أرشيف القضاء
شريف إمامالبداري 1932 - الرصاص فى وجه الاستبداد
2025.06.02
مصدر الصورة : ويكبيديا
البداري 1932 - الرصاص فى وجه الاستبداد
على الضفة الشرقية لنهر النيل، حيث الجنوب يعانق أصالة الصعيد، ترقد بين جنبات الزمن بلدة "البداري" في محافظة أسيوط كواحدة من أعرق المناطق في تاريخ مصر القديم. بلدة عرفها الجميع بالصمت الذي يشبه القبور، بعيدًا عن ضجيج السياسة وصراعاتها. لكنها في ربيع عام 1932، وتحديدًا في ليلة التاسع عشر من مارس، انفجرت كالبراكين، حين ارتطمت رصاصتان حارقتان بقلب الصعيد، فاستقرتا في صدر مأمور مركز المدينة، فسقط قتيلًا بين صدى الألم والزمن.
في تلك الأثناء، كانت مصر الملكية قد أمضت عامين من القمع السياسي الذي فرضه عليها نظام إسماعيل صدقي على أنقاض دستور 1923، وفصَّل له دستورًا جديدًا، هدفه الأساسي أن يصير الملك وحكومته مصدرًا للسلطات، واصطنع الرجل لنفسه حزبًا أسماه حزب الشعب. الشعب، ذلك الطفل القاصر الجاهل، من تُجمِّعه زفة، وتفرقه عصًا، حسبما وصفه صدقي. عامان، ونظام صدقي باقٍ، لم يمر يوم دون صدام بين الحكومة والشعب؛ مظاهرة تنشب في هذا الشارع أو ذاك من شوارع العاصمة والمدن الكبرى وعواصم الأقاليم، تهتف بسقوط صدقي ونظامه ورجاله، تتصدى لها قوات الشرطة، وأحيانًا قوات الجيش، وتنتهي غالبًا بقتلى وجرحى من الطرفين. عامان ونظام صدقي جاثم على قلب مصر، رغم مقاومة المقاومين، ودعاء الداعين، وأهاجي الشعراء والمتكلمين.
فقد استقبل شاعر النيل حافظ إبراهيم العام الثاني لنظام الاستبداد، بميمية في هجائه، كانت من أواخر قصائده، جاء مطلعها:
قَد مَرَّ عامٌ يا سُعادُ وعامٌ
وابنُ الكِنانةِ في حِماهُ يُضامُ
صَبُّوا البَلاءَ على العِبادِ فَنِصفُهُم
يَجبي البِلادَ ونِصفُهُم حُكَّامُ
في هذا المناخ، لم يتوقع أهالي البداري حين سمعوا بتولي يوسف الشافعي منصب مأمور مركزهم أن يكون خيرًا ممن سبقوه، كان الرجل حريصًا على أن يبدو أمام الجميع نموذجًا للحاكم المخيف الذي يرهبه الجميع، ويعملون له ألف حساب، ويعترفون بأنه السلطة الوحيدة في البندر والمركز. وكان من ذلك النوع الذي يؤمن بأن السلطة هيبة وسمعة وثقة بالنفس وجسارة لا تتردد ولا تهتم بعرف أو قانون، إذ المهم أن يخافك الناس، وبذلك لا تحتاج إلى عصاك لتأديبهم، وهكذا طارت شهرته إلى أنحاء محافظة أسيوط، باعتباره المثال المرتجى -في ذلك العهد- لرجل الشرطة المهيب الذي يملأ مركزه، ويستحق مقعده، ويُخضع رعاياه لمشيئته. كان إذا مر في الطريق وضبط مخالفة لتعاليمه، أمر جنوده بالقبض على المخالف الأثيم، فيقودونه إلى مبنى مركز الشرطة، ليؤدب باللكمات والعصي والشلاليت، وبالكرابيج ومؤخرات البنادق إذا كانت المخالفة جسيمة أو كان المأمور ثائرًا أكثر من المعتاد. وكان مما يثيره فيخرجه عن طوره أن يرى فلاحًا معتزًّا بنفسه -إذ كان من رأيه أن من أصول الضبط والربط أن يظهر له الجميع أمارات الخضوع والتوقير- ويعتقد أن الاعتداد بالنفس، قد يوحي بأن هناك من لا يخاف الشرطة، أو لا يحترم هيبة الحكومة. وكان من سوء حظ الشابين أحمد جعيدي عبدالحق، وصديقه حسن عاشور، الملقب بـ"حسونة"، أنهما كانا من هذا النوع.
