فنون
رياض حمّاديالتلقي السينمائي بين المتعة والفهم
2021.04.01
التلقي السينمائي بين المتعة والفهم
أن تسأل ما الذي يحدث، أو ما الذي سيحدث؟ حتى آخر مشهد، أسئلة تشير إلى ولوجك النص. بهذا يتحقق التشويق، والتشويق عنصر مهم في التسويق، ووصفته ليست سرية، وهي ضرورية لضمان نجاح أي فيلم، شريطة أن تضيف إليها السؤال (كيف). وهذا ليس نوعًا من البهارات، إنه الطبخة كلها. والمقادير معروفة. والسبب الأهم في ضعف السينما العربية ليس ندرة المواهب ولكن عدم نضجها، ولأن المُشاهد العربي مستهلك، لا متلقٍ، هدفه أن يشبع ويتشبع لا أن يستمتع ذهنيًا. أن تشبع ليس هو المغزى من الطعام، أن تفهم ليس هو المراد من النص (الصورة، اللوحة، الموسيقى، الفيلم...)، والجامع بين كل ما سبق هو المتعة والأثر الذي يُخَلِّفه النص فيك، لا معناه ودلالاته فحسب.
الفضيلة غير المتوقعة للجهل
الجهل لا يكون فضيلة إلا في هذا الموضع. وإذا كانت «المعرفة قوة»، فإنها في هذا الموضع متعة مضاعفة، ولا تتحقق إلا بقدر من الجهد الذهني والإلمام بالعناصر المكونة للعمل السينمائي. معرفة يراكمها التَّعرُّض والملاحظة والقراءات الحرة أو المكثفة.
ثمة طرق لا نهائية لسرد حكاية، وأنجح طريقة هي أن تعيشها. وحين تعيش الحكاية تصبح حقيقة. والحكاية الحقيقية ليست بالضرورة واقعية، الحكاية الحقيقية هي أن تصدقها. أسهل طريقة لسرد حكاية هي أن تكذب، وليس من السهل أن تكذب على قارئ أو متفرج؛ فالكذب في السرد يتطلب خيالاً وصدقًا. ثمة طرق كثيرة لسرد حكاية، ولا يوجد أفضل طريقة ولكن يوجد أنسب طريقة.
سبب مهم في ضعف تقييم كثير من الأفلام يرجع إلى الاعتقاد بأن الفيلم قصة يمكن سردها شفويًّا، وبأسلوب يعتمد على ترتيب زمن القصة التقليدي. ومن هذا الاعتقاد يسود في أوساط المتلقين عبارة «حرق الفيلم». إذا كان الفيلم قابل للحرق فلماذا تشاهده مرتين أو أكثر؟!
قليلة هي الأفلام التي يمكن حرقها بمعرفة الحكاية أو أهم عنصر مفاجئ فيها. ففي السينما نحن لا نشاهد القصة فحسب. وإلا لنُشرت هذه في كتاب أو لُخِّصت في نبذة قصيرة. تُعرف السينما بأنها «الفن السابع»، وهي بهذا تجمع كل ما سبقها من فنون: (مسرح، تليفزيون، موسيقى، رقص، غناء، سرد، تصوير..) وقليلة هي الأفلام التي تنطوي حبكتها على مفارقة لا يجوز كشفها. في المقابل ثمة أفلام كثيرة يحل فيها الغموض مكان الحكاية. أفلام مثل «Birdman» ، «Mulholland Drive» ،Shutter Island، The Infinite Man، Maps to the stars، وأفلام كريستوفر نولان: Inception، وTenet، وغيرها من الأفلام التي لا تلعب فيها الحكاية بعناصرها التقليدية الدور الأساس في بناء الفيلم.
يحمل فيلم «Birdman» عنوانًا آخر أرى فيه تنبيهًا لهؤلاء الذين يبحثون عن المتعة من خلال الحكاية التقليدية. العبارة هي «The unexpected virtue of ignorance». «الفضيلة غير المتوقعة للجهل»، عبارة مراوغة تمتدح الجهل وتدينه في الآن نفسه. فضيلة ألا تعرف تقوم على ترتيب الأولويات، حيث تسبق المتعة المعرفة وربما تحل محلها؛ فالمتعة لا تكمن في المعرفة، ولا في الجهل، بل في الاستمتاع باللحظة التي تخلِّقها الكلمة أو الصورة أو الصوت... وعملية خلق المتعة أو تخلُّقها تتم بتفاعل طرفين: العمل (نص أو صوت -موسيقى، أو صورة- لوحة تشكيلية، أو فيديو- فيلم... إلخ) والمتلقي (قارئ، ناقد، مستمع أو مشاهد).
عدم تذوق الأعمال الحداثية يكمن في التلقي التقليدي القائم على البحث عن حكاية ومعنى، فإن لم يجده المتلقي يصبح العمل مدعاة لشعوره بالملل. المتلقي التقليدي كسول ويحتاج إلى مُوجِّه خارجي يسوطه بحكاية لها بداية ونهاية ومغزى واضح، خلافًا للمتلقي الذي يرى في الأعمال الحداثية مفهومًا آخر للتذوق ينسجم مع واقعه ويعبر عنه من جهة. ومن جهة أُخرى يلعب التجريب والتجريد والتجديد والتهويم والهذيان والبحث عن المطلق وما وراء الواقع والمغامرة أدوارًا في صياغة هذا المفهوم. وحيث يكون الجمال محصلة تضافر معايير أخرى مثل الدهشة والغرابة والرؤى والصدمة. فتصبح القصيدة والقصة والرواية والفيلم، كاللوحة التشكيلية، متعة بصرية، شعورية وذهنية، وصيغة للرؤيا، يكف معها المتلقي عن طرح سؤال المعنى والموضوع ويتنبه إلى ما يمكن أن يفتحه العمل أمامه من آفاق. كما عبَّر أدونيس في حديثه عن القصيدة الحديثة.
