتاب أم الكنيسة، الحياة أم الدين؟
يَخْلُص الفيلم إلى أن معايير الأصالة شخصية ونسبية. فالمعايير المتعارف عليها تعجز عن تحديدها، أو كما قال جيمس في المحاضرة "لا توجد نقطة ولا حقائق ثابتة للرجوع إليها".الفيلم من جهة يدير صراعًا خفيًّا بين الرجل والمرأة،عن أصالة كل منهما.وتقوم إيلي، على نحو عملي وساخر، بتعرية نظريات جيمس التي يدافع فيها عن قيمة النسخة نظريًّا، لكنه لا يتقيد بأفكاره عمليًّا. وكأنها تجسدهي الفاعلية والحيوية، ويجسد هو الركود النظري قولاً وكتابة. التطور الدرامي لشخصيتي إيلي وجيمس،يكشف عن قوة المرأة وأصالتها الدفينة، مقابل اهتزاز الرجل وتناقضاته.
لم يقدم كيارستامي العلاقات الزوجية ومشكلاتها بشكل مألوف،بل قدمها من مدخل فلسفي، جاعلاً الفكرة تقود الحكاية وليس العكس، كما هو الحال في السرد الحكائي التقليدي. ونجح بدرجة كبيرة في خلق اتساق ما بين عناصر الفيلم ومضمونه، أي اتساق أداء الممثلين وحركة الكاميرا، مع سؤال الفيلم عن الأصالة والتقليد والبساطة والتعقيد.
لا شك أن توظيف المفاجأة في بناء الفيلم الدرامي هو أحد العناصر التي تميز المخرجين، كما أن البساطة وتعدد الدلالات هو من أكثر ما يبرهن على براعة وعبقرية المخرج. فكلما أوحى الفيلم بأفكار مختلفة،كلما برهن ذلك على عمق موضوعه.وعادة ما تُنتج القصة الجيدة تفسيرات متعددة، وغالبًا ما يميز اختلاف التفسيرات بين مخرج حرفي يحكي قصة واضحة ذات بعد واحد وتفسير مباشر، ومخرج صاحب رؤية يعطي مستويات متعددة وضمنية لقصته، ومخرج عظيم يتسم بالجرأة والتجريب ويعالج المألوف بطريقة جديدة وبسيطة. والمؤكد أن عباس كيارستامي أحد هؤلاء المخرجين العظام.