رؤى

عبد الهادي محمد عبد الهادي

الاشتراكية والبيئة.. نحو أممية حمراء خضراء

2021.10.01

الاشتراكية والبيئة..  نحو أممية حمراء خضراء

يقوم النظام الرأسمالي في جوهره على الاستغلال؛ استغلال العمل واستغلال البيئة، فتوسيع الأسواق، وتراكم رأس المال، وخصخصة الموارد الطبيعية، والاستهلاك المفرط، والمنافسة من أجل زيادة الأرباح، وخفض تكاليف الإنتاج، وتجاهل التكاليف الاجتماعية والبيئية، أو ترحيلها إلى الأجيال القادمة، يعرض الجنس البشري وكوكب الأرض للخطر.

لا يمكن تجاهل تأثير المجتمع الطبقي على العالم الطبيعي، إذ تعمل آلية السوق العمياء على تحويل التربة الخصبة إلى خرائب، وتزرع الأراضي الخصبة والغابات بأعمدة الخرسانة، وتلوث الماء والهواء، وتغير المناخ، وتهدد الأنواع الحية بالإنقراض، والطرق التي يتعامل بها البشر مع الأرض، ومع بعضهم بعضًا، هي أمور جوهرية في فهم أبعاد الأزمة، كما أن عزل المشكلات البيئية عن المشكلات الاجتماعية، أو التقليل منها، يعني إساة فهم للمصادر الرئيسية للأزمة، وما لم نعترف بذلك فسوف نفشل في إدراك أن العلاقات الطبقية التي تحكم المجتمع الرأسمالي تؤدي إلى الهيمنة على العالم الطبيعي من جهة، وعلى العمل من جهة ثانية، وما لم ندرك أن مجتمع السوق، القائم على مبدأ "النمو أو الموت"، هو آلية مستقلة تعمل بذاتها، سوف نرتكب خطأ جسيمًا بإلقاء مسؤولية المشكلات البيئية على التكنولوجيا أو على النمو السكاني.

الجذور الفكرية

في القرن التاسع عشر لم تكن القضايا البيئية بارزة مثلما هي عليه الآن، لذلك لم تشغل هذه القضايا حيزًا كبيرًا في كتابات ذلك الزمان، ومع أن البيئة الاجتماعية ظاهرة حديثة نسبيًّا، إلا أن جذورها الفكرية تعود إلى تفسيرات كل من ماركس وإنجلز للعلاقة بين ديناميات الرأسمالية وتدمير البيئة الطبيعية، وفي تطوير بديل اشتراكي بيئي اجتماعي للنظام السائد. تعتبر الماركسية أن تطور قوى الإنتاج هو العامل الرئيسي في تقدم البشرية، وعارض ماركس بشكل جذري النزعة الإنتاجية ومنطق التراكم الرأسمالي.

يكمن الإسهام الرئيسي للماركسية فى الفكر البيئي في تفسير دور نمط الإنتاج الرأسمالي في اضطراب وتعطيل التبادل المادي بين المجتمعات البشرية وعناصر البيئة الطبيعية، كتب كارل ماركس في "رأس المال": "يسبب الإنتاج الرأسمالي اضطرابًا في التفاعل الأيضي المتبادل بين الإنسان والأرض، بمعنى أنه يمنع عودة عناصر ومكونات التربة التى يستهلكها الإنسان في صورة طعام وملبس إليها؛ ومن ثَم يعوق الشروط والعمليات الطبيعية اللازمة والضرورية للحفاظ على الخصوبة الدائمة للتربة. كل تقدم في الزراعة الرأسمالية هو تقدم في الفن، أي في التكنولوجيا، لا يهدف إلى سرقة العامل فحسب، بل لسرقة التربة أيضًا. كلما طورت دولة ما نفسها على أساس من التصنيع الكبير زادت عملية التدمير-هذه- بسرعة. الإنتاج الرأسمالي لا ينمو إلا من خلال التدمير المتزامن للمصادر الأصلية للثروة: التربة والعامل".

ثمة أسباب وجيهة للاعتقاد أن تطور تناقضات الرأسمالية العالمية بذاتها قد خلقت الشروط الموضوعية لظهور اتجاه اشتراكي بيئي، أو اشتراكي إيكولوجي، وذلك لسببين، الأول، يتعلق بأسباب ونتائج الأزمة البيئية والاجتماعية العالمية منذ أواسط السبعينيات وحتى اليوم، والثاني، يتعلق بطبيعة القضايا البيئية الأساسية.

