قضايا

منى يسري

الإعلام البديل: وسائل التواصل الاجتماعي وإعادة رواية الكفاح الفلسطيني

2019.06.30

مصدر الصورة : Ijnet

الإعلام البديل: وسائل التواصل الاجتماعي وإعادة رواية الكفاح الفلسطيني

لعبت وسائل التواصل الاجتماعي، خلال الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة، دورًا جديدًا شهدته القضية للمرة الأولى في تاريخها، لعب فيها المحتل الصهيوني دور الضحية المدافع عن نفسه من جراء الإرهاب الفلسطيني، وبمساعدة وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية، استطاع المحتل أن ينحي الشعب الفلسطيني جانبًا معلنًا ألّا حق هنا إلا للإسرائيلي.  وإلى جانب التصعيد العسكري غير المسبوق للمقاومة الفلسطينية بعدما أذاعت الرعب في نفوس المستوطنين، حقق الفلسطينيون انتصارًا آخر بخطف أنظار العالم لقضيتهم مرة أخرى؛ بل واختطاف الميزة النسبية التي حققتها إسرائيل عبر عقود، من استيلائها على الإعلام العالمي، وعرض القضية من منظورهم الاستعماري، واختطاف حق الشعب الفلسطيني في كشف ما يجري ضدهم من جرائم للعالم أجمع.

 إعادة رواية الصراع

على الرغم من تمتع إسرائيل بميزات عسكرية واستراتيجية، في صراعها المستمر ضد المقاومة الفلسطينية، وكذلك امتيازها في السيطرة على الرواية العامة للصراع منذ بدايته، فإن الحرب الأخيرة، استطاعت اختطاف امتياز إسرائيل بشكل لا يمكن مقاومته مهما بلغت قوة المحتل. عبر عقود الصراع الماضية، استطاعت إدارة الكيان الصهيوني، الاستفادة من قنوات التواصل الاجتماعي الرسمية على نطاق واسع، وبتسخير كل طاقتها الإعلامية، شكلّت سرديتها الخاصة عن القضية الفلسطينية، بتصوير نفسها كدولة ومجتمع متجانس يدافع عن نفسه من عدوان إرهابي، وبذلك رسخت إجرامها وشرعنته عبر أبواقها الإعلامية والثقافية المختلفة.

لكن انتصار الشعب الفلسطيني هذه المرة لم يقتصر على اختراق صواريخ المقاومة القبة الحديدية، أو إجبار المستوطنين على المكوث في الخنادق لليال وأيام فحسب، بل نجح الشعب الفلسطيني بمكوناته المتعددة من غزة إلى الضفة و نحج فلسطين والأرض المحتلّة كذلك، في سرد قصصهم الخاصة عما يتعرضون له عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، ما أدى إلى خسارة مضاعفة لإسرائيل في معركة كسب الرأي العام العالمي لصالح الشعب الفلسطيني للمرة الأولى في تاريخ الصراع.

لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مركزيًا في حرب غزة الأخيرة، إذ كانت المقاطع على يوتيوب YouTube والرسائل على فيسبوك Facebook وتويتر Twitter تهدف إلى نشر الأحداث مباشرة، وبأسرع وقت ممكن، ومع ظهور منصات أكثر حداثة مثل Telegram وTikTok سُمح لعدد أكبر من الأشخاص بالتفاعل مع هذه الانتفاضة الإلكترونية. كانت مقاطع الفيديو المباشرة، الطريقة المثلى لإظهار جرائم الاحتلال وغارات جيشه على مدنيي غزة، دون إفساح المجال لأي سردية أخرى تتنافى مع الواقع المعاش افتراضيًّا عبر وسائل التواصل، ما اجتذب أحرار العالم، ومن لم يكن يهتم سابقًا للقضيّة الفلسطينية إلى ما يحدث في آخر بقعة محتلة من الأرض.

في الرابع عشر من مايو الماضي، وقع أكثر من 100 تنظيم تقدمي على بيان لمطالبة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بإدانة العنف ضد الفلسطينيين، ومنع تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وكذلك وقف المعونات التي تقدمها الولايات المتحدة إلى دولة الاحتلال، وتعد وهذه هي المرة الأولى لانضمام تيارات أمريكية جديدة لتأييد حق الشعب الفلسطيني، من غير العرب أو المسلمين في الولايات المتحدة، ما اعتبر انتصارًا جديدًا تشهده القضيّة، وتسبب فيحشد وإثارة الرأي العام. من قلب الدولة الحاضنة للاحتلال، وأهم داعميه منذ تأسيسه عام 1948.

