رؤى
غريب سليمانالإعاقة... جدلية المعنى والجسد
2020.01.01
الإعاقة... جدلية المعنى والجسد
يُشكِّل الأشخاص ذوي الإعاقة، نحو 15 % من سكان العالم تقريبًا،1 يعيشون في عالم خاص منعزل، يكاد يكون غير مرئي لغالبية الناس، ويشكِّل مفهوم الإعاقة الإشكالية الكبرى في هذا العالم غير المرئي بوضوح؛ وكأنه مجرد مشاهد متناثرة في فيلم تراجيدي كئيب، المعروف منه هو قمة جبل الجليد الذي يُخفي أسفله بقية جبل الأسرار والمعاناة، كما شكَّل الجسد الملعون أو الجسد الناقص، التفسير المتناقض المُسيطر على عالم الإعاقة. والعجز هو الوصمة المسلَّم بها اجتماعيًّا، وكأنها حقيقة مطلقة غير مسموح بمجرد التفكير فيها، فكيف نكذِّب ما تصدقه العين؟ فها هي ذي العين المظلمة، والساق المفقودة، والأذن الرافضة للسمع.
ظلَّت الإعاقة عبر التاريخ، لغزًا مُحيِّرًا، وحالة مبهمة عصية على الإدراك، فإذا كان من الممكن تحديد أسباب الإعاقة الحركية في أغلب الحالات، فإن الإعاقات الأخرى صعبة التفسير؛ خصوصًا الإعاقة الذهنية، التي شكَّلت لغزًا كبيرًا بل ومُخيفًا حتى لفلاسفة الحضارات القديمة، فهل حقًّا تجاوزت البشرية مرحلة الجسد الملعون؟ وصارت جزءًا من التاريخ الأسود البعيد، أم أنه لا زال أكثر من 100 مليون شخص يواجهون أقصى صور المعاناة الإنسانية؟ وهل حقًّا الجسد القاصر، هو التفسير المنطقي الوحيد؟ أم أن للإعاقة جوانب أخرى، وأن الجسد في الحقيقة هو التفسير غير العلمي؟ ربما تعد محاولة فهم الإعاقة، أو تفسيرها وتحديد ماهيتها، خطوة لا بد منها للبدء في تجاوز أكثر المحن الإنسانية عبر التاريخ الإنساني كله. سنحاول هنا تناول الإعاقة من جوانب مختلفة؛ لا محاولة للهروب من الجسد، فهو واقع لا مهرب منه، بل محاولة للكشف عن حقيقة أخرى تغاير الصورة الذهنية المترسخة عبر الزمن.
المفهوم
المفهوم الاجتماعي لموضوع ما، يقوم بالأساس على تفسير الموضوع، والسؤال الأساسي في عالم الإعاقة يدور حول إنتاجها وتحديد جوهرها «ماهيتها»، والإجابة عن سؤال «ما الإعاقة»، هو ما يؤدي إلى رؤية تبلور اتجاهات إيجابية أو سلبية تتجسد لاحقًا في سلوكيات واقعية تجاه الغير، لذلك فتتبع المفهوم تاريخيًّا ضرورة لا بد منها في مجال الإعاقة، على الرغم من عدم وجود حدود فاصلة لمراحل تطور معنى الإعاقة تاريخيًّا، بل على العكس؛ فالمفاهيم المختلفة، بل والمتناقضة للإعاقة، تتعايش معًا حتى الآن. والأكثر مأساوية أن المفاهيم الأكثر رجعية هي الأكثر رسوخًا في أغلب المجتمعات.
تاريخ الإعاقة ومسلمة العجز
الإعاقة كموضوع تاريخي، طريق شائك، فالمصادر المتاحة شحيحة على الرغم من الاهتمام البحثي بالإعاقة منذ القرن التاسع عشر، مع التطور الاقتصادي للرأسمالية الناشئة وحاجتها إلى الكثير من قوة العمل، وإنشاء العديد من المراكز البحثية المعنية بتاريخ وأبحاث الإعاقة مع بدايات القرن الماضي، خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية2. لكن المعضلة الأساسية هي ندرة المصادر المكتوبة والموثقة، ووجود تناقضات تحتاج إلى الكثير من التدقيق العلمي للمصادر المتاحة.