اعتمدت حيوية الرأسمالية الغربية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية - في جزء كبير منها- على تكثيف استبعاد التكاليف الاجتماعية والبيئية للإنتاج، ومنذ تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي في أواسط السبعينيات، يتنافس الرأسماليون على حل الأزمة عن طريق التوسع في الصادرات وخفض التكاليف ورفع معدلات استغلال العمل واستنزاف الموارد الطبيعية، وأدى تراكم رأس المال عبر الأزمة خلال العقود الماضية إلى نتائج مدمرة، ليس على توزيع الثروة والدخل والعدالة الاجتماعية ومعاملة الأقليات فحسب، بل أيضًا على سلامة المجتمع وفرص الحياة على كوكب الأرض. ومع أن مثال ماركس يقتصر على تدهور خصوبة التربة، لكنه يستخلص رؤية عميقة مفادها أن نمط الإنتاج الرأسمالي يجسد ميلاً إلى تقويض "الشروط الطبيعية" اللازمة لإعادة إنتاج التربة، وميلاً إلى مزيد من استغلال العمل وتدمير حياة العمال، ويوضح المثال رؤية جدلية لتناقضات "التقدم" في ظل الرأسمالية وعواقبه المدمرة على الطبيعة والإنسان.

مع تزايد حدة وتعقيد ووضوح وعالمية المشكلات البيئية، ومع زيادة الوعي بتشابك العوامل الاجتماعية والبيئية، انطلقت العديد من الحركات البيئية الاشتراكية فى عدد من دول العالم، فظهرت حركات العدالة البيئية في طول العالم وعرضه، من حركة الشيبكو "معانقي الأشجار" في الهند، وهي حركة تأسست قبل أكثر من قرنين لمقاومة قطع أشجار الغابات في إقليم "أوتار براديش" بالهند، إلى حركة "شيكو منديز" وقاطفي المطاط في الأمازون، وحركة "شعب أوجوني" في نيجيريا، وغيرها من الحركات.

تبلورت المفاهيم الأساسية للاشتراكية البيئية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، فصك الاشتراكي البريطاني "ريموند ويليامز" مصطلح "الإيكولوجيا الاجتماعية"، بديلاً لمفهوم "البيئة"، الضيق، الذي يتجاهل العوامل الاجتماعية، ونادى باشتراكية "واعية بيئيًّا"، وأسسس الفيلسوف الإسباني "مانويل ساكرستان" المجلة الإيكولوجية الاجتماعية والنسوية" في غضون"-"ماينتراس تانتو"- وطور في أكثر من مقال المفهوم الجدلي ل"قوى الإنتاج المدمرة"، وشدد الفيلسوف الفرنسي "أندريه جورز" على ضرورة أن تتضمن السياسة البيئية نقدًا جذريًّا للفكر الاقتصادي للرأسمالية. وكتب عالم الأحياء الأمريكي "باري كومونر" أن النظام الرأسمالي وتقنياته، وليس نمو أعداد السكان، هو المسؤول عن تخريب البيئة الطبيعية، وذهب إلى استنتاج مفاده أن نوعًا جديدًا من "الاشتراكية" هو بديل واقعي ممكن لتلك الرأسمالية المدمرة.

وأسس عالم الاجتماع السياسي الأمريكي "جيمس أوكونور" المجلة الفصلية المؤثرة "الرأسمالية والطبيعة والاشتراكية" في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، والتي أصبحت أقرب إلى نوع جديد من الحركة الاجتماعية البيئية التي تسعى إلى إنقاذ الطبيعة من رأس المال، وقدم "أوكونور" مفهوما جديدًا أطلق عليه "التناقض الثاني للرأسمالية"، وفقا لصياغته، هو هذا التناقض بين نمط الإنتاج الرأسمالي و"شروط أو ظروف الإنتاج"، وخصوصًا حالة البيئة، بالإضافة إلى التناقض الأول الذي بينه ماركس بين قوى وعلاقات الإنتاج. وظهر في القرن الجديد جيل جديد من الماركسيين الإيكولوجيين حول مجلة "مراجعات شهرية" (منثلي ريفيو)، وطوروا المفهوم الماركسي لخلل التأثير الأيضي المتبادل بين المجتمعات البشرية والبيئة.

