أرشيف القضاء
شريف إمامعندما وقف سليمان حافظ في وجه الوفد
2025.01.12
تصوير آخرون
عندما وقف سليمان حافظ في وجه الوفد
بعد أن أيقن قادة الأحزاب من نجاح حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952 واستقرار الأمور لها، وجب عليهم التقدم لمعرفة تلك القوة المجهولة لديهم وخطب ودها إن أمكن، لذلك كان لا بد لقادة الأحزاب أن يخرجوا من طور المفاجأة إلى طور التعرف والاستكشاف، وهذا يقتضي المجاملة والتهنئة "والظهور في الصورة". وفور عودة النحاس وفؤاد سراج الدين اللذين كانا يصطافان في جنيف بسويسرا توجها صباح 27 يوليو 1952 إلى مقر قيادة الحركة، والتقيا القائد العام للثورة محمد نجيب الذي أخذاه بالأحضان، لكن تحية الضباط لهما اتسمت بالفتور فلم يكن أي منهما من المتعاطفين مع الوفد أو المرتبطين به فكريّا. .
لقد أغرى قادة الأحزاب نداءات الثورة الأولى بشأن احترام الدستور والحياة النيابية، ودخل في اعتقادهم أن العسكريين أدوا دورهم وأنهم لن يلبثوا حتى يخلوا المسرح السياسي لهم، باعتبارهم البديل المدني صاحب السلطة، والخبير بشؤون الحكم. بينما نظر الضباط إلى رجال الأحزاب نظرة توجس واستعلاء، أما التوجس فلأن هذه الأحزاب كانت دعامة من دعامات النظام الذي أشهر إفلاسه، وأما الاستعلاء فهو ما يتفق مع طبيعة العسكريين، ولقد عبر عن ذلك إبراهيم عبدالهادي -زعيم حزب الهيئة السعدية- قائلًا: "إنهم أوقوفونا أمامهم كالتلاميذ"، ولقد حرص الضباط من جانبهم على نشر زيارات قادة الأحزاب لهم، فإلى جانب أنها توضح للجماهير أن الأحزاب تؤيدهم، فهي تحرج القيادات الحزبية وأحزابها وتوضح للجماهير مقدار تقلب هذه التيارات التي كانت تقبِّل يد الملك في الأمس القريب. وبالمقابل لم تكن القيادة الجديدة راغبة في بدء صراع مع الأحزاب، قبل أن تستعد له. فأرادت الاستعداد لها هي وجماهيرها، قبل أن تستكمل خطتها بشأن وجودها في الشارع السياسي وتكشف عن وجهها للشعب، ومن هنا مدت القيادة يدها إلى الأحزاب ليس بقصد التحالف، وإنما في خطوة تكتيكية تستهدف تأمين نفسها في هذه الأيام الحرجة، وحتى يمكنها أن تتحسس خطواتها التالية للسيطرة على الحكم.
لم يطُل انتظار الأحزاب، ففي مساء 31 يوليو سنة 1952 أذاع محمد نجيب باعتباره القائد العام للحركة قرارًا بمنع التظاهر منعًا باتًّا في جميع أنحاء البلاد، وفي منتصف نفس الليلة أذاع بيانًا تاليًا دعا فيه الأحزاب والهيئات السياسية المصرية إلى تطهير صفوفها، كما فعل الجيش وطالبها بأن تتخذ لنفسها برامج محددة واضحة المعالم، تُعلَن على الملأ ليكون الشعب على بيِّنة منها. لقد بدأ الشك يحوم حول صدق دعاوى الضباط بأنهم سيحافظون على الحياة الدستورية.
لقد كانت دعوتهم إلى التطهير سببًا في إيقاع الانقسام والفرقة في صفوف الأحزاب، فالثوار دعوا إلى التطهير دون أن يشرحوا كيف يتم هذا التطهير؟ لقد تحركت الأحزاب بشكل متسرع وغير واعٍ لإرضاء الضباط والاستجابة لمبدأ التطهير، ونشرت جميعها برامج تتماشى مع روح العهد الجديد، وكأنها بالتطهير وبالبرامج الجديدة تدين تاريخها قبل 23 يوليو، بل وتسابقت هذه الأحزاب من خلال برامجها في تعرية بعضها بعضًا، فلم يخلُ برنامج حزبي واحد من إشارة ولو مستترة إلى مساوئ الأحزاب الأخرى، وأحقيته هو -بتاريخه الأبيض وماضيه الزاهر- في الحكم. ولم تكَد الأحزاب تفيق حتى أتاها قانون تنظيم الأحزاب 179 لسنة 1952 في 9 سبتمبر سنة 1952، وكان أول تشريع لتنظيم الأحزاب في تاريخ مصر. وأعطى القانون وزير الداخلية حق الاعتراض على تكوين الحزب، من حيث البرنامج والأعضاء والتمويل، وفي حالة تظلم الأحزاب من قرارات الوزير يحق لهم رفع دعوى أمام محكمة القضاء الإداري، وهنا دخل مجلس الدولة حَكَمًا في الصراع بين الأحزاب والثورة.
