حوارات

جان بول سارتر

الجماهير، العفوية، والحزب

2018.10.01

ترجمة : مروة الناعم 

الجماهير، العفوية، والحزب

مانيفيستو: هاجمت الحركات القاعدية، في أثناء أحداث مايو في فرنسا، وفي خضم صراع الطبقة العاملة عام 1968 بشكل عام، الأحزاب الشيوعية، ليس فقط بسبب انحطاطها البيروقراطي أو خياراتها الإصلاحية، بل انتقدوا أيضًا مفهوم الحزب ذاته باعتباره المؤسسة السياسية المُنظمة للطبقة.وفي الوقت الذي عانت فيه تلك الحركات من الانتكاس، ظهرت مجموعاتيسارية تشدد على التنظيم مقابل العفويةوتدعو إلى العودة إلى اللينينية “الحقّة”.لا تبدو لنا أي من هذه المواقف مُرضية. بل يبدو لنا أنه لا يمكن للمرءانتقاد العفوية كما ينبغيإلا معفهم وإقرار احتياج النضج الذاتي للطبقة العاملة اليوم لشكل جديد من التنظيم يتكيف مع ظروف وملابسات النضال داخل مجتمعات الرأسمالية المتقدمة، وهذا هو الدرس المستفاد من 1968. ونود أن نركز في حديثنا هذا على الأسس النظرية لهذه المشكلة. لقد كنت مهتمًا بهذا الأمر منذ مناقشة 1952 (الشيوعيون والسلام) -والتي أصبحت كلاسيكية الآن- والجدل الذي أعقبها مع أطروحات ليفورتوميرلوبونتي من خلال كتابيّ“شبح ستالين” في عام 1956 وحتى “نقد العقل الجدلي”.

في عام 1952، تم اتهامك بالإفراط في الذاتية كما وُجه إليك اللوم على عدم الاعتراف بأي وجود للطبقة العاملة خارج الحزب. وفي عام 1956، وجه إليك اتهام معاكس بالموضوعية التي تميل إلى تفسير الستالينية باعتبارها نتاجًا حتميًّا لوضع تاريخي معين.

وفي الواقع، يبدو لنا أن كلا الموقفين ارتكزا على أساس مشترك يقوم على مفهوم «الندرة» فيما يتعلقبالتخلف البنيوي للبلد التي وقعت فيها ثورة أكتوبر، و”الضرورات” التي فرضتها حقيقة أن الثورة لم تكن “ناضجة” بعد، وبأنه كان ينبغي بناء الاشتراكية في إطار تراكم بدائي. كنت تعتبر، في هذه الحالة تحديدًا،أن الحزب كان ملزمًا بفرض نفسه على الجماهير التي لم تصل بعد إلى مستوى الوعي المطلوب. فهل تعتقد أن هذه الصورة للحزب-التي شاركناك إياهافي الخمسينيات- في حاجة إلى المراجعة بالنظر إلى تغير الوضع؛ أو أنه على العكس، يجب مراجعتها لأن الصياغات المبكرة قد أبطلتها أوجه القصور النظرية التي استمر الكشف عنها على نحو أكثر وضوحًا منذ ذلك الحين؟

سارتر: بالطبع كان هناك قصور. لكن ينبغي وضع الأمر في سياقه التاريخي. ففي عام 1952، عندما كتبت «الشيوعيون والسلام»، كان الخيار السياسي الضروري هو الدفاع عن الحزب الشيوعي الفرنسي،والدفاع بشكل خاص عن الاتحاد السوفيتي الذي أُتهم بالإمبريالية آنذاك.

كان من الضروري دحض هذا الاتهام لو لم تكن لدينا رغبة في أن نجد أنفسنا في معسكر الأمريكان.

فيما بعد، بدا أن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية (الاتحاد السوفيتي)يتصرف كقوة إمبرياليةبالنظر إلى سلوكهفي بودابست الذي اختلفعما فعله ستالين في 1948 فيما يتعلق بيوجوسلافيا(سواء لحكمة سياسية من جانب ستالين أو لأسباب أخرى)، وكذلك لتكرار التصرفنفسهفي تشيكوسلوفاكيا.

ولا أعني بقولي هذا حكمًا أخلاقيًّا. فأنا أوضح فقط أن السياسة الخارجيةللاتحاد السوفيتي تبدو نابعةأساسًا من علاقاتها العدائية مع الولايات المتحدة وليست نابعة من منطلق الاحترام والمساواة إزاء الدول الاشتراكية الأخرى.وقد حاولت شرح الأمر من خلال كتاب «نقد العقل الجدلي».وبالطبع تبقى هذه مجرد محاولة للتوصل إلى تحليل منهجي، والذي كان يجب أن يتبعه تحليل تاريخي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية في زمن ستالين-وهو التحليل الذي قدمت له بالفعل تصورًا أوليًّا ويحتل جزءًا من المجلد الثاني للكتاب، والذي ربما لن يظهر أبدًا.

اختصارًا، ما حاولت توضيحه فيما يتعلق بمصطلحات كالجماهير والحزب والعفوية والتسلسل والقنوات والجماعات، إنما يمثل طورًا جنينيًّالحل هذه المعضلة. في الواقع، لقد حاولت أن أبين فيما يتعلق بالجماهير،أن الحزب واقع ضروري وذلك لأن الجماهيروحدها لا تمتلك العفوية. فتظل الجماهير، وحدها وفي حد ذاتها، تمثل تسلسلًا. وعلى العكس من ذلك، فبمجرد أن يصبح الحزب مؤسسة، يصبح كذلك رجعيًّا-إلا في حالات استثنائية- فيما يتعلق بالوضع الذي أوجده بنفسه، وأعني بذلك الجماعة المنصهرة. وبعبارة أخرى، فإن مشكلة الحزب مقابل العفوية هي مشكلةزائفة ووهمية.إذ لا تبدو الطبقة متجانسة من حيث وعيها الذاتي؛ بل تبدو وكأنها مجموعة من العناصر أو الجماعات التي أعرّفها بأنها «منصهرة». فدائمًا ما نجد فيما بين العمال، في هذا المصنع أو ذاك حيثما يقع نضال ما، جماعات منصهرة، في سياق يقيم من خلاله الأفراد علاقات تبادلية، ويتمتعون بالنظر إلى مجمل الجماعات بما أسميه «الحرية الجامحة”، ويكتسبون وعيًا واضحًا بوضعهم الطبقي.

