مراجعات
أنس غنايمالإسلام الحداثي ورواده
2019.03.01
عرض كتاب: رواد التجديد في الإسلام 1840م – 1940م
تحرير: تشارلز كورزمان
الناشر: جسور للترجمة والنشر
سنة النشر: 2018
الإسلام الحداثي ورواده
ينتمي كتاب (رواد التجديد في الإسلام 1840-1940) - تحرير: تشارلز كورزمان- إلى الكتب المرجعية (Source books)، والتي يُقصد منها عادةً تكوين رؤية قاصدة تجاه الموضوع المبحوث، ومهادًا موضوعيًّا يُمثل مرجعًا جامعًا للباحثين.(1) ينصب عمل كورزمان في هذا الكتاب على تقديم ترجمات تعريفية لقرابة خمسين عالمًا ومصلحًا يندرجون ضمن تقليد دينيٍّ يصطلح عليه كورزمان بـ “الإسلام الحداثي”. وعلى الرغم من كون الكتاب «مرجعيًّا» إلا أن قيمة المادة المعرفية التي حواها الكتاب تركزت أساسًا في مقدمة المحرر، بحيث نجح كورزمان في ربط مقالات الكتاب المتناثرة في عقد ممسودٍ، ومتين، يوضح الصورة الإجمالية لأفكار المسلمين الحداثيين.
وبذلك بدا العمل ضعيفًا من جهة المعالجات البحثية الحقيقية للشخصيات المُترجم لهم، إذ لم يتجاوز التناول الترجمي أو
السِّيَري (Biography) لأعمالهم عن تضمينات عامة لنصوص مختارة من كتبهم، ومجلاتهم، من غير دراسة تفصيلية للنص الذي تم إيراده، أو دراسة تفصيلية لعموم أعمالهم، والاكتفاء بما تم الإشارة إليه في مقدمة كورزمان، واقتراح دراسة سبق لها وأن قامت بدراسة شاملة عن المُترجَمِ له في كل فصل. أهمية مقدمة كورزمان(2) آتيةٌ من معالجته المُركزة والكثيفة، التي حاولت رصد قيم التحديث التي اشتملت عليها أعمال المفكرين. وهنا يحسن بنا الالتفات إلى بعض إشارات كورزمان الذكية واللماحة في دراسته لأعمال المفكرين الحداثيين المسلمين، مع الوقوف على بعض الملاحظات النقدية التي رافقت إخراج الكتاب في نسخته العربية.
الترجمة بوصفها تحريفًا للكلم عن مواضعه
قبل تحديد الأفكار العامة التي جعلها منها كورزمان العقد الذي ينتظم فيه «إسلام الحداثيين»؛ تجدر الإشارة إلى أن مُترجم الكتاب عمد إلى تغيير عنوانه من «الإسلام الحداثي» في أصله الإنجليزي (MODERNIST ISLAM) ليصير في نسخته العربية “رواد التجديد في الإسلام”. وبذلك يكون تصرف المترجم في ترجمته لعنوان الكتاب عملًا غير موفق قط. إذ أن لفظة التجديد التي اقترحها المترجم تعجز عن إيضاح مقصد كورزمان بالحداثي. وآية ذلك أن التجديد وإن كان في صُلب العمل التحديثي إلا أنه غير كافٍ لتوضيح اشتغال المفكرين الحداثيين المسلمين كما وضح كورزمان في كتابه.
ويبدو أن توجس المترجم/الناشر من الدخول في جدل «الإسلام» و«الإسلامات»(3)هو الذي دفعه لتغيير العنوان من الحداثة إلى التجديد، خصوصًا وأن لفظة التجديد لها مقبولية جيدة في مجالنا العربي بناءً على فكرة المجدد الديني في الإسلام الذي يظهر كل مئة عام. ومن المعلوم أن هذا الجدل يتناول طبيعة الخبرة التاريخية وأثرها في إنتاج الأنماط الدينية المتباينة، بحيث يضحى الحديث عن «الإسلام» لا معنى له من غير استحضار طبيعة هذا الإسلام (إسلام ليبرالي، أو صوفي، أو حداثي، أو ماركسي، أو شيعي، أو فقهي..) وكأن الإسلام كدين لا يمتلك شيئًا ثابتًا ليقوله، بل يتموضع وفقًا للقراءة التي يُقارب من خلالها.