***
كان مهندس قانون تنظيم الأحزاب، هو سليمان حافظ وكيل مجلس الدولة سابقًا، ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية وقتها، يقول حافظ في مذكراته: "أعددت بمساعدة معاونِي من رجال مجلس الدولة مشروع قانون لتنظيم الأحزاب السياسية، وتداولت فيه مع السنهوري، فعارضه من جهة المبدأ معارضة شديدة، محتجًّا بأنه وإن كان الدستور لا يمنع من تنظيم الأحزاب على اعتبار أنها نوع من الجمعيات، فإن العرف الدستوري قد جرى على عدم تعرض المشرِّع لها وترك أمر التنظيم إليها. وكانت حجتي أن النظام البرلماني يقوم في جملته على الأحزاب، فيصلح بصلاحها ويفسد بفسادها". واقتنع السنهوري ما دام مجلس الدولة هو الفيصل في قضايا الأحزاب، وتم تمرير قانون الأحزاب رغم معارضة فريق من مجلس قيادة الثورة له.
وظهر لكثيرين أن سليمان حافظ قصد بهذا القانون الوفد، وهذا ما عبر عنه محمد نجيب، واعتبره البعض محاولة للنيل من مصطفى النحاس أولًا وأخيرًا. ولم يكن موقف الوفد من قانون الأحزاب حازمًا أو رافضًا، رغم مهاجمته على الأقل في البداية، وحاول رئيس الوفد النحاس باشا أن يفوت الفرصة على سليمان حافظ فيقول: "نفذت ما طلبه قانون الأحزاب، وأعلنت أني سأستبعد المعتقلين الذين قبضَت عليهم الثورة من عضوية الوفد".
وحسب الروايات الوفدية فإن زيارة من بعض رجال الوفد قد تمت لنجيب قبل صدور القانون حول رئاسة النحاس للوفد، فقال: "النحاس على رأسي أما غيره فلا". وفهم الوفديون كلمة "لا" على أنها تمثل فؤاد سراج الدين، ومن ثم تم استبعاده، ورغبة من الوفد في تفويت الفرصة على سليمان حافظ وعلى من يرميهم بالرجعية قدَّم مشروعًا تقدميًّا ذا مسحة اشتراكية، وقدمَ أولوية للعمال والفلاحين، كما جعل الوفديون النحاس رئيسًا شرفيًّا فقط.
كانت زيارة محمد صلاح الدين، بعد إعلان الوفد لبرنامجه، لسليمان حافظ لاختبار موقفه من الوفد في ثوبه الجديد، وكان سليمان حافظ واضحًا لما قال له عندما سأله عن وضع النحاس، ولم يكن الوفد قد قدم إخطاره بعد: "أنصح بعدم تعريض الرجل لهذه التجربة، فإن لدى الوزارة أسبابًا خطيرة للاعتراض عليه أمام مجلس الدولة"، وقد أدى اعتراض حافظ على النحاس إلى تنادي الوفديين في جميع أنحاء القطر بالاجتماعات والاتصالات التي أسفرت عن نتيجة جماعية هي "لا وفد بدون النحاس"، وقرروا في 27 سبتمبر سنه 1952 ألا يقدم إخطار الوفد إلى وزير الداخلية، وظن الوفد أن تصلبه سوف يحمل الثورة على التفكير مرتين قبل أن تقبل منازلته، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث، ما اضطر الوفد إلى أن يقدم إخطاره إلى وزير الداخلية في 6 أكتوبر سنه 1952 عن يدٍ وهو صاغر، مع إصراره على وجود النحاس كرئيس شرفي للوفد، لتبدأ جولة جديدة بين الحكومة والوفد كانت ساحتها هذه المرة مجلس الدولة.
***
كانت ساحة مجلس الدولة ميدانًا لكوكبة من القانونين الوفديين الذين يستحيل اجتماعهم في مرافعة واحدة، فضمت القائمة تسعة عشر اسمًا ما بين مستشار، وأستاذ جامعي، ووزير سابق، ومحامٍ، وكان في الصدارة رجلان من رجال مجلس الدولة، كانا حديثَي العهد بخروجٍ من المجلس، وهما الدكتور وحيد رأفت والمستشار أبو العينين سالم، فعندما أرسل الوفد إخطاره بتأسيسه في 6 أكتوبر، أرسل سليمان حافظ -بعد شهر- مذكرة اعتراض على تأسيس حزب الوفد، وجاءت مذكرة سليمان حافظ محتوية لنقطتين رئيستين:
1- أن القانون لم يذكر الرئاسة الشرفية في شرحه لأنواع العضوية، ومن ثم طالب باستبعاد رئاسة النحاس الشرفية.