وتناولنا لتاريخ الإعاقة هنا، يرتبط فقط بالعلاقة التاريخية للمفهوم بالجسد، ويقتصر على محاولة تحديد المراحل الأساسية لتطور المفهوم في الحقب الزمنية الكبرى، دون الخوض في تفاصيل تاريخية غير ضرورية.
العصور القديمة
المعروف بشكل عام، وربما غير دقيق، أنه في العصور القديمة ما قبل المسيحية، كان التفسير الخرافي هو السائد للإعاقة، ووفقًا لهذا التفسير؛ فالإعاقة تجسيد للشيطان، الإعاقة هي الجسد الملعون. كان هذا التفسير الأسهل والأكثر عملية بالنسبة لمجموعات بشرية تعتمد على التنقل للحصول على موارد الحياة والبقاء، مثل الصيد وجمع الثمار، والرعي. وهي نشاطات تحتاج إلى الحركة والتنقل المستمر، كما تحتاج إلى الكثير من القوة البدنية التي تضمن نسبيًّا مواجهة الأخطار، ومن ثم فقد سادت قاعدة «البقاء للأصلح» لحقبة تاريخية طويلة، وبالطبع كان المعاقون عقبة كبيرة في هذه المرحلة المبكرة، وكان التفسير الخرافي هو الضرورة العملية لتبرير التخلص منهم؛ إذ كانوا يُترَكون للموت في الغابات، أو يتم التخلص منهم بإلقائهم في الأنهار3. ونجد أن التفسير نفسه هو ما كان سائدًا لدى القبائل العربية القديمة.
الاقتصاد كمحرك للتاريخ، فرضية لا بد منها لفهم تطور المجتمعات، والأنشطة الاقتصادية في حقبة تاريخية ما تحدد بدرجة كبيرة السلوكيات السائدة بين أفراد المجتمع، لكن الأحكام المطلقة تفتقد الدقة العلمية، خصوصًا وأن المعاقين ليسوا كتلة صماء متساوية في المعايير الجسدية، فالإعاقات الحركية الشديدة في ظل بيئة قاسية تمثل بالتأكيد مشكلة كبرى بالنسبة للعمل والتنقل، لكن هناك إصابات أخرى لا تمثل حجم المشكلة نفسه؛ مثل ذوي الإعاقة السمعية، إذ لا تختلف بنيتهم الجسدية عن غيرهم، ويمكنهم القيام بالعمل الذي يحتاج إلى قوة بدنية، كما يمكنهم التنقل بسهولة، وحتى الإصابات الحركية تتباين من حيث التأثير؛ فبعضها غير مؤثر بدرجة كبيرة، أما الإصابة الذهنية، فهي الإشكالية الكبرى على مر التاريخ، إذ صعب فهمها والتعامل معها، وأعتقد أن أغلب المعاقين ذهنيًّا هم من كان يتم التخلص منهم، يليهم ذوو الإعاقة البصرية.
بين الدين والفلسفة
مع بداية استقرار المجموعات البشرية ونشوء الدولة، شكَّل الدين الوعاء الأساسي للوعي، فالدين هو المسؤول عن الإجابة عن الأسئلة الكبرى حول الموت، والحياة، والكون، كما كان للفلسفة دورها الكبير كمصدر للمعرفة أيضًا، أو بمعنى أدق تداخلت الفلسفة وامتزجت بالدين في مجتمعات عديدة مثل اليونان، وروما القديمة؛ حيث كوَّنت الفلسفة والدين المنظومة المعرفية للحضارتين الإغريقية والرومانية.
بنى الدين قديمًا تصوره للإعاقة بناءً على كون الجسد الكامل هو الذي يخلقه الإله للأسر المؤمنة الصالحة، ومن ثَم فالجسد غير الكامل «المعيب» فهو إما من عند غير الإله «تجسيد للشيطان» أو نتيجة لغضب الإله؛ عقابًا على خطيئة اقترفها أحد الوالدين أو كلاهما.
