مراجعات
زكريا صادق الرفاعيالأمريكيون في مصر، 1770-1915
2025.05.25
مصدر الصورة : ويكبيديا
الأمريكيون في مصر، 1770-1915
ظلت مصر دومًا عبر تاريخها الطويل موضع إعجاب وولع من قبل الكثيرين وغالبًا ما كان الولع فرنسيًّا منذ زمن الحملة الفرنسية، لكنه هذه المرة صار أمريكيًّا فمؤلفة هذا الكتاب -الصادر في عام 2012- كسندرا فيفيان (Cassandra Vivian) (1942-2021) [1] مواطنة أمريكية من ولاية بنسلفانيا حطت بها الخطى في مصر في سبعينيات القرن الماضى بوصفها كاتبة وباحثة أنثروبولوجية ربما لمهمة بعينها فإذا بها وقد طالت إقامتها لأكثر من عشرين عامًا تالية.
وخلال تلك الفترة جابت كسندرا أصقاع مصر شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا ورصدت من خلال مجموعتها الفوتوغرافية ملامح الحياة اليومية في مصر وحرصت على التعبير عن مختلف طبقات المجتمع المصرى، ومعالم مدينة القاهرة وتجولت في صحراء مصر الشرقية والغربية، كما سجلت حركة البيع والشراء في الأسواق الشعبية وسير المراكب في نهر النيل والأحياء ذات النمط الأوروبى من الإسكندرية إلى أسوان، واعترفت أن أعظم هدية تلقتها هي التعرف عن قرب على نساء مصر اللائي سمحن لها بالتصوير ومشاركتها قصصهن، وفي بادرة وفاء أهدت كسندرا في عام 2018 جانبًا كبيرًا من مجموعتها التي أنجزتها عبر ثلاث عقود إضافة إلى أرشيف رحلاتها للصحراء الغربية وعدد من الكتب النادرة إلى مكتبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
وأوضحت كسندرا أن الدافع لإنجاز هذا الكتاب هو ظن البعض أن الوجود الأمريكي في تجربة مصر الحديثة كان غائبًا كمًّا وكيفًا [2] ، إلا أنها استطاعت تقديم رؤية مغايرة ورصدت الوجود الأمريكي المبكر في مصر منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى عشية الحرب العالمية الأولى من خلال عرضها لمسيرة خمسة عشر أمريكيًّا بحسب العنوان الفرعي للكتاب منهم: المستكشفون والقناصل والرحالة والجنود وأعضاء البعثات الدينية والكتاب والعلماء، وغاصت الكاتبة في إرثهم المتناثر في جهات مختلفة وما تركوه هنا وهناك من يوميات ومذكرات ورسائل شخصية وصحف ودوريات تلك الفترة، وبعثت من كل ذلك الركام تاريخًا مفعمًا بالحيوية والحضور كما زودت الكتاب بكثير من الرسوم والخرائط التوضيحية.
جورج جلدون
أبرزت الباحثة أن الاهتمام الأمريكي بمصر والشرق نبع من أسباب اقتصادية في المقام الأول، وكان جون كوينسي آدامز [3] أول من اهتم بتأسيس قنصليات وبعثات للتجارة في شرق المتوسط، ووقعت كل من الدولة العثمانية والولايات المتحدة على اتفاقية تجارية بينهما وأقرها الكونجرس في فبراير من عام 1831 وتم اختيار جورج روبنز جلدون وهو بريطاني الجنسية ليكون أول وكيل قنصلي مقيم في القاهرة منذ عام 1832 وبدون راتب وكان تاجرًا بالإسكندرية وحاولت السلطات البريطانية إعاقه اختياره لكن دون جدوى، بل سرعان ما رفعت الخارجية الأمريكية منصبه إلى قنصل [4] .
