الحركة النسوية المصرية
شريف إمامجريس تومسون سيتون: تأريخ مبكر للحركة النسوية المصرية
2025.04.13
مصدر الصورة : آخرون
"امرأة تندرفوت" – مصدر مبكر منسي لتاريخ النسوية المصرية
في سياق تاريخ الشرق الأوسط لا يزال تاريخ النساء والنوع مجالًا علميًّا لم يستكمل النمو بعد، ربما لوجود إحساس يتخلَّج البعض بضرورة عدم نبش ماضٍ يُفضَّل نسيانه، فكثير من النساء يؤثرنَّ القطيعة مع ماضٍ يشوبه القهر النابع من التقاليد المتوارثة، ويتطلعنَّ إلى مستقبل للنساء يختلف عن الماضي بحيث يجرده من صفته كمصدر للعظة والاعتبار. كما أن هناك معضلة كبرى لدى من يتصدى لكتابة تاريخ المرأة العربية، وهي أن حركتها امتزجت بحركة مقاومة المستعمر بشكل لم يترك مكانًا لقضايا النوع، مادة الكتابة لدى المؤرخات النسويات. كذلك فإن النساء يعتقدنَ أن التاريخ الذي يعرفنه ويمكن أن يعرفنه، ينزع إلى أن يكون تاريخًا لأنشطة نساء النخبة، وهنَّ في العصر الحديث النساء الناشطات في الجمعيات الخيرية والوطنية، اللاتي تركت عديدات منهنَّ سجلات هي عبارة عن مذكرات وأوراق عائلية، وهذا أيضًا ماضٍ لا يردنَ مؤرخات الحركة النسوية أن يؤسسنَ عليه، ويسعينَ جاهدات لتجاوزه[1]. لذا آمنت النسوية الغربية بندرة الوثائق الأرشيفية المتعلقة بالمرأة خصوصًا في السياقات غير الغربية، فاتجهت -منذ البداية- إلى تعظيم دور التاريخ الشفوي في التأريخ للمرأة، ذلك لأن الأشكال المختلفة من المساهمات التاريخية للنساء لا يمكن الوصول إليها من خلال الوثيقة الأرشيفية وإنما عبر الذاكرة الحية للفاعلين التاريخين، لذا تبدو الروايات الشفوية علاجًا مقبولًا –تحديدًا في التاريخ المعاصر- حيث لا يزال شهوده على قيد الحياة[2].
من هذا المنطلق تكمن أهمية دراسة الكاتبة الأمريكية جريس تومسون سيتون Grace Thompson Seton عن الحركة النسائية المصرية إبَّان ثورة 1919، حيث اعتمدت على كم كبير من الروايات الشفهية التي جمعتها من خلال المقابلات الشخصية مع رائدات الحركة النسائية المصرية، ووثَّقتها بل وكانت حريصة على التقاط صور لهنَّ، فخلَّفت مجموعة فوتوغرافية لهنَّ قالت: إنها تعرض للمرة الأولى على الملأ وأنها مُنحت إذنًا باستخدامها، لأن هؤلاء النساء الشرقيات يرغبنَ في أن تعرف النساء الأميركيات والأوروبيات جانبًا من قصتهنّ -التي لم تُروَ حتى الآن- ويردنَ أن يأخذنَ مكانهن في العالم، لهذا السبب فقد كسروا التقاليد وقبلوا "الدعاية "كما تفعل السيدات الأمريكيات"[3].
وما يُضاعف من أهمية الكتابة عن تأريخ جريس تومسون للحركة النسائية المصرية، حالة الصمت غير المبرر عن هذا المصدر المهم، فلقد ضربت الدراسات العربية الخاصة بالحركة النسائية الصفح عن ذكرها أو أوردت إشارة سريعة عن المؤلفة دون العودة إلى المصدر كما ذكرت إحداها: "حدث في عام 1922 أن حضرت إلى مصر صحفية أمريكية تدعى جريس تومسون لترى نساء مصر وكتبت كتابًا عن المرأة المصرية صدر في ذلك الحين، ولم يقرأه أحد في مصر وسجلت فيه صفحة من كفاحها أسمته "الزغلوليات""[4]. ولعل الاستثناء الوحيد هو كتاب محمد عودة سبعة باشاوات وصور أخرى، الذي أفرد فصلًا لكتاب تومسون لكنه اقتصر فيه على تقديم عرض لفصل واحد من كتابها، وهو الفصل الثالث "مدام زغلول باشا وسيدات الوفد"[5].
أما الكتابات الأجنبية فإننا لا نجد صدى لدراسة جريس تومسون باستثناء محدود، حيث اعتمدت عليها ميشيل راكاجني Michelle Raccagniوكذلك منى راسل في دراستيهما بشكل يسير[6].
وإذا أردنا أن نُضيف إلى عنصريِّي المعاصرة والاعتماد على الروايات الشفهية في كتابة جريس تومسون -مع حالة التهميش التى عانته- عنصرًا آخر يبرز أهمية ما كتبته عن الحركة النسائية المصرية، فإننا لا نجد خيرًا من مكانة تومسون نفسها. فجريس المولودة عام 1872 في كاليفورنيا، بدأت الكتابة مبكرًا في صحف سان فرانسيسكو تحت اسم مستعار دوروثي دودج Dorothy Dodge، وفي عام 1900 نشرت كتابها الأول "امرأة تندرفوت" A Woman Tenderfoot، الذي وصف رحلتها على ظهور الخيل عبر جبال روكي، وصار امرأة تندرفوت اسمًا أدبيًّا لها. ثم انخرطت في صفوف الحركة النسائية فنظمت وحدة آلية نسائية لمساعدة الجنود في فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، وباتت من أوائل المدافعات عن حق الاقتراع للمرأة، حيث شغلت منصب رئيس رابطة حق المرأة في التصويت في ولاية كونيتيكت، وعملت كرئيسة للرابطة الوطنية لنساء القلم الأمريكيات ثم رئيسة لرسائل المجلس الوطني للمرأة في الولايات المتحدة. كانت تومسون تحب الرّحلات وتُدوِّن ما تراه، فزارت الصين ومصر وهاواي والهند والهند الصينية واليابان وبعض دول أمريكا الجنوبية، وكتبت أربعة كتب عن رحلاتها أهمها: امرأة تندرفوت في مصر (1923)، والسهام السامة (1938)[7].
