ثقافات

هشام أصلان

التواصل الإلكتروني أيام الوباء.. لست وحدك في الظلام

2021.06.01

 التواصل الإلكتروني أيام الوباء.. لست وحدك في الظلام

بعيدًا عن الفكرة العملية التي استهدفها الناس والمؤسسات باستخدام تطبيقات التواصل، كان ولا يزال هناك بُعدًا آخر للمسألة، وهو الاحتياج الإنساني للونس في لحظة شديدة الصعوبة

(١)

كانت إحداهن تقول إنها قد بدأت في خلع ملابسها عندما أحسست بحركة خفيفة خلفي. استدرت لأرى أبي ينحني محاولًا الاقتراب من شاشة الكمبيوتر التي كنت أحملق فيها ويحملق هو الآخر. سارعت بشرح مرتبك محاولًا التتويه كيف أن هؤلاء الذين على الشاشة يجلسون الآن كل من بلد غير الآخر ويتحادثون، وأردفت:

«عشان ماكنتش مقتنع وانا بحكيلك عن غرف الدردشة، أهو أديك شايف، الناس دي قاعدة بتتعرف وبترغي مع بعض».

قال: «بس انا شايف ناس بتقول انها بتقلع». قلت له: «آه مهو فيه ناس غريبة كده بتدخل تقول كلام غريب». تركني وذهب إلى غرفته دون تعليق.

في اليوم التالي، سمعته يحكي لأحدهم في الهاتف: «الواد بيخلينا ننام ويقعد لحد الصبح قدام الكمبيوتر يعمل حاجات غريبة، بس يا أخي تصور، كان بيكلم ناس فعلا وبيكلموه، الإنترنت ده شيء مدهش جدا».

كان ذلك ربما في نهاية التسعينيات أو بداية الألفية، وكانت غرف الدردشة تلك هي بداية عهدنا بالتواصل الاجتماعي عبر مواقع الإنترنت. كان الأمر مدهشًا حقًا، إذ بالكاد كنا استوعبنا مسألة رؤية أحداث في العالم وقت وقوعها عبر القنوات الفضائية الإخبارية. ثم لم تتوقف طفرات التواصل منذ وقتها يوما بعد يوم، غير أن أبرز ما يتذكره أبناء جيل غرف الدردشة من ملامح تلك الفترة كان برنامج «بال توك» الذي كانت غرفه تتيح، لمن يريد، المحادثات بالصوت والصورة، وإن كان قد سبق «البال توك» إمكانية التحدث بالصوت والصورة عبر ماسنجر الهوت ميل والياهو، بينما كان الفرق بينهما وبين «البال توك» هو أن الثاني مفتوح على العالم بشكل أوسع، والتحادث مع أشخاص كثيرون لا يعرف بعضهم البعض، فضلًا عن كون مستدخدمه لا يضطر إلى انتظار أصدقاء في حالة الـ«أون لاين». العالم به أشخاص مستيقظين على مدار الساعة.

(٢)

قبل شهور قليلة دُعيت للمشاركة في إحدى جلسات ملتقى فلسطين للقصة العربية، وقبل أن تذهب الأفكار وتأتي في رأسي حول مسألة السفر إلى فلسطين وما تثيره من جدل تاريخي حول دخول الأراضي المحتلة بتأشيرة إسرائيلية، وإن كانت هذه المسألة هي شكل للتطبيع من عدمه، تذكرت أننا في أيام الوباء، وقتها كانت حركة السفر لا زالت متوقفة تمامًا، من المؤكد أن الملتقى سيقام «أونلاين» شأن أغلب الفعاليات في كل المجالات، حيث الجميع يعمل من أمام شاشات الكمبيوتر، وبالفعل وجدت السطر الذي يشير إلى هذا في هامش الدعوة، قبل أن يأتي اتصال من أحد منظمي الملتقى ليؤكد على تفاصيل اللقاء عبر تطبيق «زووم»، على أن يتم بثه مباشرة على الصفحة الرسمية لوزارة الثقافة الفلسطينية على فيسبوك.

المفارقة أن الجلسة، التي شارك فيها أربعة كتاب كل من دولة، وجدت حضورًا أكثر بكثير مما هو معتاد في الندوات الثقافية العادية، وأنا فكرت في هل على المرء أن يسعد بالمشاركة في ندوة تشهد هذا الحضور الكبير من عدة دول، أم الحضور الجسدي للمشاركة في فعالية تقام في بلد آخر يوفر شيء أكبر من الاستمتاع سواء بالمناقشات الحية أو برؤية الناس والأماكن. المسألة تحمل قدرًا من المميزات في كل حالة تفتقدها الحالة الأخرى، ما يمر بنا إلى مستوى من التوازن بين الحالتين، فضلًا عن أنه في حالة ملتقى فلسطين للقصة العربية، أعفى المشاركون قدريا من الحيرة أمام مواجهة الجدال حول ماهية السفر إلى الأراضي المحتلة بتأشيرة من الكيان المحتل، فيما يحمل الأمر، طبعًا، شكلًا من أشكال الارتياح لحضور فعالية مهمة مرتديًا قميصك مكويًا لتتأنق من فوق بينما أنت بالـ»شورت» المنزلي من أسفل جالسًا على سريرك، معتنيًا فقط بالتأكد من إغلاق باب الغرفة والتنبيه على من خارجها بعدم الدخول لساعة زمن.