في مقال بعنوان "فكر عالميًا وتصرف محليًا" طرح "أوكونور" للنقاش عددًا من الأسئلة الملحة: كيف نواجه استراتيجية رأس المال المتمثلة في "فرق تسد"، التي تضع العمال في مواجهة البيئة، العمال الحضريين في مواجهة صغار المزارعين، الرجال في مواجهة النساء، الأغلبيات في مواجهة الأقليات المضطهدة، وأخيرًا، الشمال في مواجهة الجنوب؟ هل يمكن مواجهة الأزمات المتشابكة في العالم الحديث والتغلب عليها بنفس الطرق والسياسات التى كانت سببًا في وجودها وتفاقمها؟ كيف يمكن لربط القضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية -نظريًّا وعمليًّا- أن يعزز من فرص وجود مسارات بديلة للتنمية ورؤى جديدة للمستقبل؟ كيف يمكن تنظيم حركة أممية حمراء خضراء وتنسيق الجهود لمواجهة رأس المال العالمي وإطلاق ديموقراطية جديدة وعقلانية بيئية منصفة اقتصاديًّا واجتماعيًّا وطريقًا جديدة للحياة؟

قال "أوكونور" إن الحركات العمالية في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت بحاجة إلى الأممية لمقاومة افتراس البرجوازية العالمية، ومن ثم تحتاج الحركات الحمراء الخضراء إلى الأممية لتحقيق أهدافها، ودعى إلى حركة أممية حمراء- خضراء، وحذر من أنه في غياب هذه الحركة الأممية الواسعة ستفشل حركات العدالة البيئية في تحقيق أهدافها. وفي عام ٢٠٠١ كتب مع "جويل كوفيل" و"ميشيل لوي" -"مانفيستو الاشتراكية الإيكولوجية"- والذي يبدأ بإعادة صياغة السؤال المُلح: "كيف يمكن تجميع حركات المقاومة التي لا حصر لها، والتي تنشأ تلقائيًّا في سياق نمط الإنتاج الرأسمالي، والتي يقوم مضمونها على القضايا الاجتماعية البيئية؟ هل يمكن أن نتصور أممية اشتراكية بيئية؟ هل يمكن جلب "الشبح"- الذي أشار إليه ماركس- إلى حيز الوجود؟

في عام ٢٠٠٨ أصدروا "مانفيستو "بيليم" الإيكولوجي" (بيليم، مدينة في البرازيل) ووقع عليه مئات الأشخاص من أربعين دولة وتم توزيعه في المنتدى الاجتماعي العالمي عام ٢٠٠٩، ومنذ ذلك الحين، أصبح مرجعًا أساسيا مهمًا لعلماء ونشطاء البيئة والاشتراكيين الإيكولوجيين في العالم. وفي الفترة بين أكتوبر ونوفمبر من عام ٢٠١٧ ، اجتمع في ريف "فنزويلا" أكثر من مئة مندوب من ١٩ دولة، يمثلون حركات حمراء وخضراء في خمس قارات، من إندونيسيا وإيطاليا والعراق وفنزويلا والولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا وغانا والمكسيك وبوليفيا وسريلانكا وتنزانيا وكينيا والسلفادور وبيرو والهند. بعد حوارات مطولة ومناقشات مستفيضة، أعلنوا في بيانهم النهائي أنهم قد اتخذوا القرار والإلتزام الجماعي بتأسيس أول أممية اشتراكية إيكولوجية، وتوصلوا إلى وثيقة "إستراتيجية موحدة وخطة عمل"، وعنوانها الفرعي "نسج أنفسنا مع الأرض الأم"، وجمعت في كتاب بعنوان "خطة من أجل الكوكب" وأقرت بالإجماع، إنها عهد مع الأرض الأم، تستلهم الحكمة التي رسخت في ماضي الأجداد، وتقترح طريقا للنضال من أجل المستقبل. من بين قائمة المنظمات المؤسسة، حركة البيئة في بلاد ما بين النهرين، وشبكة تخفيف عبء الديون في كينيا، ومدرسة المدافعين عن المياه في الولايات المتحدة الأمريكية، جنبًا إلى جنب، مع حركات حماة البذور والأصناف المحلية، وحركات السكان الأصليين، وشعوب الغابات، والحركات النسوية الخضراء في عدد من الدول.

