رؤى

زينب البكري

أدهم الشرقاوي بين التاريخ والتصور الشعبي

2024.04.05

تصوير آخرون

رؤية تفكيكية للأسطورة

 

مَن منا لم يقرأ عن شخصية أدهم الشرقاوي، أو حتى شاهد العمل الدرامي الذي أرخ له؛ ذلك الشخص الذي تحول بمرور الوقت إلى أسطورة شعبية يتحاكى بها وينقلها الناس، حتى رسخت في الوجدان المصري، ولكننا هنا سوف نقوم بتحليل علمي يعيد تفكيك تلك الأسطورة، وذلك بطرح ثلاث أفكار للنقاش من منطلق علمي بحت.

عبر قراءة الأدبيات التي تحدثت عن أدهم الشرقاوي، سنجد أنفسنا إزاء ثلاثة عناصر فعالة للأسطورة، الأولى: عائلة أدهم الشرقاوي، والثانية: السلطة، والثالثة: القاعدة العريضة التي حملت على عاتقها بناء وسرد الأسطورة. فما موقف كل منهم ودوره؟

الأصول الاجتماعية لعائلة الشرقاوي 

الجد الأكبر لأدهم السيد عبد الرحمن الشرقاوي كان كبير أعيان مصر وعُين مع السيد عمر مكرم. وشقيقه الشيخ أحمد الشرقاوي كان من شيوخ الأزهر الذين قاوموا الحملة الفرنسية، وعندما استشهد رفض الفرنسيون تسليم جثمانه للعائلة. أما الشيخ على الشرقاوي، حفيد السيد عبد الرحمن وجد أدهم، فقد شارك في الثورة العرابية، وطالبه أحمد عرابي بإعداد جيش من رجال المنطقة لمقاومة الإنجليز، ومقابلته في كفر الدوار، وسرعان ما استجاب الشيخ للزعيم، وقد حصل بعدها الشيخ علي الشرقاوي على لقب أفندي، وكوفئ بثلاث مئة فدان على شجاعته. ابنه الشيخ عبد الحليم الشرقاوي والد أدهم فكان حاصلًا على إجازة العالِمية من الأزهر، وهي تعادل الآن شهادة البكالوريوس، ولم يشتغل بوظيفة، وبلغت أملاكه 106 أفدنة، إضافة إلى عقاراته في مدينة طنطا، وأخيرًا عمه محمود الشرقاوي، كان من كبار المُلَّاك، وبلغت أملاكهم حوالي 500 فدان. وكان لأدهم إخوة وأخوات، بينهم 6 سيدات، ورجلان، وتوفي الأشقاء الرجال.

ولد أدهم الشرقاوي عام 1898 بقرية إيتاي، مركز إيتاي البارود بمديرية البحيرة، وقد ألحقه أبوه بالمدارس الابتدائية، حتى أتم دروس السنة الرابعة، ثم أخرجه من المدارس حين لمس عدم استعداده لتلقي العلوم. وطبقًا لما أورده عنه لويس عوض لوحظت عليه العدوانية، والتعدي على من يرتكب معه أي شيء ولو بسيطًا. وطبقًا لما أوردته الدكتورة عبلة سلطان أستاذ التاريخ الإسلامي، وحفيدة ابنة عم أدهم الشرقاوي، فإن نسب عائلة الشرقاوي ينتهي إلى الأشراف؛ أي: إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومعظم أفراد العائلة لديهم شهادات بذلك!

وعن صفاته الجسدية، قالت عنه المصور: أنه لم يكن قوي العضلات بدرجة تمكنه من ارتكاب الجرائم، بينما تؤكد شهادات أقاربه أنه كان مفتول العضلات، وكان يتمتع بالجمال أيضًا. وحسب ما أوردته عبلة الشرقاوي، فإنه كان يبدو على وجهه السمات الأوروبية بالوجه الأحمر، والشعر الذهبي، والعينين العسليتين. ووصفته السيدة جمالات محمد صدقي زوجة أخيه قائلة: "كان قوي جدًّا، ومكنش طويل". وذلك في حديثها إلى بثينة كامل في برنامج "مصر التي لا نعرفها"، وأكدت في الحديث نفسه رواية العمدة وحيد الشرقاوي، الذي قال: إن قلبه عندما تم تشريحه، وجد أنه مربع، ولما قالت لها المذيعة: "ده مش خيالي؟!" ردت: "لا، دي الحقيقة، ولما كان بييجي يسلم على حد، كان يضغط على صوابعه يطلع منها الدم، دا شيء طبيعي، يعني: بيسلم عادي، بس كان عنده قوة خارقة، هو مات عنده 23 سنة، بس طبعًا من 15 سنة ابتدأ يتشاقى في الوقت دا".

وبالطبع هناك مبالغة كبيرة في هذه الكلمات، فصورة أدهم الشرقاوي المنشورة في مجلة اللطائف المصورة، لا تظهر فيها هذه الصفات، سواء الجمال أو القوة الخارقة. 