ولكن إلى جانب هذه الجماعات المنصهرة، هناك عمال آخرين لا يوحدهم النضال، أولئك الذين يظلون في منظومة التسلسل، وتتعذّر عليهم العفوية بالنظر إلى انفصالهم عن الآخرين، سوىداخل علاقة مادية في إطار رابطة متسلسلة. ولكن حتى الجماعة المنصهرة، كما هو الحال بمصنع في حالة إضراب على سبيل المثال، تخضع إلى وتثقلها على نحو مستمر العلاقات المتسلسلة(الحشد..إلخ). فقد يكون العاملالذي يجد نفسه داخل جماعة منصهرة في محل عمله متسلسلاً تمامًا في منزله أو في لحظات أخرى من حياته.ومن ثم، نحن بصدد أشكال شديدة الاختلاف من الوعي الطبقي؛ فلدينا وعي متقدممن ناحية، وآخر يكاد يكون منعدم من ناحية أخرى، مع سلسلة من الوساطات فيما بينهما. ولهذا السبب لا يبدو لي أن بمقدور المرء الحديث عن عفوية الطبقة؛ فلا يسعنا فقط سوى الحديث عن الجماعات التي تنتجها الأحداث والظروف والتي تخلق نفسها في سياق أوضاع ومواقف محددة؛ وعليه، أي في إطار خلق وتشكيلذواتها، لا يعدن اكتشاف أي نوع من أنواع العفوية الكامنة، بل بالأحرى يواجهن وضعًا محددًاعلى أساس حالات استغلال محددة ومطالب بعينها؛ وفي سياق تجربتهم تلك يطورن وعيًا أكثر أو أقل دقة بأنفسهم.

ومع ذلك، ما الذي يمثله الحزب فيما يتعلق بالسلسلة - التجمع؟ بالطبع ما يقدمه هو عامل إيجابي، إذ أنه يحول دون السقوط في التسلسل الكامل. فأعضاء الحزب الشيوعي أنفسهم كانوا سيظلون أفرادًا معزولة ومتسلسلة لو لم يحولّهم الحزب إلى جماعة من خلال رابط عضوي بوسعه أن يُمَكّن شيوعي في ميلانو من التواصل مع عامل شيوعي آخر من أي منطقة أخري.وعلاوة على ذلك، يرجع الفضل في تشكيل العديد من الجماعات في خِضّم الصراع إلى الحزب، إذ يسهل الحزب عملية التواصل. ومع ذلك، يجد الحزب نفسه،كقاعدة عامة، ملزم باستيعاب أو نبذ الجماعة المنصهرة التي ساعد بنفسه في خلقها. وبالمقارنة مع الجماعة التي لا يتعدى تنظيمها على الإطلاق نوعًا من أنواع الميثاقالتبادلي، يتمتع الحزب ببناء هيكلي أكثر صلابة.تشكلالجماعة نفسها تحت الضغط، لتحقيق هدف ما(“لابد من الاستيلاء على الباستيل”) على سبيل المثال؛ وبمجرد قضاء الحاجة، يواجه الأفراد الذين شكلوا الجماعة على نحو متلهف بعضهم البعض، ويحاولون تأسيس رابطة قد تحل محل تلك التي تشكلت في أثناء الحدث، أينوع من أنواع التحالف أو الميثاق، الذي يميل بدوره إلى تشكيل بذرة البدايةلسلسلة - تجمع ولإقامة علاقة تواصل مادية فيما بينهم.وهذا ما أطلقت عليه”إرهاب الأخوية”. بينما،على العكس، يتطور الحزبكمجموعة من المؤسسات، ومن ثمكنظام محكم ثابتلديه ميلاً نحو التكلس. ولذلك يظل الحزب دائمًا متأخرًا عن الكتلة المنصهرة، حتى مع محاولاته لتوجيهتلكالكتلة؛ وذلك لأنه يحاول إضعافها وإخضاعها وربما حتى نبذها وإنكار أي تضامن معها.

يعكس فكر وعمل كل جماعةبنيانها لا محالة. ومن ثمفما يحدث هو الآتي؛ تتمتع أفكاري الجماعة المنصهرة، كونها وليدة ضغط وضع بعينه وليس لكونها نتاج نوع من أنواع العفوية،بحمولة نقدية أقوى وأكثر حيويةوأهمية من أفكارالجماعة المهيكلة.فالحزب كمؤسسة يتمتع بنمط تفكيرمؤسسي-وأعنيذلكالنمط الذي يبتعد عن الواقع- ولا يعكس بشكل أساسيأبعد من تنظيمه الخاص، وهو في الحقيقة فكر مؤدلج.وعلى مخططه الخاص ذلك تتم صياغة وتشويه تجربة النضال ذاتها؛ بينما ترى الجماعة المنصهرةتجربتها على ماهي عليه، كما تقدم نفسها، دون وساطة مؤسسية. ولهذا قد يصبح فكر جماعة ما غامضًا، غير ملائم وغير قابل للوضع في إطار نظري- كما كانت أفكارالطلاب في مايو عام 1968- إلا أنه مع ذلك يمثل نوعًا أصدق من الفكر، إذ لا توجد مؤسسةتتوسط التجربة والتفكير والتأمل في تلك التجربة.

لا شك أننا نتعامل هنا مع تناقض متأصل في وظيفة الحزب ذاتها.فينشأالحزبويأتي إلى الوجود لتحرير الطبقة العاملة من التسلسل؛ ولكنه في الوقت نفسهانعكاس -انعكاس من نوع خاصبالنظر إلىما يهدف إليه من إنهاء هذا الوضع-للتسلسل والتحشيد،ولتعبئة الجماهير التي يعمل عليها.فتعبر سلسلة الجماهير تلك عن نفسها من خلال طابع الحزب المؤسسي.وباضطراره هذا (الحزب) للتعامل مع ما هو مسلسل، يتحول هو نفسه جزئيًّا لكيان خامل ومسلسل.ومن ثم، وفي محاولة منه لحماية نفسه،ينتهي به المطاف إلى معاداة الجماعات المنصهرة، على الرغم من أن هذه الجماعات هي جزء من الطبقة العاملة التي يحاول تمثيلها والتي طالما كان يجلبها الحزب نفسه إلى الحركة.