التخطيط البيئي الديموقراطي

تقوم الاشتراكية الإيكولوجية في جوهرها على مفهوم التخطيط البيئي الديموقراطي، إذ يتخذ السكان أنفسهم القرارات الرئيسية في الاقتصاد، وليس "السوق" أو المكتب السياسي للحزب الحاكم. في المراحل الأولى للانتقال ربما يتوجب إعادة هيكلة بعض قطاعات الاقتصاد، مثل استخراج النفط والفحم والغاز، السبب الرئيسي في أزمة المناخ، وتطوير قطاعات أخرى، كالطاقة الجديدة والمتجددة، على أن يضمن هذا التحول التوظيف الكامل وشروط عمل مناسبة وأجور متساوية. هذه المساواة ضرورية من أجل ضمان مشاركة الطبقة العاملة ودعمها لهذا التحول الهيكلي للقوى المنتجة وبناء مجتمع عادل، وبما أنه لا يمكن التوفيق بين هذه الرؤية وبين التحكم الخاص في التخطيط وفي وسائل الإنتاج، سيتوجب إعادة هيكلة البنوك والمؤسسات المالية بما يخدم هذا التحول الكبير.

يعارض المحافظون "التخطيط المركزي"، إلا أن التخطيط البيئي الديمقراطي، يوفر ويضمن المزيد من الحرية، أولاً، التحرر من "القوانين الاقتصادية" للنظام الرأسمالي، والتي تحبس الأفراد داخل ما وصفه عالم الاجتماع "ماكس ويبر" بـ"القفص الحديدي"، لن تترك أسعار السلع "لقوانين العرض والطلب"، لكنها بدلاً من ذلك، سوف تعكس الأولويات الاجتماعية والسياسية للمجتمع، مع استخدام نظام عادل للضرائب والإعانات لحفز سوق السلع الاجتماعية. ومع تقدم مراحل الانتقال الاجتماعي-الاقتصادي ستتم تلبية المزيد من الاحتياجات الإنسانية. ثانيًا، تبشر الاشتراكية البيئية بزيادة كبيرة في وقت الفراغ، فالتخطيط وتقليص وقت العمل، خطوتان حاسمتان نحو ما أطلق عليه ماركس "مملكة الحرية"، ومن ثَم، تكون الزيادة الكبيرة في وقت الفراغ، في الواقع، هي شرط لمشاركة العاملين في النقاش الديمقراطي وإدارة الاقتصاد والمجتمع. وأخيرًا، يمثل التخطيط البيئي الديمقراطي ممارسة المجتمع كله لحريته في السيطرة على القرارات التي تؤثر في مصيره. إذا كانت الديموقراطية البرجوازية التمثيلية لا تمنح لنخبة صغيرة سلطة صنع القرارات السياسية، فلماذا لا ينطبق نفس المبدأ على القرارات الاقتصادية؟

يركز التخطيط البيئي الديموقراطي على القرارات الاقتصادية التي تؤثر على نطاق واسع، وليس على القرارات الصغيرة التي قد تؤثر على المتاجر والمطاعم ومحلات البقالة أو المؤسسات الحرفية المحلية، والأهم من ذلك أنه يتوافق مع الإدارة الذاتية للعمال لوحداتهم الإنتاجية. إن قرار تحويل مصنع من إنتاج السيارات إلى إنتاج الحافلات-على سبيل المثال- سوف يتخذه المجتمع ككل، لكن إدارة المصنع والتنظيم الداخلي للمشروع سيقوم بهما العمال بطريقة ديمقراطية. وجرت كثير من المناقشات حول الطابع "المركزي" أو "اللامركزي" للتخطيط، لكن الأهم هو السيطرة الديموقراطية على جميع المستويات، المحلية أو الإقليمية أو الوطنية أو القارية أو الدولية. على سبيل المثال، يجب التعامل مع القضايا البيئية للكوكب، مثل الاحتباس الحراري، على نطاق عالمي، وهو ما يتطلب شكلاً من أشكال التخطيط الديموقراطي العالمي.

