دراسات

زياد عقل

الألتراس من الداخل: جدلية «السياسي» و«الرياضي»

2018.01.01

مصدر الصورة : AP

الألتراس من الداخل: جدلية «السياسي» و«الرياضي»

الألتراس1 واحدة من أهم الحركات الاجتماعية والكيانات الجمعية غير المؤسسية في المجتمع المصري. وتكتسب حركات الألتراس أهميتها لعدد من الأسباب، أولها الزيادة المستمرة في عدد الأعضاء، الذين يقدرون بالآلاف في حركات الألتراس المختلفة، وثانيها هو قدرتها على البقاء والاستمرارية، بل واجتذاب أعضاء جدد في ظل ظروف مختلفة ومناخ سياسي متغير، سواء في السنوات الأخيرة من حكم مبارك، أو في الفترة الانتقالية التي قاد المجلس العسكري فيها البلاد، أو في فترة حكم محمد مرسي، أو في ظل المناخ السياسي السائد الآن، وهو ما يدل على قدرة عالية على التأقلم مع بيئة سياسية معادية للعمل الجمعي واستخدام المساحة العامة، وعلى تجديد في طرق وأدوات العمل الجمعي من قبل هذه الحركات.

وبالنظر إلى أهمية حركات الألتراس والقلة النسبية في الدراسات الأكاديمية التي تتناول هذه الحركات من الداخل، نسعى في هذه الدراسة للبحث في شقين، الأول: هو حركات الألتراس من الداخل، وهو الشق المعني بماهية الحركات، وطبيعتها البنيوية وآليات العمل واتخاذ القرار بها، والشق الثاني معني بالبحث في البيئة السياسية التي تعمل في سياقها حركات الألتراس، بما تتضمنه هذه البيئة من تشريعات، أو عنف من الدولة، أو تحالفات نخبوية.

والهدف من دمج الشقين معا هو إلقاء الضوء في النهاية على جدلية «السياسي» و«الرياضي» داخل حركات الألتراس من ناحية، وفي أروقة مؤسسات الدولة المعنية بكرة القدم والعمل الجمعي من ناحية أخرى. انخراط حركات الألتراس في العمل السياسي ظل دائمًا يشكل أحد نقاط الخلاف بين أعضاء الألتراس منذ ثورة 25 يناير، ولم يساعد الضعف البنيوي وغياب التراتبية عن هيكل الحركة في حسم هذا الجدل. وفي الوقت نفسه، طرأت عدد من المتغيرات على كرة القدم في مصر مؤخرًا، لعل أهمها هو سيطرة كل من الدولة وطبقة من رجال الأعمال على قطاع الإعلام الرياضي، والاستخدام السياسي للتأهل لكأس العالم، وهو ما خلق ضغوطًا على الدولة من قبل طبقة رجال الأعمال التي ترغب في عودة الجماهير للمدرجات لزيادة القيمة المادية لكرة القدم كصناعة، وبالتالي نعود مرة أخرى لتقاطع «السياسي» و«الرياضي»، وما سينتجه هذا التقاطع من تحولات ستؤثر بالضرورة على حركات الألتراس وعلى بيئة كرة القدم في مصر ككل.

الألتراس: الهوية، والنشأة، والتطور

حركات الألتراس ليست، بكل تأكيد، ظاهرة فريدة على مشهد كرة القدم المصرية، فحركات الألتراس عرفت منذ ستينيات القرن الماضي في عدد من الدول الأوروبية، وانتقلت الظاهرة إلى مدرجات عدة في أوروبا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا2. ولكن على الرغم من شيوع حركات الألتراس في بلدان متعددة، فإنها ليست حركات اجتماعية نمطية، بمعنى أنها ليست حركات أيديولوجية، أو ذات أجندة سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية. وبالتالي، وعلى الرغم من توفر نماذج عدة للألتراس في أكثر من قارة، يظل السياق المحلي لنشأة الحركة وأساليب تفاعلها داخل المجتمع مع الأطراف المعنية أو المهتمة بأنشطتها هو البُعد الحاكم لماهية هذه الحركات وطرق تعبيرها عن أفكارها. لا يستطيع أحد أن ينكر الكثير من التشابهات بين حركات الألتراس في مختلف دول العالم، خصوصًا فيما يتعلق بأساليب التشجيع، والانتماء للكيان، واستخدام المساحة العامة، واللجوء للتعبير الفني من خلال الرسم والجرافيتي والغناء، وعدد من القيم التي تتشارك فيها كل حركات الألتراس على حد سواء، كالعدل، والمساواة، والحرية، والأخوة، من الممكن جمع هذه الصفات المشتركة في مصطلح «عقلية الألتراس»3، وهو المصطلح الذي يستخدمه أفراد الألتراس كثيرًا محاولة للتعبير اللفظي عن الإطار الذي يفكرون من خلاله. ولكن على الرغم من كل هذه التشابهات، تظل عملية صناعة عضو الألتراس، وانتمائه للمجموعة، وربط نشاطه بالبيئة المحيطة به وحكمها على الهوية التي اختارتها المجموعة لنفسها، أحد نتائج السياق الداخلي لكل مجتمع، وأحد العوامل المتأثرة بدور الدولة في التعامل مع العمل الجمعي، وأحد مؤشرات حرية التنظيم غير المؤسسي داخل كل مناخ سياسي أو اجتماعي. لذا، وبعيدًا عن المشاركة في إطار من القيم، أو الانتماء لعقلية واحدة، تظل هوية كل حركة من حركات الألتراس مرتبطة بسياق نشأتها والبيئة التي تعمل بها.

ولعل هذا يعد مدخلاً لحركات الألتراس في مصر، ومدخلاً لتمصيرها، والبحث في كيفية نشأتها ونوعية التحديات التي واجهتها هذه الحركات في سياق الدولة والمجتمع في مصر. وبما أن حركات الألتراس، بغض النظر عن الأدوار الاجتماعية أو السياسية التي يمارسها أعضاء هذه الحركات من آن لآخر، تظل معنية بتشجيع الكيانات التي نشأت لمساندتها، وهي بمعني آخر، معنية في المقام الأول بتشجيع الفرق التي تنتمي لها، وبالتالي يجب علينا التعرض لثقافة التشجيع السائدة في مصر قبل مجيء وظهور حركات الألتراس، مدخلاً لتفهم التحول الذي طرأ على أحد أضلاع منظومة كرة القدم، وهو الجماهير.

حركات الألتراس في السياق المصري4

لم تعرف مدرجات الكرة في مصر التنظيم الجمعي للجماهير قبل عام 2004 عندما ظهرت روابط المشجعين، لم تكن هذه الروابط كيانات تنظيمية بالمعني المفهوم  المتعارف عليه، وبالطبع لم يكن بها حجم التنظيم الداخلي الموجود داخل حركات الألتراس، ولكنها كانت نواه للتنظيم الجماهيري في المدرجات من ناحية، واعتراضًا واضحًا على نمط وسلوك التشجيع المنتشر في مدرجات الملاعب المصرية قبل ظهور هذه الروابط. ويشير أغلب أعضاء حركات الألتراس إلى نوعين من التشجيع جاءت الحركة لتقدم نمطًا يختلف عنهم، النوع الأول هو الفرد الذي يذهب إلى الاستاد لمشاهدة مباراة كرة قدم من باب الترفيه، وقد يكون هذا الفرد مشجعًا لأحد الفرق التي تلعب، سيفرح لفوزها وقد يحزن لخسارتها، وقد يتفاعل لفظيًّا وجسديًّا مع المباراة عندما يحرز فريقه هدفًا أو يتلقى هدفًا، ولكنه في النهاية ينظر إلى المباراة كحدث ترفيهي في المقام الأول، فهو ذاهب لمشاهدة مباراة وليس بالتحديد لتشجيع الفريق، وهو بالمناسبة النمط الأكثر انتشارًا في مدرجات الكرة حول العالم. ولكن النوع الثاني من التشجيع به طابع من الخصوصية، ومن الصعب أن تجده في مجال كرة القدم في مكان غير مصر، وهو نمط «المشجع المحترف» إذا جاز التعبير. وهذا المصطلح المقصود به فئة من مشجعين الكرة يرتزقون من التشجيع، ويسخِّرون ملكاتهم من كاريزما في المدرجات، أو صوت جهوري، أو ذاكرة بها المئات من الأغاني والأهازيج لخدمة من يطلب منهم التشجيع، سواء كان أحد اللاعبين أو أحد أعضاء مجلس إدارة النادي. ولا يعني ذلك أن هذه الفئة لا تشجع النادي، بل يعني أنها فئة لديها الاستعداد للمتاجرة بالتشجيع، فأغلب أعضاء الألتراس يحكون عن مشجعون كانوا يتلقون الأموال من لاعبين للهتاف لهم، سواء في التدريبات أو المباريات، وهو ما يحدث أيضًا مع بعض من أعضاء مجلس الإدارة الذين كانوا يستغلون أصوات المشجعين للحصول على المزيد من الشعبية، خصوصًا في الفترات التي تشهد الأندية فيها انتخابات. ويقول العديد من أعضاء حركة ألتراس وايت نايتس إن أحد أهم أسباب الخلاف مع رئيس النادي الحالي، مرتضى منصور، هو رفض جماهير الألتراس الهتاف له أو تأييده بعد توليه رئاسة النادي عام 2014.