***
ما كاد أزيز رصاص معارك الحرب العالمية الأولى يتوقف في مصر، حتى وثبت البلاد غضبًا لكرامتها، بعدما وضح جليًّا مدى طيش الإدارة الاستعمارية البريطانية بإِيصادها الأبواب في وجه المساعي السلمية التي قادها سعد زغلول ورفاقه بحثًا عن الاستقلال الذاتي لمصر، فهمَّت بالقبض عليه ونفيه، فهاجت الخواطر واندلعت مظاهرات شعبية في التاسع من مارس 1919، وأعلنت مصر قطيعتها مع ماضيها المستسلم للاحتلال وظلت ثورتها بين مد وجزر، حتى أعلنت بريطانيا إلغاء الحماية ووُضِعَ دستور للبلاد وانتُخبت أول وزارة شعبية في يناير 1924.
في تلك الأثناء كان العالم يسمع عن مصر جديدة غير التي خبرها، وكانت النفوس المغامرة تواقة إلى اكتشاف جديد أقدم الحضارات، وكانت الكاتبة الأمريكية جريس تومسون سيتون، من هؤلاء. ففى31 يناير 1922 تم مخاطبة المندوب السامي البريطاني اللورد إدموند ألنبي Edmund Allenby من قبل أحد مسؤولي الخارجية الأمريكية للسماح لجريس تومسون بدخول مصر للقيام ببعض الأعمال البحثية، وذكر أنها ارتبطت بوزارة الإعلام البريطانية (القسم الأمريكي) أثناء الحرب، لذا فهي من الموثوق بهنَّ[8]. لم يتردد ألنبي في الموافقة، وبالفعل حطت رحالها في مصر مطلع فبراير وكانت أمواج ثورة 1919 ما زالت تتدافع، وسفينة الثورة هائمة تتلاطمها الظنون.
ما إن وطئت أقدامها أرض مصر حتى استولت الدهشة على تومسون من مشاركة النساء بفعالية في الحركة الوطنية، وما لبثت حتى راسلت جريدة النيويورك تايمز في إبريل 1922 تصف لها مشاركة النساء المصريات من الطبقة العليا في المظاهرات، مُبدية بعض التعاطف مع قضيتهنَّ المناهضة للاستعمار، لكن أكثر ما أثار دهشتها هو أن هؤلاء النساء التقدميات، بينما يُدافعنَ عن تعليم المرأة ويشققنَ طريقًا من أجل حرية العمل العام للنساء، "ليس لديهنَّ رغبة كبيرة -في الوقت الحالي- في التخلص من الحجاب". وللتوفيق بين ما اعتبرتْهُ تناقضًا كتبت سيتون قائلة: "من الممكن أن نتنبأ بأن الجيل القادم من النساء لن يكون كذلك، لأن قوة الانتشار السريع للتعليم ستكسر تقليد العزلة والعنصرية التي يعبر عنها هذا الرمز (الحجاب)"[9].
سرعان ما بدأت "امرأة تندرفوت" تتعلق بشغف بكل تفاصيل الحركة النسائية المصرية، وأدركت أنها في حاجة إلى إنتاج دراسة مستفيضة تُشبع هذا النهم، لكن قبل أن تنتهي من دراستها، بادرت إلى إرسال مقالة مقتضبة في حدود ثماني صفحات إلى مجلة أمريكية نشرتها في أكتوبر 1922 تحت عنوان "القيادات النسائية في مصر". بدأت الكاتبة مقالتها ببعض الأسئلة التشويقية للقراء الأمريكان، منها كيف طرقت الحداثة أبواب مصر؟ وكيف غدا فيها قيادات نسائية؟ ولماذا صار من الواجب على بعض النساء في مصر أن يخرجنَ من حرمهنَّ متوشحاتٍ بحجابِهنَّ، يعملنَ ليل نهار لتحقيق الاستقلال لبلدهنَّ؟ ثم عاجلت القُراء بالإجابة بأن مرجع كل هذا إلى التعليم الذي غيَّر وجه المجتمع ورفع سقف طموح أبنائه. لكنها تُرجع ذلك إلى الاحتلال البريطاني وجهود المبشرين الفرنسيين والأمريكيين، التي بدأت منذ أكثر من ستين عامًا. وتواصل تومسون القول: إنه لا يوجد مثقف مصري ينكر الفوائد التي حققتها إنجلترا في مصر، لكن الرغبة في الاستقلال –التي انتشرت كالحمى في جميع الطبقات- تشبه تمرد الطفل عندما يكبر على سلطة أحد الوالدين، سعيًا إلى التخلص من وصايته وانضباطه الصارم[10].
ثم انطلقت للحديث عن النساء والمظاهرات قائلة: "سواء أكان التاريخ سيسجل هؤلاء النساء كمحرضات سياسيات، أو كوطنيات، فإن عملهنَّ رائع، ولا سيما في بلدٍ تم فيه قمع المرأة واعتبارها متاعًا للرجل، حيث كانت حتى وقت قريب مخفية عن الأنظار ولم يُسمح بذكر اسمها في الأماكن العامة. إن النضال الدائر في مصر حاليًّا هو "إثارة سياسية" في رأي إنجلترا ينبغي التعامل معها بحزم، أما بالنسبة إلى الثائرين فهي مسألة حياة أو موت من أجل الاستقلال"[11].
***
بعد تلك المقالة بأشهر قليلة صدر عمل جريس تومسون الأهم "امرأة تندرفوت في مصر" يُوثق تاريخ المشاركة النسائية في انتفاضة المصريين في 1919، وكتبت في صدره إهداء إلى جميع النساء اللواتي لديهنَّ رؤية. قسمت تومسون كتابها –الذي يقع في 360 صفحة– إلى عشرين فصلًا، خصَّت تاريخ مصر القديم ونيلها، بفصلين لا يزيدان على عشرين صفحة، ثم انطلقت إلى الحديث بإسهاب عن الحركة النسائية المصرية ودورها في ثورة 1919.
في استهلال كتابها عن الحركة النسائية، حاولت تومسون أن تقتفي جذورها وبواعث ازدهارها، فذكرت: "إن نواة الحركة النسائية المصرية تعود إلى عام 1911[12]، حيث تم تدشين جمعية المرأة الجديدة، ثم ما لبثت أن قطعت خطوة أكثر تقدمًا في عام 1919 عندما شكلت مجموعة من النساء -بعد أن انخرطنَ في النضال الذي تخُوضه مصر من أجل مزيد من الحرية السياسية- لجنة نسائية للوفد، كان ذلك إيذانًا بترسيخ المبادئ التي دعت إليها جمعية المرأة الجديدة داخل الطبقة العليا". لكن المؤلفة لا تجد غضاضة في أن تعزو تلك الروح الجديدة في مصر إلى جهود الإنجليز في تقويم البلاد على مدى أربعين عامًا، حيث حمل مصلحوهم منذ كرومر مختلف أشكال التقدم المدني، فالمدارس والمستشفيات والمستوصفات والرعاية الاجتماعية والنظافة والصرف الصحي كل هذا وأكثر غرسٌ إنجليزيٌّ أثمر تلك الروح الجديدة. بالإضافة إلى اتساع حركة التعليم على أيديهم، ما أطلق العنان لقوة الفكر والتعبير في جميع أنحاء الطبقات العليا والمتوسطة. إن الفضل في انتشار التعليم، على الرغم من أنه قد يبدو مفاجئًا، يجب أن يُعزى أيضًا إلى جهود المبشرين الفرنسيين والأمريكيين، التي بدأت منذ أكثر من ستين عامًا. هكذا جردت طومسون -بكل سهولة– الحركة النسائية من أي رافد أصيل جادت به البيئة المحلية للمرأة المصرية، أو أي جذر تاريخي من الثقافة المصرية أو الإسلامية يكون قد ألهم النساء الثائرات في حركتهنَّ[13].