لذلك لم ينجُ جعيدي تحديدًا من ارتياب المأمور، فبدا وكأنه المتهم الدائم بجرائم لم تُرتكب بعد. وكان العمدة محمد همام -خصم والده في نزاع قديم- فتطوع بوضع اسمه وصديقه حسونة في قائمة المشبوهين، استدعاهما المأمور، ونظر إليهما بازدراء. لم يُعجبه شعرهما الطويل، ولا وقفتهما الواثقة، ولا ردودهما المتزنة. رأى فيهما وقاحة تستحق التأديب، فأمر بضربهما وقص شاربيهما، وإدراجهما في سجلات المراقبة، ليفقدا حق التنقل والكرامة معًا. لم يكن العقاب قانونيًّا، بل وسيلة لإهانة كل من تسوّل له نفسه الخروج عن طاعة السلطة. ومع كل مرة يُساقان فيها إلى مركز الشرطة، يُمارس عليهما طقوسًا من الإذلال المقصود، تُسحق فيها رجولتهما أمام العساكر، ويُجبران على تقمص دور "المرأة" في مشهد تراجيدي يمزج بين العنف والسخرية والوحشية. رفضت النيابة شكوى قدمها جعيدي، وتمادى المأمور في غطرسته، غير مدرك أن الصبر حين ينفد يولّد الغضب، وأن كرامة الإنسان إن سُحقت، ترد الصاع صاعين. في لحظة حاسمة، قرر أحمد أن يثأر لكرامته، ويكسر دائرة الذل والخنوع. صارح حسونة، فوافقه. راقبا المأمور أيامًا، حتى عرفا موعد خروجه دون حراسة، وفي مساء يوم 19 مارس 1932، خرج الشافعي يتجول برفقة صديقه مهندس الري فهيم أفندي ناصف، حتى وصلا إلى مبنى المدرسة الابتدائية. هناك، دوّت طلقات نارية، وسقط المأمور صريعًا. ترك القاتلان مهندس الري على قيد الحياة، وعادا بهدوء إلى منزليهما، وتناولا العشاء، بينما كانت زغاريد النساء تعلو من بيوت البداري، احتفالًا بمقتل من اعتبروه رمزًا للظلم.
فهمت دولة صدقي الرسالة سريعًا؛ الرصاصات لم تُطلق على رجل أمن فقط، بل على النظام نفسه، على الظلم الذي مثّله. فالزغاريد التي دوّت في شوارع البداري، كانت إعلانًا رمزيًّا بأن الصعيد لن ينحني بعد الآن، وأن صمت الناس لا يعني استسلامًا. أصدر صدقي باشا تعليماته العاجلة: التحقيق يجب أن يتولاه كبار المسؤولين، والدماء التي سُفكت لن تذهب سُدى. قُبض على عدد من الشبان، وامتلأ مركز الشرطة بالمشتبه فيهم، لكنهم جميعًا تشبثوا بالمكر الريفي؛ أنكروا، وأثبتوا وجودهم في أماكن أخرى وقت الجريمة، ولم يجد المحقق ما يدينهم، فأُفرج عنهم. أدرك صدقي وحكمدار أسيوط أن أهالي البداري يعرفون القاتل، ويحمونه لأنهم لا يرون في جريمته جرمًا، بل انتقامًا شعبيًّا من ظلم الدولة. فقرر الحكمدار اقتحام المدينة، ونشر قواته في ثلاثة أقسام: حاصر الأول مداخل المدينة ليمنع الدخول إليها والخروج منها. وانتشر الثاني -وكان من جنود الهجانة الذين ينتمون إلى جنوب السودان- في شوارعها وطرقاتها، فطاحوا في الناس بسياطهم، وأخلوا شوارع المدينة تنفيذًا لقرار بحظر التجول. أما القسم الثالث فكان مكلفًا بالتحقيق على الطريقة الصدقية: الضرب بالسياط، ومقابض البنادق، والإجبار على شرب بول الخيل وأكل التبن.