من هم الحداثيون المسلمون؟
حاول كورزمان تعريف المسلم الحداثي من خلال استحضاره عدة محكات يمكن اعتبارها حدودًا عامة، تجمع عددًا كبيرًا من المفكرين المسلمين منذ منتصف القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر(4). أولى هذه المحكات بحسب كورزمان «التبني الواعي لقيم الحداثة»، وهنا يشدد كورزمان على كون الحركة الإسلامية الحداثية ليست حديثة فقط، بل إنها تسعى لخلق جو من الوفاق بين القيم الحداثية والدين الإسلامي، وهي بذلك تختلف عن عديد من التيارات المزامنة والتالية لها:
1- المؤسسة العلمائية التقليدية التي تقطع مع هذه القيم الحداثيّة، من غير التفكير فيها بدايةً، (التقليد).
2- حركات الإصلاح الإسلامية التي تقطع مع هذه القيم الحداثيّة، والتقليل من شأنها من خلال الارتداد الهوياتي الذي يعمد لنفي القيم الحداثيّة عبر الاكتفاء بما لدينا من قيم إسلامية، (الأصالة).
3- الحركات العلمائية التي تتبنى القيم الحداثية، مع نفيها إمكانية التوافق بين هذه القيم، والقيم الإسلامية، بل وجعل القيم الإسلامية معوقًا من معوقات التحديث، والاتجاه صوب القيم الحداثيّة. (القطيعة)
التحديات المركبة: من السياسي إلى الثقافي
يشير كورزمان إلا إن المسلمين الحداثيين واجهوا ما لم يواجهه غيرهم من الإصلاحيين السابقين، ألا وهو «تحدي الحداثة». فلم تكن الحداثة محض مجموعة من المُثل والأفكار المنسلخة عن الواقع، يُكتفى بكتاب من قبيل «الرد على الحداثة» لتجاوزها أو الرد عليها كما يفعل البعض اليوم.(5) بل كانت وضعًا تاريخيًّا وسياسيًّا غير مسبوقٍ، ارتبط أساسًا بالتوسع الإمبريالي الأوروبي، وما فرضه من تحدياتٍ خمس بحسب كورزمان:
1- التحدي العسكري وتطور الأنظمة الحربية، التي سمحت للأوروبيين بغزو مناطق كبيرة من العالم الإسلامي.
2- التحدي الاقتصادي من خلال سيطرتها على طرق التجارة، واستحداث عديد من الصناعات، والمخترعات غير المسبوقة.
3- التحدي المعرفي من نظم المعرفة التي أنتجها.
4- التحدي السياسي وبناء النظم السياسيّة القوميّة الحديثة.
5- التحدي الثقافي بمعناه العملي من مسارات وسلوكيات غير مألوفة في العالم الإسلامي.
سلطتا الماضي والاعتماد:
يرى كورزمان أن المسلمين الحداثيين واجهوا تحديًا إضافيًّا على «تحدي الحداثة» وهو التحدي الداخلي الذي يمكن تسميته بـ «ممانعة قوى الوضع القائم». وهنا يتحدث كورزمان عن قوتين، أو سلطتين جعلتا من خوض رجالات الفكر الحداثي الإسلامي مغامراتهم الفكرية أشد كلفةً. السلطة الأولى تمثلت في (سلطة الماضي) التي رفضت الممارسات الاجتهادية، وضيقت على أصحابها، وهنا يشير كورزمان إلى عملية اقتياد السلطة العثمانية العلماء والشيوخ بتهمة الاجتهاد.(6)
وأما السلطة الثانيّة تمثلت في (سلطة الاعتماد)، فعلى فرض سماح رجال التقليد للمسلمين الحداثيين بالاجتهاد، فإن عملية النفي من مجال التأثير ممنوعة عليهم، وهذا مرتبط بامتلاك السلطة العلمائية التقليدية لمفاصل التعليم، والقضاء، والإفتاء، والخطب الجمعية ونحوها. ومن هنا يمكن قراءة ذيوع فكرة المجلات، والصحف الحديثة، عند غالب رجال الحداثة الإسلامية، وكذلك إنشاء وتأسيس المعاهد التعليمية الحديثة، والمسارح، والكتابة الروائية، وغيرها من وسائل التأثير المعروفة آنئذ.