إن التحول الكبير، من التقدم المدمر للرأسمالية إلى الإيكولوجية الاجتماعية، هو عملية تاريخية طويلة وممتدة، وتحول ثوري مستمر للمجتمع والثقافة وطريقة التفكير، وتحقيق هذا التحول لن يؤدي فقط إلى نمط جديد للإنتاج، ومجتمع يتسم بالمساواة والديموقراطية، بل أيضًا، إلى نمط بديل للحياة وحضارة إيكولوجية اجتماعية جديدة، تتجاوز عهد المال وعادات الاستهلاك التي يتم اصطناعها عن طريق الإعلان. ويعتمد هذا التحول على الدعم النشط والفعال من الغالبية العظمى من السكان لبرنامج إيكولوجي اجتماعي، وتبقى التجارب الجماعية في النضال، من المواجهات المحلية والجزئية إلى التغيير الجذري في المجتمع العالمي ككل، هي العامل الحاسم في تنمية الوعي الاشتراكي البيئي.

النمو أو الموت؟

تروج الرأسمالية لخيارات ثنائية زائفة، مثل الوظائف في مقابل البيئة، تسليع الأرض والمياه في مقابل الحاجات الاجتماعية، النمو في مقابل المجتمع المستدام. ومن أجل تحسين حالة العمل لجأ الاشتراكيون تاريخيًّا إلى مستوى أعلى من الإنتاجية، وتوزيع أكثر إنصافًا للثروة، لكن ثمة معضلتان في هذا الأسلوب، الأولى، إنه في المجتمع الرأسمالي من المؤكد أن يؤثر التوزيع المتساوي للثروة سلبًا على الحوافز الاقتصادية للإنتاج، والثانية، هي أن زيادة الإنتاج تتطلب تكثيف استغلال العمال ما يزيد من عدم المساواة.

ترفض الاشتراكية الإيكولوجية هذه الثنائيات الزائفة، لأنها تقوم على مفهوم "كمي" بحت عن قوى الإنتاج، وتطرح -بدلاً منها- تحولاً نوعيًّا ونموذجًا جديدًا في التنمية يضع حدًا لإهدار الموارد في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي، وترى أنه يمكن للمجتمع تحقيق مستويات عالية من الإنتاجية عن طريق المزيد من التدوير وإعادة الاستخدام الفعال، وخفض استهلاك الطاقة، وإدخال تعديلات على العمل، ووقف طاحونة المبيدات والاستعاضة عنها بالزراعة العضوية، ووقف تسليع العمل والأرض والموارد الطبيعية.

ربما يتوجب على بلدان الجنوب الفقيرة أن تسعى إلى تحقيق "تنمية" أكبر في مشروعات البنية الأساسية، كالطرق والمستشفيات والصرف الصحي وغيرها، لكنها ليست مضطرة إلى محاكاة الطريق الرأسمالي والاستعماري الذي اتبعته البلدان الرأسمالية في المركز، ويمكنها إنجاز التنمية بطرق أكثر توافقًا مع البيئة، بما في ذلك الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة. قد تكون هذه البلدان في حاجة إلى زيادة الإنتاج الزراعي لتوفير الغذاء للأعداد المتزايدة من السكان، لكنها ليست مضطرة إلى استخدام أساليب الزراعة الرأسمالية التدميرية، التي تنطوي على مدخلات كثيفة من الكيماويات ومبيدات الآفات والمنتجات المعدلة وراثيًّا. في مقابل ذلك، تشجع الاشتراكية الإيكولوجية على انتهاج أساليب علم البيئة الزراعية والتي تكمن جذورها في الوحدات الأسرية أو التعاونيات أو المزارع الجماعية الواسعة النطاق.

تقوم الفرضية الأساسية للاشتراكية الإيكولوجية على أنه في مجتمع خالٍ من الانقسامات الطبقية الحادة والاغتراب الرأسمالي، سيكون ل"الوجود" أسبقية على "الامتلاك"، وبدلاً من البحث بلا نهاية عن السلع، سيسعى الناس إلى الحصول على وقت فراغ أطول، يسمح لهم بتحقيق ذواتهم واكتساب معنى حقيقي للحياة، من خلال ممارسة الأنشطة الثقافية والرياضية والترفيهية والعلمية والجنسية والفنية والسياسية.