أما الفلسفة «الحكمة»، والتي حاولت مزاحمة الدين في الإجابة على الأسئلة الكبرى للكون والوجود، فلم يختلف أمرها كثيرًا بالنسبة للإعاقة؛ إذ كانت «المثالية الجسدية» من المفاهيم الراسخة في الفلسفة؛ فها هو ذا أشهر فلاسفة الإغريق؛ أفلاطون، يرى (أن المعاقين ضرر للدولة)، خصوصًا وأن رؤية أفلاطون المثالية للدولة قد انعكست على رؤيته للإنسان الذي يجب أن يتمتع بجسد مثالي، ومن ثم فالمعاقون من وجهة نظره ضرر ينبغي التخلص منه. كما أنه طلب عدم السماح لهم بالتناسل، ويعتقد البعض أنه أول من رفع شعار «العقل السليم في الجسم السليم»4، الشعار الذي كنا نردده في المدارس حتى وقت قريب.
لم يختلف الوضع كثيرًا عند الرومان؛ إذ كانت المثالية الجسدية مُكوِنًا أساسيًّا للفكر الروماني، الذي هيمن على دولة تكاد تكون في حالة حرب دائمة. فالشخص المعاق ضعيف بالضرورة، وغير قادر على العمل أو الحرب، فهو إذن في منزلة أقل من العبيد، وبالطبع كان المعاقون يتركون للموت في الغابات أو يقتلون مباشرةً.5
مصر القديمة
كانت المعرفة في مصر القديمة متعددة المصادر بشكل ملحوظ، وكان الدين مصدرها الأساسي بالتأكيد، لكن المفاهيم الدينية امتزجت بالحكمة/ الفلسفة والسحر، كما امتزجت كذلك بالعلم، وخصوصًا الطب، وهو ما انعكس على الإعاقة، فقد تبنَّت الأديان المصرية القديمة مفهومًا مخالفًا لفكرة المس الشيطاني؛ إذ رأت أن الإعاقة معطى قدريًّا من عند الرب، وينبغي القبول به6، ومن جهة أخرى كان للطب تأثيره الكبير في تلك الحقبة الزمنية، إذ اختلط التفسير الديني بالطبي الذي رأى الإعاقة مرضًا يجب العمل على الشفاء منه.
وقد انعكست تلك الرؤية على واقع المعاقين، فيرى مجدي شاكر؛ عالم المصريات، أن الإعاقة في مصر القديمة عوملت بقانون «ماعت» الذي يُمثِّل العدل والمساواة؛ فكان للمعاقين حق العمل حتى الوظائف العليا، واستدل عل ذلك برسوم جدارية صوَّرت شخصًا كفيفًا يعزف الهارب، ومومياء لفتاة بمقبرة بالفيوم، دفنت بساقين صناعيين من الخشب، بل إن بعض ملوك مصر القديمة كان من المعاقين مثل «توت عنخ أمون»، والملك «سبتاح» الذي كان يعاني شلل الأطفال. حتى على المستوى الديني، كان هناك آلهة من ذوي الإعاقة مثل «بتاح»، كما توجد وصايا الحكيم أمنموبي لابنه، في عصر الرعامسة، حين أوصاه بعدم السخرية من المعاقين واحترامهم.
وفقًا للمصادر المتاحة، جاءت الأديان المصرية القديمة بتفسير جديد حيث «القدرية» بدلاً من اللعنة، وهي نقلة نوعية كبرى لعالم الإعاقة على المستوى الوجودي، كما سبقت مصر القديمة الحضارات الأخرى بالانتقال إلى المفهوم الطبي للإعاقة وهو مفهوم لم يصل إليه العالم الحديث إلا في القرن التاسع عشر؛ أي منذ أقل من 300 عام فقط7.
الإعاقة في الدولة العربية الإسلامية
شكَّل الدين الإسلامي، المُكوِّن المعرفي الأساسي للدولة العربية الإسلامية على مدار قرون طوال، كذلك أضاف التطور التاريخي للدولة الإسلامية خصوصًا في مراحل النمو الاقتصادي، والاستقرار النسبي، العلم التجريبي الذي لعب دورًا كبيرًا في تلك المراحل، حين كان الطب من العلوم ذات المكانة العالية في تلك الدولة.