المقاومة الإعلامية

استخدم الاحتلال الإسرائيلي صفقات التطبيع المنعقدة مع بعض الدول العربية خلال العام الماضي، كجزء من سرديته الأسطورية عن السلام مع الفلسطينيين، لكن السلام الزائف سرعان ما تبدد أمام مقاومة الفلسطينيين مستخدمين هواتفهم وكاميراتهم وجعل العالم أجمع شاهدًا على حملة إبادة أطلقتها إسرائيل ضد مواطني غزة العُزل. شاركت إدارة بعض مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإنستجرام في فضح الممارسات الإسرائيلية الخاصة بالسيطرة على الإعلام، بعدما عمد موقع فيسبوك الأكثر انتشارًا في العالم، إلى حذف التعليقات والمنشورات الداعمة للقضية الفلسطينية بدعوى أنها منشورات تحرض على العنف، ما دفع المستخدمين المناصرين للقضية الفلسطينية، إلى شن هجوم على موقع فيسبوك، وخفض تقييمه من متاجر Apple ، Google Play، فيما اعتذر كبار المسؤولين التنفيذيين في فيسبوك، لرئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتية خلال اجتماع افتراضي في 20 مايو الماضي.

وتفيد منظمة الحقوق الرقمية العالمية Access Now؛ في تقرير لها باستلام مئات الحسابات لمنصات تقمع المحتوى المؤيد للفلسطينيين عبر فيسبوك وتويتر، كما سجلت مجموعة الحقوق الرقمية الفلسطينية "صدى سوشيال"، أكثر من 200 انتهاك لمحتوى فلسطيني على مواقع التواصل الاجتماعي تتعلق بتظاهرات الشيخ جراح في القدس الشرقية المحتلة. ووصفت "الانتهاكات" بأنها: إجراءات تعسفية ضد المحتوى الفلسطيني، خاصة مع الميل إلى قمع انتقاد الصهيونية. وبالمثل، وثقت منظمة الحقوق الرقمية الفلسطينية والعربية، حملة - المركز العربي لتطوير وسائل التواصل الاجتماعي، نحو 500 حالة انتهاك للحقوق الرقمية الفلسطينية بين 6 و19 مايو، إلى جانب ردود المنصات. وجاءت الانتهاكات من إنستجرام (50 ٪) وفيسبوك (35 ٪) وتويتر (11 ٪) وتيك توك (1 ٪).

وقد أثارت تلك الانتهاكات المرتكبة من قبل منصات التواصل الاجتماعي، غضبًا كبيرًا حول العالم، حتى من خارج صفوف أنصار القضية الفلسطينية، غير أن الضغط السياسي على إدارة فيسبوك تحديدًا وتهديد مصالحها التجارية، سرعان ما دفع الشركة، إلى إعادة النظر في سياساتها تجاه المحتوى المناصر لفلسطين على منصتها، في المقابل عمِد المستخدمون إلى الكتابة بطرق مبهمة، للتحايل على القمع الإعلامي الذي فرضته منصات التواصل، وكانت طريقة ناجحة للمقاومة أمام الانحياز الفج والواضح من قبل إدارة فيسبوك للجانب الإسرائيلي.

تراجع شعبية إسرائيل

أثمرت جهود الفلسطينيين في سرد قصتهم الأخيرة مع الحرب في غزة، ثمارًا سريعة، جاء بعضها آنيًا كإعلان وقف إطلاق النار بين الطرفين، لكن الثمرة الأكثر دوامًا كانت تراجع شعبية الكيان الصهيوني في العديد من دول أوروبا؛ المعقل الأهم لمناصري الاحتلال. وقدكشف عن هذا التراجع، استطلاع للرأي أعده مركز YouGov البريطاني؛ حول تراجع شعبية إسرائيل في عدد من الدول الأوروبية بعد التصعيد الأخير في قطاع غزة. واعتمد الاستطلاع على مجموعة من المؤشرات لقياس مستويات الدعم بناءً على مواقف المستجيبين تجاه السياسات الإسرائيلية وانطباعاتهم عن صورتها، واعتبر الأسوأ من نوعه على الإطلاق، حيث تُظهر بيانات استطلاع YouGov الجديدة أن شعبية إسرائيل في جميع أنحاء أوروبا قد تضررت بشكل كبير منذ استطلاع المركز الأخير في فبراير الماضي، مع انخفاض لصافي تصنيف التفضيل في البلاد 14 نقطة في جميع البلدان التي شملها الاستطلاع.