وهنا يكمن التناقض الجوهري للحزب، الحزب الذي نشأ من أجل تحرير الجماهير من التسلسل والذي تحوّل هو نفسهإلى مؤسسة.وعلى هذا النحو، يحمل في طياتهالعديد من السمات السلبية(ولا أعني هنا البيروقراطية أو أشكال الانحطاط الأخرى، بل أعني بالأحرى البنية المؤسسية ذاتها، والتي ليست بالضرورة بنية بيروقراطية) بحيث يجد نفسه مضطرًا، بشكل أساسي وفي جميع الحالات، لمواجهة جميع القوى الجديدة سواء حاول استخدامها أو نبذها. ولقد رأينا هذين الموقفين المختلفين اللذين تبناهما الحزبان الشيوعيان الفرنسي والإيطالي تجاه الطلاب؛ فقد لفظهم الحزب الفرنسي؛ وعلى نحو أكثر دهاء، حاول الحزب الشيوعي الإيطالي استقطابهم وتوجيه تجربتهم عن طريق التواصل والمناقشة. لا يستطيع الحزب سوى اختيار واحد من بين هذين المسلكين؛ فتلك هي حدوده الضمنية.

دعني أعطك مثالاً تقليديًّا آخر، ألا وهو مسألة المركزية الديمقراطية. فطالما عملت المركزية الديمقراطية في وضع ديناميكي فعال–في أثناء وضعية السرية وتنظيم النضال في روسيا على سبيل المثال، وكان هذا على وجه التحديد في الوقت الذي قام فيه لينين بتطوير نظريتها-ظلت شيئًا حيًّا. سادت المركزية فترة ما، حيث كانت ضرورة، وفي فترة أخرى سادت ديموقراطية حقيقية، إذ كان باستطاعة الناس النقاش والمجادلة وكانت القرارات تؤخذ على نحو مشترك. وبمجرد أن تم مأسسة المركزية الديموقراطية، كما كان الحال في جميع الدول الشيوعية، أصبحللمركزية أولوية على الديموقراطية، وتحولت الديموقراطية نفسها إلى «مؤسسة» خاضعة لقصورها الذاتي؛فنجد،على سبيل المثال، الحق في الكلام، إلا أن مجرد حقيقة أنه ينبغي أن يكون حقًا -فقط أن يكون حقًا- تجرده من مضمونه وتفقده جوهره حتى يصبح، في الواقع، غير قائم أو قابل للتنفيذ. لذلك فالسؤال الحقيقي هو معرفة كيفية تجاوز التناقض المتأصل في طبيعة الحزب ذاتها، وذلك حتى يتمكن الحزب (ليس فقط في علاقته مع معارضيه أو فيما يتعلق بمهامه كمنظمة مناضلة، ولكن فيما يتعلق بالطبقة التي يمثلها) من تشكيل وساطة نشطة بينالعناصر المتسلسلة والمتكتلة من أجل توحيدهم؛ وبعبارة أخرى،كيف يصبح الحزب قادرًا على استقبالالقوىالمنبثقة من الحركات وكيف يصبح قادرًاعلى تعميم التجربة للحركة ولنفسه، بدلاًعن المطالبة بتوجيهها.

مانيفيستو: لا يكمن إذًا الموضع الحقيقي للوعي الثوري في الطبقة بشكل مباشر أو في الحزب، بل في النضال. ومن هذا المنطلق، يظل الحزب حيًّا طالما كان أداة للنضال، ولكن فور تحوله الى مؤسسة فإنه بهذا يبدل الغاية بالوسيلة ليصبح هو نفسه غايته. ربما يكون من الممكن حل التناقض المتأصل في الحزب، والذي تُركز عليه،بقدر ما يحاول المرء التعامل مع مشكلة التنظيم السياسي للطبقة ليس من الناحية العامة، بل في حالات آنية محددة. ما يبدو مستحيلاً هو الحل الما وراء-تاريخي/الميتا-تاريخي. ولذلك يبدو من الضروري تصور الظروف الموضوعية التي يمكن من خلالها حل هذه المعضلة في كل مرة. يفترض هذا الأمر،من وجهة نظرنا، شرطين؛فأولًا وقبل كل شيء يجب أن تتجاوز الطبقة مستوى التسلسل لتصبح على نحو فعال وكليّ موضوع أو مثار العمل الجماعي.

سارتر: هذا شرط مستحيل؛ لا تستطيع الطبقة العاملة أبدًا التعبير عن نفسها بشكل كامل كفاعل سياسي نشط؛ ستظل هناك دائما مناطق أو أقاليم أو قطاعات-لأسباب تاريخيةتتعلقبالتطور-متسلسلة، متكتلة وبعيدة عن تحقيق الوعي. فهناك دائمًارواسب وبقايا. يوجد ثمة ميل شديد اليوم نحو تعميم مفهوم الوعي الطبقي والنضال الطبقي كعناصر سالفة تسبق النضال. فالأمر الوحيد القبلي والمسلم به هنا هوالوضع الموضوعي المتعلق بالاستغلال الطبقي. لا يولد الوعي إلا من خلال النضال، فالصراع الطبقي لا يوجد إلا بقدر ما توجدأماكن يدور فيها صراع فعلي حقيقي.

صحيح أن البروليتاريا تحمل داخلها فناء البرجوازية؛ وبالقدر نفسه من الصحة فالنظام الرأسمالي ملغم بتناقضات هيكلية. ولكن هذا لا يفترض بالضرورة وجود وعي طبقي أو صراع طبقي. ولكي يصبح هناك وعي ونضال، فمن الضروري أن يوجد من يناضل.

