هموم

محمد حسني

الترجمة عن العبرية.. سباق قفز الحواجز

2021.01.01

الترجمة عن العبرية.. سباق قفز الحواجز

نحن نتعلم لغة..

أنا أتعلم الإنجليزية.

أنت تتعلم الأسبانية.

هو يتعلم الألمانية.

..

تعلم اللغات مثير للإهتمام.

نريدأن نتفاهم مع الناس.

.. ما مهنتك؟

أنا مترجم.

أنا أترجم كتبًّا.

المقاطع السابقة من دروس موقع جوته(1) 50Languages. وهي محادثة بسيطة تدور مع أي شخص يتعلم لغة أجنبية، وقد تتبعها أسئلة عن العمل، والسفر، وربما الأدب والسينما..

لكن بالنسبة لي، وطيلة 24 عامًا، من دراسة العبرية، لم تدُر قط بمثل تلك البساطة.

تتباين الانطباعات من الدهشة والاستنكار والإعجاب، وبين من يطري على معرفتك بلغة «العدو» وبين من يحيي «دعمك للسلام».

آخر تعليق قابلته، عندما أضفت فيلما إسرائيليًا إلى ألبوم المشاهدات على فيسبوك:

-«أنت ليه بتتفرج على أفلام إسرائيلي»؟

= «أنا دكتور.. مدرس في الجامعة، قسم لغة عبرية»

-«أيوة.. وليه بتتفرج على أفلامهم؟»

مشوار مترجم العبرية هو سباق قفز حواجز، حواجز المعرفة، وحواجز الضمير، وحواجز لقمة العيش.

الخطوة الأولى: في البدء.. كان الفضول..

وبالأدق كان الفضول في ظل التخبط هو الدافع لاختيار دراسة العبرية بين اختيارات ربما كانت وقتها أفضل (وبالطبع تأكد الآن أنها الأفضل). في الأغلب يتعلم الناس اللغة من أجل التعرف أكثر على أهلها، أما «اعرف عدوك» فهو الاستثناء.

أما عن العمل، فكل الأحلام المرسومة تظل بين الأقواس هي العمل في الترجمة التحريرية في المؤسسات الإعلامية الحكومية أو العسكرية.. وأعلاها الترجمة الفورية(2) في الرئاسة. وقبل أن اسمع حتى كلمة «التطبيع»، عرفت أن نوعية السائح الإسرائيلي في أغلبها لا تحتاج أو لا تريد مرشدًا سياحيًّا، كما لم نكن نعرف بعد أن هناك شركات تتعامل مع إسرائيل.(3)

حواجز غير عادية: كيف نتعلم

بوطئك بلاطات قسم اللغة العبرية، وبملاحظة أنك لم تزل في تسعينيات القرن الماضي، فإن هناك حواجز أخرى، غير اعتيادية بالمقارنة بدارس أية لغة أخرى. أولها هو الحصول على مادة مطبوعة أو صوتية باللغة العبرية، والحصول على قواميس وكتب. لا يوجد أمامك سوى مكتبتين بجامعتي القاهرة وعين شمس، أحدث ما فيهما منذ 15 سنة فأكثر، أو رحلة إلى «أرض الخوف»-المركز الأكاديمي- ولتتحمل العواقب الأمنية، مثل الاستدعاء، ورفض التعيين في وظيفة حكومية.

حواجز طبيعية:

يواجه أي مترجم، منذ بداية دراسته للغة مشكلات عدم التطابق بين لغة المصدر(التي يترجم عنها) ولغة الهدف (التي يترجم إليها)، وهو أمر متوقع بالبديهة، فعلى المستويات الصرفية والنحوية والأسلوبية، لا تتطابق اللغات في الضمائر والأدوات، الأعداد، تصريف الأفعال، تركيب الجملة..إلخ(4)

وعن العبرية بوجه خاص فإن علاقتها الطبيعية بالعربية أقوى من أية لغة أخرى فاللغتان من أصل واحد، لغتان ساميتان، وفي العصور الوسطى، (تُرجم) عدد ضخم من الأعمال الفلسفية والعلمية من العربية والعربية اليهودية(5) إلى العبرية. يتجاوز التشابه بين اللغتين الكلمات الأساسية مثل أعضاء الجسم والأفعال الأساسية... إلى المجازات والاستعارات وعدد من المفاهيم الثقافية، والحكم والأمثال،(6) التي ترجع لمراحل تاريخية متقدمة.

