رؤى
أشرف إبراهيمحين يكتب الفقراء قصتهم.. سرديّات المهمّشين في الأدب والسينما
2025.12.14
مصدر الصورة : ويكبيديا
حين يكتب الفقراء قصتهم.. سرديّات المهمّشين في الأدب والسينما
في كلّ مجتمع، توجد حكايات تتردّد في الشوارع الخلفية أكثر مما تُكتب في الكتب. هناك دائمًا سرديةٌ مفقودة، صوتٌ متقطّع يعلو من تحت طبقات الزحام: صوت الفقراء، العمال، المتسكّعين، النساء المنسيّات، الأطفال الذين كبروا قبل أوانهم، والناس الذين امتلأت حياتهم بالمشقّة حتى صارت مشقّتها هي اللغة.
لكن السؤال الذي ظلّ يطارد الأدب والسينما منذ قرن على الأقل هو: هل يكتب المهمّشون قصتهم بأنفسهم؟ أم يُكتبون من الخارج؟
هذه المقالة ليست بحثًا نظريًّا فقط، بل محاولة لرؤية العالم من المكان الذي تُكتب فيه الهزائم بصوت منخفض، وتُصنع فيه الكرامة من فتاتٍ قليل، وتتحوّل الحياة اليومية إلى معركة طويلة بدون ضجيج. إنّه بحثٌ في كيفيّة صناعة سرديّات الفقر والهامش، وكيف تسللت هذه السرديات إلى الأدب والسينما، وكيف تحوّلت أحيانًا إلى خطابٍ سياسي وأحيانًا أخرى إلى جماليات فنية جديدة تُعيد صياغة السؤال: ماذا يعني أن تكون فقيرًا في عالم لا يسمع إلا من يصرخ بصوتٍ أعلى؟
الفقر بوصفه تجربة وجودية لا اقتصادية
- الفقر كحالة شعورية
ليس الفقر رقمًا على ورق. إنّه -كما يصفه كثير من الأدباء- حالة داخلية تنعكس في طريقة السير، النوم، الخوف من الغد،
وترتيب الأولويات اليومية.
فالفقير لا يفكّر يومًا في الزمن الطويل. الزمن عنده دائمًا قصير وطارئ.
هو يعيش داخل فكرة “اليوم… اليوم فقط”، لأن الغد قد يكون أقل رحمة.
في كثير من السرديات العربية والعالمية، يظهر الفقراء بوجوهٍ ليست حزينة فقط، بل “مُنهَكة”، كأن الوجود نفسه أصبح ثقيلًا عليهم.
وهنا نفهم لماذا يتحوّل الفقر إلى تجربة وجودية في الأدب: ليست مجرد معاناة، بل رؤية للعالم، زاوية نظر.
- الفقراء كمرآة للمجتمع
كل مجتمع يكتب نفسه عبر مهمّشيه.
فالطبقة التي تظهر في الإعلانات لا تصنع صورة المجتمع الحقيقية، بل تلك التي لا تظهر: العاطلون، السائقون، النساء العاملات في البيوت، الريفيون، سكان العشوائيات، والعمال غير المرئيين.
حين نقرأ أدب الهامش، لا نقرأ الفقراء فقط؛ بل نقرأ الوجه الآخر للمجتمع، ما يحاول إخفاءه، وتجاهله، وربما التخلص منه.
وهنا يظهر دور الفن: أن يكشف المنطقة المظلمة التي تتجنّبها لغة السياسة والإعلام.
سرديّات الفقراء في الأدب — من الكتابة “عنهم” إلى الكتابة “بأصواتهم”
- المرحلة الأولى: “الفقراء كموضوع” وليس كذوات
في بدايات القرن العشرين، ظهر الفقراء في الأدب العربي بوصفهم “موضوعات اجتماعية”.
كانوا جزءًا من مشروع الإصلاح، أو أمثلة على الظلم الطبقي، أو رموزًا للجهل التقليدي.
لكنهم لم يكونوا يملكون صوتًا حقيقيًّا.
كانت الطبقة المتعلّمة هي التي تحكي نيابةً عنهم، بأدواتها اللغوية ورؤيتها للعالم.
كان الفقير مادةً للكتابة، لا صاحب كتابة.
- التحوّل الكبير: ظهور “الأدب من تحت”
من منتصف القرن العشرين، بدأ المشهد يتغيّر جذريًّا.
ظهر كتّاب خرجوا من رحم الطبقات الفقيرة نفسها، لا يكتبون عن الهامش بل من داخله.
