سجالات

دار المرايا

التطبيع وبرامج التحرر الوطني.. من هنا نبدأ

2021.10.01

 التطبيع وبرامج التحرر الوطني.. من هنا نبدأ

ستظل الأرض الواقعة شرق الحدود الدولية المصرية، بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، هي فلسطين وليست إسرائيل، مهما طال الاحتلال أو اختلت موازين القوى، ومهما استسلمت الأنظمة العربية. وسيظل الكيان الصهيوني مشروعًا استعماريًّا غربيًا يستهدف مصر والأمة العربية بقدر ما يستهدف فلسطين. وسيظل الاعتراف بإسرائيل جريمة تاريخية ووطنية وقومية وعقائدية، حتى لو اعترفت بها كل دول العالم، والدول العربية. وسيظل الشعب الفلسطيني يبهرنا بمقاومته التي لم تتوقف على امتداد قرن من الزمان منذ انتفاضة البراق عام ١٩٢٩ إلى انتفاضة الأقصى وحي الشيخ الجراح التي تدور رحاها اليوم. (١)

والسؤال المطروح للحوار هو: "لماذا تراجعت حركة مقاومة التطبيع؟ وما العمل لاسترداد زخمها في مواجهة موجة التطبيع الرسمي العربي الحالية غير المسبوقة؟".

مقدمة وتصحيح مقترح:

أستأذن القراء الكرام في اقتراح تصحيح جوهري على السؤال محل الحوار؛ ففي تصوري أنه رغم الوضع الحالي في مصر، والحصار المفروض على المعارضة الوطنية بكل أطيافها، ومع الحظر الكامل للعمل السياسي بكل قضاياه وأشكاله، ربما يكون هو السبب الأوضح والأحدث وراء غياب واختفاء أي دعم لفلسطين أو مقاومة للتطبيع أو أي فاعليات مماثلة للمرة الأولى منذ عقود طويلة، فإن أسس المشكلة وأسبابها تعود إلى ما يزيد عن ٤٠ عامًا، فالمسألة في تصوري لا تتمثل في كيفية تطوير الخطاب الوطني في مواجهة التطبيع، بل في القصور والخلل المنهجي الذي أصاب غالبية رؤانا للقضية، على تعدد واختلاف تياراتنا الفكرية والسياسية. فالتطبيع عرض وليس مرض، ومقاومة التطبيع ليست سوى معركة جزئية تركز على جانب واحد فقط من الصراع. وحتى حين كنا نخوض غمار هذه المعركة الجزئية كنا نركز على التطبيع الشعبي ونتغاضى عن التطبيع الرسمي الذي وصل اليوم إلى مرحلة التحالف. 

إن لجان وفاعليات مقاومة التطبيع والمقاطعة ودعم الانتفاضة ونصرة القدس ومناهضة الصهيونية.. إلخ، هي معارك وطنية مهمة وضرورية وواجبة، ولكنها فروع وليست أصول. أما الأصل في مصر فهو التبعية التي ضربتنا منذ عام ١٩٧٤، إنها المشكلة الحقيقية، والتطبيع ليس سوى نتيجة حتمية لها. وما أصاب حركة مقاومة التطبيع من تراجع وتردٍ، لم يقتصر عليها بل امتد ليشمل كل قضايا ومعارك وحركات النضال الوطني والسياسي في مصر، ولذات الأسباب. أما على المستوى العربي والفلسطيني، فالسؤال الأشمل الواجب طرحه، ليس لماذا تراجعت مقاومة التطبيع فقط؟ بل لماذا عجزنا عن هزيمة المشروع الصهيوني لقرن من الزمان؟ ولماذا انقلبت الأحوال من نظام رسمي عربي يتبنى تحرير فلسطين ١٩٤٨ـ ١٩٧٤ إلى آخر ١٩٧٤ـ ٢٠٢١ يكاد ينحاز إلى إسرائيل في مواجهة فلسطين؟

أحد الأسباب الرئيسية في هزيمتنا وتراجعنا هو التجزئة؛ ليس فقط التجزئة العربية الناتجة عن اتفاقيات سايكس بيكو الشهيرة، وإنما تجزئة وفصل معارك التطبيع والمقاطعة عن معركة إنهاء المشروع الصهيوني وسحب الاعتراف بشرعية إسرائيل على المستوى العربي والفلسطيني والعالمي، بالإضافة إلى فصل معركة التطبيع داخل مصر عن إسقاط اتفاقيات كامب ديفيد ونظام حكمها، وعن مشروع عربي تحرري شامل يستهدف إسقاط انظمة الحكم العربية التي لا تعدو أن تكون محميات أمريكية.

وسأحاول التفاعل مع هذه الأسئلة والقضايا المطروحة من خلال المحاور التالية:

١. طبيعة المرحلة (الحالية) من الصراع العربي الصهيوني أو كيف نقرأ قرنا من الصراع؟

٢. طبيعة النظام الحاكم لمصر ١٩٧٤ـ ٢٠٢١ أو ما أسميه بالكتالوج الأمريكي لحكم مصر. 

٣. إضعاف الحركة الوطنية المصرية ١٩٧٤ ـ ٢٠١١.

٤. الحملة التطبيعية الرابعة وصفقة القرن والسلام بالإكراه.

٥. طبيعة العلاقات المصرية الإسرائيلية ٢٠١٤ ـ ٢٠٢١.

٦. ماذا حدث للمصريين تجاه قضية فلسطين؟

٧. ما العمل؟

***

المحور الأول ـ طبيعة المرحلة الحالية من الصراع العربي الصهيوني أو كيف نقرأ قرنًا من الصراع ١٨٩٧ـ ٢٠٢١؟

منذ تأسست الحركة الصهيونية عام ١٨٩٧، نجحت في تحقيق ثلاثة أهداف كبرى، وتكاد تنجح في تحقيق الهدف الرابع. ولقد استغرق تحقيق كل هدف من الأهداف الثلاثة ما يقرب من ربع قرن. ودعونا نتذكر القصة منذ بدايتها:

الهدف الأول في ربع القرن الأول ١٨٩٧ ــ ١٩٢٢: الرخصة

بعد أن نظم الصهاينة أنفسهم في مؤتمر بازل بسويسرا عام ١٨٩٧، أرادوا أن يدعموا فكرة وطن قومي لليهود في فلسطين، برخصة رسمية من القوى الكبرى ومن الشرعية الدولية حينذاك. وهو ما تم بالفعل في وعد بلفور ١٩١٧ وفي صك الانتداب البريطاني على فلسطين الصادر من عصبة الأمم عام ١٩٢٢، والذي نص في مادته الثانية على حق اليهود في وطن قومي في فلسطين. وكان هذا هو ما نجحوا في تحقيقه بعد محاولات متعثرة من الهجرات التسللية التي فشلت في تهجير أكثر من ٥٠ ألف يهودي بامتداد القرن التاسع عشر كله، فحققوا الهدف الأول.