بين الغربي والكولونيالي
يشير كورزمان في عمله إلى قدرة الرواد المسلمين الحداثيين على تجاوز التوتر القائم بين القيم الحداثية الغربية، والممارسات الكولونيالية التي ترافقت مع حملة هذه القيم من الغربيين، إذ استطاعوا التمييز بين الغربي والكولونيالي، ولم تعقهم الدعوة إلى «جهاد المستعمر» والمشاركة في حركات التحرر العربي والإسلامي، من الاستفادة من القيم الحداثية الغربية، المتعلقة بالتعليم الحديث، وإنصاف المرأة، والحراك الدستوري، والدولة الحديثة، وتجديد القول الديني.
موسوعة الإسلام حداثي الامتياز والتعثّر
إشارات كورزمان الثرية كثيرة ولا يتسع المجال لذكرها، مثل حديثه عن التباينات العريضة في التيار الإسلامي الحداثي، على الرغم من وجود أقدارٍ متفق عليها عند غالبهم، إلا أن الاختلاف لم يكن غائبًا عن هذا التيار (الموقف من التصوف، والتعليم الديني، والسلطة الاستعمارية..)، بالإضافة إلى إشارته لوجود آباء لهذا الإسلام الحداثي، يرجع غالب الأبناء إليه (عبده، والأفغاني، ورضا..)، وإشارته إلى لحظة أفول الإسلام الحداثي.
ومن الإشارات الذكيّة واللافتة في هذا العمل؛ التنبيه على الإسلام الحداثي غير العربي. أي الحديث عن جهود مفكرين، ومصلحين مسلمين، لا نكاد نعرف عنهم شيئًا، إما لبعد المكان، أو لاختلاف اللسان. وبذلك يخرج كورزمان عما يسميه مارشال هودجسون بـ«المزاج الاستعرابي»(7) في الفكر الغربي، والعربي على السواء؛ حال الحديث عن الإسلام. لأجل ذلك عمد كورزمان إلى تقسيم الكتاب على ست قارات أو مناطق جغرافية:
1- أفريقيا.
2- إيران وأفغانستان.
3- الدولة العثمانية.
4-الإمبراطورية الروسية.
5- جنوب آسيا.
6- جنوب شرق/شرق آسيا.
في كل نطاقٍ جغرافي تكلم عن قرابة عشرة مفكرين. ففي الحديث عن أفريقيا تناول كلا من: (رفاعة رافع الطهطاوي، وخير الدين التونسي، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وباحثة البادية، ومحمد رشيد رضا، والشيخ الأمين بن علي المزروعي، وعبد الله عبد الرحمن، وعبد الحميد ابن باديس، ومحمد أحمد محجوب) وبالمرور على كلٍ من إيران وأفغانستان تم الحديث عن: (جمال الدين الأفغاني، وميرزا مالكوم خان، ومحمد حسين نائيني، ومحمود طرزي) أما الدولة العثمانيّة فكان لها النصيب الأكبر من التراجم، إذ جاء الحديث عن:
(عبد القادر الجزائري، وعلي سوافي، ونامق كمال، وشمس الدين فراشري، وعبد الرحمن الكواكبي، ومحمود شكري الألوسي، وعبدالله جودت، وموسى كاظم، وجمال الدين القاسمي، ومنصوري زاده سعيد، وضياء جوك ألب، وجمال الدين تشاوشيفيتش، وعبد القادر المغربي، وخالدة أديوار) والإمبراطورية الروسية: (إسماعيل باي جاسبرينسكي، ومنور قاري، وأحمد أجاييف، عبدالله بوبي، ورضا الدين بن فخر الدين، وعبد الرؤوف فطرت، وموسى جار الله بيجي، وموسى بهيودي، وعبد الحميد شلوبان) وجنوب آسيا: (خواجا ألطاف حسين حالي، وشيراج علي، وسيد أحمد خان، ومحمد إقبال، ومحمد عبد الخضر مولوي، وأمير