لغة ذات تطور خاص:

لقرون طويلة، لم تعد العبرية لغة استعمال يومي، واقتصرت على الكتابات الدينية والصلوات -إلى جانب الآرامية التي بسطت نفوذها على اليهودية- وفي «عصرها الذهبي» في البلدان الإسلامية بالعصور الوسطى، تطورت كلغة مكتوبة وحسب.

تم «إحياء» العبرية بشكل مغاير، أولًا كلغة كتابة في عصر التنوير، ثم طرحت فكرة تطويرها كلغة للحديث بين المستوطنين بديلًا للغة الييديش(7) المقترنة بـ«الشتات». وقد ضم المشروع الصهيوني مستوطنين يتحدثون «لغات أم» متعددة، حتى الأجيال المولودة في فلسطين، ظلت تتعامل بلغاتها الأصلية في المنزل.

اتسمت لغة الصحافة، وبنسبة متزايدة لغة الأدب الآني، خصوصا في ظل وسائط النشر الرقمية، بزوال الحدود بين لغة الكتابة ولغة الحديث. فعلاوة على التأثير الكبير للغات الأوروبية في مستويات الأسلوب والدلالة، تجد تعبيرات اللغة الدارجة، بما في ذلك الكلمات العربية، طريقها إلى لغة الكتابة، وبشكل سريع. يشكل هذا تحديًا لمترجم العبرية، الذي يحتاج وبشكل حيوي للمتابعة الدائمة للغة وتطورتها.

اللغة والفكر

«اللغة وعاء الفكر»، أي أنه لا يمكن دراسة اللغة بمعزل عن ثقافة المتحدثين بها، التي لا تعد مجرد خلفية بل هي متداخلة في نسيج اللغة.

لا يعاني الدارس من ندرة الكتب العربية المتعلقة، بل على العكس، ففي هذا المجال بالذات فإن «كل من يؤمن بالله واليوم الآخر(أو حتى لا يؤمن) لا يقل خيرًا، ولا حتى يصمت» أو كما علق البعض «مهنة من لا مهنة له» فتجد كما مهولًا من الكتب التي تعج بالأخطاء والمغالطات، والتنميط المتواتر. وبينما أسهمت ثورة المعلومات في سرعة وكثافة تدفق المعلومات، فإنها فعلت الأمر نفسه بالنسبة للغث والسمين على حد سواء، وهو ما يمثل مشكلة حقيقية أمام الدارس الغض.

«سوق» العمل

ظل سوق العمل مرتبطًا بالمؤسسات الإعلامية الحكومية، ومعظمه في الترجمة الصحفية، وقليل منه في التحليل والدراسات، بينما سيطر على الجانب الأخير باحثين في مجالات التاريخ والسياسة لا يعرفون العبرية. ولم يؤد الانفتاح في إصدار الصحف المستقلة ثم المواقع إلى نقلة ملموسة في سوق العمل في الترجمة العبرية.

في 2005 تحديدا ظهر متغير جديد، في سوق العمل، ألا وهو «خدمة العملاء»، في شركات تستخدم قوى بشرية (اللفظ الأنيق لمقاول الأنفار) وتحصل، بفضل تطور تقنيات الاتصالات، على عقود من أكبر الشركات في العالم لتشغيل قطاعات خدمة العملاء باللغات المختلفة، بدءًا من حجوزات الفنادق والطيران ومرورًا بخدمات الإنترنت والمحمول ووصولا للأجهزة الإلكترونية. وتستفيد تلك الشركات من فارق السعر الذي تحصل عليه بالعملة الأجنبية، مقابل رِخص القوى العاملة المصرية. علاوة على العقود المؤقتة، ليتكلّس الخريج الذي يظل يكرر جملًا بعينها، ولا يراكم خبرة أو مسارً مهنيًّا حقيقيًّا كمترجم..

وما يزيد عن ذلك بالنسبة لدارسي العبرية بوجه خاص، أنه يمثل تحولًا حادًّا لما كان يعتبر مسلمات تتعلق بهذا الحقل من الدراسات، سواء باعتباره مرتبطا بقضية قومية، أو ارتباط العمل بمؤسسات ذات طبيعة خاصة.

هناك من لم تكن لديهم مشكلة بالمرة، بل وتلهفوا على العمل في شركات عملاؤها من الإسرائيليين. لم يكن ذلك حال الجميع، فقد ذكر لي أحد الخريجين الواعدين أنه لم يستطع أن يتحمل الضغط النفسي، ومع المرتب المغري، وفي ظل شح الفرص البديلة، قرر انه لن يستمر. وهل كان سيُلام لو استمر؟!