***

الهدف الثاني في ربع القرن الثاني ١٩٢٢ ــ ١٩٤٧: الهجرات

بعد الحصول على الرخصة، بدأوا في تنفيذ الهدف الثاني وهو تهجير أكبر عدد ممكن من اليهود إلى فلسطين، وهو الأمر الذي ورد صراحة في المادة السادسة من صك الانتداب البريطاني. وقد اعتمدوا في ذلك على تمويل المنظمات والشخصيات الصهيونية الكبرى، وأسسوا له صندوقًا خاصًا بإشراف المنظمة الصهيونية العالمية. وبالفعل وتحت حماية الاحتلال البريطاني، نجحوا في هذه الفترة في تهجير ما يقرب من ٥٠٠ ألف يهودي إلى فلسطين. ليرتفع عدد اليهود فيها من نحو ٦٠ ألف عام ١٩١٧ إلى نحو ٦٥٠ ألف عامي ١٩٤٧/١٩٤٨، في مقابل ١.٣ مليون عربي حينذاك؛ وحققوا الهدف الثاني.

***

الهدف الثالث في ربع القرن الثالث ١٩٤٧ ــ ١٩٧٣: بناء الدولة

وتبدأ المرحلة الثالثة بالحصول على قرار من الأمم المتحدة بدولة يهودية وهو القرار المشهور باسم قرار التقسيم الصادر في ٢٩ نوفمبر ١٩٤٧ والذي أعطى اليهود ٥٥.٤٠٪ من فلسطين وأعطى العرب ٤٤.٦٠٪ منها، في وقت لم يكن يمتلك اليهود سوى ٥.٦٠٪ من أراضي فلسطين. وليشرعوا فورًا في بناء دولتهم المسماة بإسرائيل والتي نجحوا بالفعل في بنائها بالأساليب التالية:

• ارتكاب المذابح الإرهابية مثل دير ياسين وأخواتها، والتي نجحوا بها في طرد وتفريغ البلاد من نحو ٨٠٠ ألف عربي.

• الانتصار على جيوش الدول العربية مجتمعة في حرب ١٩٤٨ مستغلين تردي حالة العرب الخاضعين للاحتلال الأوروبي، والاستيلاء على مزيد من الأرض لتصل جملة ما يسيطرون عليه إلى ٧٧.٤٪.

• توقيع اتفاقيات هدنة مع دول الطوق العربية.

• الانضمام إلى الأمم المتحدة عام ١٩٤٩.

• صدور البيان الثلاثي الأمريكي البريطاني الفرنسي لحماية وجود إسرائيل وحدودها وأمنها.

• تهجير ١.٥ مليون يهودي إضافي إلى فلسطين في الفترة من ١٩٤٩ إلى ١٩٧٣.

• اغتصاب باقي فلسطين في ١٩٦٧ بالإضافة إلى سيناء والجولان.

• تلقي دعم هائل من الأموال والسلاح من أمريكا والدول الأوروبية ضمنت لدولتهم البقاء والتفوق العسكري على الدول العربية مجتمعة.

• حماية وغطاء أمريكي وأوروبي غير محدود في الأمم المتحدة. وحققوا الهدف الثالث.

***

الهدف الرابع ١٩٧٣ ــ ٢٠١٩: الاعتراف

وليبدأوا بذلك العمل على تحقيق هدفهم الرابع والأخطر والمتمثل في انتزاع اعتراف أصحاب الأرض المحتلة من العرب والفلسطينيين بشرعية دولة إسرائيل وهو الهدف الذي أوشكوا على تحقيقه:

• فلقد نجحوا بعد حرب ١٩٧٣ في إخراج مصر من الصراع وانتزعوا منها اعترافًا كاملاً بدولة إسرائيل بموجب اتفاقيات السلام المشهورة باسم كامب ديفيد.

• ثم بعد اجتياح لبنان عام ١٩٨٢ وحصار المقاومة الفلسطينية وطردها من هناك عام ١٩٨٢، نجحوا بعد جهود ١١ عامًا، في أن ينتزعوا من القيادة الفلسطينية اعترافًا بدولة إسرائيل وتنازل عن فلسطين ١٩٤٨ بموجب اتفاقيات أوسلو ١٩٩٣.

• تلاها اعتراف الأردن بإسرائيل بموجب اتفاقيات وادي عربة عام ١٩٩٤.

• ثم في عام ٢٠٠٢ اعترف النظام الرسمي العربي كله ممثلاً في جامعة الدول العربية بحق إسرائيل في الوجود إن أعطت دولة للفلسطينيين على حدود ١٩٦٧، بموجب مبادرة السلام العربية. 

• واليوم يتواطؤون لتصفية من تبقى من القضية الفلسطينية، عبر ما يسمى بصفقة القرن التي تستهدف الانخراط في تطبيع وتنسيق وتحالف عربي إسرائيلي كامل دون إعطاء أي شيء للفلسطينيين.

***

من الذي بقي يرفض الاعتراف ويقف حائط صد أخير ضد استكمال الهدف الصهيوني الرابع في معركة القرن الطويلة؟

• بقيت الشعوب العربية التي لم يتغير موقفها قط من العدو الصهيوني. ولكنها مقهورة عزلاء محظورٌ عليها مد يد العون والدعم إلى أشقائها في فلسطين.

• كي لا يتبقى على الجبهة في الصفوف الأولى سوى الشعب الفلسطيني وحده، يرفض الاعتراف بشرعية الاحتلال أو التنازل عن أي شبر من أرض فلسطين التاريخية، يقف وحيدًا محاصرًا يتصدى ويقاوم ويصارع كل يوم، ماكينات القتل الصهيونية بكل الأشكال والأدوات.

• إن انهزم، سيكون الصهاينة بذلك قد أنهوا ما يزيد عن قرن من الصراع لصالحهم وستموت القضية لعقود طويلة قادمة.

• وان استطاع الصمود، ورفض وأجهض كل مشروعات ومؤامرات ابتلاع فلسطين وتصفية قضيتها، تعثر المشروع الصهيوني كله.