أليخاندرو خودوروفسكي يبحث عن نفسه في الذكريات ولا يقابل أحدًا
هل يمكن هدم الجمالية بالجمال؟!
هذا ما تفعله السينما السوريالية وما يفعله أليخاندرو خودوروفسكي في رائعتيه «رقصة الواقع» ٢٠١٣، و «شِعر أبدي» ٢٠١٦، وهو يستلهم من سيرته الذاتية أو يبني عليها عوالمه السحرية الحُلمية. إن كانت مهمة تدمير الجمالية بالجمال سهلة فإن مهمة تصوير الواقع، ممثلاً بالسيرة الذاتية، بأدوات سوريالية ليست بهذه السهولة أو هكذا يبدو الأمر نظريًا أو قبل مشاهدة الفيلمين.
الهدف يحدد الأداة، ولا أفضل من السوريالية من أجل تدمير أسس الوضع الراهن: المعبد، الدولة، العائلة، الرموز القومية، وتحطيم جميع أشكال الرقابة وتحرير بواعث الإنسان وطاقته الجنسية من كل قيد وكبت وإضفاء الفوضوية والغرائبية. السينما بشكل عام آلة زمن تسمح لنا بالعودة إلى الماضي وتصحيح مساره في الوقت الذي تسرد فيه وقائعه. وهذا ما يفعله خودوروفسكي في الفيلمين.
يعود في «رقصة الواقع» إلى طفولته ليصور معاناته الشخصية- في وسطين أُسري واجتماعي- كطفل لأب شيوعي صارم يفرض مبادئه الصارمة وتربيته القاسية، وأم مُحبة لكن ضعيفة. ثم معاناته كطفل يهودي من أصول أوكرانية يعيش وسط مجتمع شيلي كاره لليهود. نكتشف في الأخير أن الشجاعة والقوة التي يحاول الأب زرعها في ابنه كان يفتقر إليها هو شخصيًا. هذا الواقع المؤلم الذي عاشه الطفل خودوروفسكي يتحول على يده كمخرج إلى تحفة فنية راقصة وحافلة بالألوان.
يستكمل خودوروفسكي مسيرته كمراهق ثم كشاب في الجزء الثاني «شِعر أبدي». وبعد أن كان في طفولته يحاول جاهدًا إرضاء أبيه نجده في الجزء الثاني مراهقًا يتمرد على إملاءات والده. يريده أبوه أن يدرس البيولوجيا، فيتمرد ويقرر أن يكون شاعرًا. يعود خودوروفسكي إلى تلك السنوات الحاسمة في شبابه؛ السنوات التي حددت المبدأ الذي من شأنه أن يحكم حياته كلها- الشِّعر.
التداعيات اللاعقلانية التي نشاهدها في الفيلمين تُشكل السلاح السوريالي الأساس لإحداث الصدمة. وتحدث هذه الصدمة عن طريق تحريف الواقع أو تشويهه بفصل الأشياء عن محيطها المألوف وتحويلها إلى موضوعات سوريالية. يريد خودوروفسكي أن يتحرر من أغلال ماضيه لا أن يعرف ذلك الماضي أو يعيد تصويره. إنه يمارس فعل التحرر من قيود الواقع ومن قوانين المجتمع والعائلة والدولة وهذا الفعل يمثل «الإمكانية اللامتناهية للخلاص بواسطة الحلم والحب والرغبة».
ما قاله بونويل عن فيلمه «كلب أندلسي» ١٩٢٩، بمشاركة سلفادرو دالي، الذي يُعد من أكثر الأفلام الطليعية شهرة في تاريخ السينما السوريالية، يصلح للحديث عن فيلميّ خودوروفسكي: «إنه يتلقى إلهامه ويستقي إيحاءاته من الشعر، متحررًا من العقل والأخلاقية التقليدية» والشعر الذي استهل به خودوروفسكي جزءه الأول لا ينتهي بانتهاء الجزء الثاني؛ لأننا إزاء شعر أبدي.
الفيلم بين المتعة والفهم
هل يخاطب الفيلم السينمائي العقل أم الحواس؟
الفيلم السينمائي، والعمل الفني بشكل عام، إما أن يحقق المتعة البصرية السمعية أو المتعة الذهنية/العقلية أو كليهما. تتحقق المتعة البصرية بالكادرات والصوت والموسيقى التصويرية والألوان... وتتحقق المتعة الذهنية من خلال الفكرة وتقنيات عرضها. ويلعب الإنتاج دورًا مهمًا في نجاح أي فيلم لكنه ليس العنصر الأساس. فهناك أفلام رُصد لها إنتاجًا ضخمًا ولم تنجح. وأزمة السينما العربية هي أزمة أفكار، أزمة نصوص، لا أزمة إنتاج، فما يحدد حجم الإنتاج هو النص.
