عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

مراجعات

زكريا صادق الرفاعي

كتاب: الهويات في بداية الصحافة العربية.. لويس صابونجى نموذجًا

2025.03.22

مصدر الصورة : آخرون

كتاب: الهويات في بداية الصحافة العربية.. لويس صابونجى نموذجًا

 

ما زال التاريخ المبكر للصحافة العربية يحتفظ في جعبته بكثير من الخفايا والأسرار، وقد سعى هذا الكتاب[1] من جانبه إلى رصد وفهم قضية الهوية لدى المثقفين العرب في سوريا ولبنان في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وتداعيتها اعتمادًا على مسيرة وأعمال لويس صابونجى (1838-1931) باعتباره نموذجًا لمثقفي عصره. كانت بيروت آنذاك واحدة من المراكز الثقافية المهمة وصدرت عن مطابعها كثير من الأعمال المتنوعة، كما كانت منبرًا للصحافة العربية في الفترة من 1858-1880 وكان لافتًا للانتباه بحسب ما أشار روجر فاسر (الباحث مؤلف الكتاب) تعدد إشارات الصحفيين في التعبير عن أنفسهم وذواتهم حينئذ كيفما اتفق، فهم تارة عثمانيون وسوريون، وتارة أخرى شرقيون وعرب. وكان خليل الخوري[2] من أوائل من استخدموا مصطلح "الأمة العربية" في عام 1859 وهكذا تنوعت وتباينت الهويات، ربما بقصد أو بغير قصد.

ولويس صابونجي الشخصية الرئيسة للكتاب لا نعرف عنه الكثير، والدراسات حوله جد محدودة، وقد اختار الرجل التواري دومًا في الظل رغم تعدد أدواره في عالم السياسة والصحافة، وكانت ملكاته ومواهبه استثنائية، فأجاد أكثر من عشر لغات ودرس الرياضيات والكيمياء، وعمل في كل المهن من صناعة الأحذية إلى صناعة الملابس والسجاد، كما أتقن صناعة الدواء، بل جادت قريحته المبدعة باختراع آلة للتصوير بتقنية جديدة، وجاب أصقاع المعمورة شرقًا وغربًا من بيروت إلى مصر فأوروبا ثم الصين واليابان، وحطت به خطى الترحال في الولايات المتحدة للمرة الثانية، وظل بها حتى وفاته الغامضة وحيدًا في عام 1931 وقد ناهز التسعين عامًا، ليجسد بامتياز ما يمكن أن ندعوه بالرجل العنقاء.

وإضافة إلى المقدمة والخاتمة اشتمل الكتاب على ستة فصول، فعرض الفصل الأول قضية المنهج والنظرية في دراسات الهوية، وتناول الفصل الثاني السياق التاريخي للهويات المتعددة لا سيما وأن صابونجى كما أوضح الباحث عمل في مدن مختلفة حول العالم، فكتب وهو في بيروت والقاهرة وإستنابول ولندن ونيويورك، ومن ثم ليس هناك سياق تاريخي واحد جامع لكل أعماله وإن كان التركيز أكثر في كتاباته في بيروت، كما عرض الفصل أيضًا لنظير صابونجى اللامع وهو بطرس البستاني (1819-1883) وكان نشيطًا ومعروفًا بتعاونه مع البعثات البروتستانتية وكتب باستفاضة عن "التوحش" و"التمدن" ومعنى "النهضة العربية " و"الإحياء العربي" لدى المثقفين والكتاب العرب آنذاك[3].

وقدم الفصل الثالث ولعله أهم فصول الدراسة عرضًا لمحطات حياة لويس صابونجي اعتمادًا على مخطوطة السيرة الذاتية التي أُنجزت عنه في عام 1890 من قبل جورج فورست عالم الرياضيات البريطانى المشهور(1816-1896)، وقد تعلم العربية على يد صابونجي ولم تزِد مخطوطة فورست على الخمسين صفحة فقط، وحُفظت في مكتبة جامعة إستنابول ويبدو أنها كتبت في حياة صابونجي لأنها لم تتضمن أي انتقادات سياسية، ويبدو أنها كانت معروفة للمعاصرين، مثل: الكونت فيليب طرزي[4] الذي كتب عن صابونجي ضمن كتابه الصادر في عام 1913 وكان صابونجي ما زال على قيد الحياة، وربما كان على صلة به، فكلاهما من رعايا الكنيسة الكاثوليكية السريانية وأقاما في بيروت في عام 1870، واختص الفصل الرابع باستعراض أوجه التنافس والصدام بين مجلة "النحلة" التي أصدرها صابونجى و"الجنان" لصاحبها بطرس البستاني، وتصدى الفصل الخامس لطبيعة النزاعات بين مجلة النحلة والجماعات المارونية، وتتبع الفصل السادس والأخير محطات صدور النحلة في لندن خلال الفترة من عام 1877 إلى عام 1880.