يمكن بالقول بالنسبة للإعاقة كمفهوم، إن الحضارة العربية، جمعت بين التفسير الديني؛ حيث الإعاقة «اختبار إلهي»، أو مصيبة تستدعي الصبر من الشخص، والرعاية والإحسان من المجتمع، وهو ما تؤكده النصوص الأساسية بالقرآن8، وبين المفهوم الطبي؛ حيث الإعاقة «مرض» يحتاج إلى العلاج. وقد شهدت تلك المرحلة إنشاء العديد من المستشفيات التي تعمل على رعاية المعاقين وعلاجهم، فأنشأت الدولة الأموية مستشفى للمعاقين ذهنيًّا في حلب، وأخرى لمرضى الجذام بالشام، وكانت هناك محاولات جادة لإيجاد علاج مناسب للمعاقين ذهنيًّا.9
الإعاقة في أوروبا في العصر الحديث
شهدت القرون الوسطى في أوروبا هيمنة قصوى للكنيسة على الوعي، ولقرون طويلة ساد تفسير الكنيسة الإنجيلية للإعاقة باعتبارها «تجسيدًا للشيطان»، وكان لهذه الرؤية آثارها الكارثية على المعاقين؛ فكان وضعهم أسوأ من العصور القديمة. حين تعرضوا للتعذيب حتى الموت تقربًا للرب، وطردوا من رحمة الكنيسة بلا أي رعاية.10
لكن الكنيسة الكاثوليكية، وبعد فترة طويلة، خالفت هذا التفسير بشكل جذري، إذ رأت الإعاقة «تجسيدًا لمعاناة المسيح»، وهكذا تحوَّل الأمر إلى النقيض، فلم يعد المعاقون مصدرًا للعنة، بل على العكس. فتم التعامل معهم بوصفهم أكثر رقيًّا من البشر، وأقرب إلى الملائكة11. وبدأت الكنيسة في رعاية المعاقين، ومحاولة مساعدتهم على الاعتماد على أنفسهم، وجرت محاولات التأهيل الأولية بمعناها البسيط داخل الكنيسة.
الجسد إذن كان محور الإعاقة بالمفاهيم الكنسية للإعاقة سواء المسكون باللعنة، أو المبارك بالسمو الملائكي، وكان على المعاقين مواجهة التأثير المتناقض، فالأول طريق للقتل، والثاني طريق للعزل، ففي الحالتين المعاق ليس إنسانًا بالمعنى السائد طبقًا لمفهوم الجسد السليم. وأعتقد أن المقياس الذي قامت عليه رؤية الكنيسة، ومن بعدها المجتمعات الأوروبية، لم تختلف كثيرًا عن التاريخ السابق؛ فالمعاق لا يمثِّل «قوة عمل» قادرة على الإنتاج، في ظل أوضاع اقتصادية صعبة، مع ذلك يعتبر تفسير الكنيسة الكاثوليكية للإعاقة، نقلة نوعية في تلك المنطقة من العالم، حيث بدأت المحاولات الأولى للتأهيل، وتحوَّلت الرعاية المجردة بغرض الإحسان والعطف إلى محاولات لتمكين الأشخاص من الاعتماد على أنفسهم في شؤونهم الخاصة، وهي المحاولات التي كانت نواة لتطورات كبرى على مستويي التأهيل والتمكين حدثت بعد ذلك، خصوصًا فيما تلا الحرب العالمية الثانية كما سيرد لاحقًا.
الإعاقة بين الدين والطب: من الجسد الملعون للجسد القاصر
الطب بوصفه العلم الذي ينصب موضوعه على الجسد، حاول عبر الحقب التاريخية المختلفة، طرح تفسيره الخاصة للإعاقة وحدَّد ماهيتها بشكل منفصل عن الدين، لكنه منفصل أيضًا عن العلوم الأخرى، فقد ظل الجسد المعيار الوحيد، وبالطبع يرى الطبيب الجسد الناقص أو القاصر، فالجسد هو الموضوع الوحيد، والنتيجة الوحيدة.