تحليل الفيلم لا يقضي على المتعة، هو متعة مضافة. والتحليل لا ينزع قشرة عن بصلة الفيلم وإنما يضيف أخرى. وتكتسب الأفلام قابليتها للتحليل، بالتفسير والتأويل، بصفتها فنًا، لا من طبيعة الفيلم كرسالة له مرسل ووسط ومتلقي فحسب، وعلى ذلك يصبح التأويل ملاصقًا للفن. يقول فيم فيندرز: «أنا لا أفكر، أنا أرى»، ويقول تاركوفسكي: «ينبغي أن نضيف التفكير لكي نرى بشكل صحيح».
من أين يبدأ الفيلم؟
البعض لا يحضر الفيلم منذ الافتتاحية ويغادر بمجرد ظهور أسماء صناع الفيلم. هذا يعني أنهم يُعدِّون الفيلم حكاية يمكن الإلمام بها حتى لو فاتهم بعض المشاهد. ربما لا يدرك هؤلاء أن أكثر افتتاحيات الأفلام مهمة وتدخل في بنية الفيلم. أبرز مثال هو المشهد الافتتاحي في فيلم «فورِست جَمب». فالذي شاهد الفيلم- منذ البداية- سيتذكر ريشة تطير في السماء وتستقر أخيرًا عند قدم فورست.
في كتابه «تشريح الأفلام» عن دلالة تلك الريشة يقول برنارد ديك: «حين تبدأ قائمة الأسماء بالظهور، تطير ريشة في الهواء، وتستقر في نهاية الأمر على الفردة اليسرى من حذاء فورست «توم هانكس». يلتقط فورست الريشة ويضعها في كتاب الأطفال الذي يقرأ فيه. وأي شخص لم يكن حاضرًا في أثناء مقطع الأسماء لن يقدِّر النهاية حق قدرها، إذ أن فوريست يفتح الكتاب وتتحرر الريشة عائدة إلى السماء التي سقطت منها في الأصل. ترمز الريشة إلى الترابط بين المصادفة والمصير، وهذا أحد مواضيع الفيلم. ويقول فران فينتورا، في كتابه «الخطاب السينمائي، لغة الصورة»: «حركة رائعة لانخفاض الكاميرا متابعة سير ريشة، وهي استعارة للحظ، حيث تحط أخيرًا على أقدام توم هانكس».
هذا فيما يتعلق ببداية الفيلم بالنسبة للمتلقي، أما الفيلم كصناعة فله بدايات كثيرة أولها السيناريو وآخرها المونتاج، وهذا في رأي سيرجي آيزنشتاين مرادف للسينما أو هو السينما بذاتها حين قال: «المونتاج هو الذي يعطي للمَشاهد معناها حسب ترتيبها وسياقها» وكذلك الحال بالنسبة للموسيقى التصويرية التي تعطي الإيقاعات المختلفة فيها معاني ودلالات مختلفة للمشهد الواحد نفسه. والأمر نفسه ينطبق على الإضاءة التي يمكنها أن تحول الشخصية إلى طيبة أو شريرة أو غامضة.. إضافة إلى بقية عناصر الفيلم، والتي توحدها جميعًا «فكرة المخرج».
الكاميرا استعمالاً تعبيريًّا
تتموضع الكاميرا في زوايا تسمح بتصوير الحدث على أكمل وجه. ثمة استخدامات جمالية لزوايا التصوير، لكن الاستعمال الجمالي لزوايا التصوير محدود، فلزاويا الكاميرا استعمال تعبيري يسهم في بلورة معنى للقطة/المشهد. ما يحدد زاوية التصوير هو المعاني التي تريد أن تنقلها الكاميرا. اللقطة تتضمن تعبيرًا، ولها زوايا تصوير معينة، واختيارها مقصود. والمعنى هو الذي يحدد زاوية التصوير. ولغة الفيلم لها مستويات خطاب، وكل مستوى يخاطب فئة ثقافية.
لا ينظر الممثل إلى الكاميرا؛ بهدف خلق مُشاهد محايد. إن قدرات الممثلين على الأداء تعتمد على نسيان الكاميرا حتى يصل أداؤهم إلى مستوى يوازي الواقع الحقيقي. ولا أعني هنا نسيانًا تامًا للكاميرا بقدر ما أعني الاندماج مع الحدث ومعايشته. هذا ما يمكن قوله على نحو عام، ويبقى أن النظر إلى الكاميرا لا يتم اعتباطًا بل بتخطيط يصب في خدمة المشهد أو اللقطة أو فكرة الفيلم على نحو عام، ولكل فيلم، من هذا النوع، سياقه الذي يحدد الوظيفة التعبيرية التي تؤديها نظرة الممثل إلى الكاميرا.
السرد السينمائي يخاطب المتفرج بطريقتين: مباشرة وغير مباشرة، وإن كانت الطريقة غير المباشرة هي السائدة. والخطاب يكون بصريًّا وسمعيًّا، إضافة إلى الخطاب المضمر، أو ما بين السطور. والنظر إلى الكاميرا يعني تحطيم الحاجز بين الشخصية في الفيلم والجمهور، وإقحام المتفرج في السرد بطريقة مباشرة. وقد يُستبدل نظر الممثل إلى الكاميرا بتوجيه الخطاب للمتفرج كلاميًّا أو نصيًّا، مثلما يحدث في السرد السينمائي الذي يعتمد على صيغة الراوي. ينظر الممثل إلى الكاميرا مباشرةً، أي إلى المتفرج، بُغية التأثير فيه بخطاب مباشر ونقله من وضعية المشاهد إلى وضعية الشاهد.