***

هذا ملخص قصة ما يزيد عن قرن من الصراع، لم يكف شعبنا فيه يومًا واحدًا عن المقاومة وتقديم الشهداء، وهو ما نجح حتى الآن في تجريد الكيان الصهيوني من أي مشروعية حقيقية وحرمانه من تحقيق النصر النهائي، رغم كل الدعم الدولي الذي تلقاه. وفي هذا السياق التاريخي يجب أن نقرأ كل ما يدور اليوم بدءًا بالاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل وبحقها في ضم الجولان المحتل وما يتردد عن صفقة القرن، وما ارتبط بها من موجة تطبيعية رسمية غير مسبوقة ضمت حتى الآن الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، وانتهاءً بالاعتداءات الصهيونية المستمرة على قطاع غزة وعلى المسجد الأقصى والابتلاع اليومي لمزيد من أرض الضفة. فالمعركة الحقيقة اليوم ومنذ عقود طويلة، تدور حول الاعتراف بشرعية إسرائيل وبحقها في أرض فلسطين التاريخية وحول التطبيع والتحالف العربي الرسمي معها ودمجها في المنطقة، وكل ما عدا ذلك تفاصيل أو قضايا فرعية: (٢) فليست القضية دولة على حدود ١٩٦٧، وليست العقبات هي التعنت الإسرائيلي والانحياز الأمريكي أو الانقسام الفلسطيني، كما أن الأولويات لا يصح ولا يجب أن تقتصر على أهداف مثل المقاطعة ومقاومة التطبيع وفك الحصار وإيقاف الاستيطان في الضفة الغربية فك الحصار عن غزو وإجهاض مشروع تهويد القدس.. إلخ، وكلها معارك لازمة وواجبة وحتمية، بشرط أن تأتي في سياق المعركة الأم والأهداف الاستراتيجية الأساسية والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:

١. استرداد مصر التي خُطِفت منذ ١٩٧٤

٢. إعادة الاعتبار للمشروع الوطني الأصلي عربيًّا وفلسطينيًّا المطالب بتحرير كامل الأرض المحتلة، مع نزع أي شرعية عما تسمي بدولة "إسرائيل" مع توفير كل الدعم المادي والبشري لحركات المقاومة.

٣. تحرير شعوب ودول المنطقة من هذا النظام الرسمي العربي بكل وحداته الإقليمية، الغارق حتى النخاع في التبعية والتطبيع.

***

المحور الثاني: طبيعة النظام الحاكم لمصر ١٩٧٤ـ ٢٠٢١ أو الكتالوج الأمريكي لحكم مصر (٣)

يخطئ من يتصور أن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية الموقعة في ٢٦ مارس ١٩٧٩، والمشهورة باسم اتفاقيات كامب ديفيد، هي مجرد اتفاقية ثنائية استطاعت مصر من خلالها استرداد أرضها المحتلة، مقابل إقامة علاقة طبيعية مع إسرائيل وتقديم بعض الترتيبات والتنازلات الأمنية والعسكرية المصرية في سيناء.

فكامب ديفيد هي أشمل وأخطر من ذلك بكثير؛ هي نظام حكم كامل متكامل، وضعه الأمريكان وإسرائيل وحلفاؤهم لتفكيك مصر التي حاربت وانتصرت في حرب ١٩٧٣، وبناء مصر أخرى تابعة للأمريكان لا ترغب في قتال إسرائيل أو في تحديها، وإن رغبت لا تستطيع. إن كامب ديفيد هي عصر كامل قائم بذاته ونظام حكم يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا منذ سبعينيات القرن العشرين حتى يومنا هذا.

إنه ذلك النظام الذي كتبت عنه كثيرًا تحت عنوان الكتالوج الأمريكي لحكم مصر، والذي يمكن تلخيصه فيما يلي:

١) تجريد ثلثي سيناء من القوات والسلاح إلا بإذن إسرائيل وفقًا للملحق الأمني من المعاهدة، حتى تظل رهينة التهديدات الإسرائيلية المستمرة، بما يمثل أقوى أداة ضغط وإخضاع فعالة لأي إرادة مصرية، خاصة في ظل عقدة ١٩٦٧ التي لا تزال تسيطر على العقل الجمعي لمؤسسات الدولة المصرية.

٢) مع إعطاء الأمريكان موطئ قدم في سيناء، وقبول دخول قواتهم إلى هناك لمراقبة القوات المصرية، ضمن ما يسمى بقوات "متعددة الجنسية والمراقبين" التي يرأسها سفير في وزارة الخارجية الأمريكية ولا تخضع للأمم المتحدة.

٣) مع إعطائهم تسهيلات لوجستية في قناة السويس والمجال الجوي المصري، قال عنها الأمريكان: كان لها دور كبير في نجاح قواتهم في غزو العراق.

٤) مع الانخراط في كل أحلاف هم العسكرية، والاندماج فيما تقيمه من ترتيبات أمنية في الإقليم، وتنفيذ الأدوار والمهام التي تطلبها منا في حروبها واعتداءاتها العسكرية في المنطقة؛ بدءًا بحرب تحرير الكويت مرورًا بغزو أفغانستان والعراق وصولاً إلى صفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية.

٥) تصفية الاقتصاد الوطني الذي كان يدعم المجهود الحربي في أثناء الحرب، واستبداله بمعونة عسكرية أمريكية ١.٣ مليار دولار تستهدف ترسيخ النفوذ الأمريكي في مصر، واحتكار غالبية التسليح المصري والتحكم في موازين القوى لصالح إسرائيل، مع تسليم الاقتصاد المصري الجديد لصندوق النقد والبنك الدوليين إدارته وتوجيهه والسيطرة عليه.

٦) تأسيس نظام حكم سياسي جديد تكون على رأس أولوياته حماية أمن إسرائيل والحفاظ على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، التي يجب أن توافق على شخصية رئيس الجمهورية وفقًا للتصريح الشهير للدكتور مصطفي الفقي عام ٢٠١٠، مع فرض حصار سياسي وأمني على كل من يرفض الاعتراف بإسرائيل ويناهض اتفاقيات كامب ديفيد.

٧) انتزاع مصر من عالمها العربي من خلال توجيه وضبط وتقييد علاقاتها وسياساتها الخارجية عربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا، بنصوص صريحة في المادة السادسة من المعاهدة، لتكون لها الأولوية على أي اتفاقيات أو التزامات سابقة أو لاحقة لمصر، مثل اتفاقية الدفاع المشترك أو ما يماثلها. 

٨) استئثار وسيطرة رأس المال الأجنبي والمحلي على مقدرات البلاد وثرواتها. وصناعة طبقة من رجال الأعمال المصريين تكون لها السيادة على باقي طبقات الشعب، وتقوم بدور التابع والوكيل المدافع عن مصالح وسياسات الأمريكان والصهاينة في مصر.

٩) تصفية أي تيارات وطنية أيًّا كانت مرجعيتها الأيديولوجية، تناهض الولايات المتحدة وإسرائيل، مع كسر شوكة الشعب المصري والقضاء على روح الانتماء الوطني لديه.

١٠) كامب ديفيد هي الدستور الفعلي لمصر، نستطيع أن نعقد الاستفتاءات ونفجر الثورات ونسقط رؤساء الجمهورية، ولكن من المحظور الاقتراب من المعاهدة أو من نظام الحكم الذي صنع تفصيلاً على مقاس أمن إسرائيل ومصالح الأمريكان.