بداية الشقاوة

اقترن اسم أدهم الشرقاوي بحوادث السطو في الكتابات المنشورة في جريدة الأهرام عام 1917، تحت عنوان: "حوادث السطو بالبحيرة"، وجاء فيها: "وردت إشارة تليفونية من معاون بوليس التوفيقية للمركز، تفيد بأن عصابة من اللصوص سطت على عزبة عبد الله باشا بأراضي زبيدة، فتمكنت من نقب زريبة المواشي من الجهة القبلية، وتبودلت العيارات النارية بين اللصوص والخفراء، وقد قتل من اللصوص رجل اسمه عثمان من الشراقي، وعرف زملاؤه، وهم: عبد العظيم إبراهيم السقا، وأدهم عبد الحليم الشرقاوي، ومحمود أبو الحسن، والجميع من عزبة زبيدة".

وعقب هذه الحادثة تم القبض عليه، وأثناء محاكمته، وعند سماعه شهادة أحد الشهود التي ليست في صالحه، هجم على أحد العسكريين، بقصد نزع سلاحه منه، لضرب الشاهد. وأخيرًا حكمت عليه المحكمة بالسجن سبع سنوات، فأُرسل إلى ليمان طرة، وبينما كان سجينًا يشتغل في قطع الأحجار، دار حديث بينه وبين أحدهم علم منه أنه هو القاتل لأحد أعمامه، وأنه لم يقبض عليه في هذه الحادثة؛ لأنه لم يعرف مرتكبها الحقيقي. فلما عرف ذلك، غافله يومًا وضربه بهراوة على رأسه ضربة قضت على حياته، وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، غير أنه هرب من السجن أثناء اضطرابات ثورة 1919، وكون عصابة منتظمة، وازداد جورًا، ووصفته "الأهرام" بطاغية البحيرة، واستطاع أن يكون بمنأى عن أعين البوليس. وفي نهاية الأمر تخاصم مع أحد أقاربه، فدل البوليس على محل وجوده. اتجهت إليه قوة من الجاويش محمد خليل، ملاحظ بوليس التوفيقية، ومعه أونباشي سوداني وأحد الخفراء فوجدوه في محل زراعة القطن، وكان عازمًا على تناول طعامه، فأطلق الجاويش عليه رصاصتين أردتاه قتيلًا على الأرض. وقد نشرت "اللطائف المصورة" تفاصيل مصرعه بشكل كبير. 

هكذا كانت رؤية الخطاب السلطوي لنشاط أدهم الإجرامي، الذي اعتاد أن ينعته بالشقي أو كبير الأشقياء. بينما في المقابل ذكرت دكتورة عبلة الشرقاوي قصة حادثة قطعه قضبان السكك الحديدية في البحيرة كالتالي: "إن قطارًا إنجليزيًّا كان قادمًا محمَّلًا بالسلاح والذخيرة، راحوا فاكين القضيب بتاع القطر، جيه القطر يعدي طبعًا مفيش قضيب فانقلب، وهو خد السلاح والذخيرة، ووزعها على الفلاحين". أما حكاية قتله السجين، فهو قتله من أجل الثأر، ومعروف أن الثأر عرف قديم من أعراف الريف المصري. وأما حكاية عزبة الباشا، فقال عنها الأستاذ رضا الشرقاوي: "عزبة الباشا كلها باشاوات، وطبعًا كان الفلاحين هنا ناس غلابة، وكانت السخرة ممكنة، وكان صاحب الأرض يدي الفلاح على قد أكله، يعني يشتغل بأكله، والأجرة كانت كلام فاضي.." كما كان يفرض الإتاوات ليعطي الأموال للغلابة. 

ومن ناحية أخرى، فإن السادات ذكره في "البحث عن الذات" قائلًا: "وكانت جدتي تحكي لنا أيضًا موال أدهم الشرقاوي، وبطولاته وكفاحه ودهاءه في محاربة الإنجليز والسلطة، وكانت الصحف الإنجليزية تطلق عليه "روبين هود الشرق".

إذن نحن أمام خطابين يناقض كل منهما الآخر، أعني: أن مسار أدهم البطولي يختلف عن مساره الإجرامي. وأما من وجهة نظر الشعب، فإنه يعتبر بطلًا شعبيًّا؛ لأن جرائمه كانت موجهة ضد المستغلين الظالمين، فقد تبنى أدهم القانون الذي ينحاز إلى الأغلبية المقهورة، وتمرد على السلطة، التي لم تنصفه، فهو يبحث عن الإنصاف القانوني، ويبحث عن الحق الضائع؛ لذلك قرر أن يقيم العدالة بنفسه، ومثل هذا الموقف قد حظي بإعجاب جماهير الفلاحين، فصنعوا له موالًا وحفظوه، وحولوه إلى بطل.

وقد قال ميلاد واصف في كتابه "قصة الموال" عن هذا الموال: إنه من المواويل القليلة التي وجدت طريقها للمطابع، حيث إنه كان ذا أثر فعال في نفوس أهل الفلاحين.