تطوع العمدة همام مجددًا ووجه شبهات الحكمدار، لتتركز في جعيدي وحسونة، فحاصرت قوات الهجانة منزليهما، وأعادت إلقاء القبض عليهما وعلى بقية المشبوهين، وربطتهم بالحبال إلى ذيول الخيول فسحلتهم على أرض الشوارع الواقعة بين منازلهم ومبنى المركز، وهم يضربون بالسياط، لإحاطة أهل البداري علمًا بالطريقة التي سيجري بها التحقيق القانوني!
ولأن أحمد جعيدي كان يدرك أن أحدًا لا يملك دليلًا ضده مهما قويت الشبهات، فقد أصر على الإنكار رغم التعذيب البشع الذي تعرض له، والذي تواصل ليل نهار، وسانده حسونة فأنكر هو الآخر. آنذاك لجأ الحكمدار إلى وسيلة كان يعلم أنها لن تخيب، بل سوف تحملهما على الاعتراف فورًا: أمر قوات الهجانة بإحضار كل نساء وأهل المتهمين.
واستدعى المتهمين وطالبهما بأن يعترفا بما ارتكبا، ولما أصرَّا على الإنكار، أمر بعض الجنود فبدءوا في طلاء وجوه النساء باللون الأبيض، وأمر آخرين بنزع ملابسهن، وقبل أن تنزع الأيادي ملابس الأمهات والشقيقات، كان أحمد جعيدي يصرخ، معلنًا أنه سيتكلم، بشرط أن تغادر النساء، وما إن غادرن حتى تراجع أحمد، فازداد التنكيل، حتى تم العثور على إحدى البنادق، وشهادة خادمة أكدت رؤية أحمد يخفيها، فانهار المتهمان، واعترفا.
في 21 يونيو 1932، أصدرت المحكمة برئاسة المستشار إتربي بك أبو العز حكمها بإعدام أحمد جعيدي عبدالحق، وبالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة على حسن أحمد أبو عاشور المعروف بـ«حسونة»، وطعن دفاع المتهمين في الحكم بالنقض فور صدوره. فسَّرت محكمة جنايات أسيوط تشديدها للعقوبة ورفضها للرأفة بعدة أسباب: أولها أن المأمور كان يؤدي واجبه بملاحقة المتهمين اللذين «عاثا في الأرض فسادًا»، ما يستدعي معاقبة القاتل بقسوة ودون رحمة. أما السبب الثاني، فهو أن الجريمة وقعت بعد «سبق إصرار» و«ترصد» متعمدين، أي أن القاتلين خططا للجريمة بهدوء وعمدًا، وانتظرا فرصتهما لتنفيذها، وهو ما يدل على قسوة الجريمة وخبث الجناة، ويثير رعبًا واضطرابًا في النفوس.
ولم يكن أحد قد عرف شيئًا ممَّا جرى في البداري منذ نشر خبر مصرع المأمور، إذ لم تنشر الصحف كلمة واحدة عما فعله حكمدار أسيوط بأهلها، كانت الحكومة تعتقد أن ملف القضية قد طوي، لكن أحد فصوله الأكثر إثارة قد بدأ مع وصول القضية بين يدي عبدالعزيز باشا فهمي رئيس محكمة النقض. وبينما صدقي يستعد لجولة جديدة من المفاوضات مع الجانب البريطاني عاجلة حكم محكمة النقض في الخامس من ديسمبر 1932، فعلى الرغم من أنه رفض الطعن فإنه هدم الكثير من مبرراتها، حيث جاء فيه «إن المعاملة التي كان المجني عليه يعامل بها المتهمين هي إجرام في إجرام، ومن وقائعها ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون بالأشغال الشاقة، وكلها من أشد المخازي إثارة للنفس واهتياجًا لها، ودفعًا بها للانتقام».
أما لماذا لم تلغِ محكمة النقض الإعدام، وتقبل الطعن، فلأن المحكمة التي أصدرت الحكم بالإعدام لم تخرج في تقدير العقوبة على النص القانوني، لم يكن تخفيف الحكم إذن من سلطة محكمة النقض، ولذلك لم تخففه.