***

أهم آثار ونتائج كامب ديفيد:

بالإضافة إلى كل ما سبق فلقد ترتب على المعاهدة عديد من الآثار والنتائج:

١ـ الاعتراف وللمرة الأولى من أكبر وأقوى دولة عربية بمشروعية الاغتصاب الصهيوني لفلسطين. ومنذ ذلك الحين بدأ الخطاب العربي الرسمي يتحول تدريجيًّا إلى الحديث عن فلسطين ١٩٦٧ فقط في استبعاد صريح لفلسطين ١٩٤٨ بما يعني القبول بقرار التقسيم، الذي سبق أن رفض بالإجماع.

٢ ـ ضرب القضية الوحيدة التي كانت قادرة على توحيد الصف العربي رغم كل الخلافات القائمة بين الحكام والأنظمة، وهو ما تجلى في أرقى صوره في مقررات الخرطوم بعد ١٩٦٧ وفي أثناء حرب ١٩٧٣، ليتحول الصراع في المنطقة بعدها من صراع عربي/ صهيوني إلى عشرات الصراعات العربية/ العربية والحروب بالوكالة.

٣ـ تخفيف ثم إلغاء المقاطعة الدولية لإسرائيل، فلقد رأى عدد من الدول الصديقة للدول العربية والمناصرة لقضاياها، إنه بعد اعتراف مصر بإسرائيل، لا يوجد مبرر لتكون ملكية أكثر من الملك، واستجاب العديد منها للضغوط الأمريكية في إعادة العلاقات التي كانت قد قطعت بعد عدوان ١٩٦٧. (٨٠ دولة أعادت العلاقات مع إسرائيل بعد المعاهدة).

٤ـ على المستوى الداخلي أدى نهج كامب ديفيد إلى نتائج خطيرة تمس الثوابت الوطنية لعامة الناس، فغاب اليقين الوطني وماعت القضايا واختلط الأصدقاء مع الأعداء وتضاءلت قيمة التضحيات التاريخية في الحروب السابقة وفقدت معناها. والنتيجة أن كف معظم الناس عن الاعتقاد في جدوى أي مشروع وطني، ولجأت قطاعات واسعة للبحث عن انتماءات بديلة عن الانتماء الوطني، انتماءات فردية أو قبلية أو طائفية.

٥ـ انتشار الفكر الطائفي ودعاوى الانفصال والتفتيت في المنطقة، وكان ذلك من أخطر آثار كامب ديفيد، إذ أدي اعتراف مصر بمشروعية إسرائيل كدولة لليهود إلى إغراء القوى الانفصالية في الوطن العربي وبدعم وتشجيع صهيوني على السعي لتكرار النموذج الإسرائيلي، فانتشر الحديث عن دويلات طائفية مارونية وشيعية وسنية وقبطية وكردية وبربرية وزنجية.. إلخ. 

٦ ـ وجهت كامب ديفيد أقوى ضربة للوحدة الوطنية المصرية بمعناها الشامل، التي لا تقتصر على وحدة المسلمين والمسيحيين، فانشقت الصفوف حول الموقف من الاستقلال الوطني ومن العدو الخارجي. وسقطت الشرعية الوطنية عن مصر الرسمية التي تصالحت مع العدو ضد المصالح الوطنية والقومية، مما شكل أحد الأسباب الرئيسية وراء عدم الاستقرار السياسي والحكم بالقبضة البوليسية والإجراءات الاستثنائية والزج بالمعارضين في السجون والمعتقلات، ناهيك عن سلسلة الصراعات والصدامات وأعمال العنف التي لا تنتهي.

 ٧ ـ وأخيرًا استطاعت كامب ديفيد أن تحقق الهدف الرئيسي منها وهو الانفراد بالوضع العربي في غياب مصر وإعادة ترتيبه طبقًا للمصالح الإسرائيلية: فاقتحمت قوات العدو الصهيوني بيروت في يونيو ١٩٨٢، وطردت قوى المقاومة الفلسطينية خارج لبنان بعيدًا عن حدود قطره، مما أسفر عن تغيير جذري في موازين القوى أدى بعد سنوات إلى انتزاع اعتراف من القيادة الفلسطينية بمشروعية دولة إسرائيل. ناهيك بعمليات العربدة الإسرائيلية في المنطقة وتصاعد عمليات العدوان والتأديب اليومية لباقي الأطراف العربية: فتضرب إسرائيل المفاعل النووي العراقي في يونيو ١٩٨١، وتضرب مقر م. ت. ف في تونس عام ١٩٨٥ وتغتال أبا جهاد وتعربد كما يحلو لها في الأرض المحتلة والاعتداءات مستمرة حتى يومنا هذا.

٨ ـ ولكن يظل أخطر النتائج هو ما أسفرت عنه المعاهدة من خضوع مصر بشكل كامل للولايات المتحدة الأمريكية بعد أن أصبحت راعية للسلام وضامنة له وصاحبة الفضل في كف أيدي إسرائيل عن مصر، وأصبح الجهد الرسمي الرئيسي لمصر هو تنفيذ الإصلاحات الداخلية السياسية والاقتصادية المطلوبة أمريكيا وضبط التوجهات والأدوار الخارجية بناءً على التوجيهات الأمريكية.

***

المحور الثالث: إضعاف الحركة الوطنية ١٩٧٤/ ٢٠١١:

إن تصفية الحركة الوطنية المصرية التي ترفض التبعية للولايات المتحدة وتناصر فلسطين وتناهض الصهيونية وكامب ديفيد وإسرائيل وترفض الاعتراف بها أو التطبيع معها، كان أحد أهم ركائز نظام الكتالوج الأمريكي، وأحد الشروط الرئيسية للأمريكان والصهاينة والذي ورد صراحة ونصًّا في الفقرة الثانية من المادة الثالثة من المعاهدة: (كما يتعهد كل طرف بالامتناع عن التنظيم أو التحريض أو الإثارة أو المساعدة أو الاشتراك في فعل من أفعال الحرب أو الأفعال العدوانية أو "النشاط الهدام" أو أفعال العنف الموجهة ضد الطرف الآخر في أي مكان كما يتعهد بأن يكفل تقديم مرتكبي مثل هذه الأفعال للمحاكمة).

***

وكان هناك مجموعتان "إضافيتان" من العوامل التي أدت إلى إضعاف الحركة الوطنية المصرية في الفترة من ١٩٧٤ حتى ٢٠١١؛ عوامل داخلية وأخرى خارجية، يمكننا أن نتناول أهمها فيما يلي:

• إغلاق مصنع الوطنية والوطنيين في مصر بحظر العمل السياسي في الجامعات المصرية بموجب إصدار اللائحة الطلابية عام ١٩٧٩ في ذات العام الذي وقُعت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.

