هوامش

دار المرايا

الثأر التقليدي والثأر الحداثي.. مذبحة أبي حزام نموذجًا

2022.01.01

 الثأر التقليدي والثأر الحداثي..  مذبحة أبي حزام نموذجًا

لم ننته من إغلاق ملف الثأر في شكله التقليدي حتى انفتح أمامنا ملف ثأري آخر له ملامحه الحداثية، لكنه يتفوق على الثأر التقليدي من حيث الشراسة والتعطش إلى سفك الدماء، والجور على القيم والأعراف المستقرة، والتحليق في أجواء خرافية مجنونة تضرب الحائط بأبسط حسابات التنظيم والعدالة.

مذبحة أبي حزام والثأر الجديد

يتجسد الثأر الجديد في المذبحة الثأرية الأليمة التي جرت وقائعها في قرية أبي حزام، محافظة قنا، يوم 2/6/2021، وراح ضحيته أحد عشر شخصًا مقابل فرد واحد، بخلاف المصابين الذين نقلوا إلى المستشفى في حالات خطيرة، ومنهم من مات بالفعل، بعد أيام ليرتفع عدد القتلى، وأغلبهم لا علاقة لهم بالخصومة الثأرية، وكل ما اقترفوه هو عودتهم إلى القرية بعد قضاء مصالحهم في بندر نجع حمادي.

بدأ اليوم الدامي بخلاف بين شخصين أحدهما ينتمي إلى عائلة (السعدية) التي تنتمي إلى قبيلة الهوارة، والآخر ينتمي إلى عائلة (العوامر) التي تنتمي إلى قبيلة (العرب)، وقد أدى الخلاف إلى مصرع الأول على يد نجل الأخير، وهناك كلام مختلف حول طبيعة الخلاف، خاصة وأن تحريات الشرطة النهائية لم تنته بعد، وسوف تستغرق وقتًا طويلاً حتى شفاء المصابين وانتهاء التحقيقات، وقد توصلت التحريات المبدئية إلى وجود خلاف مالي ولم تحدد قيمته أو طبيعته، وهناك أحاديث غير رسمية تعود بالخلاف إلى المشاركة في تجارة المواد المخدرة، وهناك حكاية يتناقلها بعض الأهالي عن قيام (العوامري) بالتنبيه على صديقه الهواري بعدم الحضور إلى منزله وهو يحمل سلاحه الناري، الأمر الذي رفضه الهواري، وتوجه إلى منزل صديقه أو شريكه حاملاً بندقيته الآلية، وما إن رآه نجل العوامري المدعو سيف، حتى استشاط غضبًا وقام بإطلاق الأعيرة النارية صوبه، فأرداه قتيلا، وقام بالاتصال بأهله وأخبرهم بالواقعة، فقام نجل القتيل باصطحاب ثلاثة أفراد من أقربائه، وقرر الثأر لولده بالقضاء على كل ركاب الميكروباص القادم من نجع حمادي، والخاص بسائق ينتمي إلى عائلة القاتل، وكمنوا للميكروباص في المكان الذي أيقنوا سلفًا قدومه فيه، وما إن شاهدوه حتى أطلقوا على الميكروباص وابلاً من الأعيرة النارية قاصدين قتل كل الركاب اعتقادًا منهم بأنهم ينتمون جميعًا لعائلة العوامر، الأمر الذي نتج عنه مصرع أحد عشر شخصًا في الحال، وإصابة الباقين بإصابات خطيرة، وأغلبهم لا ينتمون إلى عائلة العوامر، ومنهم من ينتمي إلى قبيلة الهوارة، أقرباء مطلقي الرصاص.

الحدث استثنائي لم يحدث في القرية من قبل، رغم أن القرية شهدت وقائع ثأرية تعد بالمئات، ولهذا لا يعبر عن ثقافة القرية، أو على الأصح، لا يعبر عن النظام التقليدي للثأر. الحدث استثنائي بالنسبة للقرية، وهذا لا يعني التقليل من شأنه، بل العكس هو الصحيح، لأنه ليس استثنائيًّا على مستوى الصعيد، بل يعبر عن ظاهرة جديدة يمكن أن نطلق عليها ـ بشكل مبدئي متحفظ ـ اسم «الثأر الحداثي»، لأنها تختلف عن الثأر التقليدي اختلافًا صارخًا، وتحمل سمات أو مظاهر حداثية.