غير أن التظاهرات التي خرجت من عواصم أوروبية عدة، لمناصرة الشعب الفلسطيني، ما كانت لتخرج لولا حضور وسائل التواصل الاجتماعي كعامل محفِز وكاشف للحقيقة أمام شعوب أوروبا التي يخضع إعلامها لسطوة النفوذ الإسرائيلي، وهو ما زال قائمًا حتى الآن، وبزر في قضية الصحفية الأمريكية إيميلي وايلدز، بعدما فصلتها وكالة أسوشيتد برس، عقابًا على تعاطفها مع الفلسطينيين، وقد أثارت الواقعة غضب العديد من صحفيي الوكالة، الذين رأوا فيما حدث لإيميلي قمعًا للحرية الشخصية، وتهديدًا لحرية الرأي بشكل عام.

عكس قرار وكالة أسوشيتد برس، إلى أي مدى سيطرت إسرائيل على وسائل الإعلام العالمية، وأخضعتها لمعاييرها، كما حدث مع فيسبوك تمامًا، على الرغم من عدم ارتكاب إيميلي لأي خطأ يستدعي هذا الفصل المهين، إلا أن انضمامها السابق خلال سنوات دراستها الجامعية إلى منظمة طلاب من أجل العدالة في فلسطين، إلى جانب سلسلة من منشوراتها المناصرة للقضيّة الفلسطينية على حساباتها الخاصة على وسائل التواصل، كان كفيلًا بإثارة المؤسسة ضدها، بل وإعادة هيكلة سياسات مواقع التواصل الاجتماعي مع صحفييها، كما أعلنت الوكالة في بيان لها، تعقيبًا على فصل إيميلي.

تيك توك يطيح بنتنياهو

برز موقع TikTok الصيني في الحرب الأخيرة على غزة كأهم مواقع التواصل سرعة ونشرًا لكل تفاصيل الحياة اليومية المروعة التي عاشها أهل فلسطين خلال العدوان الإسرائيلي، وقد تميز دونًا عن غيره من مواقع التواصل بعدم حجب أي محتوى خاص بمناصرة الفلسطينيين، ما جذب العديد من المستخدمين، ووسّع من دائرة فضح جرائم الاحتلال. ليس هذا فحسب؛ بل إن ما قدّمه أنصار القضية الفلسطينية من حشد للرأي العام العالمي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أسهم في الإسراع بالإطاحة بحكومة نتنياهو المأزومة بدورها منذ عدة أشهر.

لقد غيرت الحرب الإعلامية معادلة إسرائيل المستقرة منذ عقود، واطمئنانها لفكرة السلام الزائف مع دول المنطقة، بل تجاوز الأمر إلى توحيد غير مسبوق لفلسطيني الشتات، مع أبناء الداخل المحتل، وفرض حضورهم كأصحاب قضيّة على مسامع العالم، لا سيّما بعد نجاح الإضراب الشامل الذي أعلن عنه خلال أيام الحرب، وتمكنهم من تكبيد نظام الاحتلال كلفة اقتصادية، فضلًا عن إثارة الرعب لأيام متواصلة في نفوس إسرائيل، وإنهاء أسطورة الأمن الذي تصدره حكومة الاحتلال كبضاعة فاسدة لمواطنيها، ولدول العالم الخارجي. لقد قاد الشعب الفلسطيني عدة انتفاضات، عجز فيها عن تقديم سرديته الحقيقية إلى العالم، ورحلت أجيال عدة قادت الحراك قديمًا، دون أن تجني ثمار نضالها الثمين، حتى استطاعت الانتفاضة الأخيرة، اختراق حاجز الظلام المفروض عليهم من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وإجبار العالم أجمع على أن يشاركهم المعاناة من جراء الجرائم الممارسة عليهم من قبل الاحتلال، وصمودهم في مواجهتها.

استخدم الاحتلال صفقات التطبيع مع بعض الدول العربية كجزء من سرديته الأسطورية عن السلام، لكن ذلك تبدد أمام مقاومة الفلسطينيين مستخدمين هواتفهم وكاميراتهم وجعل العالم أجمع شهودًا على حملات الإبادة

الضغط السياسي دفع إدارة فيسبوك إلى إعادة النظر في سياساتها تجاه المحتوى المناصر لفلسطين على منصتها، في المقابل عمِد المستخدمون إلى الكتابة بطرق مبهمة، للتحايل على القمع الذي فرضته منصات التواصلعجز الشعب الفلسطيني طويلا عن تقديم سرديته، ورحلت أجيال عدة قادت الحراك قديمًا، دون أن تجني ثمار نضالها، حتى استطاعت الانتفاضة الأخيرة، اختراق حاجز الظلام وإجبار العالم على مشاركتهم المعاناة