بعد أسبوعين من صدور حكم محكمة النقض، بدأت الأنباء تتسرب عن أن هناك خلافًا بين وزير العدل علي ماهر باشا ووزير الداخلية ورئيس الوزراء إسماعيل صدقي باشا، حول الطريقة التي تتعامل بها الحكومة مع الحكم، وكان من رأي وزير العدل أنه لا يستطيع أن يتجاهل حيثيات حكم صادر عن محكمة رفيعة المستوى، ولا أن يصم آذانه عن المطالبة الصريحة التي وجهتها إليه بالسعي لتخفيف الحكم عن المتهمين، عن الطريق الوحيد المتاح، وهو أن يستصدر أمرًا ملكيًّا بتخفيف العقوبة. وقال رئيس الوزراء إن محكمة النقض لم تجد على الحكم مأخذًا من الناحية القانونية، وأن توصيتها بتخفيف العقوبة ليست ملزمة للحكومة.
وفي يوم 18 ديسمبر 1932، عقد علي ماهر اجتماعًا مع عبدالعزيز فهمي وكبار المستشارين القانونيين للحكومة، والنائب العام، حيث تداولوا في حيثيات الحكم، واتفقوا على أن يرفع باسمه -كوزير للعدل- التماسًا إلى جلالة الملك بطلب إبدال عقوبة الإعدام على جعيدي، إلى الأشغال الشاقة. ووافق على أن يأمر بإجراء تحقيق عن كل ملابسات القضية، يشمل الذين تولوا تحقيقها، ومن كانت لهم صلة بوقائعها من رجال النيابة أو الإدارة، وأفراد عائلتي المتهمين، لتحديد المسؤولية الإدارية والجنائية، ومحاسبة الذين تثبت ضدهم تهمة التعذيب أو تهمة الإهمال في تحقيق شكاوى المتهمين.
وعلى الفور بدأ الأفوكاتو العمومي سيد بك مصطفى التحقيق، وسط ضغوط مكثفة بذلها صدقي لكي يحتوي الأزمة، ولأن أطرافًا كثيرة من الإدارة المحلية في أسيوط كانت قد تواطأت على ما جرى، فقد أسرعت تخفي الأوراق وتستبدلها وتحشد الشهود. ولم يكن لدى أحد ثقة بأن التحقيق سيصل إلى الحقيقة، حتى إن الشيخ جعيدي عبدالحق أرسل رسالة إلى جريدة «الجهاد»، خاطب فيها وزيري الداخلية والحقانية قائلًا:
هل تريدان تحقيقًا جديًّا؟ هل تريدان الوصول إلى الحقيقة؟ هل تريدان أن تقفا على حوادث مزرية يعاقب عليها القانون؟ إذن أصدرا الأمر بوقف عمدتي البداري وحكمدار أسيوط، واتركا الحرية للناس، ثم اسمعا ما يقوله سكان البداري جميعًا، تجدا المسؤول الأول!
لكن أحدًا لم يكن يريد تحقيقًا، أو يجهل ما يقوله سكان البداري، أو يسعى حقًّا إلى البحث عن المسؤول الأول، فقد كانوا جميعًا يعرفون أن هذا المسؤول المجهول، هو ذاته النظام الذي يحكم.
وربما لأن النظام هو المتهم وهو المحقِّق، فإن إسماعيل صدقي كان واثقًا بأن الأزمة ستمر، وأن المسرحية ستعرض كما أخرجها.
وفجأة حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد انهالت شكاوى الناس على مكتب وزير الحقانية من كل أنحاء البلاد، تروي وقائع عمَّا تعرضوا له من عسف وعنف الشرطة، وخروج الحكم عن الأساليب النظامية في التعامل مع رعاياه. وارتفع عدد الشكاوى إلى 400 شكوى، فأحالها الوزير إلى النائب العام، وطلب التحقيق فيها. وأرسل النائب العام إلى وكلائه في جميع أنحاء البلاد يسألهم عن عدد الشكاوى المقدمة ضد جهاز الشرطة، فإذا بها 2543 شكوى من وقائع تعذيب مارستها الشرطة ضد المواطنين خلال مدة لا تصل إلى عام، وإذا بينها 2220 شكوى ضد صف ضباط وعساكر وخفراء، و323 شكوى من أعمال عنف قام بها مأمورو شرطة وضباط شرطة ومعاونو إدارة!