مذابح شقيقة

مذبحة أبي حزام صورة طبق الأصل من مذبحة بيت علام، في محافظة سوهاج، والتي جرت وقائعها عندما توجه أقارب المتهمين بالقتل الي سوهاج مستقلين سيارتين لحضور إحدى الجلسات في مبنى المحكمة، فقام عدد من أفراد العائلة الأخرى بعقد النية على قتلهم جميعًا، وترصدوا لهم وسط الزراعات في الطريق الذي أيقنوا سلفًا مرورهم فيه، وما إن شاهدوا السيارتين حتى أطلقوا صوب المجني عليهم وابلاً من الرصاص، أدى إلى مقتل أكثر من عشرين فردا.

نفس المذبحة تقريبًا، حدثت أمام قرية أولاد خلف، مركز دار السلام، بمحافظة سوهاج، حيث قام أفراد من عائلة (الشواهي) بإطلاق النار من بنادق آلية على أفراد عائلة (القوايدة) أثناء استقلالهم لإحدى السيارات، مما أدى إلى مصرع خمسة أفراد في الحال، وإصابة باقي ركاب السيارة بجروح نارية خطيرة، وكذلك إصابة بعض العابرين في الشارع، وكان بين الضحايا أطفال في السادسة من العمر، وكل هؤلاء ثأرًا لمقتل شخص واحد، بالمخالفة لأعراف الثأر المستقرة.

نفس المذبحة حدثت أيضًا في طريق قنا سفاجا، حيث لقي خمسة أشخاص مصرعهم رميًا بالرصاص بعد إيقاف الميكروباص من قبل مجموعة مسلحة تنتمي لقرية الحجيرات، وذلك ثأرًا لمقتل شخص واحد.

كل هذه المذابح وغيرها لا تنتمي إلى نظام الثأر التقليدي، وهي من هذا الوجهة حوادث فردية واستثنائية، لكن التوقف هنا خطأ، وخطر، لأنه يمكن أن يخدرنا، فما حدث بشكل استثنائي عارض قد يوحي بأنه لن يحدث مرة أخرى، بينما الحوادث التي نحسبها فردية تتراكم لتكوِّن ظاهرة جديدة.

في كل الحوادث السابقة وغيرها، تشترك مجموعة من الأفراد في العملية الثأرية، أي لا يقوم بها فرد يعبر عن مزاج شخصي في ظرف معين، بل يحصل السلوك الشاذ على دعم آخرين، ويصل الدعم حد المخاطرة بحياتهم من أجل تحقيق الهدف الجنوني، وتلك المشاركة تجرد السلوك من شذوذه مهما كان مخالفًا للأعراف، وتقدم ظاهرة جديدة تستحق الرصد والتحليل بعيدًا عن الأفكار المسبقة.

خريطة العنف

من الخطأ وضع كل قرى الصعيد في سلة واحدة، حيث تختلف القرى من حيث علاقتها بالعنف اختلافًا كبيرًا، وتعيش أغلبية القرى في حالة من الهدوء الكبير، باستثناء حوادث العنف الصغيرة مثل التعدي بالقول أو الضرب باليد، حيث تندر أحداث العنف الكبيرة، خاصة تلك التي تنتهي بالقتل، وهذا هو الوضع السائد في الصعيد بخلاف الشائع عبر الصورة الإعلامية التي تركز على الأحداث العنيفة وحدها.