وخلال عمله كان جلدون مسؤولًا عن إجراء الترتيبات المختلفة لكل القادمين من الولايات المتحدة إلى مصر ولقائهم بالباشا وإقامتهم غالبًا في منزله وزيارتهم للأماكن الأثرية بالقاهرة والإسكندرية وكانت له "دهبية" خاصة تبحر بضيوفه في النيل لزيارة صعيد مصر، ومن بين من ساعدهم جورج ربليج التاجر من نيويورك ولعله أول زائر لمصر والتقى بالقنصل البريطاني ومحمد علي باشا، وأيضًا جون لويل الذي واصل رحلته إلى الجنوب ووصل إلى الخرطوم رغم مرضه، وكذلك ريتشارد هيت أحد أثرياء نيو يورك وزوجته سارة، وكثيرًا ما استفاد جلدون من شبكة تلك العلاقات وصار موضع ثناء مستمر على ما قدمه إليهم من خدمات فقال جون لويد ستيفنز إنه لا يوجد هنا رجل له سلطات وصلاحيات نافذة ومفيدة للمسافرين مثل جلدون، ووصلت تلك الرسائل إلى الحكومة في واشنطن فأبقت عليه في وظيفته، ونجح جلدون في نسج علاقات قوية مع الشخصيات المعروفة، فقد درس مع شامبليون وصامويل برش الذي صار رئيسًا للمتحف البريطاني وكارل ليبسيوس الخبير الألماني وعمل مع الفنان الفرنسي جوزيف بنومي والطبيب المعروف كلوت بك ورجل الأعمال الأمريكي توماس واجهورن ولينان بك ووليم لين وكان عضوًا في الجمعية المصرية التي أسسها الأجانب المقيمون في مصر لتقديم المساعدة والدعم إلى الباحثين الأجانب في مصر وتوفير سبل التنقل والإقامة لهم، وكانت عضوية الجمعية قاصرة على الصفوة فلم تُمنح عضويتها لأي شخص قبل مضي عام على الترشح لها.
وكانت من بين المهام الإضافية لجلدون توفير الرعاية التامة للبحارة الأمريكيين الذين وفدوا إلى مصر، ففي عام 1832 وصلت السفينة "كونكورد" إلى ميناء الإسكندرية وبها الكابتن بيري والدكتور القس جون ثورنتون كيركلاند رئيس جامعة هارفارد وزوجته إليزابث كابوت كيركلاند المنتمية إلى أسرة تجارية وثرية معروفة، وكان مثيرًا للدهشة قدوم محمد علي باشا بنفسه إلى السفينة لتحيتهم كما التقوا بالسيد جالوي المشرف على مصنع القطن بشبرا ومنحهم قاربه الخاص للقيام بجولة نيلية وأبدت إليزابث إعجابها بالنيل واعتبرته مثل نهر المسيسبي ولكنها اشتكت من رياح الخماسين الحارة كما كانت زيارة الأهرام طقسًا دائمًا لدى الجميع، وفى عام 1834 وصلت السفينتان "ديلاور" و"شارك" إلى الإسكندرية وعلى متنها الأدميرال باترسون وأسرته.
ووصف البعض مشاهداته خلال سياحته في البلاد مثل أعمال الحفر في ترعة المحمودية والقناطر وقدروا عدد العمال بنحو عشرة آلاف عامل تم تقسيمهم إلى مجموعات صغيرة وعملوا في ظل رقابة صارمة، ووصفت بعض النساء زيارتها للحريم بالقلعة وتحدثن بإسهاب وربما بمبالغة عن مظاهر الترف والبذخ السائد وكأنهن يصفن مشاهد ألف ليلة وليلة.
وكان من بين ما عُنى به القنصل الأمريكي هو إيجاد وسيلة لتنمية التبادل التجاري بين مصر والولايات المتحدة وكانت هناك رغبة أمريكية على ما يبدو في تجاهل التعامل مع شركة الليفانت البريطانية التي احتكرت التعامل التجاري مع الشرق ورفضت الولايات المتحدة دفع تعريفة جمركية إلى بريطانيا وأرادت التعامل التجاري مباشرة، وقد نجح جلدون في إقناع محمد علي باشا بشراء آلة أمريكية لتبييض الأرز في رشيد ودمياط وأخرى لاستخراج زيت بذرة القطن معتبرًا أن الباشا حال نجاح تلك المقترحات سيربح الملايين من الدولارات ولإنجاز تلك المهمة سافر إلى الولايات المتحدة في عام 1838 واتجه إلى نيويورك وقام بالفعل بشحن الآلات المطلوبة ومعها بعض المهندسين للتشغيل والصيانة ووصلت إلى ميناء الإسكندرية في مايو من عام 1838 ولكن بحلول عام 1840 انتهت المغامرة وعادوا أدراجهم إلى الولايات المتحدة.
وكانت المحاولة الثانية للقنصل جلدون مع بعض رجال الأعمال الأمريكييين هي محاولة جلب ونقل عدد من الزرافات إلى الولايات المتحدة إلا أن موت الزرافات عقب وصولها حال دون نجاح تلك التجربة، ومن المراسلات المهمة لجلدون مع الخارجية الأمريكية مطالبته بأن تكون مصر هي الطريق لعبور التجارة إلى الشرق الأقصى، وعندما تقرر رحيله عن مصر شحن صناديق بلغ وزنها سبعة أطنان إلى الولايات المتحدة واشتملت على نباتات وحيوانات ومومياوات وجماجم وأسقف خشبية وغيرها لتوزيعها على مؤسسات وأفراد كثر بالولايات المتحدة.