ثم ما لبثت المؤلفة أن شرعت في استعراض رائدات الحركة النسائية من خلال التعريف بشخصيتهنَّ وبعدها انتقلت إلى الجزء الأبرز -الذي يُكسِب هذا العمل أهميته- وهو ما دوَّنته أثناء لقائهنَّ. وكان من الطبيعي أن تكون زوجة زعيم الوفد صفية زغلول في طليعة من تسعى إليهنَّ تومسون للأخذ عنهنَّ، فأرسلت إليها قائلة: "مِن امرأة إلى أختها، لقد عمِلتُ من أجل حرية أكبر للمرأة في بلدي، لذا كنت آمُل أن تسمح لي المرأة التي تفعل الكثير من أجل قضية مصر بلقائها". وكان لها ما تمنَّت، ففي مارس 1922 توجهت امرأة تندرفوت إلى بيت الأمة، وذكرت لقُرّائها وصفًا للبيت وصاحبته، فأمَّا الدار ففرنسيٌّ طرازها مع لَمْسات شرقية، وأمَّا ربَّتها فذاتُ جسد هش وروح شجاعة. إنَّ شجاعة صفية –كما تذكر تومسون- تتجلى بوضوح من خلال ردِّها على خطاب اللورد ألنبي بالسماح لها بأن تلحق بزوجها في منفاه إن شاءت، فكتبت له تقول: "أُخبر سعادتك بأنني سأبقى في القاهرة، وسأفعل كل ما في وسعي لأحلَّ مكان زوجي. فقد يُطرد الجسد لكن لا يمكنك إبعاد روح سعد باشا. سأكون سعد حتى عودته، لأنك لن تستطيع أن تبقيه بعيدًا، فالناس لن يسمحوا بذلك، وحتى لو مات، فسيأتي آخرون، إنه فيضان لا نهاية له"[14].
وعن ريادة صفية زغلول في مقاومة الاحتلال تذكر تومسون –على لسان صفية زغلول- أن لجنة السيدات في الوفد –وخصوصًا السيدة هدية بركات زوجة بهي الدين بركات- هي من كانت لها قصب السبق في الدعوة إلى مقاطعة البضائع الإنجليزية، احتجاجًا على مسلك سلطة الاحتلال[15]. ففي يناير 1922، شرعنَ في هذا المسلك ولم يدخرنَ وقتًا ولا جهدًا في سبيل إنجاحه. بدأَ الأمر بست سيدات، وبحلول الظهيرة خرجت فرقة من عشرين امرأة بسياراتهنَّ، للقاء أصحاب المتاجر الرئيسيين في القاهرة والإسكندرية، وظللنَ على ذلك لمدة أسبوع. في البداية تم الاستهزاء بهنَّ، ولكن مع مرور الوقت صار أصحاب المتاجر ينتظرون النساء ويطلبون تعاونهنَّ. بل لقد نظمت اللجان النسائية في المدن الكبرى مؤتمرات دعمًا للمقاطعة، ففي القاهرة عُقد اجتماعٌ لأكثر من ألفيِّ امرأة ألقيت فيه الخطب السياسية وتعهدنَ بالاستمرار في المقاطعة للبضائع البريطانية[16].
تقول تومسون كانت أول مرة أقابل فيها هدية بركات، حينما جاءت إلى مجلس صفية منفعلة من رؤيتها مصريينِ يشتريانِ "كرافتات" من محل إنجليزي، فاندفعت إليهما وعنفَّتهما حتى تركا البضاعة وأسرعا بالهرب خجلًا. تعلق تومسون: "حينما استمعتُ إليها وهي تروي القصة أحسست أن روح جاك دارك حلَّت بنساء الحركة المصرية". ثم تستطرد: "التفتت إليَّ صفية هانم وقالت: نحن لم نشترِ شيئًا إلا ما هو مصري، حتى الفطائر نصنعها في بيوتنا لأننا لا نريد التعامل مع الإنجليز".[17]
كانت تومسون حريصة على استشراف مستقبل الحركة النسائية في مصر، فسألت زوجة سعد زغلول: ما هو مستقبل النساء هنا؟ "فأجابت بوضوح: "إن ما يحدث من تغيير أمر رائع، لقد كنت بعيدة لمدة عامين ولم أستطِع تصديق التحول في الفكر والعمل الذي رأيته عند عودتي. نحن نمضي قُدمًا بسرعة كبيرة، إن زوجي ليبرالي للغاية فيما يتعلق بعادات المرأة، فالحَبَرة والحجاب ليستا من ديننا -كما تعلمين- وسيتعين التخلص منهما قريبًا جدًّا -في غضون بضع سنوات، أو ربما بضعة أشهر- ليس لذاتهما ولكن لما يُمثّلانه. لقد تم تحجيم الحجاب الآن، ولسنا في عجلة من أمر إلغائه تمامًا، خصوصًا وأنه عمليًّا يتحول إلى مجرد رمز، فعندما تسافر السيدات إلى الخارج -كما يفعل معظمنا- يتلاشى "الرمز" بمجرد مغادرة الباخرة الإسكندرية ويرفع هذا الغطاء"[18].
ولقد قدمت تومسون وصفًا لمشاهداتها في مجلس صفية زغلول، فمثلًا هَالها تلك المرأة المصرية الريفية المُسنَّة، التي قطعت مئة ميل حاملة بعض الأموال لتُعين سيدات الوفد. وكذلك تلك الفتاة السَّكندرية المثقفة التي تتكلم الإنجليزية بطلاقة، وترى أن المشكلة هي أن الإنجليز لا يعرفون المجتمع المصري جيدًا ولا يودُّون الاختلاط به وإنهم متعجرفون للغاية، ولا يعرفون شيئًا عن المرأة المصرية وهذا هو سبب انتشار الكثير من القصص الكاذبة عنا[19]. وأسهبت المؤلفة في ذكر القاصدين مجلس صفية هانم من المصريين رجالًا ونساء بُغية سماع الخطب الحماسية والرسائل التحفيزية التي يبعث بها زعيمهم المنفي إلى أُمِّهم، التي كانت تتلوه عليهن بصوت يخامره البكاء. إن المجتمع النسائي المحيط بصفية –حسب وصف المؤلفة- هو من النساء اللواتي قرأن ويفكرنَّ كثيرًا، ويتحدثنَ عدة لغات، ويتحدثنَ في السياسة، من الفتاة المراهقة وصولًا إلى العجوز[20].