من مشاهد إلى شاهد
توجيه الممثل، عادة السارد أو البطل، عينيه إلى الكاميرا، هي تقنية سردية مقتبسة من السرد الروائي حيث يوجه السارد الحديث إلى القارئ. مثال: وودي ألن في فيلم Annie Hall، والمشهد الأول من فيلم «A Separation» لأصغر فرهادي. طريقة أخرى تتم باستعمال الكاميرا كمرآة، مثلما فعلت جولييت بينوشيه في فيلم «Certified Copy». في هذا الفيلم تستعمل إيلي «بينوشيه» الكاميرا في مشهدين: في الأول، كمرآة، تضع أحمر الشفاه وقرطين على أذنيها، وهذا المشهد بمثابة تمهيد للمتفرج للاهتمام بها والتضامن مع قضيتها التي ستطرحها في المشهد التالي وهي تحاور جيمس «ويليام شيمل». وفي آخر مشهد ينظر جيمس إلى الكاميرا/المُشاهد بصمت كما لو أنه يطلب منه مساعدته في أخذ قرار حول الاقتراح الذي عرضته عليه إيلي في المشهد السابق. بهذه الزاوية تتخلى الكاميرا عن موضوعيتها السائدة لتنقل المتفرج من وضعية المراقب المحايد إلى وضعية المشارك الحَكَم.
يأخذ دينيس أركاند مفتاح فيلمه «الغزوات الهمجية» من وودي ألن، «فشخصيات أركاند تتحدث مباشرة إلى الكاميرا عندما تنتقد النزعات الثقافية والسياسية للحياة الأكاديمية. كما جاء في كتاب «فكرة الإخراج السينمائي». يتخذ المخرج موقفًا من الحدث باستعمال موضع الرؤية الذاتية، فيوجه عواطفنا نحو شخصية بعينها دون الشخصيات الأخرى.
وفي أول لقطة قريبة في تاريخ السينما، في فيلم «سرقة قطار» ١٩٠٣، يوجه «جورج بارنيز» مسدسه ويطلق تجاه الكاميرا. وهو ما أثار هلع المشاهدين. وفي فيلم «البرتقالة الآلية»، ١٩٧١، لستانلي كوبريك، ينظر مالكولم ماكدويل مباشرة إلى الكاميرا، واضعًا نظرته في منتصف الإطار.
النظر إلى الكاميرا في الأفلام الوثائقية شائع، على اعتبار أن الكاميرا عين على الحقيقة، خلافًا للكاميرا في السينما السردية التي وإن اعتبرت عينًا فهي عين على الحياة، لا على الحقيقة، نظرًا إلى الطبيعة الفنية والخيالية لهذا النوع السينمائي. وحين يجعل شخص ما من نفسه تلك الكاميرا، المراقبة، نتوجس ونرتبك ونتوتر، أي نعجز عن التعبير العفوي عن حياتنا، وحين ترتفع تلك الكاميرا لتصبح عينًا سماوية ترصد أنفاسنا تصيبنا الحالة نفسها.
الصورة السينمائية هي لغة، شبيهة بلغاتنا البشرية، لها أبجدياتها وخصوصياتها، فقد تكون اللقطة هي الكلمة والمشهد هو الجملة، ولكن كل فيلم هو لغة خاصة بمبدعه، فكلماتها لا توجد في معاجم معروفة كما هو حال اللغات المعجمية. «تنتج اللقطة عددًا غير محدود من المعلومات غير المرئية، بينما للكلمة في أغلب الحالات معنى واحد أو متعدد المعاني بناء على ما تقدم يصبح فهم لغة الفيلم مرهونًا بثقافة سينمائية وسيكون فهمًا فرديًّا في نهاية المطاف حتى لو اتفق معه أفراد آخرين.
الحياة دون موسيقى تصويرية
تعرف الموسيقى التصويرية متى تصمت ومتى تشارك في خلفية مشهد، ومتى تتصدره. ومن يحدد لها هذه الأدوار هو نوعية السرد (مونولوج، ديالوج، بوليلوج، أو صوت السارد/الراوي أو مشاهد صامتة سريعة أو بطيئة، حزينة أو مرحة... إلخ). وهناك أفلام شهيرة كان للموسيقى دور كبير في ذيوعها، مثل: The Godfather، DR Zhivago،Once Upon a Time in the West، Once Upon a Time in America، The Good، the Bad and the Ugly، وفي أغلب هذه الأفلام يصنع إنيو موريكوني بصمته الفريدة ويجعل من الفيلم تحفة فنية.
للموسيقى التصويرية دور تعبيري يسهم في تشكيل المشهد. فهي عامل مساعد لتوصيل تعابير معينة إلى جانب عناصر أخرى أساسية أهمها أداء الممثلين، وفي حال كفاية العناصر الأساسية للقيام بمهمة التوصيل لن تكون الموسيقى التصويرية إلا عنصر مقحم. ففي السينما الواقعية بتفاصيلها الدقيقة والمعبرة يمكن للموسيقى أن تكون عامل إلهاء ومعها تضيع التفاصيل. فكأن لسان حال الأفلام التي تخلو أو تخفت فيها الموسيقى التصويرية يقول: الحياة أصلاً دون موسيقى تصويرية، ونحن نصور الحياة.