على المستوى الوجودي، فسَّر الطب الإعاقة انطلاقًا من معيار واحد هو «الجسد السليم» في مقابل الجسد القاصر، فوضع الإعاقة بذلك في سياق الأمراض التي يمكن البحث عن شفاء لها، أو العاهات التي لا يمكن الشفاء منها. أما على المستوى المعرفي فقد أصبح تعريف الإعاقة بأنها (القصور الجسدي أو الوظيفي الذي يعوق الشخص عن الحياة بشكل طبيعي)12، هو المسلمة المنطقية التي تبدأ منها كل أبحاث ودراسات الإعاقة النظرية. أما على المستوى التجريبي، فقد حصر الأشخاص ذوي الإعاقة في إطار معملي، فهم معين لا ينضب للتجارب الطبية التي تعمل على اكتشاف علاج الأمراض، أو فئران تجارب للعقاقير الطبية قبل استخدامها لعلاج أشخاص «طبيعيين». وتغيَّرت أهداف مؤسسات الإعاقة من الرعاية إلى الوصاية، فقُسِّم المعاقون طبقًا لقدراتهم على العمل، وعُزلوا بوصفهم بشرًا من المرتبة الدنيا، وكانت المؤسسات في الأغلب مجرد تسهيل للموت13 فقد تحولت الرعاية إلى تقنية تأهيل مهني محترفة.
كيف هيمن المفهوم الطبي؟
سيطر المفهوم الطبي للإعاقة من القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين بالكامل، والحقيقة أنه لا يزال مُهيمنًا على عالم الإعاقة على الرغم من تبلور المفهوم الاجتماعي ومزاحمته له في محاولة حثيثة لتجاوزه والحلول مكانه، لكن الطب مع ذلك، ولكون الجسد مُكونًا جوهريًّا في مجال الإعاقة، لا يزال مُهيمنًا على أغلب الباحثين حتى الحقوقيين منهم، وسنحاول في السطور القادمة تتبع كيف تبلور المفهوم الطبي للإعاقة كنقلة نوعية في عالم الإعاقة؛ إذ شكَّل نظرية شبه متكاملة له.
سببت الثورة الصناعية تغيرًا جذريًا في نمط الإنتاج لتحل الرأسمالية محل الإقطاع، وتركز أغلب السكان في المدن الكبرى التي احتاجت إلى الأيدي العاملة تلبية للطلب المتنامي على السلع الصناعية، وأصبح العلم بوصفه أداة لتطوير أدوات الإنتاج، مخولاً بالبحث عن أفضل الطرق للاستفادة من الموارد الاقتصادية، والطب كأحد أهم العلوم الذي ينصب موضوعها على الجسد، مسؤولاً عن تمكين الإنسان من العمل بأفضل الطرق الممكنة في ظل نظام وضع قيمة مادية للجسد يمكن قياسها.
وقد مثَّلت الإعاقة واحدة من أكبر المشكلات التي تواجه النظام الجديد الذي يقوم على الماكينات، والمصانع الضخمة؛ إذ خلَّف أعدادًا ضخمة من المعاقين، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من الإصابات الجسدية نتيجة الحروب الكبرى التي من الممكن أن يؤدي تركها إلى عدم استقرار النظام بأكمله، كما أن تجاهلها يعد إهدارًا لقوة عمل يمكن الاستفادة منها في عملية الإنتاج وسط حالة بدت حينها غير محدودة النمو «فقد وضعت الرأسمالية قيمة واضحة للجسد يمكن حسابها؛ فقيمة الإنسان تقاس بمدى قربه أو بعده عن أدوات الإنتاج، ومدى مساهمة قوة عمله في إنتاج السلع، وفي الوقت نفسه أصبحت الدولة ككيان ممثِّل للرأسمالية هي المسيطرة على وسائل حياة الناس».14
يعتبر المفهوم الطبي الحديث للإعاقة على المستويات المختلفة، نتاجًا طبيعيًّا لهيمنة البراجماتية كفلسفة فردية ترى الشخص الفرد المكون الأساسي للمجتمع، وهو المسؤول الوحيد عن نجاحه أو فشله، ومن ثم فالإعاقة مشكلة فردية للشخص، هو المسؤول عنها وعن نتائجها. فالجسد القاصر عن أداء الوظائف «الطبيعية» يمثِّل مرضًا يحتاج إلى علاجه أو تأهيله لتمكينه من العمل، ففي كل الحالات هو جسد غير طبيعي قياسًا إلى الجسد الطبيعي.