بل إنَّ في مجلسها نساء أوربيات مثل الزوجة الفرنسية لواصف بك بطرس غالي، والزوجة الأمريكية للدكتور رياض فانوس، وهما مساعدتان مخلصتان لصفية هانم ويظهران تعاطفهما بشكل كبير مع بلد زوجهما. ولمَّا كانت المؤلفة على حد قولها قد سمعت الكثير عن مآسي "الزيجات المختلطة"، لذا كانت مهتمة بمقابلة لويز ماجوريلي Louise Majorelly، زوجة واصف بك بطرس غالي عضو "الحزب الديمقراطي[21]. وبالفعل التقت لويز ووصفتها بالقول: "تلك المرأة الفرنسية الصغيرة صاحبة الروح الحماسية والقادرة على أن تخفي لواعجها من نفي زوجها بشجاعة، لقد بدت حياتها المنزلية والاجتماعية مفضلة عن أي شيء بشكل يبدو غريبًا بالنسبة إلى اهتمامات المرأة الغربية. كانت أول من دحضت لي فكرة أن كل الرجال المصريين القادرين ماديًّا يجب أن يكون لديهم عدة زوجات، وبالفعل فقد وجدت هذا حقيقة في كل من قابلتهنَّ من أبناء الطبقة العليا". أما السيدة الثانية هيلدا هنري Hilda Henry زوجة الدكتور رياض فانوس[22]، فهي شابة أمريكية متحمسة ومتعاطفة تمامًا sympathies entirely مع بلد زوجها، عندما قابلتني قالت لي: "أخبريهم في أمريكا عنا، عن هؤلاء النساء الرائعات اللواتي يسعينَ لاستعادة أمجاد مصر الماضية، فنحن لسنا برابرة كما يتم تصويرنا". ولم يكن الوجود الغربي في مجلس صفية مقصورًا على زوجات المصريين، وإنما قصدته نساء غريبات بغية استكشاف هذا الجو الملهم، ويبدو من كلامهم مدى الجهل بحقيقة المجتمع المصري، وتضرب المثل بسيدتين من ولاية أوهايو كان أول سؤال سألتاه لزوجة زغلول: "كم عدد زوجات زوجك؟"[23].
***
كانت ثاني أكثر الشخصيات التي نالت إعجاب تومسون عندما التقتها، هدى شعراوي. فكما تذكر: "لا يوجد منها شيء يشير إلى السمات التي غالبًا ما ارتبطت في الذهن الغربي بالسيدة المصرية "الحريم" من السمنة الزائدة والتخلف والكسل، إن هذه الرائدة النسائية تتمتع بمعرفة قوية في الشؤون المجتمعية والسياسية على حد سواء، فخلف مظهرها الخارجي المثقف والكريم، يدرك المرء عقلًا راجحًا وإرادة حازمة. يظهر موقفها الوطني من خلال احتجاج السيدات المصريات –الذي وقَّعته بصفتها رئيسة للجنة الوفد النسائي- وأرسلتهُ إلى لويد جورج وأعضاء البرلمان البريطاني وجميع الصحف الإنجليزية، وجاء فيه: "إن دعم اللورد ألنبي لثروت باشا من أجل تشكيل وزارة جديدة لا تحظى بتأييد الشعب المصري، يجعل احتمالية وجود اتفاق مع بريطانيا العظمى أمرًا ميؤوسًا منه أكثر من أي وقت مضى"[24].
اللافت للنظر، أن تومسون لم تُظهر –في أي موضع من كتابها- ميلًا إلى اتجاه القضية المصرية تماشيًا مع الموقف الرسمي الأمريكي -خصوصًا وأن زيارتها لمصر جاءت بمخاطبات رسمية- واكتفت بتسجيل إعجابها بالمشاركة النسائية، ما يعد انتصارًا للحركة النسوية العالمية التي تمثلها المؤلفة. مع محاولة التأكيد على الدور الأمريكي في الصحوة التي تعيشها مصر الحديثة، من خلال التركيز في محورية دور الإرساليات وبخاصة الأمريكية، في روح التغيير التي تعيشها المرأة المصرية[25].
فيمكن من خلال قراءة ما كتبته تومسون معرفة كيف نظر المجتمع الأمريكي إلى القضية المصرية، فمن ناحية أبدوا عطفًا مع حركة المصريين للمطالبة بحريتهم اتساقًا مع نداءات حق تقرير المصير التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى وكان نداء رئيسهم ولسون الأكثر رواجًا بل وتأثيرًا في حركة الشعوب المستعمرة وفي طليعتها مصر. ومن جانب آخر، كانوا يتفهمون الاحتياجات الاستعمارية لشريكتهم بريطانيا في مصر. لكن الأـمر لا يمكن فهمه على كونه تناقضًا، فبينما اكتفوا بالدعوات الطيبة لحركة المصريين نحو الاستقلال، اعترف رئيسهم بالحماية البريطانية على مصر، ومن هنا يمكن فهم إلى أيّ الموقفين ولَّى الأمريكيون وجههم. بل إن تومسون أفردت مساحة كبيرة للحديث عن ألنبي وحسن إدارته، فتذكر: "إن مصر لديها جنديًّا رائعًا ورجل دولة، أحد رموز العالم اليوم، فاتح فلسطين، ألنبي. سعى قدر استطاعته إلى مراعاة جميع المصالح، فأظهر تعاطفًا مع التطلعات الوطنية المصرية. وذكر لي أن المشكلة أننا نحن الإنجليز في مصر نحاول نقل حضارة القرن العشرين إلى مصر على ظروف القرن الرابع عشر التي تعيشها"[26]. بل إن تومسون نقلت روايات عن إنجليز تشكك في صدق نوايا قادة ثورة 1919 فتذكر في إحداها: "عندما ذهب زغلول باشا إلى لندن لمفاوضة ملنر ولم يكن هناك تقدم، قال له عدلي باشا إنه يجب أن يعود لرعاية أطيانه وأعماله، وعاد إلى الوطن وبدأ في الحصول على أتباع ما جعل الإنجليز يسندون إليه الوزارة، الأمر الذي عجَّل بعودة زغلول إلى الوطن خشية أن يستبد عدلي بالأمر دونه"[27]. وتلخص المؤلفة موقفها من القضية المصرية بالقول: "إنه في مقابل دعاوى المصريين بأحقيتهم في الاستقلال هناك حجج بريطانية منها: أن المصرين غير قادرين على حكم أنفسهم، وأن الجماهير العريضة من الفلاحين، أكثر سعادة بوضعها ولا تريد أي تغيير بعد أن صارت حقوقهم محمية في ظل الحكم البريطاني خصوصًا بعد صدور "قانون الأفدنة الخمس"، وأن ترك مصر سيخلق فوضى سيستغلها عرب الصحراء أو قبائل أعالي النيل"[28].