وبالتالي من المهم ملاحظة أن حركات الألتراس في مصر لم تنشأ فقط تطورًا لروابط مشجعين استطاعت أن تخلق نمطًا مختلفًا من التشجيع، وتشحذ ما يكفي من موارد مادية وبشرية للحفاظ عليه، ولكنها حركات ظهرت من رحم المواجهة مع نمط من التشجيع لم يكن مقبولاً لها، وهذه النقطة تحديدًا تعد أحد أهم أبعاد عقلية الألتراس في السياق المصري، وأصول ثقافة المقاومة والتجديد بها.

فرض السياق المصري على حركات الألتراس عددًا من الضوابط فيما يتعلق بعلاقة أفراد الألتراس بالأذرع الأمنية للدولة، وعلى وجه الخصوص قوات الشرطة. يعتقد البعض أن مشكلات الألتراس مع الشرطة، سواء تمثلت هذه المشكلات في هتافات تدين بعض رموز الشرطة، أو تدين التعامل العنيف من قبل الشرطة مع المشجعين، أو تمثلت في عنف تمارسه الشرطة مباشرة أو من خلال الاحتجاز، بدأت مع الدور الذي لعبته حركات الألتراس في سياق ثورة 25 يناير، حين بدأ الشق السياسي يشكل جزءًا من الوجود الجمعي للحركة (وهو ما سنتطرق إليه لاحقًا). ولكن في حقيقة الأمر، كان هناك كم كبير من الصدامات التي حدثت بين قوات الأمن وبين أفراد الألتراس، خصوصًا مع الحركتين اللتين تمتلكان الشعبية الأكبر والعدد الأكثر من الأعضاء؛ ألتراس أهلاوي، وألتراس وايت نايتس، أو ألتراس جماهير ناديي الأهلي والزمالك. والجدير بالذكر أن اشتباكات قوات الشرطة مع أعضاء حركات الألتراس لم يكن على أرضية سياسية، حيث لم تكن الشعارات والتوجهات السياسية حاضرة بقوة في المدرجات بين جماهير الألتراس في الأعوام من 2007 وحتى 2011 عندما قامت ثورة يناير، بل كانت الأزمة الرئيسية، وهي المعضلة التي لم تتمكن الدولة من معالجتها حتى الآن، سواء مع حركات الألتراس أو مع غيرها من الحركات الاجتماعية، هي الاستخدام الجمعي المنظم للمساحة العامة.

لم يكن نظام حسني مبارك من الأنظمة المتسامحة مع فكرة الاستخدام الجمعي للمساحة العامة، وهو ما يمكن اعتباره قاسمًا مشتركًا بين أغلب الأنظمة السلطوية التي تسعى لاحتكار التنظيم الجمعي، ولكن في السنوات الأخيرة من نظام مبارك، ولأسباب كثيرة لن تتسع المساحة ولن يتناسب السياق مع الاستفاضة في ذكرها، اختار نظام مبارك أن يستبدل احتكار العمل الجمعي بالحد منه، أو بالعمل على أن السقف المتاح للأنشطة الجمعية لا يتعدى ذلك الذي تسمح به الدولة، وكانت تلك هي الفترة التي ظهر فيها عدد من الحركات الاجتماعية مثل كفاية، و 6 أبريل، و 9 مارس، وحركة استقلال القضاة، وحركة كلنا خالد سعيد، وحركات الألتراس، وهي الحقيقة التي تؤكد على عمق ومحورية العلاقة بين الحركات الاجتماعية داخليًّا، على المستويات الفكرية والتنظيمية والبنيوية، وبين البيئة السياسية التي تعمل بها تلك الحركات5. وعلى الرغم من أن نظام مبارك كان قد سمح بالفعل بهامش ضئيل من حرية التنظيم الجمعي، إلا أن تعامل الأمن مع الحركات الاجتماعية كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالنخب المشكلة لكل حركة من هذه الحركات، فكلما زاد عدد النخب الاجتماعية والمهنية في الحركة، كلما كان تعامل الشرطة أقل عنفًا، ولكن ليس بالضرورة دون عنف. وهذه تحديدًا كانت أحدى أهم النقاط الفارقة في تعامل قوات الشرطة مع حركات الألتراس، فهي حركات لا تمتلك نخبًا مهنية بين أعضائها إلا فيما ندر، فلن تجد بين جماهير الألتراس الكثير من الأطباء أو المحامين أو الصحفيين أو الأكاديميين، وهي النخب التي كانت تشكل جزءًا لا يستهان به من قوام الحركات الاجتماعية التي ظهرت خلال السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك. والقضية ليست في احترام قوات الشرطة للنخب المهنية، حيث إن التعليمات الأمنية التي تنتهج العنف كانت تطبق على الحركات الاجتماعية الأخرى التي تحظى بنخب مهنية داخل صفوف أعضائها، ولكن القضية في شبكات العلاقات والنفوذ التي تكون متاحة أمام النخب المهنية للتواصل مع الدولة، سواء كانت هذه الشبكات من خلال مؤسسات نقابية، أو منظومة من المعارف الشخصية التي تتقاطع مع مجالات العمل، أو قدرة عالية على الدخول للإعلام وإثارة الرأي العام، وهي كلها أدوات متعارف عليها لتسيير العمل الجمعي في ظل مناخ غير ديموقراطي، ولكن كل هذه الأدوات لم تكن متوفرة لدى حركات الألتراس خلال السنوات الأخيرة من حكم مبارك وليست متوفرة الآن.

وبالتالي تكررت المواقف التي شهدت فيها مباريات كرة القدم عنفًا من الشرطة تجاه حركات الألتراس، وشهدت عددًا من المباريات اشتباكات بين الأمن والألتراس، ولعل أشهرها اشتباكات الأمن مع ألتراس أهلاوي في مباراة الإسماعيلي والأهلي في استاد الإسماعيلية، ومباراة الأهلي واتحاد الشرطة في استاد القاهرة في 2008 أيضًا، ثم مباريات حرس الحدود والأهلي وستاد المكس بالإسكندرية، ومباراة بترول أسيوط والأهلي في استاد أسيوط في 2009، ثم مباراة الأهلي والزمالك في 30 ديسمبر 2010، ومباراة الأهلي والمقاصة في 23 يناير 20116. جدير بالذكر أن اغلب أعضاء حركات الألتراس الذين أجريت معهم مقابلات في سياق هذه الدراسة، أو في إطار دراسات أخرى، أفادوا أن المشكلة الرئيسية في هذه المباريات كانت اعتراض الشرطة على الأعلام واللافتات التي يحملها حركات الألتراس عند ذهابهم للاستاد، وفي بعض الأحيان نشبت الخلافات بسبب هتافاتهم في المدرجات، ورد الفعل العنيف من قبل قوات الشرطة على ما ببعض هذه الهتافات من ألفاظ خارجة، وفي أحيان أخرى نشبت الخلافات بسبب توقيف بعض قيادات الألتراس واحتجازهم في الاستاد خلال فترة المباراة، وهو ما حدث في مباراة الأهلي والمقاصة في 23 يناير 2011، وتم الإفراج عنهم يوم 25 يناير.