وقد روى الفنان محمد رشدي قصة هذا الموال. ومن القصة نفهم أبعادًا سياسية لا تخفى، يروي رشدي إنه تم استدعاؤه إلى الإذاعة من حسن الشجاعي لإسناد الموال إليه، وذكر له: إن غناء الموال يأتي في سياق البحث والتنقيب عن البطولات الشعبية، بهدف تعميق البطولة لدى الشعب المصري، وهذه سمة المرحلة التي تواكب قوانين يوليو الاشتراكية. فأخذ رشدي الموال وقدمه في ثوب جديد، واستفاد من كل التجارب التي سبقته في غناء الموال، مثل: الحاجة زينب المنصورية ومحمد العربي. 

وأضاف رشدي أنه بعد غنائه الموال أخبره الصحفي فاروق عبد السلام سكرتير تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون، بأن بدران على قيد الحياة، وأنه مصمم على رفع قضية في المحاكم لسبب بسيط، هو أنه ليس قاتل أدهم، فذهب رشدي وفاروق عبد السلام إلى بلدة بدران، وهناك قابل أهل أدهم، وكانوا في منتهى الفرح والسعادة بما قدمه، ويضيف رشدي: "وأحضرناه إلى القاهرة، وعلى شاشة التلفزيون، في حلقة مع محمد رشدي قال: إنه لم يقتل أدهم، وإنما البوليس الذي قتله. ثم سُئل بعد أن ذُكرت الحقيقة: ما التعويض الذي يرضيه؟ فأجاب: "أريد أن يغني الآن محمد رشدي الموال، ولا يذكر فيه أن بدران قتل أدهم"، فغنى رشدي: (آه يا خوفي يا صاحبي ليكون ده آخر عشا)، بدلًا من: (آه يا خوفي يا بدران ليكون ده آخر عشا).

وقد قام عزت العلايلي بعمل مسلسل عن أدهم الشرقاوي، ولكن عائلة أدهم طالبت بوقفه؛ لأنه شوه اسم العائلة، وأخيرًا تم عمل مسلسل من بطولة محمد رجب عام 2009، ولكن لم ينل إعجاب عائلة أدهم؛ لأنه انحرف عن كثير من الحقائق، وقال عنه الأستاذ رضا الشرقاوي: "مفيهوش أي حاجة صح، بيقولك مش لاقي ياكل، حتى في مشهد بيقولك ده إحنا هناكل لحمة النهاردة يا شراقوة، وضحك وقال: لحمة إيه بس؟" هذا يتنافى مع ما ورد في البداية عن ثراء عائلة أدهم، الذي أكده نص الموال الشعبي نفسه: "أهل البلد كان عندهم المال عدية / وكانوا كلهم بهوات وأغنية / دفعوا لأدهم بدل الجنيه مية / وحكم على الولد بست سنين إشاعة له".

واضح أن هناك تناقض ما بين سيرة أدهم التي ترويها عائلته، وبين صورته داخل التقارير الصحفية والبوليسية التي سجلت وقائع نشاطه. فعائلته تحرص على تأكيد صورته كبطل شعبي، ودائمًا ما تحاول تمجيده بطريقة مبالغ فيها، وترفض أي تناول مغاير لذلك في الأعمال الدرامية. أما التقارير الصحفية والبوليسية فتقدمه كمجرد مجرم، وترصد وقائع نشاطه كأفعال إجرامية تقليدية. 

هل هو مجرم أم بطل أسطوري؟ 

هل كانت عائلة أدهم على قدر كبير من الثراء؟ الحقيقة أنه لا توجد وثائق تدعم ذلك سوى شهادات أفراد العائلة، ونص الموال الشعبي الذي يحكي سيرته. وأكثر ما يدفعنا إلى التشكك في هذا الأمر هو سيرة أدهم نفسها، فغضبه من الأغنياء وقيامه بسرقتهم وتوزبع حصاد السرقة على الفقراء يوحي بشخصية عانت من الفقر ومصاعب الحياة. ربما كانت عائلته غنية لكنه نُبذ منها في صغره وعاش حياة الفقر، ما راكم لديه حقدًا دفينًا تجاه الثراء والأثرياء. وربما كان هذا هو سر الالتفاف الشعبي حول سيرته، خاصة مع التردي الشديد للأحوال الاقتصادية وقت الحرب العالمية الأولى.

هناك شكوك أيضًا حول دور أدهم في مواجهة الاحتلال البريطاني، فلا توجد أية شواهد موثقة على ذلك سوى المرويات الشعبية كالقصة التي روتها حفيدته من أنه قام بقطع قضبان السكك الحديد لسرقة ذخائر جيش الاحتلال، والقصة التي رواها السادات في كتابه، وكلها مرويات لا تستند إلى أية وثائق. 

وفي تقديري أن من صنع أسطورة أدهم الشرقاوي هو المنظور الشعبي الصرف بعيدًا عن أي وقائع موثقة أو سجلات. لقد انجرف الراوي الشعبي لينسج صورة بطل ضحية، ابن بلد شهم ونبيل، يقتل الطغاة ويسرق ثرواتهم ويوزعها على أبناء الشعب الفقراء. ينطبق عليه المثل الشعبي "العيَّار الشاطر ما يسرقش من حارته"!