***
في الجزء الثاني من دراستها، ترصد لنا المؤلفة جهود نساء مجهولات –بعض الشيء- أثناء ثورة 1919، من هؤلاء زوجة عاطف بركات باشا[29]، التي كتبت في 18 يناير 1922، إلى صديقة لها في إنجلترا -طلبت أخبارًا عن الوضع في مصر لأن التقارير الصحفية كانت متناقضة للغاية- قائلة: "لقد اعتبر الناس هنا إبعاد سعد باشا زغلول ورفاقه إهانة للكرامة الوطنية، واندفعوا في الحال للتعبير عن اشمئزازهم من تلك النزعة العسكرية العمياء والمضللة للاحتلال البريطاني، فبدأت المدارس في أجزاء من مصر بالإضراب، ونُظمت المظاهرات في جميع أنحاء البلاد، وشارك فيها جميع طوائف الشعب: الوجهاء، والأمهات، والتجار، والعلماء، والدعاة، والأطباء، المهندسون، والطلاب، ومسؤولون حكوميون، صرخوا جميعهم "يسقط الظلم"، "نموت لتحيا مصر"، ولقد تم قمع المظاهرات بشدة، ولم يُسمح حتى بالتعبير السلمي عن الرأي، وتم حظر جميع التجمعات تحت التهديد بإطلاق النار عليها. قد تكون هناك نتيجة واحدة لهذه الإجراءات الظالمة -حيث أن الأمة قد احتشدت بشكل أوثق حول القائد الوطني الذي عانى في ظل شيخوخته من أجل قضية البلد- وهي صب مزيد من الوقود على نار الحماس والوطنية التي تملأ قلوب كل المصريين. أما بالنسبة لنا، فقد عقدنا العزم على أن نعيش أحرارًا أو نموت بشرف. لقد تعلمنا التضحية بالحياة من أجل البلد ومن أجل المبادئ السامية للقائد العظيم ورفاقه"[30].
We have learned to sacrifice life for the country and for the sublime principles of the Great Leader and his associates.
وتنصرف تومسون بعد ذلك إلى النساء المصريات اللواتي يكرسن حياتهنَّ لقضية وطنهن، ليس عبر الانسلاخ في السجال السياسي هذه المرة، ولكن من خلال مؤسسات التعليم والتنمية المجتمعية، وتخص مؤسستي المرأة الجديدة ومبرة محمد علي[31]، فتذكر: "منذ الوهلة الأولى يبدو للناظر مدى انصهار هذا المجتمع –مسلمين ومسيحيين-في هاتين المؤسستين، أنهُ تحطيمٌ عمليٌّ للتعصب الديني. أما مستوى التنظيم وكفاءة العمل، فإنهما لا تقلان عن نظيرتهما في أوربا وأمريكا مثل الهال هاوس Hull House في شيكاغو، أو منزل وايت تشابل Whitechapel house في لندن. ثم تسرد المؤلفة جزءًا من مشاهداتها فتقول: "تم اصطحابي ذات صباح إلى أحد شوارع الحي القديم بالقاهرة بحثًا عن لافتة "نادي فتيات مصر الجديدة"، وهو مدرسة لإعداد الفتيات الفقيرات لكسب المال، حيث يتم تعليمهنَّ بعض الأمور، مثل: نسج الحصر والتطريز وصنع الملابس والأعمال المنزلية، وتخصص مساحة للتمارين الذهنية، مثل كيفية العناية بالأسنان والعينين والجلد والشعر. في هذا النادي يمكن رعاية مائة وخمسين فتاة في وقت واحد وحوالي نصفهم من المقيمين بشكل عام. ولقد أوضحت لي سكرتيرة النادي: أن عملية الإنفاق على النادي تأتي عبر الاشتراكات السنوية، والتي تتنوع بحسب القدرة المادية للعضو، من دولار واحد في السنة إلى ألف دولار أو أكثر"[32].
وكان طبيعيًّا أن تفرد تومسون مساحة لمقابلتها مع السيدة أمينة زوجة الدكتور محمود بك صدقي[33]، رئيسة جمعية المرأة الجديدة، التي تخلَّت عن الحبرة في رحلة إلى إيطاليا حيث اُلتقطت صورة لها وهي سافرة، وقالت تومسون إن المسؤوليات الموكلة إليها لا تقل عن رئيسة الأندية الفيدرالية للمرأة في أمريكا[34].
ومن اللطائف التي توردها المؤلفة، حالة المبالغة والمغالطات في الصحافة المصرية عن الحركة النسائية، فتنقل إلينا اجتماعًا لبعض الناشطات من أميرات الأسرة العلوية وصديقاتهنَّ من أبناء الطبقة العليا، تخللته قراءة لما أوردته بعض الصحف في يناير 1922 مع تسجيل تومسون لتعليق المجتمعين. فمثلًا يقول أحد تلك الأخبار: لقد دعت عدد من سيدات الطبقة العليا بعض الوزراء السابقين لسؤالهم عمَّا إذا كانوا سيقبلون الوزارة في ظل الأجواء المضطربة، وكانت هؤلاء السيدات بدون حجابهنَّ، ومن الطبيعي أيضا أنهنَّ كنَّ يرتدينَ ذروة الموضة كما أخبرنا من رآهنَّ، ويبدو أن الديمقراطية المصرية دفعت الوزراء للقائهنَّ وطمأنتهنَّ، أنهم لن يقبلوا المنصب من أجل إبقاء البلاد بدون حكومة نكاية في الإنجليز، واحتجاجًا على أفعالهم. فردت بعض النسوة على الخبر بالقول: "أمر مقزز هذا لم يحدث". وعندما سمعوا خبرًا أخر مفاده: "لقد لاحظنا أيضًا أن السيدات والشابات يوقعنَ احتجاجات بأسمائهنَّ، بعد أن كان الرجل يخجل أن يذكر اسم زوجته أو ابنته في الوثائق الرسمية للبيع أو الشراء، يا له من تغيير كبير". فردَّت النسوة في سخرية: "نعم الحمد الله! وفي خبر آخر يذكر: "نحن بحاجة إلى وطنية المرأة المصرية -ليس بالكلمات، ولكن بالأفعال- لمقاطعة البضائع، لأنها هي أكبر مستهلك للسلع الإنجليزية، خصوصًا غالية الثمن منها". فقالت النسوة: "كذب لا أحد منا يشتري سلعًا إنجليزية[35]."