تشير مجمل التغطية الصحفية لأحداث تلك المباريات، كما يشير التحليل الكُلي لمشاركات أعضاء حركات الألتراس في دراسات أكاديمية عدة، لحقيقة مهمة عن الاشتباكات مع قوات الشرطة في مرحلة ما قبل 25 يناير، وهي أن الاشتباكات لم تكن لأسباب أمنية تهدف لقمع الشغب أو للحد من تهديد أمني تشكله الجماهير، فعندما تطالب قوات الشرطة المشجعين بتسليم أعلامهم قبل الدخول إلى الاستاد، بل وفي بعض الأحيان قبل الدخول للمحافظة التي تقام بها المباراة، فهذا يعني أن الأزمة لا تكمن في السلوك الجمعي للجماهير الذي تسبب في مشكلة تدخل الأمن لحلها، لكنه يعني أن الشرطة في مصر كان لديها تحفظات على نمط التشجيع وطريقة استخدام المساحة العامة بحرية، بغض النظر عن حجم الشغب الذي قد ينشب في هذا الاستخدام، فهو مرفوض من الأساس7. وفي واقع الأمر، تعبر اشتباكات حركات الألتراس مع الشرطة، كما يعبر موقف الدولة من حركات الألتراس (وهو ما سنتعرض له لاحقًا)، عن نمط كلاسيكي من الصراع بين تيار محافظ وتيار آخر أكثر تقدمية بين نخب المجتمع، ولكنه تجسد مع حركات الألتراس في مدرجات الكرة، مثلما تجسد مع عدد من الحركات الاجتماعية الأخرى في سياقات متعددة اجتماعيًّا وسياسيًّا. وهذه النقطة تحديدًا تعبر عن حال المجتمع مع الكثير من الحركات الاجتماعية، سواء الحركات التي ظهرت قبل 25 يناير أو بعدها، فبعيدًا عن المجال السياسي، فأغلب الحركات الاجتماعية التي ظهرت في السنوات العشر الأخيرة في المجال العام المصري كان جزء لا يتجزأ من خطابها هو فتح المجال العام لاستيعاب كم أكبر من التنوع، وكان أحد أهم أركان خطاب القوى المعادية لتلك الحركات هو خروجها عن النمط المألوف للعمل العام والتنظيم الاجتماعي، وهو النمط الذي طالما كانت الدولة جزءًا منه، على الرغم من تعارض ذلك مع مفهوم التنظيم الاجتماعي المستقل في الأساس8.

هناك بعدان رئيسيان يعملان على تشكيل فرد الألتراس في السياق المصري، الأول هو الصراع مع نمط تشجيع لا تقبله حركات الألتراس، وهو سياق يتجلى في المجال العام الداخلي للألتراس، حيث إن هذا التحدي يتجسد في المدرجات، سواء في المباريات أو التدريبات، وهي النافذة الرئيسية للمساحة العامة التي تستخدمها حركات الألتراس، والبعد الثاني هو موقف كل من الدولة والمجتمع من التنظيم الجمعي المستقل من ناحية، ومن ثقافة كسر القوالب التقليدية التي توارثها المجتمع من ناحية أخرى. ولذا، ولدت حركات الألتراس في السياق المصري بعدد من نقاط التماس التي من غير الممكن للحركة تعديها أو التقاطع معها دون دفع ثمن هذا التحدي، لما تمثله أهداف وسلوك الحركة من كسر لقوالب سلوكية وثقافية مترسخة، سواء داخل ممارسات المجتمع أو في ثنايا رؤية الدولة للعمل الجمعي. لذا، من المهم ملاحظة أن هناك بعدًا مترسخًا في ثقافة هذه الحركات يتعلق بفكرة المقاومة، وبالإيمان بضرورة التغيير، وبالشعور بالاضطهاد دون أسباب موضوعية، وللتعرض للإقصاء على أرضية في اغلب الأحيان تكون غير قانونية. والهدف من الإسهاب وإلقاء الضوء على السياق المحلي أو الداخلي الذي نشأت فيه حركات الألتراس في مصر هو تناول حجم العداء الذي واجهته حركات الألتراس في سياق معركة فتح المجال العام في مدرجات الكرة، سواء قبل ثورة 25 يناير أو بعدها. والهدف الثاني من التعمق في السياق المحلي لنشأة حركات الألتراس في مصر هو الربط بين عملية صناعة فرد الألتراس في ظل المناخ الذي تعمل به الحركة، ومدى تناسق هذه الصياغة مع فكرة الثورة، خصوصًا في سياق مطالب ثورة 25 يناير وسياقها السياسي الذي لم يكن بعيدًا عن خطاب حركات الألتراس ومُجمل تجارب أعضائها مع الدولة منذ إعلان إنشاء الحركات في 2007. بمعنى آخر،  لم تمتلك حركات الألتراس  يومًا ما أجندة سياسية، ولكنها حركات تعرضت لسياق شديد الخصوصية فيما يتعلق بنشأتها وتفاعلاتها مع المجتمع والدولة، هذا السياق ساعد على سهولة تسييس عدد من أفراد الألتراس في سياق ثورة 25 يناير، ولكنه لم ينعكس على الحركات ككيانات جمعية ولم يؤد إلى تسييسها، وهو ما يقودنا لدور حركات الألتراس في ثورة 25 يناير والأثر الذي تركته الثورة على حركات الألتراس، سواء على الصعيد الداخلي، أو فيما يتعلق بالبيئة السياسية التي تعمل في سياقها.

الألتراس وثورة 25 يناير

من غير الممكن الحديث حول دور الألتراس في ثورة 25 يناير دون التطرق لحقيقة دامغة تحرص حركات الألتراس على تأكيدها، وهي الحقيقة التي تقول إنه لم يكن هناك أي بيانات رسمية صادرة عن حركات الألتراس، وخصوصًا عن الحركتين الرئيسيتين، ألتراس أهلاوي وألتراس وايت نايتس، بالمشاركة في أية فعاليات تتعلق بثورة 25 يناير9. وقد اعتادت حركات الألتراس النشر على صفحاتها الرسمية على موقع الفيسبوك أي أنباء تتعلق بالمجموعة، مثل أماكن التجمع لحضور المباريات، وأسعار تذاكر الأوتوبيسات التي تقوم بنقل الجماهير، ومواعيد التجمع لحضور تدريب الفريق، والإعلان عن توافر تيشيرتات المجموعة، والمقصود هو حرص هذه الحركات والمسؤولين عن صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي علي الإعلان عن كل ما يتعلق بأي تحرك جمعي للحركة، والحرص على توجيه الأعضاء وتزويدهم بالمعلومات والإرشادات المطلوبة. وبالتالي، إذا كانت هناك نية مبيتة للمشاركة في تظاهرات يوم 25 يناير 2011 كحركة أو كيان جمعي، كان من المنطقي أن تصدر بيانات عن أماكن التجمع لهذه المشاركة، خصوصًا وأن حركات الألتراس اعتادت توفير كل المعلومات اللوجستية لأعضائها قبل أي تجمع، وهو أحد الأبعاد التي وفرت لحركات الألتراس قدرة تنظيمية عالية، في ذلك الوقت، كانت هناك الكثير من البيانات  الصادرة عن حركات اجتماعية، وأحزاب سياسية، وأفراد أيضا، يعلنون عن مشاركتهم في تظاهرات 25 يناير، ولكن حركات الألتراس التزمت الصمت رسميًّا فيما يتعلق بهذا الشأن.

وهنا من المهم طرح التساؤل حول أسباب مشاركة أفراد الألتراس في ثورة 25 يناير  على الرغم من أنها لم تُعلن رسميًّا عن المشاركة أو تطالب أعضائها بالتحرك. ولعل النقطة الأولي في الإجابة عن هذا التساؤل هو إدراك أن حركات الألتراس في حد ذاتها نشأت على فكرة الثورة على أنماط التشجيع التي تتسم بغياب الروح والشغف للكيان، وبالتالي فالسعي للتغيير هو واحد من القوالب التي تتشكل من خلالها عقلية الألتراس، وهو ما يجعل من فكرة المشاركة في أحداث سياسية تسعى لإجراء تغيرات في نظام سياسي سلطوي قريبة جدًا من مبادئها. وعلى الرغم من أنها  حركات غير أيديولوجية، إلا أنها تأسست على مجموعة من المبادئ التي تتفق والمطالب التي تم رفعها في ميدان التحرير في سياق الثورة، ولعل أبرز هذه المبادئ هي المساواة، وهي الفكرة التي تجسدت في مطالب العدالة الاجتماعية التي كانت أحد أهم مطالب ثورة يناير، كما أن مبادئ الزمالة والأخوة  التي تعد ركنًا رئيسيًّا في عقلية الألتراس تجسدت في دعم أفراد الألتراس لبعضهم بعضًا خلال التظاهر، خصوصًا عندما بدأت التظاهرات تتعرض للعنف، سواء من قبل قوات الأمن أو من قبل مواطنين معارضين للثورة لأسباب متنوعة. كما انه من غير الممكن إغفال العلاقة بين حركات الألتراس والشرطة المصرية، ودور هذه العلاقة في تحفيز أعضاء حركات الألتراس على المشاركة في ثورة 25 يناير. مجمل خبرات أعضاء حركات الألتراس مع الشرطة أو قوات الأمن بشكل عام، كانت ولا تزال شديدة السلبية، فالغالبية العظمى من أعضاء الألتراس تؤمن أن تعامل قوات الأمن معهم يحمل الكثير من الإهانة التي يتحملونها من أجل الكيان الذي ينتمون له، هذا بخلاف عدد كبير تم تفتيشه بشكل مهين دون سبب واضح، أو من تم احتجازهم بلا سند قانوني، وكانت كل هذه الأسباب نقطة التقاء بين أفراد الألتراس وبين رفض عنف الداخلية الذي كان أحد الأبعاد الجوهرية في الحشد ل 25 يناير. كان هناك إذًا عدد من الأسباب والدوافع التي حفزت أفراد الألتراس على المشاركة في الثورة، على الرغم من أن الحركات لم يكن لها موقف رسمي من المشاركة.