الإعاقة بين الاستبعاد والاغتراب
انتشرت في العقود الأخيرة ظاهرة الدراسات الاجتماعية التي تقوم على فرضية «الاستبعاد الاجتماعي» وهي دراسات حديثة نسبيًّا15، لكنها انتشرت بشكل كبير جدًّا على مستوى العالم، وتأسست مراكز متخصصة لدراسات الاستبعاد الاجتماعي في غالبية الدول الغربية لرصد تأثير الفقر على الفئات الاجتماعية البعيدة عن أدوات الإنتاج «المهمشة»، وبالتأكيد يأتي المعاقون في مقدمة تلك الفئات.
يعرَّف الاستبعاد الاجتماعي بأنه (عدم قدرة الفرد على المشاركة بفاعلية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية لمجتمعه، وإبعاده واغترابه عن المجتمع السائد)16. ومن النتائج المهمة التي توصلت إليها دراسات الاستبعاد في مجال الإعاقة أن (الاستبعاد يؤدي إلى نقص الموارد ونقص التوقعات، وضعف الصحة، وضعف التعليم. لذا فإننا ننظر إلى المعاقين الذين يعيشون في فقر مزمن من منظور اقتصادي وكذلك من المنظور الأوسع للاستبعاد الاجتماعي)17.
وأعتقد أن النتائج التي توصلت إليها دراسات الاستبعاد، كشفت عن بعد آخر من الأهمية بالنسبة للدول الرأسمالية. إذ أن للإهمال تكلفة كبيرة، وهذه التكلفة يمكن حسابها بدقة، فضعف الاستثمار في حقوق مهمة مثل التعليم، والصحة، والتأهيل، يضاعف تكلفة الرعاية، ويقلل من فرص الاستفادة من قوة عمل محتملة. كما أن المعاق على الرغم من عزلته، هو جزء من محيط اجتماعي مهما صغر، فوجود شخص معاق داخل الأسرة يؤثر على كل أفرادها. ووصمة الإعاقة/العجز، تطال في الغالب الأسرة كلها، وهو ما يقلل من فرص زواج الأبناء. ووفقًا للمنتدى العالمي للإعاقة، فإن 98 % من الأطفال المعاقين في البلدان النامية، محرومون من تلقي أي مستوى من التعليم الرسمي، ويتلقون معاملة أدنى من غيرهم، إذ يستبعدون منذ البداية من الأنشطة الاعتيادية التي يقوم بها الأطفال الآخرون.
دون الخوض في مدي دقة الاستبعاد كفرضية علمية، ومع الاعتراف بمساهمته في الكشف عن بعض الجوانب المظلمة لحياة المعاقين، أعتقد أن الفرضية الأكثر دقة لدراسة أوضاع الأشخاص ذوي الإعاقة هي الاغتراب؛ وبمعنى أكثر تفصيلاً من المفهوم الماركسي، فالشخص ذو الإعاقة مغترب حتى عن مكونات البيئة المحيطة به، وأحيانًا يكون مغتربًا عن بيته؛ فهو معزول لا إراديًّا عن روتين الحياة اليومي، فالحواجز الكثيرة التي وضعها المجتمع والدولة، تحد من قدراته على التواصل والوصول، الذين هما أداتي الاندماج الأساسيتين؛ فلا يمكن لشخص الاندماج في مجتمع غير قادر على التواصل مع أفراده، أو الوصول إلى الأماكن والتجمعات مثل المدارس والجامعات وغيرها.
الإعاقة وحقوق الإنسان: بشر ولكن
ظل المعاقون، بشكل خاص، خارج الحماية القانونية للمواثيق الحقوقية، مع الاعتراف بالطبع بكونهم بشرًا تنطبق عليهم المواثيق الأساسية، فنتيجة لهيمنة الرؤية الطبية على عالم الإعاقة، تأثرت المواثيق الحقوقية بتلك الرؤية بشكل أساسي، ومن ثم ظل «الجسد» عاملاً جوهريًّا يحدد الحقوق التي للشخص المعاق التمتع بها كغيره ولو على مستوى الاعتراف فقط.