وتوجد في الصعيد دوائر صغيرة ترتفع فيها حدة العنف، وتلك الدوائر عبارة عن نقاط متحركة، فالقرية المسالمة يمكن أن تتحول إلى قرية عنيفة في لحظة، والقرية العنيفة يمكن أن تهدأ وتتحول إلى قرية مسالمة، وعلى سبيل المثال، كان يتم النظر إلى مدينة فرشوط باعتبارها مدينة مسالمة جدًا بين محيط من القرى الأكثر عنفا، وفجأة تحولت فرشوط إلى مركز من مراكز العنف الشديدة مع التناحر الثأري الذي نشب بين عائلة المخالفة وعائلة السحالوة، والذي أدى إلى مصرع ستة عشر شخصا بخلاف المصابين، ونفس الأمر مع الدابودية النوبية في خصومتها مع الهلايل في أسوان، أي أن خريطة العنف متحركة، لكنها تتمتع بقدر من الثبات في بعض القرى ومنها قرية الشعانية التي تضم منطقتي حمرة دوم وأبي حزام التي حدثت فيها مذبحة العوامر والسعدية.

الجغرافيا الدامية

حدثت المذبحة في قرية الشعانية، إحدى قرى نجع حمادي، وتحديدًا في منطقة (أبو حزام) والتي تعتبر مع منطقة (حمرة دوم) الملاصقة لها، من الأماكن الخاصة جدًا، من حيث خطورتها الأمنية، وارتباطها بأكبر الأشقياء الخطرين، ويلعب العامل الجغرافي دورا أساسيا في صنع تلك الخصوصية، لأنه يحصَّن المكان بثلاث طبقات أو دروع، وأول هذه الدروع هو بعد المسافة النسبي عن الطريق الأسفلتي السريع، الأمر الذي تستغرق معه قوات الشرطة وقتًا طويلاً حتى تصل إلى البلدة، وهو ما يمكِّن المُستهدَفين من الهرب. والدرع الثانية هي زراعات قصب السكر، والتي تسهل اختفاء العناصر المطلوبة، وتمنع عنها أضرار الرصاص، كما تمنحها أفضلية في حالة الهجوم على قوات الشرطة، وهو ما يحدث على فترات متباعدة، ويسفر عن سقوط قتلى من الشرطة. أما الدرع الثالثة فهي الهضبة الجبلية المتاخمة للقرية، وما يتصل بها من مغارات وكهوف ومسالك سرية، من الطبيعي أن يكون أهلها أدرى بشعابها، وكل ذلك يجعل المكان موقعًا استراتيجيًّا للهاربين من الأحكام القضائية، ويعزز الشعور بالمكانة والسطوة القبلية وردود الفعل السريعة والعنيفة على ما يُعتبر عدوانًا، غير أن هذا العامل الجغرافي لا يؤثر في حد ذاته على طبيعة سكان المنطقة، حيث توجد غالبية من العائلات المسلمة والمسيحية، والتي تتميز بالتسامح الشديد، ولم تتورط في العنف حتى الآن، رغم أن ضحايا القتل والقتل المضاد يعدون في القرية بالمئات.

بيت الخط

اشتهرت قرية الشعانية، خاصة منطقتي (حمرة دوم وأبو حزام) بخطورتها، كمركز إجرامي واحتوائها على المجرمين، وهناك شخصيات بلغت حدًّا أسطوريًّا في علاقتها بالجريمة وثار لقب (الخط) يتنقل بين عدد من أفراد المكان، وكان من أبرزهم نوفل سعد الدين ربيع، والذي ولد في عام 1967، وفي عام 1979 قُتل والده وشقيقه وعمه وأبناء عمه في واقعة ثأرية شهيرة حدثت أمام قسم شرطة نجح حمادي، في كمين أعدته عائلة «هنداوي».

في الثالثة عشر من عمره، حمل نوفل سعد الدين سلاحه من أجل الثأر، وتورط في عدة وقائع، حتى صار من المطلوبين الخطرين، ثم جاء حادث الدير البحري الإرهابي في السابع عشر من شهر نوفمبر 1997، وأسفر عن مصرع 58 سائحاً. كانوا في معبد حتشبسوت، بالإضافة إلى مصرع أربعة من المواطنين، ثلاثة منهم من رجال الشرطة، والرابع كان مرشداً سياحياً، وكان الحادث بمثابة الزلزال الذي دفع إلى حشد كل الجهود، ومنها جهود نوفل ورجاله، من أجل تتبع العناصر المطلوبة والهاربة في الجبال وزراعات القصب، وهكذا صار نوفل ورجاله يعيشون كقوات حكومية خاصة، تُروى عنهم حكايات غريبة، غير أن سنوات الوفاق بين الشرطة ونوفل وصلت إلى طريقها المسدودة في 4 مايو 2007، حيث شنت قوات الأمن حملة أمنية استهدفته، و قتلته قرب بيته.