عين السينما الثالثة
يمكن قراءة بوسترات الأفلام سيميائيًّا، أو دلاليًا، لمعرفة إلى أي حد استطاع المصمم تكثيف فكرة المخرج في صورة (البوستر). تأسيسًا على هذه القراءة يعتبر البوستر، مثل غلاف الكتاب، عتبة أولى للولوج إلى النص السينمائي. أغلب بوسترات الأفلام عامة والعربية خصوصًا لا تعير هذه المسألة اهتمامًا كبيرًا، بقدر ما تهتم بحشر صور أبطال الفيلم مع الوضع في الاعتبار حجم كل ممثل قياسًا على شهرته في شباك التذاكر.
ينتهي فيلم «للحب قصة أخيرة» بمشهد لسلوى «معالي زايد» وهي تحطم بمعول مقام الشيخ التلاوي، من الداخل، وامرأة ومجموعة من النساء يتوسلن إليه من الخارج، وقد لُخِّص هذا المعنى في صورة أفيش/بوستر الفيلم بيد تمسك معولاً وأخرى تردها. في إشارة إلى الواقع المنقسم بين معارض ومؤيد للخرافة.
ومن البوسترات التي لفتت انتباهي وتعكس موضوع الفيلم ودلالاته، فيلم «Closer»، للمخرج مايك نيكولز، والفيلم الإيراني A Separation»«. في بوستر فيلم «كلوزر» تظهر وجوه أبطال الفيلم الأربعة (جوليا روبرتس، جود لو، ناتالي بورتمان وكليف أوين)، وبترتيبها من اليسار إلى اليمين لا تظهر سوى عين واحدة لكل منهم. وكشف العلاقة بين أحداث الفيلم ومضامينها من جهة وبوستر الفيلم من جهة أخرى تظهر عند تلخيص القصة في عنوان رئيسي. يناقش فيلم كلوزر تعدد العلاقات العاطفية، حول علاقتين متداخلتين بين الشخصيات الأربع، علاقة دان وأليس، وعلاقة آنا ولاري. وتتلخص في سؤال: هل يمكن أن يحب المرء أكثر من شخص في الوقت نفسه؟
ظهور عين واحدة لكل شخصية من شخصيات الفيلم الأربعة فيه دلالة على أن كل واحد منهم يرى بعين واحدة، واختفاء العين الثانية يدل على قصور في الرؤية وعلى ضبابية العلاقة العاطفية التي تجمع بين كل اثنين، فالحب الحقيقي لا يحتاج إلى قلب فقط ولكن إلى عينين. ظهور عين واحدة لكل شريك يعني أنهما يكملان بعضهما. وهكذا يظهر جود لو بعين يسرى وناتالي بورتمان بعين يمنى، وتظهر جوليا روبرتس بعين يسرى وكليف أوين بعين يمنى. ولرؤية هذه الدلالات أنت بحاجة لعين ثالثة تصير خبيرة مع المران على أفلام يتسم صناعها بذائقة رفيعة تسهم في تخليق تلك العين الخفية. وبهذه العين يمكن الكشف عن العلاقة التي تربط بين مضامين فيلم «انفصال» والبوستر.
البوستر الأول لفيلم «انفصال» مقسم إلى قسمين: في القسم العلوي من البوستر تظهر عائلة نادر وفي السفلي عائلة حُجَّت وهم ينظرون للأعلى. في إشارة إلى وضع الأسرتين المالي أو الوضع الطبقي الاجتماعي، المنقسم إلى طبقة وسطى وطبقة فقيرة معدمة.
والبوستر الثاني مقسم إلى قسمين: ويُظهر فقط عائلة نادر، الأب والأم، نادر وسيمين، يجلسان في أعلى الصورة على كرسيين وبينهما كرسي شاغر. وفي أسفل الصورة ابنتهما تيرميه تجلس على كرسي وإلى يمينها ويسارها كرسيان شاغران. الكرسي الشاغر بين الأب والأم يرمز لابنتهما الغائبة، والكرسيان الفارغان في النصف الأسفل يرمزان إلى الأبوين الغائبين. والجميع في حالة انتظار وترقب لمصير الأسرتين الصغيرتين، ومصير الأسرة الكبيرة (إيران)، التي سيقرر مصيرها جيل المستقبل ممثلاً بالابنة تيرميه التي عليها أن تختار بين أربعة احتمالات للعيش: إما أن تعيش مع أبيها أو مع أمها أو معهما أو دونهما. وثمة فاصل في كل من البوسترين يعبر عن الانفصال في العنوان وفي مضمون القصة.
يبدأ الفيلم بطلب سيمين الانفصال عن زوجها نادر، وهذا انفصال أسري شكلي أو أولي سيقود إلى انفصال اجتماعي أعمق وأهم. نهاية الفيلم مفتوحة بانتظار قرار «تيرميه» والقاضي يسألها مع من تفضل أن تعيش. ويمكن أن نرى في الانتظار انعكاس لدور المجتمع السلبي. ودور السينما هنا ليس في تقديم الحلول بل في اقتراحها ضمنًا، أما الحل فبيد المجتمع. ولهذه النهاية المفتوحة دلالة تفيد أن المشكلة الأكبر، ليست مشكلة سيمين ونادر ولا مشكلة رضية وأسرتها، وإنما مشكلة بلد لا يزال ينتظر قرارًا يقع في يد أهم طبقتين، فصراعهما أدى إلى إجهاض الطفولة وتشريد الأبناء. وقد لمَّح الفيلم لإمكانية التوصل لحل مشترك من خلال مساعدة الطبقة المتوسطة للطبقة الفقيرة، وبدلاً من الشجار يمكن توجيه الأنظار إلى المسبب الحقيقي لكل تلك المشكلات، وهما السلطتان الدينية والسياسية.