وكان أفراد الألتراس موجودين في كل الفعاليات المتعلقة بثورة 25 يناير، سواء يوم 25 يناير، أو خلال الاعتصام الذي امتد 18 يومًا، أو خلال فعاليات أخرى كاشتباكات شارع محمد محمود، هذا بخلاف زيادة الوجود الجمعي للحركة في الشارع وفي المجال السياسي بعد مذبحة بورسعيد في فبراير 2012، ولكن هذا شأن آخر. جدير بالذكر أنه على الرغم من عدم صدور بيانات رسمية من الحركات تطالب أو تدعو للمشاركة، كان وجود الألتراس ملحوظًا في الشارع، بالنظر إلى الهوية الجمعية التي يعبرون عنها أفرادًا مجتمعين، بغض النظر عن الشق التنظيمي أو عن قيادات الحركة وما يرونه. وقد شهد ميدان التحرير خلال اعتصام الـ 18 يوم عدد من المسيرات، والدخلات، والهتافات، التي قام بها أفراد الألتراس، وكان من غير الممكن عدم ملاحظة الانتماء الواضح للحركة، سواء من خلال السلوك الجمعي، أو الأعلام واللافتات، أو طريقة التعبير اللفظية أو الجسدية، والتي تختلف كثيرًا عن موروثات طرق تعبير المعارضة السياسية المصرية. ومن هنا تنشأ  أهم المشكلات التي تؤدي في أغلب الوقت إلي عدد من المفاهيم المغلوطة عن حركات الألتراس، وتنتهي إلى رسم صورة غير دقيقة عن توجهات الحركة وتفاعلاتها الداخلية، وهي التفرقة بين أعضاء الحركة كأفراد مستقلين عن أي تنظيم، والأفراد عندما ينتمون لكيان تنظيمي تحت مسمى الألتراس. والمقصود هنا هو أن الحركات ككيانات تنظيمية لم يكن لها موقف رسمي من المشاركة، ولكن الأعضاء لهم توجهاتهم السياسية المتنوعة، ولا تمنع حركات الألتراس أعضائها من المشاركة السياسية، وإن كان هناك الكثير من الجدل داخلها حول استدعاء الهوية الجمعية للحركة في سياق آخر غير سياق المدرجات، ولكن مما لا شك فيه أن «تسييس» حركات الألتراس جاء من خلال الخلط بين الأدوار التي يقوم بها الأفراد بصفاتهم الشخصية، والمواقف الرسمية التي تتبناها أو تُعلنها الحركة ككيان تنظيمي.

ولعل هذه النقطة تحديدًا مدخل لنقطتين أساسيتين في تناول حركات الألتراس، النقطة الأولى هي معضلة القدرات التنظيمية والتعبوية العالية في ظل كيان هش على المستوى البُنيوي فيما يتعلق بهيكل الألتراس من الداخل، والثانية هي المتعلقة بالجدل الداخلي حول «الرياضي» و «السياسي» في سياق الانتماء للحركة01.

حركات الألتراس: الطبيعة البنيوية

كالحركات الاجتماعية، للألتراس عدد من المبادئ التي تتعارض مع فكرة التراتبية، ومع فكرة التنظيم الرأسي أو الهرمي، ومع كل مفاهيم وممارسات السلطوية، وهي أحد الصفات المشتركة التي من الممكن ملاحظتها بسهولة عند حركات الألتراس في مختلف أنحاء العالم، والتعبير الذي تمت صياغته بالإنجليزية لشرح هذه الحالة هو counter-hegemonic discourse، وهو ما يعني الاعتراض على مفهوم الديكتاتورية، والتفرد بصناعة القرار، وإعلاء مصالح طبقة على حساب الأخرى، وفي الوقت نفسه، الميل نحو نماذج القيادة الأفقية، وهي مبادئ تتبناها اغلب الحركات الاجتماعية، خصوصًا تلك التي تنشأ في سياقات غير ديمقراطية أو قمعية11. وفي واقع الأمر، تبنت أغلب الحركات الاجتماعية التي ظهرت خلال السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك نموذج القيادة الأفقية، ولكن كان لأغلب هذه الحركات عدد من الآليات التي ترجمت القيادة الأفقية بشكل هيكلي، مثل انتخابات لاختيار مكاتب أو هيئات تنفيذية، أو انتخاب أسماء بعينها لتولي ملفات داخل الحركة، كملفات الإعلام أو التوعية أو المحافظات على سبيل المثال. وفي واقع الأمر، تختلف حركات الألتراس داخليًّا، خصوصًا فيما يتعلق بآليات ترجمة منطق أفقية القيادة.

لا تلجأ حركات الألتراس للانتخابات داخل الحركة، وتختلط عدد من المعايير مع بعضها البعض كي تصنع نموذج «القيادي» داخلها. فمن الممكن تقسيم القيادة داخلها إلي شقين؛ الشق الأول هو الشق الذي يُمارس خلال المباراة داخل المدرجات، وهو ما يقوم به «الكابّو»، وهي كلمة إيطالية تعني قائد أو زعيم، وهي كلمة مستخدمة بين حركات الألتراس في مختلف أرجاء العالم، و»الكابّو» هو من يقود العملية التشجيعية في المدرجات. وهنا لا بد من الربط بين أسلوب تشجيع حركات الألتراس، ونوعية القيادة المطلوبة للخروج بهذا التشجيع بالصورة التي من المفترض أن يكون عليها وفقًا لعقلية الألتراس، فأفراد الألتراس يشجعون بأسلوب به قدر كبير من التنظيم، سواء فيما يتعلق بارتداء التيشيرتات  نفسها أو على الأقل الألوان نفسها، أو حفظ الأغاني وهتافات التشجيع عن ظهر قلب، أو الحركات الجسدية التي تقوم بها بشكل متناسق، هذا بخلاف فكرة التشجيع المستمر الذي لا ينقطع خلال التسعين دقيقة. ولذا، يتطلب تنظيم هذا النمط من التشجيع قيادة داخل المدرجات، وهو دور يشبه دور قائد الأوركسترا الموسيقية، حيث تمتزج المعرفة العميقة بالمحتوى، مع القدرة على مراقبة وضبط أداء الأفراد للخروج بأداء جمعي، وهو ما يفعله «كابّو» الألتراس في المدرج، بدءًا باختيار الأناشيد وإعطاء إشارات البدء، مرورًا بالتحفيز المستمر على الاستمرار، ونهاية بتوجيه اللوم لمن يتوقف عن التشجيع ومطالبته بالعودة لمنظومة التشجيع الجمعي21.