لم يمض وقت طويل بعد سقوط نوفل حتى ظهرت أسطورة «نشأت عيضة» والذي تورط في الكثير من القضايا وصار صاحب أكبر رصيد من الأحكام بين الهاربين بين الجبل وزراعات القصب، والشقق الفاخرة في المدن الجديدة، وقد وصلت الأحكام القضائية الصادرة بالسجن ضده إلى مئات السنوات، بخلاف أحكام بالإعدام، وقد ظل هاربًا لسنوات طويلة، حتى تورط في قتل أحد الأشخاص بالإسكندرية وتم ضبطه، وتم إعدامه شنقا هذا العام.

وفي نفس الوقت ظهرت أسطورة أخرى تحمل نفس السمات، وتتسم بالشراسة خاصة في مواجهة الشرطة، وهو «نور أبو حجازي» الذي حمل لقب (الخط) و اشتهر على مدار سنوات طويلة بعمليات الخطف مقابل فدية، بالإضافة الى تجارة المخدرات والسلاح وغيرها، وقد استهدف في قرية حمرة دوم بتاريخ 10 أبريل 2018، إلا أنه أستطاع الهرب هو رجاله بعد إطلاق النار على قوات الشرطة، والذي أسفر عن استشهاد النقيب محمدي رجب الحسيني، وفي 6/5/2018، أعلنت وزارة الداخلية مقتل «نور أبو حجازي» في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة بقرية الجزيرية على بعد ثلاثين كيلو مترًا من منزله تقريبًا.

كل هذا يدل على أننا أمام منطقة استثنائية، لا يصح تعميم صورتها على صور جميع قرى الصعيد، وتلك المناطق الاستثنائية تحتاج إلى دراسات خاصة، كما أن طابعها الاستثنائي يرتبط بعائلات معينة، لا بكل العائلات المقيمة في نفس القرية، حيث غالبية العائلات مسالمة، وتعتبر الجريمة ـ خاصة السرقة ـ عارًا كبيرًا، وقد تصل في الشعور بالعار إلى حدود متطرفة للغاية، لدرجة أن أحد الأشخاص قتل ابنه لأنه تورط في السرقة.

عار الثأر وثأر العار

العار جوهر النظام التقليدي بأكمله، إنه منظومة الردع التي تلعب الدور الأساسي في ضبط المجتمع، وهو لا ينشأ نتيجة لوم شخصي بل يصنعه المجتمع ككل لصالح المجتمع ككل، وعدم رد العدوان على سبيل المثال يعتبر عارًا ويُجرد الرجال من هويتهم الطبيعية ويُدخلهم في تصنيف النساء لأن المجتمع ككل يريد ردع المعتدي وتقليم أظافر العنف.

وتعتبر المرأة رأس الحربة في منظومة العار، ولا شيء يجلب العار أكثر من التعدي عليها، ومن أكبر الفضائح تشاجر الرجال مع النساء، وفي المثل الشعبي «لو غلبك راجل سلط عليه امرأة»، لأنه لا يستطيع مجاراتها والرد عليها وإلا تعرض لاهتزاز مكانته في المجتمع.

وتحرِّمُ أعرافُ الثأر النيْلَ من الخصم وهو يمشي مع امرأة، أو ضيف، وكان السير مع النساء إحدى الحيل التي يلجأ إليها الشخص المضطر للمرور أمام الخصم، أما رفع السلاح في وجوه النساء وقتلهن ثأرًا فهو العار بعينه.

وفي مذبحة أبي حزام تم قتل النساء دون تردد، ودون أدني اعتبار لسلطان العار، وهذا في حد ذاته سلوك جبار، لأن الفرد يرضع الخوف من العار مع لبن الأم، ويكبر على اعتبار القبول بالعار من المستحيلات، لكن تحدي العار هنا يمضي في الاتجاه الخاطئ، لا يحارب التقاليد بل يبدع تقليدًا أكثر سوء.