وحظى صابونجي كما ذكر الباحث باهتمام الباحثين منذ النصف الأخير من القرن العشرين، فكتب جين فونتاني دراسة عامة عنه في عام 1969 وخاصة عن مواقفه الدينية، وفي عام 1978 ظهرت مقالة المستشرق المعروف ليون زولندك الأستاذ بالجامعة الأمريكية في بيروت وقد غطت السنوات التي أقام فيها صابونجى في لندن من عام 1876 إلى عام 1890، خاصة علاقة صابونجي بولفريد سكاون بلنت والأرستقراطية البريطانية، كما كتب مارتن كرامر مقالة حول المراسلات المبكرة بين بلنت وصابونجي، وفي عام 1998 نشر عزمي أوزكان دراسة ببلوغرافية عن صابونجي في ضوء المصادر التركية.

النشأة والتكوين

 وُلد لويس صابونجي في دريك التي عرفت بالعربية باسم الجزيرة القريبة من ديار بكر، وكان والده يعقوب صابونجي مهندسًا معماريًّا لدى الحكومة التركية. وفي سن الحادية عشرة ارتحل من ديار بكر إلى جبل لبنان للالتحاق بالمدرسة ووصفها بأنها كانت غير جيدة ولم تعلم الأطفال شيئًا، وسرعان ما تركها واتجه إلى حلب. وفي الرابعة عشرة من عمره التحق بالسلك الديني، وسرعان ما تم ترشيحه للدراسة في الكلية الكاثوليكية بروما التي أنشئت منذ القرن السابع عشر لإعداد كوادر مؤهلة لتولي المناصب الدينية في أوطانها وقد التحق بها منذ عام 1855، واستمر بها ثماني سنوات ونصفًا، حيث نال الدكتوراه ليعود بعدها إلى بيروت مجددًا، فتم ترسيمه كاهنًا في عام 1863. لكنه ترك المجال الديني وانخرط في مجال التعليم الخاص الذي كان رائجًا آنذاك، فأنشأ المدرسة السريانية وعمل محاضرًا للغة اللاتينية بالجامعة الأمريكية، ومعلمًا خاصًّا في الوقت نفسه لأبناء فرانكو باشا الحاكم العثمانى لجبل لبنان. وإلى جانب التدريس أصدر صابونجي ثلاثة كتب، كان أولها: "أصول القراءة العربية والتهذيبات الأدبية"، وصدر في عام 1866، والثانى كان بعنوان: "المرآة السنية في قواعد العثمانية"، وهو ترجمة عن اللغة التركية، والكتاب الأخير عن ديوان الشاعر المعروف عمر بن الفارض، وصدر في بيروت في عام 1868.

ويمم صابونجي شطره تجاه الصحافة فأصدر مجلة النحلة في مايو 1870 في بيروت وكانت أسبوعية، وقد بلغ عدد صفحاتها ست عشرة صفحة، وتنوعت القضايا التي عرضتها باستثناء الدين والسياسة واعتبرها الكونت طرزي أم المجلات العربية في حسن تبويبها وترتيب موادها وكثرة مباحثها، واستمرت ثمانية أشهر فقط وبعد صدور العدد الحادي والثلاثين في ديسمبر من عام 1870 أمر راشد باشا والي سوريا بتعطيلها، ومن المجلات المواكبة لها الجنان لبطرس البستاني كما عمل صابونجي خلال تلك الفترة في التصوير الفوتوغرافي وأجرى تجارب جديدة في هذا الشأن ونجح في تعليم أخيه جورج تقنية جديدة وأصبح أخوه لاحقًا من ألمع المصورين في بيروت.