الشق الثاني من القيادة داخل حركات الألتراس هو المتعلق بالحركة خارج المدرجات، وهذا الشق تحديدًا من الصعب الجزم بأن له نمطًا محددًا تشترك فيه كل الحركات، حيث إن هناك عدد من العوامل التي تخضع للسياقات المحلية والخاصة، تُشكل نمط القيادة خارج المدرجات. خارج المدرجات، تنقسم حركات الألتراس لهيكل ذي تنظيمات و فروع عنقودية على اُسس جغرافية ومناطقية، وتتوزع حركات الألتراس لمجموعات صغيرة وفقًا للموقع الجغرافي، فتجد مجموعة لوسط البلد، وأخرى لمدينة نصر، وأخرى لـ 6 أكتوبر، وفي بعض الأحيان تمثل المجموعة محافظة أو منطقة محددة من المحافظة فيما يتعلق بالأقاليم، وتجتمع المجموعات الجغرافية بصورة دورية، خصوصًا خلال الموسم الكروي للاتفاق على أمور كنقاط التجمع للذهاب لمباراة، والأعلام واللافتات التي ستحملها المجموعة، أو محاولة تجميع موارد مادية للأعلام واللافتات أو لما يُعرف لدى حركات الألتراس ب «التيفو»، وهي كلمة مشتقة من اللغة الإيطالية، والمعني الأقرب لها في العربية هو «الدخلة»، فـ «دخلات» الألتراس هي أهم أدوات تعبير الحركة عن الانتماء للكيان الذي يشجعونه، خصوصًا وأنها تتطلب الكثير من الجهد الإبداعي، والتنظيم الجمعي، وفي بعض الأحيان الموارد المادية31.

وسواء كان نموذج القيادة في حركات الألتراس داخل المدرجات أو خارجها، يظل هناك بعدان رئيسيان حاكمان لنمط القيادة، الأول هو عدم امتلاك القيادة داخل حركات الألتراس لسلطة مطلقة، خصوصًا في سياق الحركة خارج المدرج؛ فقيادات الألتراس لا تملك إملاء إرادتها على سائر الأعضاء في الحركة أو المجموعة، كما أن حركات الألتراس لا تملك قياداتها آليات عقابية تُرسخ بها الإرادة الجمعية للمجموعة، مثل التصويت على تجميد عضوية، أو اتخاذ قرار من خلال تصويت الأغلبية بفصل عضو، على الرغم من أن هذا النمط مُتبع في الكثير من الحركات الاجتماعية ذات القيادة الأفقية. ولكن هل يعني ذلك أن حركات الألتراس لا تعرف التراتبية؟ هل حقًا لا توجد هناك فوارق بين أعضاء حركات الألتراس سوى تلك الملكات التي يتم التعبير عنها داخل المدرجات؟ محاولات الإجابة عن التساؤلات حول التراتبية داخل حركات الألتراس تقودنا مباشرة إلى البعد الثاني الحاكم لنمط القيادة، وهو مجموعة المؤهلات التي تجعل فرد الألتراس يتخذ موقعًا قياديًّا في صفوف الحركة، سواء كان هذا الموقع داخل المدرج أو خارجه. تمتزج عدة عوامل لصناعة نموذج القيادة في حركات الألتراس، لعل أهمها هو الوجود المستمر، سواء داخل المدرج أو خارجه، كما أن الدراية ليست فقط بأحوال فريق كرة القدم، ولكن بتاريخ النادي ككل، وتاريخ الحركة هي أيضًا أحد العوامل التي يتطلبها نموذج القيادي داخل الألتراس، كما أن الأقدمية، وعدد سنوات الخبرة التي حصل عليها كل فرد ألتراس في التشجيع المنظم أحد أبعاد بلورة النماذج القيادية. كما تتداخل عدد من العوامل التي لا تتعلق بالكرة أو بالتشجيع في تشكيل قيادات الحركة في بعض الأحيان، كالمستوى التعليمي، أو المستوى الاقتصادي، فهناك من هم أكثر تعلمًا من غيرهم، وبالتالي أكثر قدرة على بلاغة التعبير اللفظي وفرض نوع من الكاريزما التي تميزهم عن من اقل منهم تعليمًا، في حين أن هناك من يمتلك منزلاً قادرًا على تجميع الأعضاء به من آن لآخر، وهو ما يضعه في سياق الُضيف أو المسؤول عن تجميع الأفراد والحفاظ على العلاقات الإنسانية بينهم.

تراتبية القيادة داخل حركات الألتراس أحد الأبعاد شديدة الخصوصية، مقارنة بسائر الحركات الاجتماعية، وشديدة التعقيد فيما يتعلق بتفهم طبيعتها، والانعكاس العملي لهذه الطبيعة على ارض الواقع. من ناحية، من غير الممكن الجزم بأنه لا توجد تراتبية داخل الألتراس، فهناك قيادات، وهناك من يحظون بمكانة أعلى من مكانة غيرهم لأسباب متعددة، وهناك مجموعات جغرافية داخل الحركة نفسها تدرك أنها تنتمي لشريحة اجتماعية واقتصادية تختلف عن مجموعات أخرى، وبالتالي، لسنا هنا بصدد طرح فكرة أن حركات الألتراس هي يوتوبيا المساواة، أو النموذج المثالي للقيادة الأفقية وال anti-hegemonic discourse . ولكن من ناحية أخرى، هناك دلالات واضحة على إرساء القيادة في الألتراس على مبدأ الموافقة المشتركة أو الـ mutual consent، بمعنى أن إمكانات القيادة تختلط بتقدير لقيمة القيادات كأفراد ألتراس ذوي خبرة ولهم تاريخ داخل المدرجات، وعليه فتراتبية حركات الألتراس لا تُمارس فيها القيادة سلطة مباشرة أو جبرية على الرغم من تداخل عوامل عدة غير أفقية في صناعة الشخصية القيادية داخل الحركة.

25 يناير وآثارها على حركات الألتراس

كان المدخل للجزء السابق هو تفاعل حركات الألتراس مع ثورة 25 يناير، وبالتالي يصبح التساؤل منطقيًّا عن نتاج هذا التفاعل وأثره على تلك الحركات. ولعل الأثر الأول لثورة 25 يناير على حركات الألتراس هو إضفاء بُعد سياسي(politicization) على هذه الحركات، سواء من قبل الدولة، أو في مدركات العديد من المواطنين الذين لم يتفاعلوا مع كرة القدم من قبل، وشاهدوا أفراد الألتراس في سياق سياسي تزامن مع أحداث الثورة. ومما لا شك فيه، كان لثورة 25 يناير دورًا في زيادة الانتماء السياسي داخل حركات الألتراس، حيث انضم العديد من أفراد الألتراس المشاركون في الثورة لتنظيمات سياسية متنوعة، تنتمي لتيارات ليبرالية ويسارية وإسلامية على حد سواء، واستخدم عدد غير قليل من هؤلاء الأفراد الهوية الجمعية للألتراس في التأييد السياسي، وهو ما أعطى للرأي العام انطباعات بتبني حركات الألتراس توجهات سياسية أو دعمها لمرشح بعينه، وهو ما لم يحدث من قبل في أي وقت. كما أن ثورة 25 يناير سمحت للألتراس بشغل حيز أكبر من المساحة العامة، وخلقت هذه الزيادة جدلاً حول الدور الرئيسي لحركات الألتراس بين الوجود لدعم الكيان أو المشاركة في العمل العام، خصوصًا بعد أن أدت زيادة المساحة العامة للمزيد من الصدامات مع الدولة، وعلى رأسها مذبحة استاد بورسعيد في فبراير 2012. وبالتالي، من الممكن تلخيص التأثير الإجمالي لثورة 25 يناير على حركات الألتراس في عدد من المراحل، المرحلة الأولي هي زيادة الانتماءات السياسية داخل الحركة، المرحلة الثانية هي زيادة حيز المساحة العامة المتاح للحركة، سواء داخل المدرجات أو خارجها، وهو ما أدى لزيادة شعبية حركات الألتراس، والمرحلة الثالثة، وهي نتاج للمرحلتين السابقتين كانت زيادة حدة التصادم مع الدولة وحدة العداء من الأطراف التي رأت تهديدًا سياسيًّا من قدرة حركات الألتراس على الحشد، وتجلى ذلك في أحداث مؤسفة كمذبحة بورسعيد وأحداث استاد الدفاع الجوي، كما تجلى أيضًا في عدد من التشريعات والأحكام القضائية التي جرمت حركات الألتراس، وهو ما قادنا للمرحلة الحالية التي يُطرح فيها السؤال ويدور في ثناياها الجدل حول «السياسي» و «الرياضي» داخل الألتراس.