وتظهر المؤلفة بعض ملامح مصر الجديدة لقرائها فدوَّنت بعض المقابلات لمصريات عاديات، ومن تلك نقاشها مع فتاتين قابلتهما في القنصلية الفرنسية في الأقصر، تقول إن إحداهما في سن التاسعة عشرة من عمرها وليست حتى مخطوبة، والأخرى 21 عامًا وغير متزوجة، في حين أن الأولى ذكرت لي أن أمها تزوجت في سن الثانية عشرة، وذكرتا لي أن الفتيات أصبحنَ يتزوجنَ في سن متقدمة بعد أن تطورت حركة التعليم، وصار من غير الممكن أن تتزوج الفتيات رغمًا عنهنَّ، ويُسمح لهنَّ الآن برؤية خطيبهنّ قبل الزواج[36].
***
ولمَّا كانت تومسون حريصة على أن تحاور رائدات الحركة النسائية في كل ما يتعلق بحقوقهنّ فقد سجلت نقاشًا جمعها مع سنية رياض باشا ابنة رياض باشا رئيس مجلس النظار في عهد الخديوي توفيق، حول تعدد الزوجات وذكرت على لسانها: "بينما صحيح أن ديننا يسمح بأربع زوجات، لكن لا يمكن للرجل الزواج من ثانية دون أن يبرر تصرفه لنفسه ولأصدقائه، فالتعدد في شريعة الإسلام مقيد بشروط.. فالسماح للرجل أن يتزوج بأخرى من أجل وقف الفسق والاختلاط، فالرجل الأوروبي يُسمح له بأن يكون لديه عشيقات، أم المسلم فليس أمامه سوى الزواج بأخرى، إذا كان على غير وفاق مع زوجته الأولى، أو كانت مصابة بالعقم مثلًا ونحوها من الأمور"[37].
وتفرد تومسون فصلًا للملكة نازلي ودورها في النشاط النسائي، فتذكر: "هي ابنة عبدالرحمن باشا صبري، سليل عائلة كبيرة، إلا أنها ليست من الأسرة المالكة، سافرت إلى الخارج واختلطت بجمعية المرأة الجديدة في مصر وبدأت في التعطش إلى العمل النسائي بحرية. لم تكن تريد أن تضحي بحياتها الفتيّة من أجل ملكٍ كبير في السن، لا يعيش في قلوب شعبه، لكن انضباط الأسرة المصرية -تركية الأصل- التي تقوم على احترام الوالدين، جعلت زفاف نازلي لفؤاد "أمرا واقعًا". ثم تقول المؤلفة عن محاولتها مقابلة الملكة نازلي: "غالبًا ما يكون الحصول على لقاء أحد من العائلة المالكة أكثر صعوبة من مقابلة أحد ملوك الصناعة والمال في أمريكا أمثال مورغان أو روكفلر، فيجب أن يكون لدى المرء صديق داخل الحاشية وسبب مقنع للتطفل على الشخص المَعنيّ بالزيارة. وما كان لي أن أُقابل الملكة لولا توسُّط زوجة السير والتر كونغريف Walter Congreeve القائد العام لقوات المشاة المصرية البريطانية[38]. بالفعل قابلتها وأثنيت على الحرية المتزايدة للمرأة في مصر، فقابلت ذلك بالتأكيد على صحة ما أقول، وأن التغيير قادم، وإن كان ببطء، وقالت: آمل أن تتمكن ابنتي الصغيرة من السفر والخروج بحرية، لكن بالنسبة لي لا يزال الأمر صعبًا -تذكرت أن الملكة لا تغادر القصر أبدًا- فأنا لم أذهب إلى أوروبا منذ أن كنت في الثالثة عشرة من عمري.. في الواقع، أود أن أذهب إلى أمريكا، لقد أخبرت الملك أن يصطحبني عندما يسافر إلى هناك في المرة القادمة، وهي رغبة طالما كررتها لكن الملك غيور. قلتُ لها: لقد أصبحت النساء أكثر حرية لديكم، هل تعرفين جمعية المرأة الجديدة وما تقوم به؟ فأجابت نعم، أعرف الكثير عنها، إنهم نساء رائعات، وآمل أن تتمتع صغيرتي فتحية بمزيد من الحرية"[39].
***
كانت تومسون قلقة من أن حالة الانبهار التي تملَّكتها من مخالطة نسوة الطبقة العليا المنخرطات في الحركة النسائية المصرية، تقودها إلى أحكام مضللة عن وضع المرأة في مصر، لذا قصدت الريف والبادية لسبر أغوار المرأة المصرية هناك. وبالفعل رأت أمراه أخرى جعلتها تقول إن مصر بلد المفارقات والتناقضات الحادة Egypt is a country of paradoxes، حيث عدم وجود تعليم وضعف البنى التحتية والنظافة، وهناك أجرت بعض المقابلات مع نساء الريف والبدو، فمثلًا تذكر: "قابلت ربة منزل ريفية، تعيش مع أربعة أطفال وزوجها إلى جانب أربع حيوانات وبعض الدجاج، في بيت تعوزه المرافق. تبلغ السيدة خمسة وعشرين عامًا، وتبدو في الأربعين من عمرها، قالت إنها الزوجة الوحيدة لزوجها، وليس هناك الكثير لتقوله عن حياتها، فهي تذهب يوميًّا إلى النهر للحصول على المياه، وإلى السوق مرة واحدة في الأسبوع للحصول على الإمدادات، وتقوم بمهامها البَيتية، وتقضي بعض وقتها في النميمة مع جيرانها". لكن رغم سوء أوضاع الريف فإنهم يأملون في غد أفضل، ولعل أحد أسباب حب الفلاحين لسعد زغلول باشا وسعيهم للتضحية بأنفسهم في النضال من أجل استقلال مصر، أنهم يروْن فيه واحدًا منهم وبفضل العمل الجاد، رفع نفسه إلى مكانة عالية[40].
ثم ما لبثت أن طرقت أبواب البادية بحثًا عن المرأة هناك، ونزلت بمنزل الشيخ شحاتة أحد البدو القاطنين في المنطقة المحيطة بالأهرامات، وهو رجل متزوج بامرأتين، ووفقًا لملاحظات تومسون فإن وضع المرأة هناك ليس جيدًا، بسبب القيود الإسلامية على تعليم الإناث، لكن هذا يخفت تدريجيًّا. وسجلت المؤلفة مقابلتها مع زوجة شحاتة الأولى وهي أم لستة أطفال، خمسة أبناء وابنة واحدة، وهي منصورة، تقول الزوجة: "قبل عشر سنوات، عندما كانت منصورة في الخامسة من عمرها، وعدني شحاتة بأن تتعلم مثل أخواتها، وعندما حاول أن يُوفي بوعده نصحه أحد رجال الدين بحرمة ذلك، كان شحاتة حزينًا لعدم وفائه بنذره، لكنه لا يستطيع أن يعصي أمر رجل الدين[41]".