 وزار صابونجي مصر في عام 1871[5] وأصدر فيها "النحلة الحرة"[6] ومن ثم كان في طليعة المثقفين الشوام الذين وفدوا إلى مصر مبكرًا، واهتمت النحلة بجمال الدين الأفغاني واعتبرته أكبر مصلح إسلامي في عصره، وقرظت في أكتوبر من عام 1878 مقالته المنشورة في جريدة "مصر" التي انتقد فيها بشدة سياسات بريطانيا تجاه أفغانستان، ولاحقًا التقى صابونجي الأفغاني في باريس في عام 1883 ومعه يعقوب صنوع (1839-1912) المعروف بأبو نظارة وأصدر صحيفته بين عامى 1877-1907 في باريس ونشر صابونجي بها عديدًا من المقالات.

وفي عام 1872 اتجه صابونجي إلى الولايات المتحدة للمرة الأولى، فمر بنيويورك ونيوجرسي وشيكاغو وسان فرنسيسكو، ومن اللافت للانتباة ما نشره في الولايات المتحدة، ويبدو أنها كانت محاضرة تاريخية له بعنوان: من الأم القديمة فينيقيا إلى ابنتها الصغيرة أمريكا، وقد أشار فيها إلى معاناة المسيحيين في سوريا التي كانت تابعة للدولة العثمانية آنذاك، وشن هجومًا غريبًا على الإسلام دون الإفصاح عن أسبابه، كما اتجه صابونجي في عام 1873 إلى شرق آسيا فزار اليابان والصين.

صابونجي في لندن

كانت إقامته في لندن منذ عام 1875 والتي استمرت أربعة عشر عامًا من أخصب فترات حياته، وعقب سنوات قليلة صارت له شبكة علاقات واسعة النطاق من الشخصيات البارزة، مثل السلطان برغش[7] سلطان زنجبار، والخديوي إسماعيل في مصر، واستطاع بمساعدتهما استعادة نشاطه الصحفى وتمكن من إصدار النحلة مرة أخرى في عام 1877 وظلت تصدر إلى عام 1880، كما تعاون صابونجي مع رزق الله حسون (1824-1880) صاحب جريدة "مرآة الأحوال"، كما أصدر في تلك الفترة جريدة "الاتحاد العربى" وجريدة "الخلافة" وعندما زار سلطان زنجبار لندن في عام 1879 رصد صابونجي يوميات الزيارة وأصدرها في كتابه المعروف "تنزيه الأبصار والأذهان في رحلة سلطان زنجبار" وقد طُبع أكثر من مرة، وقد قدم حسون صابونجي إلى المستشرق البريطاني المعروف جورج بيرسي بادجر (1815-1888)، وهو مؤلف القاموس العربي-الإنجليزي، وذكر بلنت من جانبه أن القاموس في أغلبه كان من عمل صابونجي.

وعندما توقفت النحلة عن الصدور في عام 1880 التحق صابونجي للعمل بضع سنوات مع السياسي والرحالة المعروف وليفريد سكاون بلنت (1840-1922)، ويبدو أنه تعرف إليه من خلال زوجته آن بلنت (1837-1917) التي تلقت دروسها في العربية على يديه، وصار صابونجي وسيطًا وترجمانًا خاصًّا لبلنت، وأرسله إلى مصر في مهمة خاصة للقاء أحمد عرابي ورجالات الثورة العرابية، وكان صابونجي شاهدًا على القصف البريطاني للإسكندرية في يوليو من عام 1882، ورغم العلاقة الوثيقة بين الرجلين فإن بلنت كثيرًا ما أشار إلى صابونجي بصورة سلبية في كتاباته ويبدو أن كليهما لم يكن يثق بصاحبه، وكان لقاؤهما الأخير عندما ذهبا معًا إلى سيلان في عام 1883 للقاء أحمد عرابي في منفاه، وبعد هذا اللقاء مضى كل منهما إلى حال سبيلة دون معرفة الأسباب التي أدت إلى القطيعة بينهما.

وكان مثيرًا للانتباه التحول الكامل في نظرة صابونجي تجاه عرابي ورفاقه، ووصفه لعرابي بأنه أكبر كاذب التقاه في حياته، واتهمه بالعجز عندما زحفت القوات البريطانية لاحتلال مصر والاكتفاء بالدعاء وتلاوة الأوراد، ولم يكن ذلك الوصف في مجلته النحلة فحسب بل أيضًا في السيرة التي كتبها عن عرابي ولم تنشر[8]، ورأى البعض أن ذلك التحول حدث بعد أن وجد صابونجي راعيًا جديدًا له وهو الخديوي إسماعيل الذي قابله في نابولي، والذي أكد له "أنه لو ظل حاكمًا لمصر لما جرؤ عرابي على رفع إصبعه"، وكان صابونجي من أوائل من انتقدوا الخلافة العثمانية حينما أصدر جريدة الخلافة ودعا إلى حتمية وجود خلافة عربية تحل محل الخلافة العثمانية.