حركات الألتراس في بيئة سياسية متحولة

 لعل نقطة البداية المنطقية لتناول هذا الشق هو التوصل لمعنى ثابت يشرح ما هو المقصود بالبيئة السياسية، وكيف ولماذا تتداخل هذا البيئة مع الحركات الاجتماعية كي تؤثر على قراراتها الداخلية ونمط أنشطتها. على المستوى النظري، تعامل اللوبي الأكاديمي لسنوات طويلة من منطلق نظريات العمل الجمعي، collective action theories، وهي المنطلقات النظرية التي تتعامل مع أعضاء الحركات الاجتماعية كأشخاص غير قادرين على التأقلم مع المجتمع، وبالتالي تلجأ هذه الأشخاص للتنظيم المستقل بعيدًا عن اُطر المجتمع التي لا يستطيعون دمج أنفسهم فيها. ثم جاءت فترتا السبعينيات والثمانينيات لتتسيد نظريات تعبئة الموارد، Resource Mobilization theories، مجال التنظير الأكاديمي في الحركات الاجتماعية، وهي الأطر النظرية التي ولت اهتمامًا أكبر لقدرة الحركات الاجتماعية على التعبئة المستقلة، وما تتطلبه هذه التعبئة من موارد فكرية، ومادية، وبشرية، وأن التفاعل الداخلي الذي يخلق قدرة الحركات الاجتماعية على الحصول على هذه الموارد هو الذي يحكم نجاح الحركات الاجتماعية في تحقيق أهدافها من عدمه. ولكن منذ التسعينيات، احتلت نظرية هيكل الفرصة السياسية، Political Opportunity Structure، وهي النظرية التي ربطت مباشرة بين قدرة الحركات الاجتماعية على تحقيق أهدافها، وتنظيم نفسها، ورفع مطالبها، وبين البيئة السياسية والاجتماعية التي تعمل من خلال ثناياها هذه الحركات. وبالتالي، النظر لتطور نظريات الحركات الاجتماعية يشير للخروج المستمر من الحيز الضيق المعني فقط بالحركات الاجتماعية من الداخل أو بسلوك الأعضاء المنتمين لها، والخروج لحيز أكثر اتساع معني بالبيئة التي تدفع هؤلاء المواطنين للتنظيم الاجتماعي المستقل لرفع المطالب، أو التعبير عن الهوية، أو الشعور بالانتماء لكيانات تنظيمية غير تلك التي يمتلئ بها المجال العام. ولذا، سعينا في هذه الدراسة للدمج بين الرؤية التي تُعلى من شأن التفاعلات الداخلية في الحركات الاجتماعية، وبين تلك التي تسعى لتسليط الضوء على البيئة الخارجية التي تعمل وفقًا لقواعدها، وتحدياتها الحركات الاجتماعية41.

عملت حركات الألتراس في مصر منذ نشأتها بشكلها التنظيمي الحالي عام 2007 في أكثر من بيئة سياسية، وعلى النقيض من حركات اجتماعية أخرى، وتمكنت من البقاء والتأقلم مع ضوابط كل بيئة سياسية مرت بها، على الرغم من أن حركات الألتراس في مصر واجهت تحديات لم تواجهها حركة اجتماعية أخرى، تمثلت بالأساس في مذبحة بورسعيد وفي أحداث استاد الدفاع الجوي، ثم عدد من التشريعات وأحكام القضاء التي صدرت في الفترة من 2103 إلى 2017، ولكنها تمكنت من البقاء حتى يومنا هذا، وتمكنت أيضًا من الإبقاء على قدراتها على الحشد والتعبئة، بل وجاذبيتها لاجتذاب أعضاء جُدد، وهو ما يعني أن حركات الألتراس استطاعت أن تتوصل لعدد من استراتيجيات التأقلم التي مكنتها من مواصلة وجودها  على الرغم من التزايد المستمر والمنهجي للعوائق التي تحول دون أداء الحركة لدورها.

نشأت حركات الألتراس في ظل السنوات العشر الأخيرة من حكم حسني مبارك، وهي الفترة التي اتسمت بسقف أعلى من حرية التنظيم الاجتماعي المستقل، وبسقف أعلى من استخدام المساحة العامة كما ذكرنا من قبل، ولكن موافقة النظام السياسي على وجود تشكيلات اجتماعية مستقلة لم يقف حائلاً دون استخدام قوات الأمن للعنف مع حركات الألتراس، وهو ما نتج عنه العديد من الاشتباكات خلال تلك المرحلة بين جماهير الألتراس وبين قوات الأمن التي كان في واقع الأمر تواجه نمط جديد يختلف بشدة عن النمط التقليدي لاستخدام المساحة العامة، خصوصًا في مدرجات الكرة، أكثر مما كانت تواجه تهديدًا أمنيًّا تقليديًّا للسلم العام من خلال الشغب الجماهيري. ثم كانت هناك مرحلة ما بعد 25 يناير، والتي اتسمت بنسبة عالية من السيولة السياسية من رفع سقف العمل الجمعي بغض النظر عن توجهاته، وخلال تلك الفترة تزايد الإقبال على الانضمام لحركات الألتراس بشكل ملحوظ، وهو ما جعل عدد كبير من الأعضاء القدامى أو المؤسسين يشكون من أن العضويات الجديدة عضويات أتت على أرضية حبها للألتراس، وليس حبًّا للكيان الذي ينتمي له الألتراس51. عبر عدد كبير من أفراد الألتراس أو الأعضاء الذين انضموا في مرحلة ما قبل 2011 أن هناك قطاع كبير ممن انضموا في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير لا يفهمون المفهوم الكامل لعقلية الألتراس، ولا يعرفون الحد الأدنى من المعلومات عن تاريخ النادي الذي يشجعونه، ولا يهتمون بفكرة الانتماء لكيان أكبر من الألتراس، ولكنهم يسعون وراء الشكل التنظيمي والكرنفالي لحركات الألتراس داخل المدرجات، دون المرور بالمراحل التي من المفترض أن تُشكل وعي فرد الألتراس. جدير بالذكر هنا أن حالة السيولة السياسية والتحول في البيئة الحاكمة للعمل الجمعي، خصوصًا إذا ما كان هذا التحول يؤدي لفتح المجال العام وتوفير سقوف أعلى من الفرص السياسية، يؤدي لتوافد أعداد اكبر من الأعضاء الراغبة للانضمام لصفوف الحركات الاجتماعية نتيجة لاكتساب الحركة المزيد من الأرضية الشعبية نتيجة لتحقيق مكسب سياسي، وهو ما حدث مع الحركات الاجتماعية في مصر بشكل عام بعد 11 فبراير 2011 عندما رحل حسني مبارك، أو نتيجة لتقليل القيود على المشاركة في العمل العام، والانتماء لتنظيمات اجتماعية تنشأ خارج إطار الدولة، وهو ما حدث أيضًا في سياق الحرات الاجتماعية المصرية بعد رحيل حسني مبارك. وفي سياق التوافد المتزايد، خصوصًا في الحالة المصرية، عبرت عدد من الحركات الاجتماعية، مثل الألتراس أو 6 أبريل أو حركة الاشتراكيين الثوريين عن مشكلتين رئيسيتين، المشكلة الأولى هي عدم قدرة هذا الحركات بنيويًّا على استيعاب الكم الكبير من الأعضاء الذي نتج عن السيولة السياسية التي تلت رحيل مبارك، وهو ما ينعكس على قدرة الحركة على إعداد الأعضاء الجُدد وتعريفهم على أدبيات الحركة، سواء تمثلت هذه الأدبيات في تاريخ الأندية وأناشيد التشجيع فيما يتعلق بحركات الألتراس، أو بتراث من الكتابات النظرية فيما يتعلق بحركات اجتماعية أيديولوجية كالاشتراكيين الثوريين، حيث إن توافد أعداد كبيرة من الأعضاء الجدد لم يسمح للحركات الاجتماعية المصرية أن تضع الأعضاء الجدد في عمليات التنشئة والتثقيف التقليدية التي طالما اتبعتها، وهو أمر ينطبق على اغلب الحركات الاجتماعية التي لاقت إقبالاً على عضويتها بعد رحيل مبارك. والمشكلة الثانية تكمن في سهولة اختراق الحركات الاجتماعية من قبل الدولة من خلال الأعداد الكبيرة من العضويات الجديدة، والتي لم تتمكن الحركات الاجتماعية، بالنظر لضعفها البنيوي أو لقلة مواردها البشرية والمادية، لم تتمكن من مراجعة الكم الضخم من العضويات الجديدة، وبالتالي بات اختراقها سهل من قبل أجهزة الأمن التابعة للدولة والمعنية بالنشاط الجمعي أو التنظيم الاجتماعي غير المؤسسي في مصر.