وبعبارة أخرى، الصراع الطبقي أمر ممكن عمليًّافي كل مكان في النظام الرأسمالي، ولكن في الحقيقة فهو يوجد فقط في المكان الذي يتم فيه بالفعل النضال. وعلى الجانب الآخر، يختلف النضال، حتى في أثناء حدوثه، باختلاف كل وضع. ففي فرنسا على سبيل المثال، تتنوع ظروف وأشكال النضال تنوعًا بالغًا؛ ففي سان نازير تحتفظ نضالات العمال، والتي تتسم بالعنف الشديد، بخصائص وسمات القرن الماضي؛ بينما في مناطق رأسمالية أخرى أكثر «تقدمًا»، تتخذ نضالات العمال طابعًا مختلفًا تصاحبه صياغة واضحة للمطالب التي قد تكون أضخمبيد أنها في سياق أكثر اعتدالاً. ولهذا فانه من المستحيل أن نتحدث عن التوحيد، حتى فيما يتعلق بذلك الجزء من الطبقة العاملة الذي يناضل بالفعل، إلا من الناحية النظرية.لا تزيدالإضرابات العامة التي استغرقت 24 ساعة التي نظمتهاالكونفدرالية العامة للعمل(C.G.T) في أفضل الأحوال عن كونها رمزًا لنضال موحد.

مانيفيستو: ولكن ألسنا في مرحلة توحيد رأسمالي للمجتمع، فيما يتعلق بالبنية التحتية بقدر ما يتعلق الحال بالبنية الفوقية (أنواع الاستهلاك وأنماط الحياة، واللغة والتحشيد)؟ أليس صحيحًا أن تشظيالحالات الفردية يصاحبه «شمولية» للنظام أكثر وضوحًا من أي وقت مضى؟ وألا ينبغي أن يصاحبهذا الأمر، نتيجة له، تشكيل قاعدة أساسية موضوعية لوحدة الطبقة المتنامية ولوعيها الطبقي؟

سارتر:في الواقع، لا يزال الهيكل متنوعًا للغاية وغير مستقر.

مانيفيستو: لكن هل يوجد هناك ميل نحو التوحيد، أم لا؟

سارتر: نعم ولا. ففي فرنسا على سبيل المثال، تُبقي الرأسمالية على نحو مصطنع على آلاف المؤسسات الصغيرة التي لا يوجد سبب لوجودها من وجهة نظر العقلانية الاقتصادية؛ إلا أنها مفيدة للرأسمالية سواء لأنها تمثل قطاعًا سياسيًّا محافظًا (وهي الطبقات الاجتماعية التي تصوت لديجول أو بومبيدو) أو لأنها تقدمنمطًا للتكاليف الرأسمالية للإنتاج على الرغم من زيادة الإنتاجية. في الواقع، لا تقضيالتوجهات نحو الدمجعلى التنوع العميق في الأوضاع الهيكلية.

وأضف إلى ذلك أن الرأسمالية المتقدمة، بالنظر إلى وعيها بوضعها الخاص، وعلى الرغم من التفاوت الهائل في توزيع الدخل، تتمكن من تلبية الاحتياجات الأساسية لغالبية الطبقة العاملة - تبقى بالطبع المناطق الهامشية؛ 15 % من العمال في الولايات المتحدة، والسود والمهاجرين؛ ولايزال هناك أيضًا كبار السن؛ ولا يزال هناك على الصعيد العالمي العالم الثالث. بيد أن الرأسمالية تلبي احتياجات أساسية محددة، كما أنها تلبي احتياجات بعينها خلقتها بشكل مصطنع؛ كالحاجة إلى السيارة على سبيل المثال. وهذا ما دفعني لمراجعة «نظرية الاحتياجات» إذ لم تعد هذه الاحتياجات، في حالة الرأسمالية المتقدمة، متعارضة على نحو ممنهج للنظام. بل على العكس، فقد أصبحت بشكل جزئي، وتحت سيطرة ذلك النظام، أداه لدمج البروليتاريا داخل عمليات محددةيولدها ويوجهها الربح. ينهك العامل نفسه في إنتاج السيارة، وفي كسب ما يكفي لشراء واحدة؛ ويعطيه إنجازه هذا انطباعًا بأنه قد لبى «احتياجًا» ما. يعطيه ذلك النظام الذي يستغله هدفًا ما وإمكانية لتحقيق ذلك الهدف في آن واحد.لذا فلا ينبغي البحث عن الوعي بالطبيعة غير المحتملة للنظام في استحالة تلبية الاحتياجات الأساسية، إنما في الوعي بالاغتراب قبل أي شيء، وبعبارة أخرى، في حقيقة أن هذه الحياة لا تستحق أن تعاش ولا معنى لها،وأن هذه الآلية آلية خادعة، وأن هذه الاحتياجات مصطنعة ومخلّقة، وأنها زائفة ومُنهكة ولا تخدم سوى الربح.إلا أن الأصعب من ذلكهو توحيد صفوف الطبقة على هذا الأساس. لذلك لا أتفق مع أي من الرؤى المتفائلة التي قدمتها الأحزاب الشيوعية أو الحركات اليسارية، والتي يبدو أنها تعتقد أن الرأسمالية قد أصبحت من الآن فصاعدًا في وضع حرج. فلا تزال وسائل سيطرة الرأسمالية على الطبقات قوية؛ وهي أبعد ما يكون عن وضع الدفاع. أما فيما يتعلق بتكوين زمرة ثورية، فهذا يتطلب جهدًا طويل المدى وصبرًا في عملية بناء الوعي.

مانيفيستو: ولكن هذا التوحيد بدافوريًّا وواضحًا في مايو 1968.

سارتر: بالتأكيد هذا أمر واضح تمامًا. إنها واحدة من الحالات النادرة التي رأى فيها الجميع في نضالات المصنع المحلي نموذجًا لنضالاته الخاصة.ثمةظاهرة على النسقنفسه، ولكن ذات بُعد أكبر بكثير، قد وقعت عام 1936. ولكن في هذا الوقت، لعبت مؤسسات الطبقة العاملة دورًا محددًا وحاسمًا. فقد بدأت الحركة عندما كان الاشتراكيون والشيوعيون في السلطة بالفعل، طارحين، إلى حد ما، نموذجًا سمح للطبقة بالوصول السريع للوعي، وانصهار الجماعات، والتوحيد.