من مصر: صنع الله إبراهيم، يوسف إدريس، عبد الحكيم قاسم، محمد مستجاب، وصولًا إلى إبراهيم أصلان وخيري شلبي.
من المغرب العربي: محمد شكري، الطاهر بنجلون، رشيد بو جدرة.
من العراق وسوريا ولبنان: نصوص كُتبت تحت وطأة الحرب والفقر والأحياء الشعبية.
في هذا الأدب، لم يعد الفقير حالة تستدرّ الشفقة، بل إنسان كامل: غاضب، ساخر، عاشق، مخذول، متمرّد، حالم…
هنا بدأت اللغة نفسها تتغيّر؛ ظهرت العامية، اللغة الشارعية، العبث، الحكايات الشفوية، السرد البطيء الذي يشبه الجلوس في مقهى شعبي.
- السيرة الذاتية للفقراء: حين يتحوّل الألم إلى ذاكرة مكتوبة
كانت “الخبز الحافي” لمحمد شكري علامة فارقة: سيرة ذاتية قاسية بلا تجميل، كتبها فقير معدَم، لا مثقف برجوازي.
هنا حدث أمر مهم:
لأول مرة يصبح الفقر لغة يكتب بها صاحبها، لا حالة يصفها الآخرون.
تحوّلت السيرة الذاتية إلى وسيلة لمواجهة العالم، ولإعلان أن ما يُسمّى “الهامش” قادر على إنتاج نصوص لا تقلّ قوة عن نصوص المركز.
سرديات الفقراء في السينما — الصورة التي تعيد تشكيل الواقع
- الواقعية الجديدة: حين خرجت الكاميرا إلى الشارع
في السينما المصرية مثلًا، مثّلت أفلام صلاح أبو سيف بداية “واقعية الفقراء”:
– العشوائيات
– الورش
– الحرف الصغيرة
– بيوت العمال
– حياة الحارات
– والأحياء التي لا تملك رفاهية الضوء.
ثم جاءت موجة الثمانينيات والتسعينيات، حيث ظهرت أفلام تذهب أبعد من التصوير — إلى كشف البنية الاجتماعية للفقر.
لكن التحوّل الجذري حدث مع مطلع الألفية، حين خرجت الكاميرا من الإستوديو تمامًا، وصارت السينما تدخل البيوت الشعبية، تصوّر طرق الكلام، حركة الجسد، العلاقات الدقيقة بين الناس.
- الفقراء كـ“أبطال” لا كـ“ضحايا”
أهم النقاط في تطوّر سرديات الفقراء في السينما هو انتقال الفقير من موقع الضحية إلى موقع البطل.
لم يعد الشخص الفقير مجرد خلفية أو شخصية ثانوية؛ بل أصبح بطلًا يغيّر الأحداث، يقودها، يتورّط فيها، يصنع مأزقه ويخرج منه.
هذا التحوّل ساعد على بناء طبقة جديدة من الرموز السينمائية التي تعبّر عن الإنسان البسيط القادر على المقاومة رغم كل شيء.
- السينما العربية المعاصرة: من الواقعية إلى “الشهادة”
اليوم لم تعد السينما الواقعية مجرّد اختيار فني، بل أصبحت “شهادة” على ما يحدث في المجتمع.
أفلام من لبنان، تونس، المغرب، العراق، ومصر تقدّم صورة أكثر صدقًا وأكثر خشونة للفقر والهامش:
– العنف الأسري
– العمل غير المستقر
– الهجرة السرية
– البطالة
– المخدرات
– الاقتصاد الموازي
– البقاء اليومي
لم يعد الفقر موضوعًا للتجميل، بل للحفر العميق في الجروح التي لا تُرى من بعيد.
لماذا يبحث المهمّشون عن الكتابة؟
- الكتابة كفعل مقاومة
الكتابة -حين تأتي من الفقراء أنفسهم- تصبح فعلًا من أفعال المقاومة.
مقاومة السرديات الرسمية.
مقاومة الصمت المفروض عليهم.
مقاومة تحويلهم إلى رقم أو فئة اجتماعية مجهولة.
إنّ الكتابة هنا ليست شغفًا فنيًّا فقط، بل محاولة للبقاء.
- الكتابة كإعادة امتلاك الحياة
حين يكتب فقيرٌ قصته، فإنّه يقول للعالم:
“هذه حياتي… ليست ملك الدولة ولا المؤسسات ولا النظريات الاجتماعية.”