السينما والرواية
يعترض بعض الروائيين على تحويل رواياتهم إلى السينما، اعتقادًا منهم باحتمال تشويه الفيلم لنصوصهم. إن كان الروائي يتقبل القراءات النقدية المختلفة لروايته، فلماذا لا يتقبل القراءات السينمائية لعمله باعتبارها واحدة من تلك القراءات؟ لماذا لا يكون الفيلم قراءة للنص لا نقلا مطابقا له؟ ينبغي على الروائي أن يقلق من القراءة السينمائية الحرفية لعمله. مثل هذه القراءة هي التشويه الحقيقي للعمل الروائي. فالرواية عمل تخييلي فني قابل لتعدد القراءات ونقلها إلى السينما حرفيًّا يحرم النص من جوهره الا بداعي ومن جمالياته وتعدد دلالاته. ودون هذه التعددية يتحول النص إلى تقرير علمي أو وثيقة تاريخية.
لكل فن عناصره المميزة له عن بقية الأشكال الفنية، وإلا لما تعددت أشكال الفن. عامل مهم في اختلاف الفيلم عن الرواية هو عامل التفسير. القصة الجيدة تصبح مادة للتفسيرات العديدة، والنقل شبه الحرفي لقصة الرواية يحرمها من هذه الميزة كما يجعل المخرج مخرجا حرفيًّا ويحرمه من صفة الا بداع. فالسينما تريد أن تقول شيئًا لم تقله الرواية. والنتيجة البديهية أنها لن تقوله بنفس الطريقة أو الأسلوب الذي قالته الرواية.
الفكرة الشائعة عن العلاقة بين الرواية والسينما مفادها أن الأفلام المقتبسة عن روايات عظيمة مآلها الفشل. بينما تنجح الأفلام المنقولة عن روايات عادية أو متوسطة. هذه الفكرة تلقي بعبء فشل أو نجاح الفيلم على شماعة النص. والحقيقة أن نجاح الفيلم مرهون بسيناريست محترف ومخرج عظيم، وبتكامل بقية عناصر الفيلم. من ثَم ليست رواية سكوت فيتزجيرالد هي العامل الأول في جمال فيلم «The Great Gatsby»، ولا رواية نيكوس كازانتزاكس سببًا في ضعف فيلم «The Last Temptation of Christ» على الرغم من أن مخرجه هو سكورسيزي.
العبارة الشائعة في الأفلام المقتبسة عن الروايات تقول بأن الفيلم «مبني على الرواية الفلانية»، والعبارة تتضمن تصريحًا بأن الفيلم لن يكون نسخة طبق الأصل، وإنما هو رؤية السيناريست والمخرج للعمل المكتوب مستعينين بقدر من الخيال تقتضيه الدراما. في هذا النوع من الأفلام تكون مساحة الخيال أوسع من الأحداث الحقيقية أو أن الأحداث الحقيقية قاعدة للتحليق في الخيال.
خروج هذه الرؤية المُسَينمة عن النص يثري الرواية/الكتاب والمؤلف وصناع السينما والقارئ والمشاهد. فالاختلاف بين النص والصورة سيدفع المشاهد إلى قراءة النص والقارئ إلى مشاهدة الفيلم. وما ينطبق على الرواية والفيلم ينطبق أيضًا -أو ينبغي أن ينطبق- على السير الذاتية التي تتحول إلى أفلام سينمائية. فالسينما خَلْق مُسَيْنَم عماده الخيال مثلها مثل الرواية الخيالية. وعلى من يبحث في السينما عن الحقيقة أو عن ضرورة مطابقة الفيلم السينمائي لسيرة شخصية عامة فعليه أن يلجأ للأفلام التسجيلية؛ فهذه تنقل -أو تحاول نقل- الواقع.
محصلة أفلمة النص المكتوب، تحويله إلى نص سينمائي، لا بد أن تحتوي على قدر من الاختلاف بسبب اختلاف وسائط السرد في الحالتين. إضافة إلى اختلافات تفرضها عملية القراءة السينمائية التي تتجلى في رؤية السيناريست والمخرج. الأفلمة الحرفية تعني غياب التفاعل وهو ما سيدمغ النص الروائي بتهمة الحرفية والتقريرية والإخبارية بكل ما تعنيه من غياب للجماليات وتنوع الدلالات. وهناك اختلافات قد يُدخلها السيناريست بسبب الرغبة في إضفاء أفكار محلية في بيئة أخرى مختلفة. لنأخذ هذا الاختلاف على سبيل المثال: حدث روائي مكتوب بأسلوب الإخبار TELLING يمكن أفلمته بأسلوب العرض SHOWING أو العكس أو كليهما.