في مرحلة ما بعد 30 يونيو 2013، تعرضت حركات الألتراس لبيئة سياسية ذات سقف منخفض، وذات إيمان راسخ أن التنظيم الاجتماعي المستقل يضر بمصالح الدولة من ناحية، ويحمل في طياته تدخلات أجنبية تآمرية من ناحية أخرى، وتميزت البيئة السياسية في مرحلة ما بعد 30 يونيو 2013 في مصر بالعدائية الشديدة تجاه الحركات الاجتماعية التي تستخدم العمل الجمعي والمساحة العامة، وعلى رأسها حركات الألتراس.

وعلى الرغم من الاحتفاء بحركات الألتراس من قبل الإعلام والمجتمع في عام 2011 كأحد الحركات الشبابية الفاعلة والتنظيمات الاجتماعية المهمة، تبدل الوضع كثيرًا في الفترة الأخيرة، خصوصًا في مرحلة ما بعد 30 يونيو 2013، والتي كانت بمثابة بداية لتقويض العمل الجمعي والكيانات السياسية والاجتماعية المستقلة من خلال عدد من التشريعات والأحكام القضائية التي حظرت نشاط عدد من الحركات الاجتماعية وجرمت التظاهر السلمي ووضعت قيودًا على العمل الجمعي غير المؤسسي، هذا بخلاف الهجوم المنظم من الإعلام على كل الكيانات التي تتخذ من العمل الجمعي أو التحرك الجماهيري منهجًا لها بغض النظر عن التوجه الفكري أو السياسي لهذه الكيانات. وفي هذا السياق صدر حكم محكمة جنوب القاهرة الابتدائية بتاريخ 16 مايو 2015 «بحظر جميع روابط الألتراس على مستوى جمهورية مصر العربية، وحظر جميع أنشطتها وأنشطة أية روابط تنتمي إليها أو تنبثق من تلك الروابط». وعلى الرغم من قيام مرتضى منصور، رئيس نادي الزمالك ومُقدم الدعوة، بطلب اعتبار روابط الألتراس «روابط إرهابية»، إلا أن نص الحكم الصادر في الاستئناف رقم 147 لسنة 2015 من المحكمة لم يرد به ما يصف جماعات الألتراس بأنها «روابط إرهابية».

وبالإضافة للتشريعات وأحكام القضاء، ساهمت أحداث العنف التي تعرضت لها كل من حركة ألتراس أهلاوي في ستاد بورسعيد في فبراير 2012، وحركة ألتراس وايت نايتس في ستاد الدفاع الجوي في فبراير 2015، في شيوع صورة سلبية عن حركات الألتراس لدى قطاع عريض من المجتمع المصري. وعلى الرغم من كون أعضاء الألتراس كانوا ضحايا للعنف المفرط الذي اتسمت به أحداث استاد بورسعيد واستاد الدفاع الجوي، لا سببًا له، بدليل سقوط أكثر من تسعين شهيدًا من الألتراس في كلتا الواقعتين، إلا أن هذه الأحداث ساهمت في صناعة صورة سلبية عن حركات الألتراس قائمة على اعتبار هذه الحركات فوضوية ولديها ميل طبيعي للعنف، وهو ما يرى البعض أنه يتناقض تمام التناقض مع التناول الموضوعي لوقائع تلك الأحداث.

وعلى الرغم من محاولات أطراف عدة حظر حركات الألتراس ومحو وجودها داخل المجال العام، وفي ظل شيوع صورة سلبية عن هذه الحركات لدى عدد غير قليل من المواطنين، إلا أن هذه الحركات ظلت موجودة، وقادرة على البقاء على الرغم مما تتعرض له من ضغوط، وتظل تملك قدرة على الحشد والتنظيم ودرجة عالية من الترابط البنيوي غير الموجود لدى عدد كبير من الحركات الاجتماعية الناشطة في المجال العام في مصر، بل وقادرة على إحداث تغيير من خلال العمل الجمعي السلمي، ولعل ما حدث من حشد جماهيري لحركة ألتراس أهلاوي وأدى في النهاية لصدور قرار من رئيس الوزراء بنقل مباراة الأهلي والزمالك من ملعب الجونة إلى ملعب برج العرب بالإسكندرية بعد رفض الجهات الأمنية إقامة المباراة هناك في شهر يوليو 2015 خير دليل على ذلك.

ومن ثم بات من الضروري أن نطرح التساؤلات حول مدى جدوى الاستراتيجية المتبعة في التعامل مع هذه الحركات من قبل الجهات الرسمية، كما أنه من المهم أن نُعيد التفكير في الإطار السياسي الذي تم وضع حركات الألتراس بداخله في مرحلة ما بعد 25 يناير61. ونحن هنا لسنا بصدد الدفع بأن  هذه الحركات ليس لها وجود في الشأن العام، أو أنها حركات منغلقة على نفسها غير عابئة بما يحدث حولها، فهي في النهاية كيانات منظمة لا يمكن فصلها عن النسيج المكون للمجال العام في مصر، وهي كسائر الحركات الاجتماعية تتأثر بهيكل الفرصة السياسية السائد داخل المجتمع. ولكن ما نحاول التأكيد عليه هو أن انخراط حركات الألتراس في الشأن العام لا يقوم على أرضية سياسية تحكمها أجندة محددة، فهي حركات اجتماعية تتفاعل مع المناخ السياسي في أوقات معينة وعلى خلفية قضايا محددة، ولكنها ليست حركات سياسية من الممكن النظر إليها كأحد الفاعلين في المشهد السياسي.

حركات الألتراس والبيئة السياسية الحالية

تقبع حركات الألتراس تحت وطأة عدد من التشريعات التي تحد من القدرة على العمل الجمعي، مثلها مثل فئة غير قليلة من الحركات الاجتماعية المصرية، كما تعاني الحركات الاجتماعية بشكل عام من تقليص نسب الدخول للمساحة العامة، وتجريم العمل العام بشكل كلي وفقا لعدد من التشريعات الصادرة في مرحلة ما بعد 30 يونيو 2013. ولكن الجدير بالذكر أن حركات الألتراس تمكنت من تبني عدد من الاستراتيجيات الخاصة بالتأقلم مع ظروف البيئة السياسية الحالية. فعلى سبيل المثال، لم تعد الصفحات الرسمية على موقع فيسبوك لحركات الألتراس، سواء ألتراس أهلاوي أو ألتراس وايت نايتس فاعلة، وباتت البيانات التي تنشرها الصفحات الرسمية قليلة جدًا في مرحلة ما بعد 30 يونيو 2013، وأغلبها باتت معنية بـأخبار أعضاء الألتراس المحتجزين، خصوصًا وأن اغلب المباريات التي تُقام في هذا الوقت في بطولة دوري أو كأس كرة القدم، لا يُسمح للجمهور بالدخول لمدرجاتها، ولكن في المقابل، تم إنشاء صفحات التي تتخذ لاسم الألتراس عنوانًا لها، وعلى الرغم من أن اغلب هذه الصفحات تعبر بكل وضوح أنها مستقلة عن مجموعات الألتراس الرسمية، إلا أنها تتحول بالتبعية لنوع من مساحة التعبير التي يستخدمها أفراد الألتراس، وحتى لو بشكل غير تنظيمي. كما تواجه حركات الألتراس تحد صارخ يتمثل في منع الجمهور من حضور مباريات الكرة، ومنع مختلف أساليب التجمهر السلمي وتجريمها بعدد من التشريعات، مما أفقد حركات الألتراس في ظل هذا المناخ للأداة الأساسية التي تستخدمها في التعبير عن وجودها، وهي المساحة العامة وكيفية استخدامها. لجأت حركات الألتراس للوجود المكثف في مدرجات الألعاب الرياضية الأخرى بخلاف كرة القدم، والتي لا يزال مسموحًا  الوجود في مدرجاتها، مثل كرة اليد، وكرة السلة، وكرة الطائرة، وترى حركات الألتراس أن نقل الهوية الجمعية للحركة من مدرجات لعبة لمدرجات لعبة أخرى هو تأكيد على انتماء الحركة لكيان النادي الذي تشجعه بغض النظر عن اللعبة التي تُمارس.