• مطاردة فصائل وجماعات اليسار الوطني في مصر واعتقال عناصره وأنصاره وتلفيق عشرات القضايا لهم أمام محاكم أمن الدولة العليا.

• وانحياز التيار الإسلامي الصاعد بعد ١٩٦٧، لنظام السادات وتحالفه معه في مواجهة قوى اليسار، قبل أن يصحح موقفه وينقلب عليه هو الآخر ويضم إلى القوى المعارضة لكامب ديفيد في الشهور الأخيرة من حكمه.

• ثم بعد اغتيال السادات، تم شراء ورشوة قطاعات واسعة من القوى السياسية، بوعود زائفة حول توسيع هامش المشاركة السياسية والبرلمانية والإعلامية مقابل القبول والتعايش مع اتفاقيات كامب ديفيد، ومع الوضع المصري الجديد كدولة ونظام تابعين للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة.

• تزامن ذلك وساعد عليه سقوط الاتحاد السوفيتي وضرب حلم المشروع الاشتراكي البديل (حتى حين) لصالح الرأسمالية والنظام الرأسمالي، وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم. مما دفع بقطاعات واسعة من اليسار المصري والعربي والعالمي إلى السقوط في دوامات الإحباط واليأس الشديد والانسحاب من العمل السياسي تماما أو تغيير البوصلة وطبيعة النشاط، إلا من رحم ربي.

• الحرب العراقية الإيرانية التي تفجرت عام ١٩٨٠، واحتياج العراق ودول الخليج للدعم المصري العسكري فيها، مما ترتب عليه إلغاء ما سمي بجبهة الصمود والتصدي، وفتح الأبواب لمصر وقبولها بثوبها الجديد.

• وهو ما مكن نظام مبارك ومن ورائه الأمريكان من توظيف هذا الوضع "لشرعنة" كامب ديفيد ومبدأ الصلح والسلام والاعتراف والتطبيع مع إسرائيل، فأخرجوها من دائرة المحرمات والمحظورات العربية، وهو ما سيفتح فيما بعد الأبواب على مصراعيها لتعريب وتوسيع السلام مع إسرائيل كما يحدث اليوم.

• وكان أيضًا لاجتياح إسرائيل للبنان عام ١٩٨٢ وحصارها للمقاومة الفلسطينية في بيروت الذي انتهى بخروج مقاتلي المقاومة من لبنان إلى المنفى في تونس، دور كبير أيضًا في زيادة جرعة الإحباط الوطني العام. 

• وما تلا ذلك من ضغوط هائلة على القيادة الفلسطينية في المنافي (١٩٨٢ ـ ١٩٩٣) إلى أن كسرت إرادتها لتقبل في اتفاقيات أوسلو بالتنازل عن الحق الفلسطيني في أرض ١٩٤٨ والاكتفاء بالمطالبة بأرض ١٩٦٧ مع اعترافها بشرعية دولة إسرائيل، مما وجه ضربة قاصمة للثوابت الوطنية الفلسطينية والعربية ولمن لا يزالون يتبنونها ويعتقدون فيها.

• صعود المقاومة الإسلامية في فلسطين كبديل ووريث لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد أوسلو، أبعد قطاعات واسعة من قوي وشخصيات اليسار عن دعم المقاومة بسبب موقفهم السلبي الحاد مما يطلقون عليه "الإسلام السياسي".

• ثم جاء احتلال العراق للكويت عام ١٩٩٠ باستدراج أو كمين من الأمريكان، لاستخدامه كذريعة لإرسال قواتهم إلى المنطقة وقيادة ما سمي بحرب تحرير الكويت الذي قامت فيها مصر بدور "المحلل" للوجود العسكري الأمريكي من خلال مشاركتها بقواتها في حفر الباطن، مما كان له دور إضافي في انكسار الروح الوطنية وتراجع الأحلام والغايات الوطنية والتحررية فراسخ كثيرة إلى الوراء.

• وما تلا ذلك من حصار العراق لعشر سنوات كاملة، ثم غزوها هي وأفغانستان عقب أحداث البرجين في سبتمبر ٢٠٠١، لنصبح بصدد وجود واحتلال عسكري أمريكي صريح في الخليج والمنطقة على غرار ظاهرة الاستعمار القديم في القرن التاسع عشر.

• وهو ما كان له من آثار شديدة السلبية على الأنظمة العربية دون استثناء، التي قررت الغالبية منها إعلان الخضوع الكامل لإرادة الولايات المتحدة.

• والذي كان من أهم توابعه تنازل النظام الرسمي العربي بمجمله عن الحق الفلسطيني والعربي في أرض ١٩٤٨ والتنازل عن الحق في المقاومة والكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي، بموجب مبادرة السلام العربية في مارس ٢٠٠٢ في بيروت، ليبقى من يرفض الاعتراف بإسرائيل من الحركة الوطنية الفلسطينية والمصرية والعربية أقلية قليلة منبوذة ومعزولة.

• أضف إلى ذلك ما تلا غزو العراق من ادعاءات أمريكية كاذبة بالسعي لإنقاذ الشعوب العربية من الحكام المستبدين ومن الأنظمة الديكتاتورية، وما تواكب مع ذلك من ضغوط أمريكية على الحكام العرب لمزيد من الإجراءات الديموقراطية والمشاركة السياسية وهو ما دفع مبارك مكرهًا إلى توسيع الهامش الديموقراطي للمعارضة، وهو الوضع الذي تلقفته غالبية القوى السياسية المصرية مدنية وإسلامية التي تبنت جميعها أجندة ليبرالية تركز على الحريات والديمقراطية والإصلاح السياسي والدستوري وتقف ضد التمديد والتوريث مع تراجع وتهميش واضح ومقصود للقضايا الوطنية ضد التبعية وإسرائيل وكامب ديفيد. 