والنموذج الأجمل برأيي هو فيلم «Behind the Sun» للمخرج البرازيلي والتر والاس. الفيلم مبني على فكرة رواية الألباني إسماعيل كادرايه «نيسان المكسور»، لكن المخرج تصرَّف في القصة الأساسية بشكل كبير فغيَّر أسماء الشخصيات ومكان الأحداث واستعان فقط بجزء يسير من أحداث الرواية الأصلية. في الفيلم يعود ساليس بالزمن إلى عام ١٩١٠ وحين يأتي دور تونهو في الثأر لمقتل أخيه يتملص من هذه المهمة، وبعد أن يتعرف على كلارا، التي تعمل في سرك متجول، يقعان في الحب وينتهي الفيلم نهاية سعيدة- مغايرة لنهاية الرواية- باختيار تونهو طريقًا آخر غير طريق الثأر.
تشترك الرواية والفيلم في شكل التعبير ويفترقان في مادة التعبير. فشكل التعبير يتكون من «عناصر تظهر في كل النصوص السردية، أي تشترك فيها كل النصوص السردية، بغض النظر عن الوسط الذي تظهر فيه» كما عبَّر الدكتور مرسل فالح العجمي في «الواقع والتخييل - أبحاث في السرد، تنظيرًا وتطبيقًا». وشكل التعبير يتمثل في «العناصر الأساسية التي تظهر في القصة المكتوبة أو الشريط السينمائي مثل الشخصيات والأحداث». أما مادة التعبير فهي «التجليات الفعلية التي يبرز فيها النص». هنا سنكون أمام مظهرين من مظاهر تجلي الخطاب: التعبير الأول -زمنيًّا- هو الرواية المكتوبة، والثاني: الشريط السينمائي الذي قدم الرواية في صياغة سينمائية. في هذه الصياغة الجديدة تتحول الحروف إلى صوت وصورة، والشخصيات الورقية إلى ممثلين ويتحول المكان المجرد إلى مكان مجسم يقدم عبر شاشة العرض». ويمكن القول إن «شكل التعبير هو العنصر الثابت (في الرواية والفيلم) بينما مادة التعبير هي العنصر المتغير».
الفيلم عبارة عن نص سينمائي وهو خلاصة رؤية السيناريست والمخرج للنص الروائي. وهذه النص السينمائي سيخضع لقراءة يقوم بها المشاهد. وعندما تشاهد فيلمًا فإنك لا تقرأ الرواية وإنما تقرأ الفيلم. ويمكن تلخيص رحلة النص السردي من حالته المكتوبة إلى حالته السينمائية في محطتين: الموضوع المادي [الكتاب] والموضوع الجمالي [النص] عند قراءته من قبل القارئ. وقد يكون هذا القارئ سيناريست يتفاعل مع النص ويضفي عليه من خبرته الذاتية فيحول الموضوع الجمالي إلى موضوع مادي ويحوله المُشاهد إلى موضوع جمالي. فالرواية تعتبر موضوعًا ماديًا أي أنها كتاب مطبوع وموضوع على رف المكتبة. وهي ميتة ما دامت باقية على الرف. وفي اللحظة التي يشرع فيها قارئ في قراءتها تتحول إلى نص تنبعث فيه الحركة والحياة وإلى تجارب أو مواضيع جمالية. فكل قراءة تحول الكتاب إلى نص والموضوع المادي إلى موضوع جمالي.
وعند أفلمة النص يتحول الموضوع الجمالي إلى موضوع مادي هو الفيلم أو شريط الفيديو المحفوظ في خزانة المنزل، وسيبقى ميتًا هناك حتى لحظة تشغيله ومشاهدته والتفاعل معه، أي تحويل الفيلم إلى مَشاهِد أو موضوع جمالي عبر التجربة الذاتية للمُشاهد. «إن الرحلة التي ينتقل فيه الموضوع المادي من شيء ميت إلى خبرة ذاتية مؤثرة هي الرحلة التي يتم فيها نقل الموضع المادي من العالم الخارجي إلى تجربة داخلية تثمر خبرة ذاتية». وفي هذه الرحلة نميز بين الكتابة والقراءة المنتجة.
هل ستقرأ رواية تاريخية تعرف نهايتها مسبقًا؟ الجواب: نعم؛ لأن الرواية غير التاريخ. هل ستشاهد فيلمًا عن رواية قرأتها مسبقًا؟ نعم؛ لأن الرواية غير الفيلم.
كيف تُشاهدُ فيلما؟!
يقول كين دانسايجر، في كتابه «فكرة الإخراج السينمائي، كيف تصبح مخرجًا عظيمًا؟» إن المخرج «يستخدم ثلاث أدوات لكي يخلق فكرته الإخراجية: تفسير النص، وإدارة أداء الممثلين، واختيارات الكاميرا التي تخلق الاحتمالات المونتاجية التي تحقق الفكرة الإخراجية». معرفتك لهذه المعلومة ستجعلك تُقيم الأفلام على نحو أفضل. وسيتلخص التقييم في سؤال واحد ستسأله في نهاية كل فيلم: ما هي فكرة الفيلم؟ ثم ستطرح سؤالاً آخر: إلى أي مدى نجح المخرج في استعمال هذه الأدوات؟ يتخذ هذا السؤال العام شكلاً آخر خاص بكل فيلم ويبدأ بـ (لماذا...؟!). والجواب لن يقيِّم الفيلم فحسب، وإنما المخرج كذلك، ما إذا كان مخرجًا محترفًا أو جيدًا أو عظيمًا، بحسب تصنيف كين دانسايجر للمخرجين.