سيواجه الانتقال إلى المجتمع البيئي الاجتماعي الجديد تناقضات، بين متطلبات حماية البيئة وتلبية الاحتياجات الاجتماعية، بين الضرورات الإيكولوجية وتطوير البنية التحتية الأساسية، وبين عادات المستهلك الشعبية وندرة الموارد، بين الدوافع المحلية المجتمعية والعالمية، ويتوقع وجود مثل هذه التناقضات حتى في المجتمع اللا طبقي، لذلك تكون مهمة عملية التخطيط الديموقراطية هي إدارة هذه التناقضات وموازنتها عبر حوار عام شفاف وصريح ومفتوح، والتوصل إلى حلول مناسبة، بعيدا عن ضرورات رأس المال وجني الأرباح، لكن ذلك لن يعني عدم وجود أخطاء، لكن الديموقراطية التشاركية على جميع المستويات توفر آلية مناسبة لتصحيح الأخطاء.

الاشتراكيون حماة للبيئة؟

على الرغم من أن بعض الاشتراكيين يعترفون بضرورة تضمين علم البيئة في اشتراكية القرن الجديد، إلا أنهم يعترضون على مصطلح "الاشتراكية الإيكولوجية"، وحجتهم أن الاشتراكية تتضمن بالفعل علم البيئة والحركات النسائية وغيرها من القضايا التقدمية. لكن مصطلح الاشتراكية الإيكولوجية يقترح تغييرًا حاسمًا في الأفكار والمضامين السياسية، فهو، أولاً، يعكس فهمًا جديدًا للرأسمالية كنظام لا يقوم فقط على الاستغلال، ولكن أيضًا على التدمير الهائل لظروف الحياة على الكوكب. ثانيًا، يوسع من معنى ومضمون التحول الاشتراكي، إلى ما هو أبعد وأعمق من مجرد تغيير في شكل الملكية، إلى طريقة جديدة في الإنتاج والاستهلاك، وفي طريقة الحياة عموما. ثالثًا، يتضمن المصطلح الجديد نظرة نقدية للتجارب التى حملت اسم الاشتراكية في القرن العشرين، سواء في طبعتها الديموقراطية الاجتماعية، أو الشيوعية على الطراز السوفيتي، والتي لم تدرك بما فيه الكفاية تأثير التنظيم الاجتماعي للبشر على البيئة.

لم تكن البيئة الطبيعية في ظل "رأسمالية الدولة"- أو "الاشتراكية" على النمط السوفيتي- أفضل حالًا منها في ظل الرأسمالية، وهذا أحد الأسباب التي تحمل الإيكولوجيا الاجتماعية برنامجًا ورؤية مختلفين تمامًا عما يسمى بـ "الاشتراكية القائمة بالفعل"، أو تلك التي كانت قائمة في الماضي، حين قلدت الحكومات الجهاز الإنتاجي للرأسمالية الغربية وأغفلت أو تجاهلت إلى حد كبير التكاليف السلبية العميقة والتى ظهرت في صورة تدهور بيئي. كان الاتحاد السوفيتي مثالاً واضحًا على ذلك، فقد شهدت السنوات الأولى بعد ثورة أكتوبر ١٩١٧ اهتمامًا ملحوظا بالبيئة ونفذ عدد من التدابير لحماية البيئة، ومع نمو البيروقراطية في عهد ستالين، وفرض طرق شمولية غير مجدية وضارة بيئيًّا في الإنتاج الزراعي والصناعي والعسكري، وتهميش علماء البيئة، تراجع الاهتمام بالبيئة.

إن تغيير شكل الملكية -فقط- لا يضمن حلاً ناجزًا للأزمة، فتغيير من يمتلك أدوات الإنتاج، دون تغيير في نمط الإنتاج، هو طريق مسدود، لذلك يجب أن تكون الإدارة الديموقراطية، وإعادة تنظيم الإنتاج، إلى جانب الالتزام الثابت بحماية البيئة، في قلب هذا التحول الكبير، فلا الاشتراكية وحدها، ولا البيئة وحدها، تكفي لوقف تدهور الحياة على الأرض، ولكن الاشتراكية الإيكولوجية تقدم حلاً ممكنًا وواعدًا لهذه المعضلة الكبرى.