تشارلز لونج (1842-1917)
تشارلز لونج
كان لونج أحد نماذج الكتاب المهمة وأفردت له المؤلفة فصلًا باعتباره رجلًا استثنائيًّا فهو جندي ومستكشف ودبلوماسي وكاتب، خدم في الجيش الاتحادي خلال الحرب الأهلية الأمريكية، وجاء إلى الإسكندرية في عام 1869 ضمن الخمسين أمريكيًّا الذين التحقوا بخدمة الحكومة المصرية، واعتبر البعض أن محاولة الخديوي إسماعيل الاستعانة بالأمريكيين هدفت إلى الاستقلال عن نفوذ الدولة العثمانية من جهة وعن الهيمنة الإنجليزية الفرنسية من جهة أخرى.
وعمل لونج في البداية مدرسًا للفرنسية في المدرسة العسكرية ثم صار نائبًا لرئيس الأركان في الإسكندرية وفى عام 1873 صار نائبًا للجنرال ستون رئيس أركان الجيش المصري، وعرف عن لونج المشاركة بنشاط في الحياة الاجتماعية خاصة وأن إقامته كانت بحي الأزبكية بالقرب من دار الأوبرا وفندق شبرد الشهير المزدحم بالأجانب وبالقرب منه فندق الأمبسادور المفضل للأمريكيين وغالبًا ما تردد على مسارح القاهرة الخديوية، وكان من بين أصدقائه الأثري الفرنسي المعروف مارييت رئيس المتحف المصري ببولاق، وكان لونج شاهد عيان على تمدد الإمبراطورية المصرية في إفريقيا.
وقد بزغ نجم لونج أكثر في عام 1874 فور اختياره القائد الثاني للجنرال جوردون بالسودان وقد رُشح من قبل الخديوي ليكون مدافعًا عن مصالح الدولة المصرية في السودان ولم ينجح في ذلك فقط بل استطاع مد النفوذ المصري إلى أوغندا بعد زيارته الدبلوماسية لبلاط الملك ميتسا ووقَّع معه معاهدة اعترف فيها بأن حوض النيل أرض مصرية وأعلن تبعيته لوالى مصر وحمايته، وبطبيعة الحال لم تكن بريطانيا راضية عن تلك السياسة فسارعت من جانبها للسيطرة على أوغندا وحجَّمت الحدود المصرية عند أسوان ثم قطعت صلة مصر بوسط إفريقيا وصارت لها السيطرة الكاملة بلا منازع على حوض نهر النيل.
وفى الوقت الذي كان فيه لونج في طريق عودته إلى مصر التقى الميجور بروت الذي كلفه الخديوي إسماعيل برسم خريطة دار فور وكردفان، وكانت الجمعية الجغرافية المصرية ومجلتها العلمية التي بدأت في الصدور في عام 1876 هي قِبلة الرحالة والمستكشفين الأجانب فألقوا فيها محاضراتهم ونشروا بها تقاريرهم الكشفية عن منابع النيل.
وكُرِّم لونج مرتين بحصوله على النيشان المجيدي ثم النيشان العثماني كما كُرِّم أيضًا من الخارجية الأمريكية لمساعدته في إجلاء المقيمين الأمريكيين عند قصف مدينة الإسكندرية في عام 1882 ومنحته الجمعية الجغرافية بنيويورك ميداليتها، ولعل أهم اكتشافاته هي العثور على بحيرة ثالثة كبيرة على النيل وقد أطلق عليها اسم بحيرة إبراهيم إلا أن بريطانيا أصرت على تغيير الاسم إلى بحيرة كاوجا، وسجل لونج مسيرته الحافلة في كتابه حياتى في أربع قارات، وانتقل من مصر في عام 1887 ليصبح قنصلًا عامًّا في كوريا.
خليل أغا الأمريكى
كشفت الباحثة النقاب عن مخطوطة في أوراق هنري سالت القنصل البريطاني في مصر في الفترة من (1817-1827) والمودعة بالمكتبة البريطانية بلندن وتضمنت معلومات عن الحملة المصرية على السودان فيما بين عامي 1820-1821، ومن بين تلك المحفوظات صحيفة جورج بيزون إنجلش الذي سافر مع حملة إسماعيل باشا إلى سِنَّار لإخضاع شرق السودان من 26 أغسطس 1820 إلى 23 أغسطس 1821، وهي مرتبة زمنيًّا عن اليوميات المرعبة التي عاشها رجال الجيش وهم يشقون طريقهم في النيل من وادي حلفا إلى سِنَّار، ولم يكشف الفحص المتأني لتلك المخطوطة عن أن الذي كتبها هو الأمريكي المعروف بخليل أغا فحسب، بل إن تلك الوثيقة المهمة كشفت عن المغامرات والغموض اللذين اكتنفا تلك الرحلة المذهلة.