في تقييمك سواء كان شفهيًّا أو مكتوبًا، ستحتاج إلى أن تستشهد بأمثلة من الفيلم لاستعمالات المخرج لإدارة الممثلين، والأهم لاستعمالات الكاميرا ثم أمثلة من الحوار تدعم فهمك للفكرة ولتظافر جميع الأدوات في تشكيلها. معرفتك لفكرة الفيلم ستؤهلك للإجابة عن السؤال: ما هي دلالات الفيلم؟ أو رسائله المضمرة أو الضمنية؟
ليست كل استعمالات الكاميرا دلالية فهناك استعمالات جمالية، وإدارة الكاميرا علم يحتاج إلى تخصص، لكن يمكن بقليل من الثقافة وقراءة الكتب النقدية معرفة بعض المعلومات العامة التي تفيد في التقييم. استعمالات العدسات أيضًا هو ضمن استعمال الكاميرا لكن قلة فقط يمكنهم معرفة نوع العدسات المستعملة مثل المخرجين أو المصورين السينمائيين أو الدارسين.
معرفة فكرة الفيلم مهمة في الأفلام الفكرية والفلسفية مثل: أفلام تاركوفسكي وبرجمان وكوفمان ولينش وكياروستامي، وغيرها من الأفلام. ويصعب تقييم كثير من الأفلام دون التوصل لفكرة الفيلم. ولا تنطبق هذه القاعدة على كل الأفلام؛ فهناك أفلام بسيطة لها قصة تقليدية واضحة ومباشرة.
«الجمهور يبحث عن عنصر المفاجأة عن طريق الانقلابات الدرامية والتحولات في الحبكة..» كما جاء في كتاب دانسايجر: «فكرة الإخراج السينمائي» وأن تكون صانع أفلام، وما يريده الجمهور، يوضحه «الرجل الطائر» وهو يحث ريجان بقوله «إنهم يريدون لهبًا وتضحيات، ينتظرون شيئًا ضخمًا، امنحهم إياه، امنح الناس ما يريدونه: إباحية نهاية العالم عتيقة الطراز، بيردمان، صعود طائر الفينيق، لاعبين بوجوه مليئة بالبثرات يتغوطون في سراويلهم، وأشياء من هذا القبيل، وستضمن مليار مشاهد حول العالم. أنت أكبر من الحياة يا رجل. تنقذ الناس من حياتهم المملة والبائسة، تجعلهم يقفزون في مقاعدهم، يضحكون، ويتغوطون في سراويلهم. كل ما عليك فعله هو..»، هنا يتوقف الرجل الطائر عن سرد ما يريده الجمهور بالكلمات فنرى نموذج لأفلام الأكشن/الإثارة في الشارع وقد امتلأ بالانفجارات والمحاربون برشاشاتهم وطائرات المروحية والصواريخ وطائر العنقاء الضخم وهو ينفث النار من منقاره. يستأنف الرجل الطائر حديثه: «هذا ما أقصده، قعقعة العظام، والأصوات الصاخبة، والأسلحة الثقيلة! انظر إلى هؤلاء الناس، انظر إلى أعينهم كيف تتلألأ. إنهم يحبون هذه التفاهة. يحبون الدم، يحبون الإثارة، وليس هذا (الفيلم) المليء بالحوارات الفلسفية الكئيبة». ولأن الجمهور لا يقبل إلا بالدم، يستعمل ريجان «مايكل كيتون» مسدسًا حقيقيًّا في عرضه المسرحي. يطلق الرصاصة على رأسه فيسقط مضرجًا بالدم ويقف الجمهور مصفقًا لهذا المشهد الحقيقي.
هذه الأفلام، التي يتحدث عنها «الرجل الطائر» بنبرة نقدية، تُحقق المتعة البصرية، لكن هناك أفلام تتسم بالغموض ويصعب التوصل إلى فكرة محددة فيها -مثل فيلم « The Double Life of Veronique»، وثمة أفلام تعتمد بنيتها السردية على إحالات لأعمال سينمائية أو فنية أخرى، كما هو فيلم كوفمان «I»m Thinking of Ending Things»، فيتطلب فهمها استيعاب تلك الأعمال. مثل هذه الأفلام تطلب مُشاهدًا نشطًا لا تنتهي علاقته بالفيلم بمجرد انتهاء المشاهدة. مع ذلك يمكن تقييم هذه الأفلام بالاستمتاع بها أو العكس: أعجبني، لم يعجبني، دون الحاجة لمزيد من الشرح. أو من خلال تقييم أداء الممثلين، المرتبط تمامًا بفكرة الفيلم وبتوجيه المخرج.
ثمة مشهد في كثير من الأفلام، يُلخِّص فكرة الفيلم أو يُظهر أبرز جمالياته، ويمكن تسميته المشهد الذروة أو المشهد النواة، الذي منه بزغت الحكاية وحوله تدور الدلالات، وغالبًا ما يكون سببًا في حصول الفيلم أو بطله على الجوائز. ويمكن إجراء مقارنة بين الفيلم موضوع التقييم وأفلام أخرى. وأخيرًا ينبغي أن تعرف أن «صانع الفيلم مؤلف يكتب بآلة تصويره مثلما يكتب الكاتب بقلمه»، كما قال ألكسندر أستروك.