علي، وأبو الكلام آزاد، ومحمد أكرم خان). وجنوب شرق/شرق آسيا (أعضاء صحيفة الإمام، وأحمد دحلان، أحمد سوركتي، الحاج أجوس سالم، وأحمد حسن، ومحمد هاشم الأشعري، ويعقوب وانج تشاي(.. وبالمقارنة بين عمل كورزمان، وبين أبرز موسوعة تأريخية للفكر النهضوي الإسلامي، الذي لا يبتعد كثيرًا عن «الإسلام الحداثي» أي موسوعة (محمد رجب بيومي، النهضة في سير أعلامها المعاصرين، 6ج) نجد أن الفرق بين الأسماء التي استحضرها كورزمان، والأسماء التي استحضرها بيومي لم تخرج في غالبها عن النطاق العربي إلا قليلًا، مع بقاء ملاحظة ضعف المعالجات النقدية، والبحثية في عمل كورزمان، مقارنة بأعمال غيره في العربية أو الإنجليزية؛ من قبيل أعمال رضوان السيد، ويجيا نجاريان، وألبرت حوراني، وهشام شرابي، وإبراهيم أبو الربيع.
الهوامش:
1 للأسف؛ فإن ثقافة «الكتب المرجعية» التي يتعاهد على تأليفها غير واحد من المختصين في الموضوع المطروح، تكاد تكون غائبة في عالمنا العربي، في الوقت الذي يُصدّر فيه العالم الغربي سلاسل كاملة تعنى بالكتب المرجعية، مثل سلسلة بلاكويل، وروتليدج وغيرهما.
2 جاءت مقدمة كورزمان في قرب الـ 70 صفحة من مجموع صفحات الكتاب البالغة 767 صفحة في نسختها العربية.
3 جدل «الإسلام» و«الإسلامات» من الأفكار التي تذيع وتنتشر من غير واحد من المفكرين العرب المعاصرين، حيث نجد آثارها عند محمد أركون في غالب كتبه. انظر على سبيل المثال كتابه «النزعة الإنسية في الفكر العربي». ويمكن كذلك الاطلاع على موسوعة الكتب التي أشرف على إصدارها ع. م. الشرفي (لإسلام واحدًا ومتعددًا)، وما تُضمره هذه الفكرة يتحدد في أمرين تقريبًا:
1- غياب الحقيقة الموضوعية في الإسلام.
2- انفتاح الإسلام على عدد غير محدود من القراءات والتأويلات. ولنقد هذه الفكرة ينظر (محمد الطالبي، ليطمئن قلبي. ولعبد الجليل الكور كلام مهم في كتابه عن الإسلام والحداثة حول هذه النقطة).
4 لم يوضح كورزمان سبب اختياره هذه المرحلة التاريخية بشكل جيد.
5 يُلاحظ انتشار العقليّة الكلامية اليوم في عالمنا العربي إزاء التعامل مع الحداثة، وكأن الحداثة محض فكرة تنتمي إلى المعجم الفلسفي والفكري، يُكتفى بتأليف كتاب يجيء على صيغة (الرد على الحداثة) لتجاوزها (الرد على المعتزلة على سبيل المثال).
6 هذه الإشارة تتفق مع ما أورده المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني من أن جمال الدين القاسمي سجن لعثور السلطات العثمانية على بعض كتب الحديث النبوي في منزله، ولأن كتب الحديث من المصادر الأصلية؛ فمظنة الاجتهاد هاهنا أكثر تأكيدًا. ينظر (كوثراني، الذاكرة والتاريخ).
7 المزاج الاستعرابي من الأفكار التي حاول مارشال هودجسون نقدها في كتابه مغامرة الإسلام (The venture of islam) أي النظر إلى الإسلام بوصفه موقوفًا على العرب، مكانًا وفكرًا، وعدم الالتفات إلى تفاعلات الإسلام مع الأقوام- الأماكن غير العربية؛ من أتراك، وهنود وغيرهما.