***

ولتأتي ثورة يناير ٢٠١١ هي الأخرى لتحمل ذات الأجندة الليبرالية بامتياز، منزوعة من أي دسم وطني، فلم يجرؤ أي من أطيافها أو من الفصائل المشاركة فيها على طرح مطلب الاستقلال عن الأمريكان أو التحرر من اتفاقيات كامب ديفيد وقيودها. وليكتفي الجميع بمطالب إصلاحية سياسية ودستورية انتهت كما نرى جميعا بمصادرة أي حقوق سياسية أو دستورية. فيؤكد الإخوان لجون كيري عام ٢٠١١ التزامهم بكامب ديفيد وتقوم جبهة الإنقاذ بطمأنة جون ماكين على نفس الالتزام عام ٢٠١٣. كما لم يجرؤ أي مرشح رئاسي من مرشحي الثورة على الإدلاء بأي تصريح عن رفضه للمعاهدة خلال حملته الانتخابية. ولكن هذا حديث آخر. (٤)

***

المحور الرابع ـ المشهد العربي الرسمي اليوم ـ الحملة التطبيعية الرابعة:

كان ما سبق هو استعراض سريع لتتطور الأوضاع في مصر والعالم العربي على امتداد الفترة من ١٩٧٤ إلى ما بعد الثورة المصرية، أما اليوم فإننا نمر بالموجة الرابعة من التطبيع؛ الموجة الأولى كانت مع كامب ديفيد، والثانية كانت مع مدريد وأوسلو وجماعة كوبنهاجن، والثالثة كانت بضغط من بوش الابن وتحاشيًا لغضبه وانتقامه بعد تفجير البرجين في سبتمبر ٢٠٠١ وما تبعه من احتلال أفغانستان والعراق وتقديم جامعة الدول العربية لمبادرتها عام ٢٠٠٢ التي تنازلت فيها للمرة الأولى عن الحق في أرض فلسطين ١٩٤٨ وإجبار مصر على توقيع اتفاقيات الغاز والكويز مع إسرائيل. 

وهي الموجة الأخطر على الإطلاق، لأنها غيرت من قواعد اللعبة، لتصبح دعوة للسلام والتطبيع مع إسرائيل "دون فلسطين" في خروج واضح وغير مسبوق عن مبادرة السلام العربية التي ربطت التطبيع بقيام دولة فلسطينية على حدود ١٩٦٧. إنه السلام بالقوة وبالإكراه كما عبر عنه نتنياهو في تصريحاته يوم ١٦ أغسطس ٢٠٢٠ والتي كشف فيها بوضوح عن النظرية الإسرائيلية الحقيقية للسلام، وهي النظرية التي يمكن تحديد أهم عناصرها من واقع تصريحاته المرفقة فيما يلي: (٥)

١) هو سلام بالإكراه، يجبر الدول العربية ونظامها الرسمي العربي عليه ويدفعهم للهرولة إليه، من واقع التفوق العسكري الإسرائيلي واختلال موازين القوى الهائل لصالحها.

٢) هو سلام مع بقاء الاحتلال بل وتوسعه، سلام دون انسحاب من شبر واحد من أي أرض محتلة، بل مع الإصرار على ضم باقي أراضي الضفة الغربية. وهو سلام يرفض أي حديث عن الأرض أو عن حدود ١٩٦٧، ويعتبر أن أي انسحاب يؤدي إلى إضعاف لإسرائيل.

٣) هو سلام دون الفلسطينيين ورغمًا عن أنفهم. وبقول آخر هو سلام يحرر العلاقات العربية الإسرائيلية من أي التزام تجاه فلسطين والفلسطينيين، ويسقط كل الأوهام القديمة القائلة بألا سلام بين العرب وإسرائيل إلا من بوابة الحقوق الفلسطينية.

٤) بل هو سلام يقوم على تحالف إسرائيلي عربي ضد فلسطين وفي مواجهتها، تحالف سيحرر الدول العربية في النهاية من هيمنة المطالب الفلسطينية وسيجبر الفلسطينيين إن عاجلاً أم آجلاً على الخضوع والاستسلام لإسرائيل.

٥) هو سلام تفرضه الولايات المتحدة على الجميع، فلولاها لما استطاعت إسرائيل أن تمتلك كل هذا "النفوذ الدولي"، الذي يتباهى به نتنياهو على الدوام.

٦) وهم سلام عدواني وعنصري تجاه الدول العربية ذاتها، ينطلق من أن البقاء في الشرق الأوسط للأقوياء فقط، أما الضعفاء فلن يكون لهم وجود وسيسقطهم الجميع من حساباتهم، وإذا كانت البداية مع فلسطين فإن البقية آتية لا محالة.

٧) أما عن الطريق لتحقيق مثل هذا السلام الصهيوني، فهو يبدأ بالاختراق والتغلغل في المنطقة مع حكام وأنظمة الدول العربية، وعلى الأخص مع الخائفين من إيران، العاجزين عن مواجهتها، الراغبين في الحماية الأمريكية والإسرائيلية، لتأسيس مصالح وعلاقات مشتركة قد تكون سرية في البداية، ولكن سرعان ما سيتم إشهارها والإعلان عنها بمجرد نضوجها وإعداد المسرح العربي لتقبلها، بضغط ومساعدة الولايات المتحدة.

***

أما عن أهم أسباب هذه الهرولة العربية الرسمية الجماعية (الآن) لإقامة العلاقات والتطبيع مع إسرائيل والخضوع التام لتعليمات ترامب والضغوط الأمريكية:

فأظن أنه بجانب طبيعة هذه الأنظمة التابعة منذ قديم الأزل، فإنها إحدى فواتير هزيمة الثورات العربية وقواها الوطنية المعادية لأمريكا ولإسرائيل، مع اكتشاف الحكام العرب هشاشة أنظمتها أمام ثورات الشعوب وأمام التدخلات والاختراقات الدولية والتهديدات الإقليمية والحروب بالوكالة وأمام اليد الطولى لأمريكا وإسرائيل ومجتمعهما الدولي، وهو ما دفع عديد من الأنظمة إلى إعلان خضوعهم واستسلامهم الكامل على الملأ، وعلى مرأى من الجميع بعد أن كانوا يمارسونه في الخفاء، ورفع الراية البيضاء إلى عنان السماء والاحتماء الكامل بالولايات المتحدة بلا قيد أو شرط ودفع كل ما تطلبه وتأمر به الولايات المتحدة من إتاوات في المقابل، على رأسها الاعتراف بإسرائيل. ساعد على ذلك بطبيعة الحال أسلوب الإذلال والتهديدات الصريحة التي انتهجه ترامب.

***

المحور الخامس ـ طبيعة العلاقات المصرية ٢٠١٤ ـ ٢٠٢١ (٦) (٧) (٨) (٩)

قبل ثورة يناير، صرح الدكتور/مصطفي الفقي المستشار السابق لمبارك، بأن أي رئيس لمصر يجب أن توافق عليه أمريكا وتقبل به إسرائيل. وبعد الثورة، لم تختلف الأمور كثيرًا.

ولكن فيما سبق كان النظام منذ عام ١٩٧٩ يتعامل مع المعاهدة والتطبيع والعلاقات مع إسرائيل على قاعدة "مُكره أخاك لا بطل"، أما اليوم فكثير من المحللين والخبراء الرسميين يعتبرون ان إسرائيل قد أصبحت فرصة بعد كانت فيما مضي تمثل تحديًّا! وهو ما يفسر العمق الذي وصلت فيه العلاقات والذي يمكن وصفه بالعصر الذهبي للعلاقات المصرية الإسرائيلية وفيما يلي بعض الأمثلة:

• الإشادات الرسمية المستمرة بمعاهدة السلام وبعبقرية النهج الذي انتهجه السادات.