صديق آخر، حدثني عن تجربة طويلة في العمل في شركة سياحة ثم في شركة خدمة عملاء. في البداية لم يكن مستوعبا الأمر، لكنه كان العمل المتاح، ضغط نفسه للتأقلم مع الأمر باعتباره «شغل» كما أن معاملة زبائنه كانت طيبة. حسب خبرته، يعتقد المتصلين في البداية أن الموظف إسرائيلي مهاجر، إذ من الشائع أن تؤثر اللغة الأم على لكنة المهاجرين لأكثر من جيل. لدى معرفة المتصل الإسرائيلي أن الموظف مصري ويتحدث من القاهرة، كان يندهش أحيانا بينما يعبر بعضهم عن ترحيبه، لم تصادفه ردود فعل عدوانية أو مهينة.

سألته: «منذ عشرين عامًا، عندما كنا طلابًا، هل كنت تتمنى ذلك؟»

رد: «بالطبع لا..».

فرس الحنطور

في النظام الرأسمالي، الربح هو المحرك الأساسي لكل التفاعلات، من هنا يصبح «الدارس = منتَج» في سوق العمل، وعلى كل المؤسسات أن تخرج «المنتج» الملائم لـ«سوق العمل». فالنظام يحدد لكل شخص، ومن بينهم المترجم ماذا يعمل، وقبل ذلك ماذا يجب عليه أن يكون باعتباره «منتجًّا» ليكون «مطلوبا» في «سوق العمل. و«سوق» الترجمة في مصر شديد القسوة، ومرتبط بالعمل ضمن مؤسسة.

ظلت المؤسسات الرسمية محافظة في معظم إنتاجها على الخط السائد، سواء في الترجمة الصحفية، أو ترجمة الكتب. تجاريها دور النشر الخاصة، تخوفًا من تهمة التطبيع، إذ يجب ان تكون الأعمال مواكبة لذلك، حتى لو تم افتعاله، ويجب أن تكون المقدمة «اعتذارية» ومدعومة بكلمات التحليل والتشريح والكشف أو «الفضح». لا تستطيع أن تترجم رواية لأنها اعجبتك، أو أن لها قيمة أدبية، ولن تقدم قراءة أو تحليل من زاوية غير «اعرف عدوك».

هكذا، نجد أن نسب الترجمات الكاملة لأعمال مترجمة من العبرية عن العربية قليلة جدًا مقارنة بأعداد المتخصصين وليس الخريجين فحسب. والجدير بالذكر أن المعايير الأكاديمية لا تعتد بالترجمات من بين مؤهلات الترقية، بغض النظر عن أهمية الكتاب وحجمه وعلاقته بالتخصص، وهو ما يصرف الأكاديميين عن الترجمة.

الترجمة والملكية الفكرية.. «خشبة حبشي»:

إن أردت نشر ترجمتك فمرحبًا بك

عليك الحصول على حقوق الترجمة من المترجم/ أو دار النشر

ولكن لو أنك حصلت عليه فإنه يعني «التطبيع»

عليك أن تجرب إحدى ألعاب السيرك:

مروض الوحوش: أن تجد دار نشر مستعدة لقبول التحدي ونشر الكتاب وفقا للشروط المتبعة، أي أن تراسل المؤلف أو دار النشر للحصول على موافقة رسمية.

لعبة الإخفاء: نشر الترجمة وتجاهل حقوق النشر والتأليف، وينجح أكثر مع المطابع المجهولة والطبعات المحدودة.

الساحر: البحث عن ترجمة أخرى للعمل نفسه، وليكن بالانجليزية على سبيل المثال، وفي حالة الحظ السعيد يتسنى الحصول منها على موافقة على الترجمة للعربية، بينما العمل مترجم عن الاصل العبري.

البهلوان: يتم تغيير اسم العمل أو كتابته كعنوان فرعي، وكتابة مقدمة وخاتمة واعتبار العمل دراسة.

تجاوز ذلك الحاجز لا يعني الحصول على عائد يوازي الجهد المبذول في الترجمة. ويؤيد ذلك نائل الطوخي(8) الأديب والمترجم، وهو زميل دفعتي، أن الترجمة في حد ذاتها تمثل له تحديًا ومتعة، كما أن النشر يتوج مجهوده بإخراجه للقراء، وهو ما يعوض ضعف المردود المادي. نشر نائل ثلاثة أعمال مترجمة، آخرهم وأشهرهم رواية «تشحلة وحزقيل» لألموج بيهار، وأشار أن استقبال الترجمة كان مُرضيًا رغم صعوبة أسلوب الرواية الأصلية، وأن هناك من تفاعلوا مع العمل بشكل جيد، بينما يظل هناك أيضًا القاريء الذي تبحث عيناه عما هو سياسي دائما في الكتاب المترجم عن العبرية.