2- الاعتراض على عضوية الأستاذ عبدالفتاح الطويل، لاتهامه باستغلال نفوذه في الحصول على امتيازات له ولأسرته.
في المقابل، ارتكزت مرافعات كتيبة الوفد على ثلاثة محاور: عدم دستورية قانون تنظيم الأحزاب، توضيح مسألة الرئاسة الشرفية، تبرئة ذمة عبدالفتاح الطويل.
وقد حاول الدكتور وحيد رأفت الدفع بعدم دستورية قانون تنظيم الأحزاب في مرافعته، فقال: "إننا ندفع بعدم دستورية قانون الأحزاب ونطلب من المحكمة استبعاده كليًّا، وإذا قلنا إنه مرسوم بقانون فإنه يجوز الطعن فيه إلى أن يقره البرلمان. وأحكامكم -يقصد مجلس الدولة- قضت بأن مثل هذا يعتبر أوامر إدارية حتى تصبح في قوة القانون". وأوضح الدكتور رأفت انتفاء حالة الضرورة الملحة لاستصدار ذلك القانون في غيبة البرلمان، حيث إن المراسيم بقوانين في غيبة البرلمان لا تكون إلا في الضرورة، واختتم دفاعه بقوله: "إن إلغاء دستور 1923 جاء ممن لا يملك ذلك".
وأكد الدكتور صلاح الدين: "إن الثورة لم تكن على دستور 1923 وإنما كانت من أجل هذا الدستور، من أجل تغيير الأوضاع التي اعتُدِي بها على دستور 1923 وما دام قانون الأحزاب صدر استنادًا إلى دستور 1923 فيجب أن يكن مرجعًا في دستورية القانون أحكام دستور1923".
وجاء دفاع الحكومة: "إن كل ثورة قامت بإلغاء الدستور القائم، واستشهد بما حصل في فرنسا"، وأشار إلى البيان الصادر عن القيادة بأن الثورة لم يكن هدفها التخلص من الملك السابق فحسب، وإنما هدفها إنشاء حكم صالح للبلاد والآن بعد أن بدأت حركة القيادة أصبح لزامًا عليها تغيير كل الأوضاع التي كان يساندها هذا الدستور المليء بالثغرات، وعن المسألة التي أثيرت في الدفاع بأن الإلغاء قد صدر ممن لا يملكه فالواقع أن الإلغاء قامت به القيادة الممثلة في اللواء محمد نجيب فهو قائدها، وأنه قبل هذا عزل الوصي على العرش. وكانت هناك بعض المُلاسَنات الكلامية التي خرجت للصحافة التي كانت تتابع تلك القضية، ومنها أن دفاع الحكومة أثناء قوله: "إن الأحزاب تعد محلولة وإن ما يحدث هو إعادة تأسيس"، قال إبراهيم فرج: "الوفد لا يُحل، وليس لك ولا لسليمان حافظ ولا أية قوة أن تحل الوفد"، وهذا يعكس أن الوفد قد نسي تمامًا أنه يواجه ثورة حقيقية، وأنه ما يزال يحكم على الأمور بمنطق ما قبل 23 يوليو 1952.
***
انتقل محامو الوفد إلى توضيح طبيعة الرئاسة الشرفية للنحاس، التي قصدها إخطار تأسيس الحزب، وهي أن يكون عونًا ومرشدًا وأنها تحية للزعيم والمجاهد، وهنا استفاض الأستاذ محمود سليمان الغنام في توضيح ذلك بقوله إن اللواء نجيب عندما قابل النحاس قال له: "إني أتمم عملًا بدأت أنت فيه"، واستمرت مسيرة الثورة تؤكد تأييد الدستور وعدم التفكير إطلاقًا في حل الأحزاب، حتى تولى سليمان حافظ في 7 سبتمبر سنة 1952 وهو اليوم الفاصل بين عهد سليمان حافظ والعهد البريء الطاهر. وحاول الدكتور صلاح الدين التأكيد على أن مسألة الرئاسة الشرفية هي التي فهمها من حواره مع سليمان حافظ عندما قال له: "إننا نريد أن نجعل النحاس رمزًا"، وهذا التصوير جعله يعتقد في الحال أن المقصود هو أن يكون النحاس رئيس شرف وهذا هو الذي دعا الوفد إلى كتابة الإخطار بالطريقة التي كتب بها، ورغم أن دفاع الحكومة قال تعليقًا على هذه القصة إن هذه أحاديث خاصة ولا دليل عليها. فإن كلام الدكتور صلاح الدين غير صحيح بالمرة، لأن صحيفة المصري الوفدية عندما ذكرت هذا اللقاء، قالت إن سليمان حافظ ألح في استبعاد النحاس وقال إنه "دمل في قلب الوطن يجب أن يفقع".