إنها محاولة لاستعادة الحق في الحزن والفرح والخيبة والتمرد.
أغلب السرديات التي كتبها المهمّشون تذهب نحو التفاصيل الصغيرة التي لا يهتم بها أحد:
اللقمة، الأجرة، البقشيش، الشجار اليومي، السهر، الخوف من صاحب البيت، الحنين إلى قريتهم البعيدة، الإحساس بأن المدينة ترفضهم.
هذه التفاصيل هي التي تمنح الكتابة قوتها.
إشكاليات تمثيل الفقراء — ما بين التشيؤ والاستغلال
- فقر حقيقي أم فقر “سياحي”؟
بعض الأدباء والسينمائيين يسقطون في فخّ “الفقر السياحي”:
استخدام الفقراء كديكور، كخلفية، كوسيلة لكسب جوائز المهرجانات.
هذا النوع من السرد مسيء؛ لأنه يعيد إنتاج نفس النظرة الطبقية التي يدّعي محاربتها.
- الخطر الأكبر: تزييف اللغة
اللغة قد تكون وسيلة استغلال أيضًا.
حين يكتب مثقف من الطبقة الميسورة عن الفقراء، غالبًا يتحدث بلسانهم كما يتخيّله هو لا كما يتحدثون هم.
فتظهر لغة لا تشبههم، أو صور نمطية عن “الطيبة الفطرية” أو “الحكمة الشعبية”.
الكتابة الأصيلة لا تحتاج إلى مبالغات.
هي فقط تنقل العالم كما هو.
- التوتر بين الجمالية والواقعية
هل يجب أن يكون أدب الفقراء جميلًا؟
أم صادمًا وقاسيًا؟
أم وثائقيًّا؟
السؤال نفسه إشكالي، لأن الفقر ليس جماليًّا ولا قبيحًا بطبيعته؛ هو فقط حقيقة.
والفن الذي ينطلق من الحقيقة لا يحتاج إلى تزيين أو تشويه.
الجسد الفقير — حضور جديد في السرد الحديث
من أهم التحوّلات في سرديات الهامش هو بروز الجسد:
جسد العامل المرهق، جسد المرأة الفقيرة المعنّفة، جسد الطفل الذي يعمل قبل سنّ المراهقة.
الكتابة الحديثة تفهم أن الفقر يُعاش بالجسد قبل أن يُعاش باللغة:
بالعرق، بالمرض، بالجروح، بالشيخوخة المبكرة، بالإنهاك.
في كثير من الروايات والأفلام، يصبح الجسد هو “الموقع السياسي” الأول.
هو المكان الذي تُكتب عليه آثار الطبقية.
المهمّشون كصنّاع جمال — حين يصبح الألم لغة فنية
رغم كل ما في الفقر من قسوة، فقد أنتج جماليات جديدة:
جماليات المكان الشعبي، الحوار، الحكاية، السخرية، البساطة المعقّدة، الفوضى اليومية، الموسيقى التي تولد من الشارع لا من الأكاديميا.
إنّ سرديات المهمّشين لا تنقل الألم فقط؛ بل تنقل الإبداع الذي يخرج من الألم.
فهناك دائمًا ضحكة تنفلت وسط الإحباط، وأغنية تُغنّى رغم التعب، وحكمة تُقال من قلب العتمة.
هذه الجمالية هي التي تجعل الأدب والسينما الخارجة من الهامش أكثر صدقًا وأقرب إلى النفس.
حين يصبح الفقراء شركاء في كتابة العالم
في النهاية، ليست القضية أن نكتب عن الفقراء، بل أن نسمح للفقراء بأن يكتبوا أنفسهم.
أن يتحوّل الهامش إلى مركز — لا سياسيًا بالضرورة، بل جماليًّا وثقافيًّا.
أن يصبح صوت المهمّشين جزءًا من السردية العامة للمجتمع، لا مجرد صوتٍ ثانوي أو عابر.
حين يكتب الفقراء قصتهم، يصبح العالم أكثر صدقًا.
ليس لأنّ في الفقر فضيلة، بل لأن الحقيقة لا تكتمل دون أصوات من عاشوا على أطراف الأشياء.
وهذا ما يجعل الأدب والسينما القادمين من الهامش ضرورة لا ترفًا:
إنهم يذكّروننا بأن التاريخ ليس ما يُكتب في الكتب الكبيرة، بل ما يُكتب في الأزقة الصغيرة التي يمرّ بها الناس العاديون كل يوم… دون أن يلتفت إليهم أحد.