كيف يستحضر التيمم ويبطل الماء؟!

بسبب أحجية الملكية الفكرية، بات من شبه المحال نشر كتب مترجمة عن العبرية، عبر مؤسسة كبيرة، بينما تكون الابواب مفتوحة لأعمال تتعلق بإسرائيل بلغات أخرى، أو الترجمة عن ترجمات لأعمال كتبت في الأصل بالعبرية. من أقرب الأمثلة مؤلفات المؤرخين الجدد، وهي شديدة الأهمية من حيث المنهج أو نشر الوثائق، إذ ترجمت عن الانجليزية والفرنسية.

في السنوات الأخيرة، بدأ المشروع القومي للترجمة نقل الكتب التي ألفها اليهود في العصور الوسطى بالعربية اليهودية، من الأحرف العبرية للعربية. وكنت قد استطعت شراء كتاب حديث ينشر للمرة الأولى، فكان رد الموظف المسؤول عن النشر أن تاريخ النشر يجب أن يمر عليه او على وفاة محرره 50 عاما، والبديل أن أحصل على المخطوط الأثري نفسه.

صرفت النظر عن احتمالية الحصول على عائد. فكرت.. لماذا لا يكون هناك مشروع جماعي، ولماذا لا يمارس الطلاب الترجمة عمليًّا، طرحت الفكرة على زميلين فتحمسا، قدم أحدهم كتابًا وُزع على 15 طالبًا متميزا. استطاع 13 منهم إتمام الترجمة، كان السبق في إنجاز ترجمة كتاب خلال شهرين ونصف الشهر، وأن يقوم بالترجمة طلاب بالفرقة الثالثة. نُشر نصان فقط من بين نصوص الكتاب في عددي المرايا رقم 1 ورقم 14.

الإدراك.. الخروج من البركة

بعد سنوات من الدراسة الأكاديمية، أخذ يترسخ لدي، أن الخطأ الفادح الذي ننزلق فيه، هو التعامل الدائم مع كل ما يتعلق بإسرائيل باعتباره «خاص» و»غير عادي»، بتلك الرؤية، ومع الانغماس أكثر فأكثر في التفاصيل والجزئيات، أمسينا غارقين حتى الأذنين في بركة عكرة، تتضافر مع تاريخ الهزائم والتراجع لتتركنا في حالة عجز حتى عن التفكير في أية احتمالات لتغيير الوضع القائم.

إن إسرائيل، ومع كونها دولة غير اعتيادية إلا أنها ليست فوق التاريخ، وتحليل عناصر تلك الظاهرة مقترنة بسياقاتها الأوسع، سيسفر عن الحجم الواقعي لها، كصورة مصغرة من الاستعمار، حتى في أدق تفاصيلها التي قد نعتقد بخصوصيتها، فعلى سبيل المثال، كان توظيف رواية العهد القديم، بل وحتى فكرة «العهد» و«الشعب المختار»، كانت فكرة استعمارية أوروبية قبل قرون من ظهور الصهيونية.

إنه الحاجز الأخير

في الناحية الأخرى هناك أناس عاديون فيهم الخير والشر، لا هم أعظم قدرة ولا هم أدنى خلقة. والوقوف ضد الظلم لا يحتاج لخلق أيقونات ولا تنميطات لأنه واضح لكل ذي عينين. يمكن أن اكون ضد الاحتلال دون أن أعتبر «الإسرائيلي= سوبر شرير» وكفى.

ورغم الإحباط من المردود المادي، هناك شيء بداخلي يتمسك بحقي في المعرفة المجردة من أية اعتبارات مسبقة أو أهداف متوقعة، أن اقرأ وأسمع و أشاهد.. أن أترجم ما تحلو لي ترجمته دون حيثيات ودون اعتذاريات، أن أجد طريقي إلى قاريء دون أن أفرض وصايتي ووصاية جيل أقدم على عقله، وأن أحرمه من تبني موقف من خلال الفهم والإدراك وليس الترديد.

ترجماتي: «أصداء الهوية.. الجيل الثالث يكتب بهوية شرقية»، تحرير ماتي شموئيلوف ونفتالي شيم - طوڤ - صدر فصلان من الكتاب في عددي المرايا 1، 14. والبقية قيد النشر الرقمي.

«قصائد إلى أسرى السجون»، ألموج بيهار، معد للنشر الرقمي، مدونتي الخاصة «ترجمان»

يهود مصر التاريخ الشفوي، قيد المراجعة.