وجاء دفاع الحكومة واضحًا في تلك المسألة عندما قال: "إن العبارة المذكورة في الإخطار عن الرئاسة الشرفية تقول إنهم يستمدون من رئاسته الإرشاد وأنه الحصن الحصين والركن الركين يرجع إليه في كل الأمور، أفلا تضفي عليه هذه العبارة نوعًا من أنواع الألوهية لا الرئاسة الفعلية فحسب، وإذا كانت بقصد التحية فما شأن وزير الداخلية بهذا؟ وما شأن هذا بإخطار الحزب وتكوينه؟"
وبيَّن الأستاذ سامي مازن معارضته لصلاحيات وزير الداخلية في الاعتراض على الأحزاب، فهي تشمل: نظام الحزب، والأعضاء المؤسسين، وموارد الحزب المالية، وهو أمر غير منطقي كما أن ممارسة الحزب لنشاطه لا تكون إلا بالنشر الخاضع لمشيئة وزير الداخلية. وهنا أوضح دفاع الحكومة أن الحكومة قد وضعت تشريعات لتنظيم الصحافة وأن عملية النشر كانت موجودة في قانون الجمعيات من قبل، وأنه في حالة رفض اعتراض وزير الداخلية من قبل محكمة القضاء الإداري تكون عملية النشر واجبة. وهنا دخلت المحكمة على خط المواجهة وسأل رئيس المحكمة دفاع الحكومة أن الرئاسة الشرفية تحية ورغبة غير ملزمة قد تقرها الجمعية العمومية للوفد وقد تَعدل عنها، فما وجه الاعتراض على ذلك؟ رد الدفاع كيف تسجل في الإخطار هل يجوز تسجيل تحية في عريضة الدعوي مثلًا؟ وأكد دفاع الحكومة أنه لا يجوز الاعتداد بأن ما سكت عنه القانون يكون مباحًا فلا يجوز لأحد أن يخلق بتحية نوعًا جديدًا من العضوية. ولو ورد الإخطار خاليًا من العضوية الشرفية لما اعترضنا.
***
كان المحور الأخير في دفاع الوفد، قضية عبد الفتاح الطويل. واستفتح الدكتور رأفت مرافعته في تلك النقطة بقوله: "إن تعيين عبد الفتاح الطويل أحدًا من أقاربه ليس استغلالًا للنفوذ، ومثله يحدث في جميع العهود، وأوضح أن هناك المسؤولية السياسية والمدنية والجنائية للوزراء، وأن قانون الأحزاب استحدث مسؤولية رابعة وهي المسؤولية الإدارية. وقال الأستاذ غنام: إن رئيس الوزراء الحالي قام بتعيين أخيه علي نجيب وكيلًا لوزارة الخارجية، أليس هناك شبهة استغلال النفوذ؟ وحاول الأستاذ مازن القول بأن القرابة ليست في ذاتها قرينة، وقد قرر مجلس الدولة في أحكامه المطَّرِدة أن القرابة لا يجوز اعتبارها العنصر الفعلي في استغلال النفوذ.
وعندما جاءت أسماء أقارب عبد الفتاح الطويل الذين حصلوا على ميزات من جراء منصبه، تدخل عبد الفتاح الطويل وقال: يؤسفني أن ما كتب عن كمال الطويل افتراء من أوله لآخره، فقد ذكرت الحكومة في مذكرتها أنه عين مفتشًا للموسيقى بوزارة المعارف، وأنه لا يحمل سوى شهادة (الصنايع) مع كونه حصل على دبلوم عالٍ في الموسيقى.
وفي 19 فبراير سنة 1953، جاء الحكم بإنهاء الخصومة بعد صدور قانون حل الأحزاب في 18 يناير سنة 1953، ولكن المحكمة لم تفوت الفرصة للقول بعدم جواز الدفع بعدم دستورية قانون تنظيم الأحزاب اعتمادًا على أحكام دستور سنة 1923، لأن هذا الدستور قد سقط وزال أثره منذ قيام حركة الجيش ونجاحها بنزول الملك السابق عن العرش في 26 يوليو سنة 1952، وقد صدر بذلك في 10 ديسمبر سنة 1952 إعلان دستوري من قادة حركة الجيش مقررًا سقوطه.