اكتفت هذه المنظومة حتى 2006، بإعلانين فقط هما «إعلان حقوق المعاقين» و«إعلان حقوق المتخلفين عقليًّا»، ومن الواضح من عنواني الإعلانين، والمفردات المستخدمة لوصف الأشخاص ذوي الإعاقة، أن الرؤية الطبية هي المهيمنة على واضعيها، فحتى هذه المرحلة الشخص المعاق بشر، ولكن ليس تمامًا؛ فهو يختلف عن غيره، فهو عاجز، وغير قادر عن إدارة شؤونه، ومن ثَم فهو تابع لغيره دائمًا.
ونتيجة للانتهاكات الجسيمة التي تعرَّض لها المعاقون في فترات طويلة خلال القرن الأخير، خصوصًا في مراحل الحروب التي لا تكاد تنتهي من العالم، ونتيجة لتغيرات كثيرة بدأت تحدث تحت السطح بعالم الإعاقة وارتفاع كثير من الأصوات المنادية بضرورة توفير الحماية القانونية لهؤلاء البشر، صدرت أخيرًا اتفاقية خاصة بهم.
الاتفاقية والاعتراف الناقص
أخيرًا وبعد جهود مُضنية من الحركة الاجتماعية للإعاقة، جاء الاعتراف الحقوقي/القانوني بالمساواة الكاملة بين الأشخاص ذوي الإعاقة بغيرهم، فقد صدرت الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والتي تعد نقلة ثورية بهذا المجال18، وقد تخلَّت تمامًا عن الرؤية الطبية، وتبنَّت رؤية اجتماعية تقوم على كون الإعاقة اختلافًا طبيعيًّا بين البشر، لا مجرد قصور جسدي. لكن الاتفاقية المهمة التي أوجدت للمرة الأولى في التاريخ، مرجعية حقوقية شاملة يمكن للأشخاص الاستناد إليها والمطالبة بما تضمنته من التزامات على دول، لم تستطع التخلص تمامًا من تأثير المنهجية الطبية.
الإعاقة بين الفرد والمجتمع: هل يمكن الهروب من الجسد؟
اهتمت المدرسة الاجتماعية في تناولها لقضية الإعاقة، بالبحث أولاً في أسبابها، أو بمعنى أدق كيف أُنتجت الإعاقة؟ وهو السؤال الأصعب على الإطلاق؛ إذ من الصعب الربط الميكانيكي بين العاهات الجسدية بالأسباب المباشرة، وهو الوضع المريح الذي تفضله الرؤية الفردية.
والحقيقة أن كل مجتمع أنتج الإعاقة بشكل مختلف عن الآخر، وفي ظل ظروف مركبة، فالإعاقة كحالة وجودية، ليست نتاجًا مباشرًا لأسباب محددة، بل هي نتاج تفاعل طويل بين عوامل متعددة، عوامل تفرضها أنماط الإنتاج السائدة.19 كما وجَّهت المدرسة الاجتماعية نقدًا عنيفًا للرؤية الفردية/الطبية؛ ففكرة الجسد المثالي غير منطقية على الإطلاق، فواقعيًّا كل الاجساد مختلفة، وليس هناك نموذج يمكن القياس عليه، كما أن العجز صفة ملازمة للإنسان منذ وجوده، فالطفل عاجز لسنوات عن تلبية احتياجاته، وكذلك كبار السن، كما يتعرض كل البشر للعجز المؤقت، لأسباب الإصابة أو المرض لفترات قد تطول أو تقصر، وحتى أصحاب الأجساد الرياضية عاجزون أمام أعمال تفوق قدراتهم.
والإعاقة من هذا المنظور تنطلق من المجتمع الذي وضع آلاف الحواجز البيئية والاجتماعية والثقافية التي تعوق الأشخاص، فالمشكلة إذن في المجتمع ومن إنتاج المجتمع. ولتوضيح ذلك يمكننا أن نذكر أمثلة لانهائية، فعلى سبيل المثال، لو أراد شخص يستخدم كرسي متحرك أن يصعد إلى الدور العاشر بعمارة سكنية، ووقف بكرسيه أمام السلم «تحدث الإعاقة»؛ فلن يتمكن من الصعود بالتأكيد، لكن الشخص نفسه لو وجد مصعدًا متسعًا «لن تحدث الإعاقة»؛ إذ سيتمكن بسهولة من الصعود باستخدام المصعد. كذلك لو أراد شخص كفيف إرسال رسالة إلكترونية باستخدام الإنترنت، ووُضع أمامه جهاز كمبيوتر عادي «تحدث الإعاقة» ولن يتمكن من استخدامه، لكن لو كان الكمبيوتر مزودًا ببرنامج لغير المبصرين، والشخص نفسه هو مدرب على استخدامه «لن تحدث الإعاقة»؛ إذ سيتمكن بسهولة من استخدامه كما يريد.