(٣)

وأنت لا تستطيع التعامل مع الحالة المصرية بوصفها نموذجًا لامعًا لحالة تسيير الأعمال عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، ذلك أن الفترة التي أغلقت فيها المؤسسات وراح الموظفون يعملون من منازلهم، هي فترة قصيرة نسبيًا، مع ذلك كان لها أثر كبير على مفهوم شرائح ليست قليلة من أصحاب الأعمال لفكرة التوظيف، عندما أدرك الجميع حقيقة عدم توقف العمل على آلية الحضور أو الغياب الجسدي، وأن تسيير الأمور عبر تطبيقات الإنترنت ساهم في توفير أنواع من الوظائف التي تستهلك أموالًا دون أن يؤثر ذلك بالسلب الكبير على سير الأمور باستثناءات قليلة. من هنا، وبمنطق «الفهلوة»، استفاد كثير من أصحاب الأعمال من تلك التجربة بتعويض شيء من الخسارة الاقتصادية التي تسبب فيها الوباء، بينما لم يكن ثمة التزام كبير بتقليل الحركة لتحقيق الهدف الإيجابي من الفكرة، وحدث أن كثيرًا من الشركات، مع العودة السريعة للعمل بشكل طبيعي، أكملت سياسة التوفير من الأيدي العاملة، أو تخييرهم بين ترك العمل أو القبول بأجر أقل بكثير مما كانوا يتقاضونه.

(٤)

وبعيدًا عن الفكرة العملية التي استهدفها الناس والمؤسسات باستخدام تطبيقات التواصل، حيث تقليل الحركة والاحتكاك والمساعدة في تحقيق التباعد الاجتماعي، كان ولا يزال هناك بُعدًا آخر للمسألة، وهو الاحتياج الإنساني للونس في لحظة شديدة الصعوبة.

لطالما كانت لكلمة الوباء ترجمة بصرية في مخيلتي. أطلال عملاقة وظلام وفزع، محال مغلقة وفارغة من المستلزمات الضرورية للحياة. أسئلة حول كيف ستأتي النهاية، هل هو المرض أم الجوع. كيف سيتعامل البشر فيما بينهم في ظل أن الخوف من الآخر سيد الموقف.

قبل ظهور كورونا بعام أو أكثر قليلًا، تحدث الجميع عن فيلم Bird Box، حيث الموت يأتي من مجرد النظر إلى آخر مصاب.

في زمن سابق، كنا، حين ينقطع التيار الكهربائي، نسارع بالنظر من الشرفة لنطمئن إلى مساحة الظلام في الحي، فإذا كانت متسعة تشمل شوارع مجاورة سيعني ذلك شيئ من الاطمئنان إلى أن المسؤولون سيسارعون بتصليحها، بينما سينتابنا الشعور بالقلق من إهمال التصليح في حالة أن الظلام لا يتجاوز شارعنا. من الذي سيفكر في عدد قليل من العائلات المتضررة، كذلك الأمر في حالة الوباء. أنت أمام وجه برّاق لتناقض النفس البشرية، إذ أن اتساع رقعة المرض، ورغم كون هذا الاتساع يعني كارثة بشرية، سيعني أن الأمر شديد الأهمية لدى المسئولين. بالقطع هناك مسؤولين عنّا على سطح الكوكب سيهتمون بأمرنا كلما كانت رقعة الضرر أوسع. هذا الشعور بالمشترك الإنساني والائتناس بآخرين مهمومين كان من المؤكد سيفقد الكثير من حضوره في حالة عدم وجود وسائل التواصل الاجتماعي. شاهدنا روبرت دي نيرو يتعصب علينا في فيديو كي نجلس في بيوتنا للحفاظ على أرواحنا، وبالتالي روحه شخصيًا، وضحكنا مع أنطوني هوبكينز في فيديو قصير مبهج وهو يرقص في الحظر المنزلي. نعم كان يجلس في منزله خوفًا من الخروج مثلما التزمت منزلي خوفًا، في اللحظة نفسها، من ذات الأمر.

لا خير في أمنية أن يسود الرعب بين الناس حتى يطمئن قلب الواحد إلى أنه ليس خائفًا بمفرده، غير أنه إذا كان الرعب منتشرًا بالفعل، فمن المؤكد أن المعرفة ستربت على قلبك. للحزن أثر أخف كلما توزع على مساحات أكبر، ولا سبيل لتقليل الخوف من الظلام سوى معرفة أنك لست ماشيًا فيه وحدك.