وقلق إسماعيل صدقي من فتح ملف التعذيب، وعارض في إجراء أي تحقيق مع رجال الإدارة في أي حادثة إلا إذا كانت متصلة بموضوع البداري، وقال إن بدء التحقيق في الشكاوى سيؤدي إلى اتساع هذا الباب بصورة خطيرة. في المقابل كان عباس محمود العقاد قد سخَّر صحيفة الجهاد الوفدية لمتابعة تفاصيل القضية، وكتب سلسلة مقالات عنيفة، كان أولها بعنوان «فظائع القرون الوسطى: أين نحن؟ وأين أعداء الفوضى في الإدارة المصرية؟»، ختمه قائلًا: «لقد فضح الحكم في قضية البداري، شيئًا قليلًا من أوزار هذا الزمان، ولو افتضحت كل أوزاره لعجب الناس -في غير هذه الأمة- كيف بقيت في نفوس المصريين سورة للعدل، ونخوة للغضب الشريف».
اتسعت الهوة بين وزير الحقانية ورئيس الوزراء، وكان إسماعيل صدقي يعترض على فتح وزير الحقانية لملف التعذيب والتحقيق مع رجال الإدارة، ويعلن أن ذلك من مسائل السياسة العامة للحكومة، وأنه ليس من حق الوزير -دستوريًّا!- أن يتصرف فيها وحده لأنها من سلطة مجلس الوزراء. أما علي ماهر فقد تمسك بأنه المسؤول -مباشرة- عن أعمال وزارته، حسب نص الدستور، ومن حقه أن يكون مستقلًّا في إدارة أعمالها وتوجيهها، ومن بينها التحقيق في بلاغات المواطنين. وانتقل الخلاف إلى مجلس النواب، حيث أعد علي ماهر بيانًا للرد على استجواب حول القضية تضمن التقدم بمشروع قانون لإلغاء قانون حماية الموظفين، ونقل تبعية رجال الشرطة الذين يحققون في القضايا في مراحلها الابتدائية من وزارة الداخلية إلى النيابة العامة. وامتدح البيان حكم محكمة النقض، ووعد بأنه سيستصدر عفوًا ملكيًّا عن المتهمين. وكان من رأي صدقي أن تقديم كل هذه الترضيات إلى شخص اسمه أحمد جعيدي تراجع كبير يهز هيبة الحكم.
توسط عدد من الوزراء بين الرجلين، وقبل وزير الحقانية أن يعدل بيانه مقابل أن يكتب خطابًا إلى رئيس الوزراء يبلغه فيه ما وصل إليه التحقيق في بعض حوادث التعذيب في مديرية أسيوط، ويطلب منه محاكمة بعض كبار موظفيها الإداريين، وأن يتلقى من رئيس الوزراء ردًّا بموافقته على ذلك. ورفض صدقي شروط علي ماهر، وقابل الملك فؤاد وعرض عليه المشكلة، فلم يُبدِ حماسًا للتدخل، وإن كان قد وعده بأن يقابل علي ماهر. وقد استقبله بالفعل وحاول الملك إثناءه عن تشدده مع رئيس الوزراء، فقال له علي ماهر: «إنني لو كنت مكان أحمد جعيدي وفعل بي المأمور ما فعله فيه، لقتلته أنا أيضًا».
وأخيرًا نجحت الوساطة بين الرجلين، واقتنع علي ماهر بتعديل بيانه لتفادي كل ما يعكر الجو في وقت تبدأ فيه المفاوضات بين رئيس الوزراء والمندوب السامي البريطاني، ولكنه تمسك بألا يلقي البيان في حالة تعديله، وأصر على إحالة التحقيقات التي تمت مع رجال الإدارة في حوادث التعذيب التي وقعت في البداري إلى القضاء، وطلب صدقي منه أن يؤجل ذلك بعض الوقت، فوعد علي ماهر بسؤال النائب العام لأن الأمر يتعلق به، كما أصر على تخفيف العقوبة عن أحمد جعيدي وحسن عاشور.