أما في مايو، فلم تكن الأحزاب والنقابات خارج السلطة فقط، بل كانت أبعد ما يكون عن القيام بدور مماثل. فذلك العنصر الذي وحد النضال هو، في رأيي، شيء جاء من بعيد؛ كان هذا العنصر هو فكرة جاءت من فيتنام، والتي صاغها الطلاب في تلك العبارة «كل السلطة للخيال».

وبعبارة أخرى، تتسع مساحة الممكن والمحتمل أكثر بكثير مماعودتنا الطبقات المهيمنةعلى الاعتقاد به.فمن كان يظن أن 14 مليون فلاحًاسيستطيعون مقاومة أعظم قوة صناعية وعسكرية في العالم؟ ومع ذلك، هذا ما حدث. علمتنا فيتنام أن مساحة الممكن هائلة، وأنه ينبغي على المرء عدم الاستسلام. كان هذا الأمررافعةتمرد الطلاب، وقد أدرك العمال ذلك. وفي التظاهرة الموحدة في 13 من مايو، أصبحت هذه الفكرة مسيطرة على نحو مفاجئ.

فاذا كان باستطاعة بضعة آلاف من الشباب الصغير احتلال الجامعات وتحدي الحكومة، فلم لا نستطيع فعل الأمر نفسه؟» وهكذا منذ13 من مايو فصاعدًا، وباحتذائهم نموذجًا كانوا قد أُلهِموا به في تلك اللحظة من الخارج، شرع العمال في الإضراب وقاموا باحتلال المصانع.

لم يكن العنصر الذي قام بتعبئتهم وتوحيدهم برنامج مطلبي: فقد جاء هذا فيما بعد لتبرير الإضراب وبالطبع لم يكن ينقصهم دوافع من أجل القيام به.ولكن من المثير للاهتمام ملاحظة أن المطالب جاءت في وقت لاحق، بعدما قام العمال بالفعل باحتلال المصانع.

مانيفيستو:ومن ثم يبدو أنه، في أصل أحداث مايو، لم يكن هناك عنصر مادي مباشر، ولا تناقض هيكلي محدد مفجر للوضع؟

سارتر: في الخريف السابق، أثار شيء ما استياء عام بين العمال، وأعني هنا التدابير الرجعية التي اتخذتها الحكومة في مجال الضمان الاجتماعي. فقد ضربت تلك التدابيركافة السكان العاملين بمختلف مهنهم. ولم تتمكن النقابات-سواء بسبب المفاجأة او لعدم رغبتها فيكشف أمرها أكثر مما ينبغي-من تقديم معارضة مناسبة لهذه التدابير. وإذا لم تخني الذاكرة،فقد كان هناك إضراب عام لمدة يوم، لكن كان هذا كل ما في الأمر. ومع ذلك، فقد استمر استياء عميق وغير معلن؛ لم يلبث أن تفجر مرة أخرى وبقوة في تظاهرات مايو. واليوم، هناك عنصر جديد يحمل إمكانية التوحيد، وهو ذلك الشعور بعدم جدوى زيادات الأجور التي تم الحصول عليها آنذاك، بسبب زيادة الأسعار –ومن ثم انخفاض قيمة العملة.إلا أنهمن الصعبالتكهن سلفًابما إذا كانت عوامل عدم الرضا الموحِّدة تلك ستفضي إلى تمرد موحَّد.في مايو،من ناحية أخرى، وقعهذا التمرد وفي رأيي لم يكن المُفجر هو وعي العمال باستغلالهم، ولكن إدراكهم قوتهم وإمكانياتهم وفرصهم المحتملة.

مانيفيستو:ولكن مع ذلك، باء تمرد مايو بالفشل وتبعه انتصار للرجعية. فهل تعتقد أن السبب في ذلك هو افتقاره للعناصر القادرة على دفع الثورة نحو تحقيق الهدف، أم لافتقاره للقيادة السياسية؟

سارتر:لقد افتقر إلى التوجه السياسي، ذلك النوع القادر على منح الحركة البعد السياسي والنظري الذي دونه لا يسعها إلا أن تخمد كما حدث بالفعل. فكان التمرد يفتقر إلى حزب قادر على تولي الحركة وإمكاناتها على نحو كامل. وفي الواقع، كيف كان بإمكان هيكل مؤسسي، كما هو الحال بالنسبة للأحزاب الشيوعية، وضع نفسه في خدمة شيء بوغت به؟ كيف كان لذلك الكيان أن يصبح مستعدًا بالكامل بردة فعلغير تلك التي تقول «دعونا نرى ما الذي يمكننا الحصول عليه من هذاالأمر”، أو «دعونا نستقطب الحركة نحونا كي لا تفلت منا»، وإنما بقول «هذا هو الواقع وينبغي علينا مساعدته بمحاولة منحه عمومية نظرية وعملية حتى ينمو ويزداد تطورًا؟” وعلاوة على ذلك، فإن الحزب الشيوعي الذي لا يمكنه تبني مثل هذا الموقف يصبح كما أصبح الحزب الشيوعي الفرنسي في ممارساته لمدة 25 عاما؛مكبحًا لأي حركة ثورية في فرنسا، يقمع أو ينبذ كل ما لا ينبثق منه وحده.

مانيفيستو: في الواقع وبينما تنتقد الأحزاب الشيوعية على وضعها هذا، فإنك تؤكد على الحاجة إلى لحظة توحيد وتنظيم للحركة؟

سارتر: بالتأكيد، وهنا تكمن المشكلة. فإننا في مواجهة رجعية، يصاحبها حكم رأسمالي قوي ومركب لديه قدرة هائلة على القمع والدمج. وهذا يتطلب تنظيمًا طبقيًّا مضادًا.تكمن المشكلة في معرفة كيف نحول دون انتكاس هذا التنظيم المضاد بتحوله إلى «مؤسسة».