الانتقال الكبير

الأزمات البيئية والاقتصادية والاجتماعية العالمية لا تعرف الحدود الوطنية، لذلك تعتبر الاشتراكية الإيكولوجية نفسها جزءًا من حركة دولية، وترى أنه يتوجب عولمة الكفاح ضد القوى النظامية المسببة لهذه الأزمات، ولا تزعم الاشتراكية الخضراء أنها "أكثر أهمية" أو "أكثر ثورية" من غيرها، لأن من شأن هذه المزاعم أن تؤجج التنافس والاستقطاب داخل الحركة، وإذا كان الهدف هو الوحدة، فمن شأن ذلك أن يحقق نتائج عكسية.

توجد الكثير من نقاط الالتقاء وتقاطع المصالح بين الحركات الاشتراكية والخضر والحركات المناهضة للحرب، وحركات العدالة البيئية، وحركات السكان والشعوب الأصلية، والحركات النسوية، وتبدو مثل هذه الحركات متقاربة ومتكاملة إذ تجمع حركات العدالة المناخية بين حماية الشعوب الأصلية ومكافحة العنصرية ، وبعض قادة هذه الحركات هم بالفعل اشتراكيون إيكولوجيون، وتكتسب الاشتراكية الخضراء مزيدا من الأنصار والمؤيدين في حركات الفلاحين والنقابات العمالية والحركات النسوية.

يعد الوعي والتنظيم الذاتي شرطان أساسيان حاسمان في التحول الجذري إلى نظام عالمي جديد، لذا فإن تقارب الحركات الاجتماعية وحركات العدالة البيئية، وتنظيم صفوفهم وانخراطهم في صراعات مشتركة، وتوليف الآلاف من الحركات المحلية والجزئية في حركة عالمية شاملة موحدة ومنظمة، من شأنه أن يعزز فكرة وتأسيس "حركة الحركات" التي ظهرت في المنتدي الاجتماعي العالمي، وأن يمهد الطريق إلى تحول كبير، ويبشر بمجتمع جديد وطريقة جديدة للحياة على الأرض. لا يتعارض الكفاح من أجل الاشتراكية الخضراء على المدى الطويل، مع النضال من أجل تحقيق إصلاحات ملموسة صغيرة وعاجلة على المدى القريب، إن تقليل المخاطر التي يتعرض لها البشر والأرض ضروري، وفرض التزامات على الدول والشركات للحد من انبعاثات غاز الدفيئة، ودعم التحول نحو الأساليب الإيكولوجية فى الزراعة، والشبكات التعاونية للطاقة الشمسية، والإدارة الاجتماعية للموارد، إن كسب مثل هذه المعارك الملموسة مهم وضروري لمكافحة التدهور البيئي ومقاومة اليأس من المستقبل، ويمكن لهذه الحملات-على المدى الطويل-أن تساعد في زيادة الوعي البيئي والاشتراكي وأن تعزز من النشاط في القواعد، بشرط أن نتخلص من أية أوهام حول احتمالية الوصول إلى "الرأسمالية النظيفة".

إن تفاقم أزمة تغير المناخ، الاحترار المتسارع، تلوث الموارد المائية، تحمض المحيطات، والانقراض الجماعي المستمر، وبزوغ الفاشية، واستمرار الحروب، كلها تعني أن أسئلة أوكونور ظلت -لنحو ثلاثة عقود- دون إجابات واضحة، لذلك تسعى الأممية الاشتراكية الخضراء إلى تغيير النظام الرأسمالي، وهي على قناعة بأن عالماً آخر، غير عالم السلع وتدمير البيئة والاستغلال والقمع، هو عالم ممكن بل وضروري، ومع أنها لا تزال ضعيفة في مواجهة النخب الحاكمة الراسخة، إلا أنها تنمو وتكتسب أنصارا في كل مكان تقريبا.

يعرف كارل ماركس الثورة بأنها قاطرة التاريخ، بينما يعرفها الفيلسوف الماركسي والناقد الأدبي والتر بنيامين بأنها لجوء البشرية إلى استخدام "فرامل الطوارئ" قبل أن يسقط القطار في الهاوية، لسنا بحاجة إلى المزيد من الكوارث حتى نلجأ إلى استخدام الفرامل واختيار مسار جديد ووجهة جديدة ومختلفة.