ودون الخوض في تفاصيل كثيرة، فقد زودتنا تلك المخطوطة على الأقل بمصدر وموقع العديد من نقوش القنصل البريطاني العام هنري سالت كما أوضحت لنا بعض التفاصيل عن الصراع الداخلى بين رجال الجيش، وأخيرًا فإن الأكثر أهمية على الإطلاق هو أن الصحيفة التي عمرها مئتى عام كانت دليلًا على اليوميات المسجلة يومًا بيوم للوصول إلى داخل النهر وما تضمنته من أحوال وأسماء المنحدرات للمنحنى الجنوبى العظيم للنيل والشلالين الرابع والخامس.
وكان ضمن الحملة المصرية ثلاثة أمريكيين بأسماء مسلمة وهم، محمد أفندي، وخليل أغا، وأحمد أغا، وقد كتب محمد أفندي كتابًا وعرَّف نفسه بأنه جورج بيزون إنجلش البوسيتيني (من مدينة بوستن)، وقد أقر بوجود أمريكيين صحبته ولكنه منذ تاريخ مسيرة الرحلة استخدم أسماءهم الإسلامية ولم يفصح عن أسمائهم الأمريكية لأحد، وأوضحت المخطوطة وجود علاقات عمل بين خليل أغا والقنصل البريطاني سالت.
كما بدا من جهة أخرى مدى تغلغل الأجانب في الحكومة المصرية وما ساد بينهم في الكواليس من صراعات في كثير من الأحوال مثل العداء الشديد بين الطبيب الأول للأمير إسماعيل، وهو يوناني من سميرنا، واتُّهم بالتآمر على الدوام ووضع السم لأحد العاملين معه وهو الدكتور أندريا جنتلي الصيدلي الإيطالي حتى لا يدفع قرضًا إليه، بل ساد الاعتقاد أن الطبيب الأول تآمر على الحملة برمتها وتسبب في تأخر القوارب عن اللحاق بالأمير إسماعيل وتعرضها للأخطار.
وتضمن الكتاب فصولًا عن الرحالة الأمريكي بايرد تايلور ورحلاته إلى السودان ووسط إفريقيا، والرجل له كتاب عن تلك الرحلات وكان صديقًا مقربًا من الشيخ رفاعة الطهطاوي إبان نفيه إلى السودان من جانب عباس باشا الأول (1851-1854) بل وحمل خطابات من الطهطاوي إلى أسرته بالصعيد في طريق عودته عبر مصر، كما تحدثت المؤلفة عن البعثة العلمية التابعة لمتحف التاريخ الطبيعي بنيويورك وعملها بالفيوم في عام 1907، وأفسحت المجال أيضًا للحديث عن البعثة الدينية التي سعت إلى نشر البروتستينية ومن أعضائها ليفي بارسونز وبليني فسك وجوناس كنج، وقد تركوا ملاحظات مهمة عن السكان والجاليات الأجنبية بمصر، والكتاب في نهاية المطاف جدير بالقراءة خاصة عن الوجود الأمريكي في مصر منذ النصف الأخير من القرن الثامن عشر وحتى الحرب العالمية الأولى.
1- للمؤلفة أعمال أخرى عن مصر وعن نهر النيل، ولعل أهمها كتابها عن "صحراء مصر الغربية"، ترجمة محمد صبري محسوب، المركز القومى للترجمة، 2015، والكتاب مزود بنحو 50 خريطة فضلا عن كثير من الرسوم الإيضاحية والصور الوفتوغرافية.
2- من الكتابات المترجمة عن الوجود الأمريكى في مصر، لينوار تشامبرز رايت، سياسة الولايات المتحدة إزاء مصر 1830-1914، ترجمة فاطمة علم الدين، القاهرة، 1986، وراجع أيضًا:
Ziyanah Ladak,Globalizing a Civil War: How the American Civil War Shaped Egypt and Its Relationship with the United States ,University of Virginia, Spring 2018.
3- هو الرئيس الأمريكى السادس في الفترة من (1825-1829) وسبق له العمل كوزير خارجية (1817-1825) في عهد الرئيس جميس مونرو.
4- كان "دانيال سميث مكاولي" أول قنصل أمريكى عام في مصر في عام 1848.
ترشيحاتنا