مانيفيستو: متفقون. لكن من المثير للاهتمام ملاحظة أن الحاجة إلى تنظيم سياسي للطبقة يبدو متناقضًا مع توقع لماركس يفترض أنه مع نمو الرأسمالية، سوف تعبر البروليتاريا عن نفسها على الفور من خلال حركة ثورية دون تدخل وسيط سياسي للمساعدة. في أصل هذه الأطروحة، كان هناك قناعة بأن أزمة الرأسمالية ستحدث في وقت مبكر إلى حد ما، وبأنهثمة توترات وضغوط متنامية بداخل الرأسمالية لم يستطع النظام استيعابها-كتعارض تطوير قوى الإنتاج مع آليات التطور الرأسمالي على سبيل المثال. وفيما بعد، رأى لينين فيتأميم قوى الإنتاج عنصرًا قادرًا، إلى حد ما، على تمهيد الطريق نحو التنظيم الاشتراكي للاقتصاد، بمجرد تحطيم الجهاز السياسي للدولة البرجوازية.نحن مجبرون اليوم على الاعتراف بقصور هذه الأطروحات. ففي المقام الأول، لا تدخل قوى الإنتاج في تناقض مباشر مع النظام، لأنها لا تمثل شيئًا محايدًا وموضوعيًّا، بل هي نتاج النظام وتخضع لأولوياته وتتأثر به.

سارتر: نعم، ليس من الضروري والمُقدرلتلك القوى الدخول في صراع؛ إذ يتم إنتاجها عن طريق ذلك النوع من التطور كما يتضح في اختيار تطوير الفضاء في المجال العلمي على سبيل المثال. أما فيما يتعلق بتأميم قوى الإنتاج، وعلى الرغم من أنه لا يصح هنا الحديث عن «طبقة»، إلا أنه يجب أن يدرك المرء أن تطور هذه القوى قد أدى إلى وجود بيروقراطية وتكنوقراطية معينة اكتسبت سلطة تحكم خطيرة على الجماهير ووسائل دمجهم في مجتمع استبدادي.

مانيفيستو: في الواقع، لا يتسم الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية بنفس السمات التي يتمتع بها الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية. فقد تطورت علاقات الإنتاج الرأسمالية داخل المجتمع الإقطاعي على نحو تدريجي، وبدرجةكبيرة لدرجة أنه عندما انهار ذلك الأخير، لم يصبح أكثر من قشرة لواقع هيكلي مختلفنضج بداخله بالفعل.وهذا ما لا يمكن أن يحدث مع البروليتاريا، فلا يمكنها التعبير عن نفسها داخل النظام الرأسمالي من خلال أشكال جنينية من التنظيم الاشتراكي.

سارتر: تختلف السيرورات هنا حقًا، سواء من زاوية الهياكل أو علاقات الإنتاج أو الأفكار. فمنذ عصر النهضة فصاعدًا، لم تعد الثقافة اقطاعية ولكن برجوازية؛ فكانت الجماعات الاجتماعية الجديدة، كجماعة نبلاء الثوب، برجوازية.سبقت عملية التحول هذه ورافقت تأسيس علاقات الإنتاج الرأسمالية. استمرت مرحلة تكوين البرجوازية لقرون وعبرت عن نفسها في بديل كان موجودًا في المجتمع القائم.هذا لا يمكن أن يحدث في حالة البروليتاليا-ولا حتى على مستوىالثقافة.إذ لا تمتلك البروليتاريا ثقافة مستقلة بذاتها؛ فهي إما تستخدم عناصر الثقافة البرجوازية أو تعبر عن رفض تام لأي ثقافة، وهي طريقة لتأكيد افتقارها لوجود ثقافة خاصة بها. قد يتم الاعتراض على هذا بأن البروليتاريا تمتلك، مع ذلك، “مقياسًا للقيم” مناسبًا لها. وبالطبع، طالما هي راغبة في ثورة، فهي ترغب في شيء ما مختلف عما هو موجود الآن. إلا انني متشكك بشأن مصطلحات كـ”مقياس القيم»التي يمكن أن تتحول بسهولة إلى نقيضها.كان تمرد الطلاب تعبيرًا نموذجيًّا عن مشكلة الثقافة المضادة؛ فقد كان رفضًا انتهى به المطاف إلى الاستعارة،بالنظر إلى لافتقاره إلى صياغته ووضوحه الخاص، على الرغم من أن تلك الاستعارة منحتهم معان مناقضة، وسلسلة من الفخاخ الأيديولوجية من معارضيهم (كالتبسيط المفاهيميوالتخطيطية والعنف الخ).

مانيفيستو:الثورة المضادة للرأسمالية إذًا هي ثورة ناضجة وغير ناضجة في الوقت ذاته؛فالعداء الطبقي ينتج التناقض ولكنه ليس قادرًا في حد ذاته على إنتاج البديل. ومع ذلك إن كنا لا نرغب في اختزال الثورة فيالإرادة الخالصة أو الذاتية الخالصة، أو العكس، وإن لم نكن ننتوي العودة إلى النشوئية أو التطورية، فعلى أي أساس تحديدًا يمكننا إعداد بديل ثوري؟

سارتر:مرة أخرى أكرر، على أساس «الاغتراب» أكثر مما على أساس “الاحتياجات”. اختصارًا؛ على أساس إعادة بناء الفرد والحرية، والتي توجد حاجة ملحة لهللدرجة التي لا تستطيع معها أكثر أساليبالدمج تطورًا الانتقاص منها أو التغلب عليها.ولهذا السبب تسعى تلك الأساليب لتلبية هذه الحاجة على نحو وهمي. تستند جميع أنماط «الهندسة البشرية» أو «علم النفس الصناعي» على فكرة أن على صاحب العمل التعامل مع مرؤوسيه باعتبارهم أنداد،لأنه ليس هناك من يستطيع التخلي عن هذا الحق في المساواة- وهذا مفهوم ضمنًا. والعامل الذي يقع في فخ «العلاقات الإنسانية» الأبوية يصبح ضحيتها، حتى يصل إلى الدرجة التي تجعله يسعى للحصول على مساواة فعلية.