صدمة الأعراف الثأرية

تجاوز مفهوم العار يعني تجاوز جوهر المنظومة الثأرية التقليدية، الأمر الذي يترتب عليه سقوط أعراف ومبادئ أخرى، وفي مقدمتها مبدأ العدل نفسه، فالثأر يأخذ شرعيته وقدسيته من مبدأ العدل، ولهذا فالمستقر وفق أعراف الثأر هو مبدأ (واحد قصاد واحد)، ولا يتحقق الثأر بالقتل فقط بل بالمصالحة الثأرية أيضا والتي تقوم على مبدأ القتل الرمزي (واحد قصاد كفن). وتأتي مذبحة أبي حزام لتسحق مبدأ العدل وتنسفه من جذوره، لقد تم استبدال مبدأ (واحد قصاد واحد) بمبدأ (واحد قصاد ميكروباص بجميع ركابه).. ومن الطبيعي أن تتساقط مبادئ تقليدية أخرى ومنها ما لا نشعر بقيمته الكبيرة مثل الزمن الثأري.

للزمن في الخصومات الثأرية منطقه الخاص، حيث يتم قطعه من سياقه المعتاد والنظر إليه في سياق القتل، الزمن هنا لا يتحرك بانتظام وفق دورته المعتادة، الزمن هنا جامد أو متجمد، أو متوقف حتى يتم الثأر، وهناك مثل شعبي يقول «أخدْ تاره بعد عشرين سنة، قالوا له استعْجلت» وهناك صيغ أخرى كثيرة تؤكد على اتساع البراح الزمني أمام الثأر، لأنه في اعتقاد الجماعة نظام، ويجب أن يتم في أفضل ظروف ممكنة، وهناك حكايات كثيرة عن صبر أهل القتيل على الثأر لأسباب مختلفة.

وتظهر النظرة الخاصة إلى الزمن وعملية التحكم فيه وتجميده، في أول رد فعل على القتل، وهو قرار العائلة بمنع تلقي العزاء، والقرار يصدر وقت الدفن، ويكون بمثابة إعلان حكم الإعدام ضد القاتل، ومنع تلقي العزاء يعني تجميد طقوس الموت إلى حين.

والعزاء لا يرتبط فقط بمجرد تعزية أهل المتوفى، بل يعد مقياسًا لتقدير قيمة الجماعة ومكانتها، ومنع أو تعليق العزاء هنا، يعني رمزيًّا تعليقَ طقوس الجنازة، أو عدم اكتمال موت القتيل بالمعنى الاجتماعي، الزمن يتوقف عند هذه النقطة، ولا يتحرك فيكتمل موت القتيل إلا يوم الثأر. ومع عودة حركة الزمن يتم قبول العزاء ولو بعد سنوات وكما لو كانت الوفاة حدثت منذ ساعات.

تجميد الزمن يحمل حكمة شعبية كبيرة، لأنه يمنح الفرصة لتقدير الموقف بشكل عقلاني، وتحديد خطورتها على المجتمع، وتقييم النزوع العدواني عند القاتل، وبالتالي فتح الباب أمام جهود المصالحات الثأرية لعلها تردم حفرة الدم بشكل سلمي.

وإذا نظرنا إلى مذبحة أبي حزام سوف نجد الثأر يتحقق في نفس يوم واقعة القتل، بل وقبل دفن القتيل، وهذا في إطار الثأر التقليدي عار، لأن الواجب هو دفن المتوفي أولا، كما أن الصبر على الثأر ثأر في حد ذاته، وهو يعبر عن ثقة أهل القتيل في عجز القاتل عن الهرب من قبضتهم، وتجاوز عنصر الزمن هنا، يعبر عن حالة من الخروج على منظومة الثأر التقليدية والدخول في حالة ثأرية جديدة أو مختلفة.

محنة النموذج الثأري الجديد

لقد كان لدينا نظام ثأري متوارث في ظل بنية ريفية ثابته لم تتغير على مدار قرون طويلة، حيث نجد نفس المشاهد الريفية التي ظهرت في بداية الثورة الزراعية في العصر الحجري الحديث، تستمر حتى العصر الحديث، وتتناغم معها منظومة أخلاقية تتمتع بالكثير من القيم الإيجابية، حتى لو اختلفنا معها.