الالتحاق بمعية السلطان

عمل صابونجي لفترة قصيرة كوسيط تجاري بين الحكومة العثمانية وبعض المستثمرين الإنجليز المكلفين بتحديث البنية التحتية للدولة، ولكنه سرعان ما وطد علاقته مع منيف باشا وزير التعليم ومن خلاله التحق بالعمل في معية السلطان عبدالحميد الثاني (1876-1909) سكرتيرًا ومترجمًا للصحف الأوروبية وأنعم عليه بمنزل في أفضل ضواحي الآستانة، كما اتخذه معلمًا لولده برهان الدين وأُلحق عضوًا بالمجلس الكبير لنظارة المعارف وظل على هذا النحو إلى عام 1909 عندما عزل السلطان بواسطة رجال الاتحاد والترقي، وظل صابونجي في تركيا ويقال إنه حصل آنذاك على الجنسية الإيطالية، وعند نشوب الحرب العالمية الأولى اتجه صابونجي إلى مصر وعقب نهاية الحرب ارتحل مهاجرًا إلى الولايات المتحدة وظل فيها حتى وفاته الغامضة في عام 1931، ومن عجائب أعماله رسم لوحة كبيرة طولها أربعة أمتار وارتفاعها ثلاثة أمتار واستغرق في إخراجها سنوات طويلة وهى بمثابة تجسيد للمذاهب والأديان على مر التاريخ، كما تضمنت صور 660 شخصًا، الذين هم رموز تلك المذاهب، وشرحًا وافيًا لعقائدهم وطقوسهم، وكُرم صابونجي من شاه إيران بوسام شير خورشيد، ونال الوسام العثماني ووسام الكوكب الدري من سلطان زنجبار، وقد سرد الكونت طرزي مؤلفاته العديدة والمتنوعة والكثير منها لم يُطبع، مثل: "تاريخ فتنة حلب سنة 1850"، "تاريخ فتنة لبنان وسوريا في سنة 1860"، "تاريخ الثورة العرابية في الديار المصرية 1882"، "الحق القانوني"، "مشاهير الرجال"، "الأصول المنطقية -بحث في الفلسفة العصرية والقديمة"، "مختصر تاريخ جميع الأديان". ولعل دراسة فاسر في نهاية المطاف تكون فاتحة لدراسات أخرى حول لويس صابونجي وتميط معها اللثام عن جوانب مجهولة من الصحافة العربية في أوروبا، وصلات لويس صابونجي بأحمد عرابي والأفغاني ومحمد عبده، وغيرهم من رموز النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر.


1- هذا الكتاب في الأصل هو أطروحة قدمت لنيل درجة الدكتوراه.

2- أصدر الخوري جريدة "حديقة الأخبار" في بيروت في عام 1858.

3- بطرس البستاني كاتب وأديب معروف أصدر مجلة "نفير سوريا"، و"الجنان"، بالتعاون مع ابنه سليم كما أصدر عمله الموسوعي "دائرة المعارف".

4- الكونت فيليب طرزي (1865-1956) له كثير من الكتابات، منها دراسته المرجعية "تاريخ الصحافة العربية" وقد طبع مرارًا.

5- بدت مصر آنذاك محطة رئيسة لكل طموح وصاحب مشروع فكري أو سياسي، فوفد على مصر في نفس العام جمال الدين الأسد أبادي المعروف بالأفغاني، كما وفدت على مصر لاحقًا موجات متتالية من الشوام، مثل: آل تقلا وأديب إسحاق ويعقوب صروف وشبلي شميل وشاهين مكاريوس وجورج زيدان.

6- أشار البعض إلى إصدار النحلة في القاهرة في هذا التاريخ وكتب في افتتاحيتها "إن النحلة الحرة تطبع في بلاد حرة تنشر عند اللزوم ودون ميعاد"، راجع، محمود عزت، دار الهلال مدرسة التنوير، القاهرة، 2011.

7- هو سعيد بن سعيد البوسعيدي وكان سلطانًا لزنجبار من عام 1870 إلى عام 1888.

8- لا نعلم شيئًا عن تلك المذكرات وهل نشرت أم لا وهي مهمة باعتباره شاهد عيان للأحداث.