مانيفيستو: هذا صحيح، ولكن كيف يمكن للمرء أن يبرهن على أن هذه الحاجة هي نتاج الرأسمالية المتقدمة وأنها ليست مجرد آثار وبقايا للـ»الإنسانية» التي سبقت الرأسمالية؟ ربما كانمن الضروري البحث عن الإجابة تحديدًا فيالتناقضات الكامنة في تطور رأس المال،كما هو الحال على سبيل المثال في تشظية العملفي مقابل مستوى من التعليم يفوق ما يتطلبه الدور المنوط بالعامل القيام به؛ أوفي تطوير التعليم الكمي والنوعي الذي يوازيه فرص عمل غير ملائمة؛ أوفي زيادة الاحتياجات والعقبات التي تحول دون تلبيتها؛ وهو ما يمثل باختصار إحباط مستمر لقوى الإنتاجالمتمثلة في الإنسان.

سارتر:الحقيقة أن تطوير رأس المال يزيد من البلترة -ليس بمعني الإفقار المدقع المطلق، بل بالتدهور الثابت في العلاقة بين الاحتياجات الجديدة والدور الذي يقوم به العمال، وهو تدهور ناجم عن التطور وليس الركود.

مانيفيستو:إذًا، فالتنظيم السياسي الثوري للطبقة يتطلب إعداد بديل. ويبدو لنا أن هذه المشكلة لم تحظ بالاهتمام الكافي خلال أحداث مايو. فقد اعتمد أولئك الذين اتخذوا مواقف ماركيوزية أوعفويةعلى طريقة كوهن بندت- حصرًا على الرفض والنفي؛ وبذلك، لم يكونوا قادرين حتى على ضمان استمرار النضال، إذ تسعى الغالبية العظمى من المواطنين في المجتمعات المركبة والمتقدمة لمعرفة ما هو المطروح. وعلى الرغم من أنها مضطهدة ومغتربة فالطبقة العاملة قادرة على الحصول على الحد الأدنى من وسائل العيش،ولابد أنها ستتساءل حولالبديل المطروح لما سيتمتدميره.ومن ناحية أخرى، لم ير أولئك الذين اتخذوا مواقف مناهضة لمواقف كوهن بيندت-كآلان تورين وسيرجي ماليه على سبيل المثال- أن هناك ضرورة لطرح بديل لأن تطور قوى الإنتاج، وفقًا لهم، والنضج الذاتي للجماهير من شأنه أن يجعل الحكم الذاتي للمجتمع ممكنًا على الفور. ويبدوا لنا هذا أيضًا أمرًا مغلوطًا؛لأنه بينما هو صحيح أن تطور الرأسمالية ينضج إمكان الثورة بخلقه لاحتياجات جديدة وقوى جديدة، فمن الصحيح أيضًا أن تلك الأشياء تعكس النظام الذي ينتجها. ولهذا فإن الانهيار المفاجئ للنظام يؤدي بالضرورة إلى تدهور الإنتاج،وهذا يعني أنه من الوهم الاعتقاد بأن الاشتراكية هي النظام الإنتاجي الموروث من الرأسمالية  مضافًا إليه الحكم الذاتي.ما ينطوي عليه الأمر هو نظام من نوع مختلف تمامًا، في سياق محليودولييعمل وفقًا له. وهذا يشير إلى الحاجة إلى نموذج انتقالي من أجل إعداد بديل، من أجل مشروع ثوري يعمل على تشكيل وبلورة فكرة المجتمع الجديد. وهذا بالتالي يعيدنا إلى الحديث عن مسألة التوحيد، عن الإعداد السياسي، وعن الحزب.

سارتر:لا شك أن هناك ضرورة لوجود نظرية ما للانتقال إلى الاشتراكية. فماذا لو احتدم الموقف في فرنسا أو ايطاليا وأدى إلى الحصول على السلطة. فما هي الأفكار التي لدينا حول قدرة دولة ذات مستوى مرتفع من التصنيع على إعادة بناء نفسها على أساس اشتراكي، بينما تتعرض إلى مقاطعة خارجية وانخفاض في قيمة عملتها وحصار يفرض على صادراتها؟ وجد اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية نفسه في هذا الموقف عقب الثورة. وعلى الرغم من التضحيات الفادحة والخسائر الهائلة التي لحقت به بسبب الحرب الأهلية،وعلى الرغم من الحصار السياسي والاقتصادي الخانق، كانت المشكلات التي يتعين عليه حلها أقل تعقيدًا من تلك التي قد يواجهها أي مجتمع متقدم اليوم. ومن هذا المنطلق، لا أحد منا، ولا أي حزب شيوعي مهيأ لذلك. أنت تتحدث عن ضرورة وجود منظور سياسي للتحول والانتقال. ليكن الأمر كذلك. لكن أين هو ذلك الحزب الشيوعي الذي قام بتطوير نظرية انتقال ثوري في بلد لديها رأسمالية متقدمة وغير مكتفية ذاتيًا؟

مانيفيستو: لم تطرح الأحزاب الشيوعية منذ العشرينات مسألة الانتقال إلى الاشتراكية على الأجندة فيما يتعلق بالدول الرأسمالية المتقدمة.