• الدعوة إلى توسيع السلام العربي مع إسرائيل.

• قيام إسرائيل وفي سابقة هي الأولى من نوعها، بالدور الرئيسي بالتعاون في الضغط على الإدارة والكونجرس الأمريكيين، لاستئناف المساعدات العسكرية لمصر، بعد أن كانت منذ السادات تحرض على وقفها أو ربطها بحزمة من الشروط والمطالب الإسرائيلية. 

• إخلاء المنطقة الحدودية بسيناء من السكان وإقامة المنطقة العازلة التي كانت إسرائيل تطلبها منذ سنوات من السلطات المصرية، رغم ما يمثله ذلك من خطر جسيم مع عدو متخصص في اغتصاب واستيطان الأراضي العربية.

• تلويح واشنطن عام ٢٠١٥ بسحب قواتها من سيناء، لعدة أسباب منها الدفء المتميز بين مصر وإسرائيل الذي لا يحتاج معه البلدان لطرف ثالث إطلاقًا.

• ٩/٩/٢٠١٥ إعادة فتح مقر السفارة الإسرائيلية بعد أربع سنوات من إغلاقها على أيدي شباب الثورة، وفي ذات يوم إغلاقها في ٩/٩/٢٠١١.

• تصريح وزير الطاقة "يوفال شتاينيتز" إن قيام مصر بإغراق الإنفاق التي يحفرها الفلسطينيون تحت الحدود المصرية مع قطاع غزة جاء بطلب من إسرائيل.

• مشاركة حازم خيرت السفير المصري في إسرائيل في مؤتمر هرتسيليا السادس عشر عام ٢٠١٦ الذي يتناول القضايا التي تتعلق بتحديات الأمن القومي الإسرائيلي.

• بناءً على طلب الرئيس المنتخب الجديد دونالد ترامب قامت البعثة المصرية في مجلس الأمن بتأجيل التصويت على مشروع قرار بوقف المستوطنات الإسرائيلية.

• التطبيع السعودي الإسرائيلي برعاية مصرية من بوابة تيران وصنافير في سياق صفقة القرن لدمج إسرائيل في المنطقة.

• توقيع اتفاقية لاستيراد الغاز من إسرائيل في فبراير ٢٠١٨ قال عنها نتنياهو هذا هو يوم عيد.(١٠)

• لتضاف إلى اتفاقيات الكويز التي فتحت الأسواق الأمريكية للمنتجات المصرية بشرط ان يكون بها مكون إسرائيلي. 

• السماح للسفارة الإسرائيلية في الظهور العلني للمرة الأولى والاحتفال في وسط القاهرة وبالقرب من ميدان التحرير في فندق ريتز كارلتون، بالذكرى السبعين لاغتصاب فلسطين التي يسمونه في القاموس الإسرائيلي بعيد الاستقلال.

• تأسيس مصر لمنتدى غاز شرق المتوسط (EMGF) عام ٢٠١٩ الذي يضمها مع إسرائيل ودول أخرى.

• امتناع رسمي مصري عن أي نقد أو إدانة للقرار الأمريكي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل.

• خطابات تهنئة رسمية لإسرائيل والإمارات والبحرين والمغرب على اتفاقيات السلام والتطبيع.

• فرض حظر ورقابة إعلامية صارمة على أي نقد للتقارب الرسمي مع إسرائيل.

• فرض حظر حديدي على أي حراك سياسي أو شعبي مناصر لفلسطين أو مناهض لإسرائيل.

• والقائمة تطول.

***

المحور السادس ـ ماذا حدث للمصريين في قضية فلسطين ٢٠١٤ /٢٠٢١؟

رغم كل القيود والضغوط السياسية والأمنية التي كان يمارسها نظام السادات/مبارك، فإن القوى الوطنية المصرية كانت على الدوام في صدارة القوى العربية المشتبكة مع قضايا الصراع العربي الصهيوني والداعمة لفلسطين حتى النخاع والمعادية للصهيونية ولإسرائيل والرافضة رفضًا قاطعًا لكامب ديفيد وللتطبيع على امتداد ما يزيد عن ٣٥ عامًا (١٩٧٧- ٢٠١٢). 

وبعد الثورة وفي أسابيعها الأولى في أبريل ٢٠١١ اندفع الشباب لحصار السفارة الإسرائيلية للمرة الأولى منذ فتحها عام ١٩٧٩، ردًا على العدوان الصهيوني على غزة، وهو ذات الشباب الذي استطاع في تظاهراته في أغسطس وسبتمبر من ذات العام، إغلاق مقر السفارة وإنزال علمها الذي طالما دنس سماء القاهرة.

واليوم أين مصر من الجريمة الكبرى المسماة بصفقة القرن التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية وإطلاق رصاصة الرحمة على أي أوهام لقيام دولة فلسطينية على حدود ١٩٦٧، وتسليم كل الأرض المحتلة على طبق من فضة لهذه العصابات الاستيطانية الصهيونية القادمة إلينا من وراء البحار؟ لقد انفجرت تظاهرات الغضب في كل بقاع الأرض العربية من المحيط إلى الخليج، فيما عدا مصر بالإضافة طبعًا إلى ممالك وإمارات النفط والغاز، ولم ينعقد مؤتمر أو ندوة واحدة في أي من النقابات المصرية التي طالما فتحت أبوابها وقاعاتها للفاعليات السياسية من هذا النوع. لم يسمح باستضافة شخصية وطنية واحدة في أي قناة فضائية للتعبير عن الرفض الشعبي للصفقة الإجرامية. لم يصدر بيان يتيم برفض الصفقة يضم توقيعات كل الشخصيات العامة والسياسية في مصر على غرار ما كان يجري على امتداد عشرات السنين. ناهيك بحظر وتحريم وتجريم أي تجمع أو وقفات سلمية للمعارضة، حتى على سلالم نقابة الصحفيين، التي كانت دائمًا الملاذ الأخير والوحيد الذي يفتح صدره للمصريين إذا اغلقت في وجوههم كل الأبواب. وبالطبع أن سؤال ماذا حدث للمصريين تجاه قضية فلسطين؟ ليس سؤالاً صعبًا، فالإجابة عليه واضحة وضوح الشمس، فالشعب المصري اليوم مجرد من أي حقوق أو حريات مع احتكار السلطة وتأميمها الكامل للحياة السياسية والبرلمانية والإعلامية وإغلاقها إغلاقًا تامًا في وجه أي رأي أو اتجاه أو حزب معارض، وكل ذلك عقابًا لنا على ما ارتكبناه من ذنب لا يغتفر بقيامنا بالثورة في يناير ٢٠١١! (١١)