وخلال اليومين اللذين فصلا بين اجتماع مجلس الوزراء واجتماع مجلس النواب، تحركت الحوادث بسرعة شديدة؛ علم صدقي أن النيابة العامة شرعت فعلًا في اتخاذ الإجراءات التي طلب تأجيلها، وأعلنت قرار الاتهام في قضايا التعذيب، وطلب صدقي من النائب العام إيقاف إعلان القرارات، فاعتذر بأنه يأخذ تعليماته من وزير الحقانية، فاتصل الوسطاء بعلي ماهر الذي قال إنه ما دامت النيابة قد تصرفت في القضية فهو لا يستطيع التدخل. وغضب صدقي لأن علي ماهر خرج عن الاتفاق، وأخلَّ بهيبة الإدارة، وقدم إلى المحاكمة موظفين يعملون تحت رئاسته في وزارة الداخلية دون استئذانه أو إخطاره ورغم علمه باعتراضه، وازداد غضبه اشتعالًا حين عرف أن علي ماهر أصدر تعليماته لمعاونيه في الوزارة بإعداد مشروعات القوانين التي كان قد اقترحها في مسودة بيانه، وقبل رفعها منه، وهو ما يعني -في رأي صدقي- أنه لم يكن مخلصًا في تنفيذ اتفاقية الصلح، وأنه يواصل إصراره على إحراج الوزارة. امتنع علي ماهر عن الذهاب إلى مجلس النواب، لإلقاء بيان الحكومة بشأن قضية البدارى ليقرأ بيانًا نيابة عن وزير المعارف وما إن نطق حتى انطلقت الاحتجاجات. قال النواب إن الجلسة تاريخية، وإن غياب الوزير المعني لا يليق بمقامها، واقترحوا التأجيل. صدقي، الذي يكاد الغيظ يشتعل في صدره، حاول التخفيف، متمسكًا بالأعراف البرلمانية، مؤكدًا أن البيان قد نال موافقة وزيره الغائب، وأن المهم هو "الحقيقة"، لا من يعلنها.
لكن الحقيقة، حين خرجت من فم الوزير البديل، جاءت مموّهة كوجه يرتدي قناعًا. بيان العدل كان أشبه بتجلٍّ صارخ لـ"عدل الظالمين"، حشد فيه التزوير بإتقان، وأُخفيت فيه الحقائق بإحكام. فقد زُعِم أن القتيل لم يُعذّب أحدًا، وأن جعيدي وعاشور لم يتقدما بشكوى حقيقية، وأن إصابات جعيدي مجرد كدمات منفعلة من جنود ثائرين. وحتى عندما أُقرّ بالتعذيب، أُلقيت التهمة على الكونستابل، بينما نُزّه المأمور القتيل من كل خطيئة.
وفي نفس اليوم عدَّل صدقي وزارته ليخرج منها علي ماهر وعبدالفتاح يحيى -وزير الخارجية، الذي كان قد أيد علي ماهر في موقفه- وخرج ماهر وبقي قانون حماية الموظفين نيرًا على رؤوس المضطهدين، وقلعة يتحصن بها الظالمون من رجال الإدارة، لكن المقادير قد شاءت أن يذهب صدقي باشا!
فبعد الأزمة بأسابيع قليلة -فبراير 1933- وقع صدقي الجبار صريع شلل أصاب نصفه الأيمن، بسبب المجهود العنيف الذي بذله في تثبيت أركان نظامه -وخاصة خلال أزمة البداري- في مواجهة الأعاصير التي تحيط به من كل جانب، التي انتهت بتفجره من الداخل.
وسافر صدقي إلى الخارج للعلاج، فظل هناك سبعة أشهر، وما كاد يعود في أغسطس 1933، وقد استرد صحته، حتى وجد زكي الإبراشي باشا ناظر الخاصة الملكية، يدير الوزارة من مكتبه بالقصر الملكي، فاستقال في 21 سبتمبر 1933، وانهار النظام الجبار الذي أنشأه ليعيش عشر سنوات، لكنه انهار بعد ثلاث سنوات فقط!
وخُفِّف الحكم على أحمد جعيدي عبد الحق من الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، قضى منها، ثمانية عشر عامًا في «ليمان أبي زعبل» وغادره في عام 1950. وهي السنة نفسها التي غادر فيها إسماعيل صدقي الدنيا!+
المصادر:
صلاح عيسي، حكايات من دفتر الوطن
صلاح عيسي، حكاية مصرع مأمور البداري
صبري أبو المجد، سنوات ما قبل الثورة
عبدالرحمن الرافعي، في أعقاب الثورة المصرية
ترشيحاتنا