الهجوم المستمر إذن على النموذج الطبي المهيمن، كان الطريق الذي بدأت منه الرؤية الاجتماعية، على المستوى الوجودي، حيث إنكار الطبيعة الفردية للإعاقة، وبالطبع التحول إلى نقد فشل المجتمع في إزالة الحواجز العائقة، بما تشمله من قيود اجتماعية وثقافية. فالإعاقة كقضية اجتماعية ترتبط بالسياسة، والاقتصاد، اللذين بُنيا على الرؤية الفردية، متجاهلين عن عمد احتياجات ملايين البشر المختلفين عن النموذج الطبيعي المتوهم.
الهوامش:
1 – تقدر منظمة الصحة العالمية نسبة الأشخاص ذوي الإعاقة بـ 15 % من عدد السكان.
http://www.emro.who.int/ar/health-topics/disabilities/index.html
2- تقرير اللجنة المعنية 2010.
http://hrlibrary.umn.edu/arabic/AR-CRPD/CRPD41.pdf
3- الخطيب جمال، مقدمة في الإعاقات الجسمية والصحية. دار الشروق، الأردن.1984
4- د. عبد المجيد حمدان، العبيد عند الرومان خلال القرن الأول والثاني الميلادي، كلية الآداب جامعة الزقازيق، قسم التاريخ.
http://www.damascusuniversity.edu.sy/mag/history/images/stories/pdf/3.pdf
5- مجدي شاكر، المعاقون في مصر القديمة
https://akhbarelyom.com/news/newdetails/2677945/1
6- المصدر السابق
7- مروان القدوي، المعاقون في الشريعة الإسلامية 2004
https://journals.najah.edu/media/journals/full_texts/rights-handicapped-islamic-law.pdf
8- المصدر السابق
9- محمد مجدي القصاص- التمكين الاجتماعي لذوي الاحتياجات الخاصة، جامعة المنصورة.
http://dr-banderalotaibi.com/new/admin/uploads/3/91120109.pdf
10- المصدر السابق
11- منظمة الصحة العالمية.
https://www.who.int/topics/disabilities/ar/
12- جيرالدين شاتلار – ورقة عمل – مؤتمر التدريب المهني – بيروت 2011
http://www.euromedheritage.net/euroshared/doc/THE_03_Apprenticeship-Background%20paper_AR.pdf
13 - Disability and the Rise of Capitalism13 -
https://disability-studies.leeds.ac.uk/wp-content/uploads/sites/40/library/Oliver-p-of-d-Oliver3.pdf
14- «الاستبعاد الاجتماعي: محاولة للفهم». جون هيلز، جوليان لوجرن، ودافيد بياشو، وترجمة وتقديم محمد الجوهري، سلسلة عالم المعرفة
15 – منظمة العمل الدولية – تقرير تعزيز المساواة والتصدي للتمييز.
https://www.ilo.org/wcmsp5/groups/public/---arabstates/---ro-beirut/documents/publication/wcms_371803.pdf
16- هدى أحمد الديب، الاستبعاد الاجتماعي وأخطاره على المجتمع.
https://www.academia.edu/18969647/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D8%B9%D8%A7%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A
17- المصدر السابق
18- اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، نحو فهم أعمق للحقوق الخاصة.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=130714
19- رعد ضاهر، النموذج الاجتماعي لدمج الأشخاص ذوي الإعاقة، ورقة بحثية، المؤتمر الاقليمي للقيادة التنموية، الكويت، 2019
https://dld2019.redsoft.org/Uploads/Papers/%D8%B1%D8%B9%D8%AF%20%D8%B6%D8%A7%D9%87%D8%B1.pdf