***
على الرغم من أن كتابات تومسون عن النسوية المصرية جاءت في مرحلة مبكرة من تطور النسوية كحركة عالمية، فإننا يمكن أن نقف على ملمحين –من ملامح المفاهيم النسوية الغربية- ظهرتا في الدراسة. أولًا الصورة التي حاولت أن تضع فيها المرأة المصرية -سواء بنت الطبقة العليا أو المتوسطة أو الفلاحة البسيطة- لا تخرج عن الأنماط الثلاثة في المخيلة الغربية والأمريكية على وجه الخصوص في تصور المرأة الشرقية، وهي إمَّا ضحية اضطهاد النوع الاجتماعي، وإما هاربة من طوق ثقافتها القمعية في جوهرها، أو رهن مشيئة الرجل العربي[42].
ثانيًا: يُلاحظ اتساق الكاتبة مع مفاهيم الحركة النسوية في إعطاء مشروعية لتصوراتها ومفاهيمها، من خلال القيام بتحليل المجتمعات بغية الوصول إلى جذور الاضطهاد للمرأة في نظام المجتمع نفسه، لذا فهي تفتش بغية الوصول إلى الموروث الذكوري الذي تخلَّق حوله النظام البطريركي بقوانينه ونمط تفكيره[43]. والأمر السهل بالنسبة إلى المؤلفة، هو إرجاع جذور الاضطهاد للمرأة إلى التراث الإسلامي ورجال الدين، الذين يحضون المصريين خصوصًا أبناء الطبقات الدنيا على عدم إرسال فتياتهم إلى المدارس.[44]
لكن علينا التأكيد على أن النساء المصريات اللاتي انخرطن في الحركات النسائية في تلك الفترة، لم يعتبرن أو يسمين أنفسهن نسويات، بل إن عملهن كان في إطار مقاومة الاستعمار، فلم تسعَ النساء إلى تطوير علاقات نوعية أو ممارسات اجتماعية جديدة، بقدر ما سعين إلى حماية أنفسهنَّ ووطنهنَّ من الاستعمار، ولم يقمن في تلك الفترة بتركيز نشاطهن في تغيير علاقات النوع غير العادلة، كل ما كان يشغل ذهنهن هو تحرير الوطن.
1- جوديث تاكر ومارجريت مريوذر، النساء والنوع في الشرق الأوسط الحديث: فصول في التاريخ الاجتماعي، ترجمة أحمد علي بدوى، مكتبة الأسرة، القاهرة، ص ص 29، 30.
2- Emily January Petersen, Feminist historiography as methodology: The Absence of International Perspectives, international professional communication journal, 2017, p. 21.
3- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, New York, 1923, p. 20.
4- آمال السبكي، الحركة النسائية في مصر ما بين الثورتين 1919 و1952، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، ص 35. في حين لم يرد شيء عن تومسون في دراسات أخرى مثل: إجلال خليفة، الحركة النسائية الحديثة: قصة المرأة العربية على أرض مصر، المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، 1973. لطيفة سالم، المرأة المصرية والتغيير الاجتماعي 1919-1945، سلسلة مصر النهضة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984.
5- محمد عودة، سبعة باشاوات وصور أخرى، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2005، ص ص 43، 57.
6- Michelle Raccagni, Origins of Feminism in Egypt and Tunisia ; Author, PhD faculty of the Graduate School of Arts and Science, New York University, 1983 .Mona Russell , Creating the new woman: Consumerism, education, and national identity in Egypt, 1863-1922, PhD in history, Georgetown University , 1997.
7- Lucinda H. Mackethan, Grace Gallatin Thompson Seton (1872-1959),Legacy Vol. 27, No. 1 , 2010, pp. 177-194 .
8- Grace Thompson Seton, A Woman Tenderfoot In Egypt, New York, 1923, p. 123.
9- Grace Thompson Seton, "Mme Zaghloul Pasha of Egypt," The New York Times, April 16, 1922,
10- Grace Thompson Seton , The women leaders of modern Egypt, The American review of reviews. v.66 1922 Jul-Dec., 1922, pp. 380. 381.
11- Grace Thompson Seton, The women leaders of modern Egypt, p. 385.
12- يعد عام 1911 نقطة فارقة، حيث شاركت ملك حفني ناصف في المؤتمر الإسلامي بهليوبوليس بتقديم مجموعة مقترحات لخصتها "باحثة البادية" في عشر نقاط، رأت أن المطالب التي قُدِّمت إلى المؤتمر ليتوفر على درسها قد خلت منها، فسارعت إلى تقديمها، وتتلخص في: تعليم البنات الدين الإسلامي الصحيح، السعي في تقليل تعدد الزوجات لغير داعٍ ماسٍّ بقدر الاستطاعة، تعليم البنات التعليم الابتدائي والثانوي، تخصيص عدد من البنات لتعلم الطب وفن التعليم حتى يقمن بكفاية النساء في مصر. للمزيد: مى زيادة، باحثة البادية، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2017، ص 75.
13- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, New York, 1923, pp. 13. 15.
هذا لا يمنع أن تومسون أوردت إشارة متأخرة وسريعة للإرهاصات نابعة من الداخل لحركة التعليم وبخاصة تعليم النساء فذكرت: "في عهد إسماعيل، عندما كان التعليم إلزاميًّا لجزء ليس بقليل من المجتمع، أولت مصر عناية لضرورة التعليم للبنات والأولاد على حد سواء، ولم يعد هناك صعوبة كبيرة في إقناع أولياء الأمور بإرسال أبنائهم إلى المدراس الإرسالية -خاصة بين الأقباط- ولا إلى المدارس الحكومية في المحافظات".
Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, New York, 1923, p 106.
14- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, p. 26.
15- وضعت عفاف لطفي السيد دراسة عن هدية بركات يمكن الرجوع إليها:
Afaf Lutfi al-Sayyid Marsot, The Revolutionary Gentlewomen in Egypt, From the book Women in the Muslim World , Lois Beck and Nikki Keddie (ed), Harvard , 1978
16- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, pp. 26, 28.
17- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, p. 32.
18- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, p. 31, 33.
[19] Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, p. 37.
[20] Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, p. 38, 40.