ومن غير الممكن فصل البيئة السياسية عن تحالفات نخب المجتمع  elite alliancesالتي تعبر عن علاقات القوة وتتبلور إلى خطاب يتجلى في مجالات إعلامية، واجتماعية، وسياسية، وعانت حركات الألتراس خلال السنوات الأربع الأخيرة من إعادة تشكيل هذه التحالفات. تغيرت تحالفات النخب فيما يتعلق بحركات الألتراس عندما أقامت أندية الأهلي والزمالك انتخابات لجمعيتها العمومية عام 2014، واتت هذه الانتخابات بمرتضى منصور رئيسًا لنادي الزمالك وبمحمود طاهر رئيسًا للنادي الأهلي، بعد تغير جذري في تشكيل عضويات مجالس الإدارة. وهنا من المهم توضيح أن علاقة مجلس إدارة النادي بحركات الألتراس شق مهم من نشاط الحركة، حيث إن مجلس إدارة النادي هو من يتحكم في دخول الحركة وأعضائها، وهم ليسوا أعضاء في الأندية، إلى منشآت النادي، وخصوصًا ملاعب التدريب التي يتوجهون إليها لتشجيع الفريق وتحفيز اللاعبين، وقد خلاف رئيس نادي الزمالك مع حركة ألتراس وايت نايتس بمنعهم من دخول النادي، بل ولهدم مدرجات ملعب حلمي زامورا التي كان أعضاء الحركة يتخذون منها موقعًا لهم خلال المران، ثم لرفع قضايا بشكل فردي على أعضاء الحركة، ثم أخيرًا لرفع قضية لمنع الحركة ككل. كما أدت تحولات الملكية في الإعلام الرياضي إلى تقليص المساحة المتروكة للتعبير عن الألتراس ومساندتهم وتفهمهم، فخطاب الإعلام الرياضي، خصوصًا المؤثر منه، يرى أن حركات الألتراس بالأساس هي فئة ضالة من الجماهير من غير المفترض أن توجد. هذا بالطبع بخلاف استمرار تعامل الدولة مع حركات الألتراس من منطلق تجريمي، وهو ما يدل عليه القبض على جماهير من الأهلي والزمالك بعد أحداث شغب بمباريات الكرة، وقد قامت النيابة العسكرية باحتجاز 236 مشجع من جماهير الزمالك بعد أحداث شغب في المدرجات بين فريق الزمالك وفريق أهلي طرابلس الليبي في البطولة الأفريقية، كما قامت قوات الأمن أيضًا باحتجاز عدد من جمهور الأهلي بعد مباراة في البطولة العربية، وتم توجيه لهم الاتهام بارتداء تيشيرتات سوداء عليها رقم «74» (وهو الرقم الذي يرمز لعدد شهداء ألتراس أهلاوي في مذبحة بورسعيد في 2012) تهدف لزعزعة الاستقرار وتهديد السلم العام.

وفي محاولة من حركات الألتراس للتأقلم مع الأبعاد المختلفة للبيئة السياسية التي تعمل فيها هذه الحركات في الوقت الحالي، ظهرت وبشدة داخل حركات الألتراس جدلية «السياسي» و «الرياضي»71. وهي النقطة التي حاولنا أن ننطلق من خلالها لشرح الموقف الحالي لحركات الألتراس على المستويين الداخلي والخارجي. داخليًّا، هناك الكثير من الجدل حول إضفاء أبعاد سياسية على هتافات الألتراس، والكثير من النقاش حول التعامل الأمثل مع قوات الأمن في المواقف التي تشهد تحركات جمعية للحركة، ولكن هذا النقاش يصطدم مع رؤية أخرى تقول إن نزع البعد السياسي أو الرضوخ لنمط من استخدام المساحة العامة مُحدد من قبل الدولة هو في الحقيقة تنازل عن المبادئ التي نشأت عليها الحركة. ولا يختلف الأمر كثيرًا على المستوى الخارجي، فأغلب الجدل يدور حول المنع الكُلي لحركات الألتراس، وهو ما تتوافر له أرضية مُمثلة في عدد من بنود تشريعية في قانون الرياضة أو قانون التظاهر، وعلى الجانب الآخر هناك محاولات للإبقاء على هذه الحركات ولكن مع التأكيد على ضرورة نزع البعدين السياسي والتنظيمي عنها.

الخلاصة

 كان مدخلاً خاطئًا لفهم ودراسة حركات الألتراس التعامل معها على أنها حركات سياسية أو ذات أجندة، سواء كانت هذه الأجندة سياسية أو غير ذلك. هناك الكثير من الدلائل التي تدفعنا للتعامل مع حركات الألتراس حركة اجتماعية بمفهومها النظري، ولكن هناك سياق مصري شديد الخصوصية يجب أن يكون قالبًا أشمل لتحليل هذه الحركات، وهو ما حاولنا فعله في هذه الدراسة. ووفقًا لمعطيات هذا القالب، تواجه حركات الألتراس تحديات عديدة تهدد وجودها، ولكنها على الجانب الآخر تمتلك نوعًا من الترابط البنيوي الذي لا يتجلى في هيكل الحركة بقدر تجليه في التفاعلات الإنسانية والشخصية بين أعضائها. ومع استمرار أسباب الوجود لحركات الألتراس، ومع قدرتها على التأقلم مع تحولات البيئة التي تعمل من خلالها، فمن المتوقع أن تظل حركات الألتراس فاعلة ولكن بدرجة أعلى من المرونة في التعامل مع الدولة وتحالفات النخب الحاكمة للمجال العام في الفترة القادمة.

الهوامش

 -1 اعتمد الباحث في هذه الدراسة علي عدد من المقابلات الشخصية مع أعضاء حركات الألتراس، وتم الاتفاق بين الباحث ومن أجروا معه المقابلات على إخفاء الأسماء الحقيقة واستخدام أسماء أخرى غير حقيقية، وبالتالي، كل ما يرد في هذه الهوامش من أسماء هي أسماء غير حقيقية تم اختيارها من قبل الباحث نزولاً علي طلب الأفراد الذين وافقوا على المشاركة في الدراسة.

-2 انظر محمد جمال بشير، «كتاب الألتراس»، دار دواوين، القاهرة 2011

-3 انظر:

Guschwan, Matthew “Riot in the curve: soccer fans in Twenty First Century Italy” Soccer & Society, vol.8, No.2-3, 2007.

 -4انظر:

 Akl, Ziad A. “Misunderstanding Egypt’s Ultras”, MENA Source, The Atlantic Council, 1/9/2015 http://www.atlanticcouncil.org/blogs/menasource/misunderstanding-egypt-s-ultras

5- انظر:

Shehata, Dina “Youth movements and the 25 January revolution” in Korany, Bahgat & Rabab Elmahdi (edt) “Arab Spring in Egypt” The American University in Cairo Press, 2012

6- انظر:

Ibrahim, Dalia Abdelhameed “Ultras Ahlawy and the spectacle: subjects, resistance and organized football fandom in Egypt”, Masters Thesis, The American University in Cairo http://dar.aucegypt.edu/handle/10526/4394

7- انظر:

Elsherif, Ashraf “The Ultras’ politics of fun confront tyranny” Jadaliyya, 5/2/2012 http://www.jadaliyya.com/Details/25219/The-Ultras%60-Politics-of-Fun-Confront-Tyranny

-8 انظر:

Elmahdi, Rabab & Philip Marfleet “Egypt: moment of change” The American University in Cairo, 2009, pp.1-14

-9 مقابلة شخصية مع حسن عبد الله، عضو حركة ألتراس وايت نايتس، القاهرة، 28/6/2017

-10 انظر:

Jerzak, Connor T “Ultras in Egypt: state, revolution and the power of public space” Interface, Vol.5, No.2, November 2013

11- انظر:

Suh, Doowon “How do political opportunities matter for social movements: political opportunity, misframing, pseudo-success and pseudo-failur” The Sociological Quarterly, Vol.42, No.3, 2001

-12 مقابلة شخصية مع حاتم حسين، عضو مجموعة عابدين بحركة ألتراس أهلاوي، القاهرة، 25/2/2016

-13 مقابلة شخصية مع محي إبراهيم، عضو مجموعة الإسكندرية بحركة ألتراس وايت نايتس، الإسكندرية، 3/3/2016

-14 انظر:

Buechler, Steven M. “Beyond resource mobilization? Emerging trends in social movement theory” The Sociological Quarterly, Vol.34, No.2, May 1993, pp.217-235

-15 مقابلة شخصية مع خالد حمودة، عضو حركة ألتراس أهلاوي، القاهرة، 26/9/2017

-16 انظر في ذلك، زياد عقل «إعادة النظر في التعامل مع الألتراس»، متابعات تحليلية، موقع مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 27/9/2015

http://acpss.ahram.org.eg/News/5447.aspx

-17 مقابلة شخصية مع عبد الرحمن خليل، عضو حركة ألتراس أهلاوي، القاهرة، 24/11/2017