في العقود الأخيرة حدثت متغيرات كبيرة جدا، لقد اختفت البيوت الطينية، وهيمن الإسمنت المسلح، ولم تعد الفلاحة هي المهنة السائدة، بل دخلت وظائف أخرى، النظام الزراعي تأثر ببناء السد العالي، نظرًا للتحول في أسلوب الري، الأدوات التقليدية مثل النورج، والمذراة، والمحراث، والساقية، والشادوف، والكانون، والفرن البلدي، كلها اختفت، وظهر الجرار الزراعي، وموتور الماء، وماكينة الحصاد، وأدوات المطبخ الحديث وغيرها.

كل هذه المتغيرات لم تكن منفصلة عن الثقافة التقليدية بل تفاعلت معها، وأثرت فيها، وكان التأثير إيجابيًّا وواضحًا على مستوى الأدوات، فالسيارة شيء والدواب شيء آخر، وكذلك موتور المياه قياسا بالساقية، وهكذا، أما على مستوى الثقافة فلم يكن التأثير إيجابيًّا بنفس القدر، ولا نبالغ عندما نقول كان التأثير سلبيًّا وخطرًا، ويرجع اللوم على الدولة وطبقة المثقفين، لأنهم تركوا مهمة الحوار مع المستجدات لسكان الريف أنفسهم، وهكذا تم التأثير الثقافي بشكل عشوائي، وعجزت الجماعة الشعبية عن هضم تلك المتغيرات الحداثية.

في ظل الثورة الصناعية وثورة المعلومات، كان الطبيعي هو اختفاء ظاهرة الثأر العرفي، باعتبارها ظاهرة بدائية، فرضتها ظروف العصور الوسطى وما قبلها، لكن الثأر خالف المتوقع، واستمر بعناد كبير، وليته توقف عند هذا الحد.

لقد كان الثأر التقليدي مشكلة عويصة، وبدلا من حلها، ها نحن نسقط في نظام ثأري حداثي أسوأ، دون أن نفكر في رصده، أو دراسته بالشكل المناسب.

لقد كشفت مذبحة أبي حزام وشقيقاتها، عن وجود حالة تفاعل مستمر مع منظومة الثأر التقليدية، وهذا التفاعل لا يعني تطبيق المنظومة بشكل حرفي بل تطبيقها بعد أن تتبلور في رأس الفاعل الاجتماعي، وهنا يختلف القانوني عن العرفي، فالقانوني ثابت، مقيد في قواعد مكتوبة بلغة صارمة، ومن ثم يصبح التفاعل معه ضعيفًا قياسًا بالعرفي، غير المكتوب، كما هو الحال مع منظومة الثأر، والتي تتم بلورتها وإعادة بلورتها على يد أعضاء هذه الثقافة باستمرار.

إن القائم بالثأر يعيد تشكيله من جديد، وإعادة التشكيل هنا تتم بشكل عشوائي، تتصدر فيه الرغبة في الانتقام، ويتوارى فيه التفكير العقلاني الرشيد أمام التفكير الخرافي. ويتحول تنظيم العنف إلى توسيع نطاقه، وتعقيد حالته بتوريط أطراف أخرى.

يكتسب التشكيل الجديد شذوذه واستقامته من خلال مقارنته بالنموذج الذي استقرت عليه الجماعة، ورغم رفض الجماعة ككل، للنموذج الثأري الجديد، إلا أنه يشكل نمطًا متكررًا يقوم فيه الفاعل الاجتماعي بإعادة تشكيل الظاهرة بحيث تتوافق مع هواه، أو حالته الخاصة، وعملية إنتاج هذا النمط الثأري لن تتوقف عند حدود المشاركين هنا، بل سوف تتكرر وتظهر كما لو كانت حدثًا غريبًا واستثنائيًّا ولا يمت للواقع الحقيقي للثأر، وهذا يعني من ضمن ما يعني، أن البكاء على الثأر بشكل عام شيء، والبكاء على الثأر في الأيام القادمة سيكون أكبر وأخطر وأشرس.