[21] واصف بطرس غالي (1878-1958) نجل رئيس مجلس النظار بطرس غالي، درس القانون في فرنسا، عمل من عام 1905 إلى عام 1911 مندوبًا لمصر في الدول الأوروبية. منذ عام 1911 كان في فرنسا، وشغل كرسيًّا في الأدب العربي بعد الحرب، عاد إلى مصر. كان عضوًا في حزب الوفد. عين وزيرًا لخارجية مصر أربع مرات: في الأعوام 1924 و1928 و1930 وبين عامي 1936 و1937، وكان الممثل الرئيسي لمصر في مؤتمر مونترو عام 1937. حصل على الصليب الأكبر من جوقة الشرف في عام 1939. وكان مديرًا لشركة قناة السويس من عام 1950 إلى عام 1956.
Arthur Goldschmidt Jr., "The Butrus Ghali Family", Journal of the American Research Center in Egypt, Vol. 30 (1993), p. 182-88.
[22] رياض أخنوخ فانوس طبيب مصري ولد بأسيوط وتلقى تعليمه في جامعة جونز هوبكنز بالولايات المتحدة وأتمَّ دراسته بمانشستر ومارس الطب بمدينة لانكشاير، وهو ابن أخنوخ فانوس المحامي المشهور في أسيوط، الذي رأس المجلس الإنجيلي العام بالقاهرة، وموَّل ونظَّم المؤتمر القبطي الأول في سنة 1911.
The London Gazette,5 May 1936.
23- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, p. 41, 43.
24- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, p. 44.
25- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, pp. 96, 108.
[26] Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, pp. 127.
[27] Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, pp. 134.
[28] Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt , pp. 111. 120.
[29] عاطف باشا بركات الأخ الأصغر لـفتح الله باشا، بركات نفى مع زعماء ثورة 1919 إلى جزيرة سيشل، جمع بين تعليمه في دار العلوم وتعليمه في إنجلترا، وعمل ناظرًا لمدرسة القضاء الشرعي التي أنشأها وأعطاها زهرة عمره وقضي فيها أربعة عشر عامًا (1907/1921)، وقد استطاع عاطف بركات أن يجعل من هذه المدرسة معهدًا علميًّا، وألغيت مدرسة القضاء الشرعي سنة 1928. وقد تمت إحالته إلى المعاش في حكومة توفيق نسيم الأولى سنة1921 وقد توفي سنة 1924 ورثاه أحمد شوقي بقصيدة طويلة رائعة.
محمد عبدالوهاب غانم، أثر مدرسة القضاء الشرعي على الفكر الإسلامي المعاصر، دار المقاصد، إسطنبول، 2018.
30- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, pp.42, 43
31- تأسست جمعية المرأة الجديدة بعد اجتماع نخبة من السيدات في منزل حسين بك ثابت بدعوة من كريماته وكان من بين الحاضرات حرم محمد بك صدقى وحرم الدكتور بهي الدين بركات. وأعادت هدى شعراوي إحياءها في 1920م. مبرة محمد علي منظمة خيرية مصرية تأسست في القاهرة في عام 1909. كانت أصول المنظمة في عيادة صحية أسستها الأميرة عين الحياة رفعت زوجة الأمير حسين كامل في عابدين، ونصت الأميرة على أن يكون رئيس المنظمة دائمًا أميرة من العائلة العلوية، وأن يكون جميع أعضاء الجمعية من النساء.
للمزيد درية شفيق، المرأة المصرية من الفراعنة إلى يومنا هذا، القاهرة، 1955، ص 144. محمد عبدالغني حسن، حياة مي، مطبعة المقتطف والمقطم، 1942، ص 48.
32- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, p. 48, 52.
33- محمود صدقي طبيب من رجال الإدارة بمصر. ولد بالغربية وانتقل إلى القاهرة، فتعلم بمدرسة الطب، وأرسل في بعثة إلى باريس، وعاد طبيبًا (سنة 1878) وعين مدرسًا للتشريح الخاص بمدرسة الطب، فمفتشًا لصحة مصر، فوكيلًا لمصلحة الصحة العامة، فمحافظًا للقاهرة (1906-1909) وتوفي بالإسكندرية. له كتاب: إرشاد الخواص في التشريح الخاص، جزآن. شاركه في تأليفه الدكتور محمد أمين. سليم عبابنة، معجم أعلام الطب في التاريخ العربي الإسلامي، دار البيروني للنشر والتوزيع، عمان، 2010، ص 314.
34- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, p. 48, 52.
35- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, p. 92, 95.
36- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, p. 55, 57.
37- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, p. 57, 60.
38- السير والتر كونجريف (20 نوفمبر 1862-28 فبراير 1927)، كان ضابطًا في الجيش البريطاني في حرب البوير الثانية والحرب العالمية الأولى، واصل خدمته الحربية ليصبح ضابطًا عامًّا يقود الفيلق السابع في عام 1918، ثم القائد العام لقوة المشاة المصرية بين عامي 1919 و1923 ثم القائد الأعلى للقيادة الجنوبية بين عامي 1923 و1924. من عام 1924 إلى عام 1927، شغل منصب حاكم مالطا، وحاكم مالطا من 1924 إلى 1927 وحصل على صليب فيكتوريا.
للمزيد Ian F. W. Beckett, Congreve, Sir Walter Norris (1862–1927), Oxford ,2004
39- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, p. 70, 74.
40- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, pp. 77, 80.
41- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, pp. 90, 92.
42- Mohja Kahf, Packaging “Huda”: Sha'rawi's Memoirs in the United States Reception Environment , search in “Going Global” book , Amal Amireh, Lisa Suhair Majaj (ed), New York, 2000, p. 149.
43- أنورادها غاندي، الاتجاهات الفلسفية في الحركة النسائية، ترجمة إبراهيم يونس، اشتباك عربي، القاهرة، 2022، ص 15.
44- Grace Thompson Seton, A woman tenderfoot in Egypt, p. 106.
وإن كانت تومسون قد أوردت إشارة سريعة إلى أن هناك أصوات أخرى أخذة في الازدياد تريد أن تؤكد أن الدين الإسلامي لا يمانع تعليم المرأة، فمثلا نشر عطا حسين بك تقريرا عن مؤتمر تعليمي للمسلمين عقد في دلهي عام 1911، وجهت خلاله الأميرة جهان بيغوم Jahan Begum أميرة بوبال وسط الهند نداء قويا لتعليم الفتيات المسلمات قائلة: "إن فتيات اليوم سيكنَّ أمهات المستقبل، وعليهنَّ أن يتحملنَّ مهمة تربية المجتمع بأسره، إهمال الرجل لتعليم المرأة يشكل ضررا للرجال أكثر من النساء". كذلك التداول الكبير في مصر للمجلة الأسبوعية المصورة عالم المرأة والتي تصدر في القسطنطينية وتتعلق بحقوق المرأة المسلمة