لقد حرصت على تناول الشأن المصري الحالي بقدر من التفصيل للتأكيد على أن أي محاولة لفهم وتفسير ما يدور في مصر اليوم من تأميم للحياة السياسية والديموقراطية، وفرض حزمة من القيود والعقوبات والاعتقالات والمحاكمات على تيارات المعارضة الوطنية بكل أطيافها.. نقول إن أي محاولة لتفسير كل ذلك بمعزل عن مشروع حماية واسترداد نظام كامب ديفيد لقوته وهيمنته وتثبيته على الأرض، هو تفسير قاصر ومخل. فالاستبداد ليس خللاً أخلاقيًّا أو لوثة نفسية تصيب السلطة الحاكمة، وإنما هو سياسة منهجية مدروسة ومقصودة وموجهة، لحماية نظام الحكم وحكامه وانحيازاته ومصالحه ومصالح من يمثلهم، وفي مصر ١٩٧٤ ـ ٢٠٢١ الأولوية لأمن إسرائيل واليد العليا للولايات المتحدة ولمصالحها فهي مصدر الدعم والحماية والشرعية الدولية. 

***

المحور السابع والأخيرـ ما العمل: (١٢)

في ضوء كل ما سبق، فإن السبيل الوحيد لإحياء وإنجاح مقاومة التطبيع وغيرها من معارك فرعية، هو في دمجها في برنامج وطني شامل، يضم الجميع ويستهدف إسقاط الكتالوج الأمريكي بكل أركانه (١٣) على الوجه التالي:

١. إسقاط المعاهدة والتحرر من كل القيود المفروضة على قواتنا في سيناء، واسترداد كاملة السيادة هناك، والتحرر من عقدة ١٩٦٧ ومن الخوف من أمريكا ومن إسرائيل، والتحرر من سياسة السلام بالإكراه والتطبيع بالإكراه.

٢. التحرر من التبعية الأمريكية، والمعونة الأمريكية والنفوذ الأمريكي والاحتكار الأمريكي لغالبية التسليح المصري، وإلغاء أي تسهيلات لوجستية للقوات الأمريكية، والخروج من أي أحلاف إقليمية يقودها الأمريكان أو يدعون إليها.

٣. استرداد الدور القيادي والتاريخي لمصر في علاقتها بالأمة العربية وإعادة الأمن القومي المصري لمكانته الحقيقية في القلب من الأمن القومي العربي.

٤. مع تحرير الإرادة المصرية والقرار المصري من الشروط والقيود المفروضة عليها من أمريكا وإسرائيل ومن نفوذ وأجندات المحميات الأمريكية في السعودية والخليج، وإعادة صياغة علاقاتنا وتحالفاتنا العربية والإقليمية والخارجية، على أساس الإرادة الحرة والقرار الوطني المستقل تجاه تحرير مصر والمنطقة من الهيمنة الأمريكية ومن العربدة الإسرائيلية ومن أي تدخلات أجنبية.

٥. تقديم كل الدعم الممكن للشعب الفلسطيني والدعوة إلى وحدة كل فصائله على أرضية المقاومة مع إعادة الاعتبار للميثاق الوطني الفلسطيني الأصلي، والعمل على تفكيك الحصار المفروض عليهم وإنهائه، وتقديم كل الدعم والحماية لتحريرهم من القبضة والضغوط الصهيونية والدولية من أجل توسيع دائرة خياراتهم بعيدًا عن اتفاقية أوسلو والخضوع للاحتلال والتنسيق معه بالإكراه. 

٦. تحرير الاقتصاد المصري من هيمنة نادي باريس ومؤسسات الإقراض الدولي ومن قروضها وديونها وروشتاتها واشتراطاتها، من برامج التعويم والخصخصة وفتح الأسواق بالإكراه وإلغاء الدعم وافقار غالبية المصريين.

٧. التحرر من سيطرة رؤوس الأموال الأجنبية وشركاتها العابرة للقوميات على السوق المصري.

٨. التحرر من استئثار الطبقة الرأسمالية المصرية بالثروات والمقدرات المصرية.

٩. تأسيس اقتصاد وطني مستقل، يقوم على الصناعات والمنتجات الوطنية ويتبنى سياسات اقتصادية واجتماعية منحازة إلى الغالبية العظمي من المصريين من الطبقات الفقيرة والوسطى.

١٠. إنهاء حكم الفرد (١٤) وسيطرة وهيمنة السلطة التنفيذية على باقي السلطات وعلى الحياة السياسية والبرلمانية والإعلامية وفتح أبواب المشاركة في الحكم وفي صناعة القرار وتوجهاته لكل المصريين بتأسيس نظام سياسي يسمح بتداول السلطة ونزاهة الانتخابات وتعدد الأحزاب وإطلاق كل أنواع الحقوق والحريات كحرية الرأي والنشر والتنظيم والاجتماع والتظاهر السلمي.

***

وعلى أساس هذا البرنامج المقترح يتم تشكيل جبهة وطنية واسعة وعريضة وإعادة فرز القوى والتيارات الفكرية والسياسية في مصر(١٥). ومن خلاله سيتم الربط بين كل القضايا والتحديات في إطار مشروع وطني عضوي واحد، مع وضع استراتيجيات وخطط وبرامج عمل تفصيلية لكل من القضايا والملفات والمحاور المطروحة.

وأتصور أن البداية يجب أن تبدأ بفتح وإدارة حوار واسع بين كل التيارات والقوى والأحزاب والشخصيات الوطنية حول ما ورد عاليه.

***

الهوامش:

١. هي فلسطين وليست إسرائيل ـ مدونة ذاكرة الأمة

٢. لن نعترف بإسرائيل ـ مصدر سابق

٣. الثورة ضد الكتالوج الأمريكي لحكم مصر ـ مصدر سابق

٤. الثورة المصرية وقضية فلسطين ـ مصدر سابق

٥. نتنياهو والسلام بالإكراه ـ مصدر سابق

٦. العصر الذهبي للعلاقات المصرية الإسرائيلية ـ مصدر سابق

٧. العلاقات المصرية الإسرائيلية عام ٢٠١٨

٨. عنكبوت التطبيع المصري الإسرائيلي ـ مصدر سابق

٩. هذه الدعوى لدمج إسرائيل في المنطقة

١٠. مصر تضفي البهجة على قلوب الإسرائيليين ـ مصدر سابق

١١. هل لا تزال الاغاني ممكنة؟ 

١٢. ما العمل؟ ـ مقطع فيديو ـ صفحة محمد سيف الدولة بالفيسبوك

١٣. ثلاثون سببا للتحرر من كامب ديفيد ـ مصدر سابق

١٤. عودة الشيخ وخيمته ـ مصدر سابق

١٥. لا تنقسموا ـ مقطع فيديو ـ صفحة محمد سيف الدولة بالفيسبوك