سارتر: بالضبط. لاسيما منذ الحرب واتفاقيات يالطا. لذا، لم يكن هناك تفكير جاد بشأن البدائل.وهذه ليست مسألة ثانوية إذا أردنا أن نفهم ما أصبحت عليه الأحزاب الشيوعية. إن تقييمالحزب الشيوعي الفرنسي الوارد في كتاب «الشيوعيين الفرنسيين» لآني كريجل، في مجمله تقييم وحكم قاس؛ إلا أن ما يتبقى لدينا بشكل ضمني على الرغم من كل المغالطات والإخفاقات في سردية كريجل، هو أن الحزب، بقدر ما هي معنية، يشكل بديلاًمفترض بصرف النظر عن سياساته الفعلية. بالفعل، يشكل الحزب البديل البروليتاري للمجتمع الرأسمالي في فرنسا.هذا الاستنتاج غير منطقي. ففي اللحظة التي نتوصل فيها إلى اتفاق يؤكد على ضرورة وجود تنظيم سياسي للطبقة، ينبغي علينا أيضًا إدراك أن المؤسسات «التاريخية» للحزب الشيوعي مؤسسات غير مؤهلة على الإطلاق لتأدية المهام التي نسعى إلي تكليفها بها. كنا نقول للتوإنه دون لحظة توحيد للنضال، وبدون وسيط ثقافي واستجابة إيجابية، يستحيل أن يتجاوز الأمر التمرد؛ والتمردات دومًا مهزومة سياسيًّا. نحن نتفق على ذلك. لكن هذا لا يغير بأي حال حقيقة أن الحزب المؤسسي غير قادر على العمل كوسيط بين الثقافة والنضال؛وذلك لأن أفكار الجماهير التي لا تزال مضطربة، مشوشة وغير منظمة (على الرغم من كونهاأفكارًا تعكس التجربة) يتم تشويهها تمامًا بمجردترجمتها ونقلها بواسطة الآليات الأيديولوجية للحزب، وتقدم علاقة مختلفة تمامًا مع ما نسميه الثقافة.ولكي يعمل المخطط الذي تقترحه، سيكون من الضروري أن يصبح الحزب قادرًا باستمرار على مقاومة مأسسته. ودون ذلك، سيتم دحض المخطط بأكمله. إذا كان الجهاز الثقافي للأحزاب الشيوعية عديم الجدوى عمليًّا، فذلك لأن نمط وجود الأحزاب الشيوعية يعطل جهودها الجماعية في التفكير وليس بسبب افتقارها إلى المثقفين الجيدين. فلا يمكن فصل الفكر والعمل بعيدًا عن التنظيم. فالمرء يفكر بحسبما تم هيكلته ويعمل وفقًا لتنظيمه. وهذا هو السبب في أن فكر الأحزاب الشيوعية أصبح بشكل تدريجي فكرًا متحجرًا.

مانيفيستو: على الجانب التاريخي، اتخذت الأحزاب الشيوعية وطورت طابعها الخاص في سياق الأممية الثالثةوفي الأحداث السياسية والأيديولوجية التي وقعت داخل الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي. فكونت هذه الأحزاب واقعًا أثر على بنية الطبقة وهيكلها، وأنتجت أشكالاًمحددة من الحراكوالأيديولوجيات والتغييرات في القوى القائمة. ومع ذلك، نحن نشهد اليوم، حركة طبقية، ولأول مرة في أوروبا، تميل إلى وضع نفسها في علاقة جدلية مع الأحزاب الشيوعية، وإلى التماهي معها على نحو جزئي فقط. تشكل هذه الحركة عبئًا على الأحزاب التي يتوجب عليها إما رفضها ونبذها أو التأثر بها وتعديل نفسها. (فلا تبدو الفرضية التي تقول إنه من الممكن استيعاب الحركة من قبل الأحزاب واقعية، كما تبين لنا من قبل الطلاب). وفي كلتا الحالتين، تكمن المشكلة المطروحة في أسلوب جديد لوجود الحزب، سواء خلال الأزمة وتجديد الأحزاب القائمة أو من خلال بناء جديد للخطاب السياسي الموحد للطبقة. فهل طريقة الوجود الجديدة هذه ممكنة؟ هل الحزب مقدر له أن يصبح ممأسسًا على نحو تدريجي وأن يعزل نفسه عن الحركة التي منحته الحياة، كما ذكرت في البداية، أو هل يمكننا تصور وجود منظمة قادرة على النضال على نحو مستمر في مواجهة القيود والتصلب والمأسسة التي تهددها من الداخل؟

سارتر:على الرغم من أنني أعترف بالحاجة إلى التنظيم، إلا أنه يجب أن أعترف أنني لاأرىكيف يمكن حل العقبات التي تواجه أي بنية مستقرة.

مانيفيستو: إيجازًا لما قلته للتو، سيحتاج الحزب السياسي إلى ضمان نمو واستقلال النضالات الجماهيريةبدلاًعن كبحها وتقيدها؛ وأن يضمن أيضًا تطوير ثقافة مضادة؛ وأخيرًاعليه أن يعرف كيف يطورموقف عالمي شامل من نمطالفهم والعلاقات الاجتماعية التي يرتكز عليها المجتمع.وكما يبدو، فهذه هي المهام المحددة للحزب، بقدر ما يتجاوز طابعها العالمي المشكلات التي يمكن أن تحلها لحظة النضال المحددة والجماعة المنصهرة.

سارتر: نعم، لكن لا يمكن حل هذه المشكلات دون الحزب أيضًا.

مانيفيستو:متفقون. ولكي نجد مخرجًا من هذا، ربما طرحنا بعض الفرضيات. فقبل أي شيء، ينبغي على الحزب الثوري، حتى يتسنى له الإفلات من المأسسة، أن يعتبر نفسه وبشكل دائم في خدمة نضال له أبعاده الخاصة ومستوياته السياسية المستقلة. وهذا ينطوي على تجاوز النموذجاللينيني أو البلشفي للحزب-من أصوله وحتى الجبهاتالشعبية- الذي يفترض بموجبه وجود محض فصلدائمبين لحظة النضال الجماهيري المعنية بمطالب محددة وبين اللحظة السياسية الخاصة للحزب. تاريخيًّا، لم يتجسد هذا التجاوز إلا في «السوفيتات».هذا أقرب لنموذج ثورة اجتماعية وليس ثورة سياسية بحتة؛ ثورة تنتزع فيها السوفيتات، وليس الحزب،السلطة. وعلاوة على ذلك، يجب أن تتجاوز الحركة الثورية قصور اللينينية، فلطالما كانت نظرية الثورة وحتى وقتنا هذا «نظرية استيلاء على السلطة» أكثر من كونها «نظرية مجتمع». وكانت النتيجة هي فشل الأحزاب الشيوعية في تحليل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة وعجزها عنالتبشير بالأهداف التي يجب أن تحققها الثورة؛ وبعبارة أخرى، أصبحت النتيجة عجزًا في فهم الاحتياجات الجديدة التي عبرت عنها الحركة والتعبير عن كيفية تلبيتها. (وهذا ما حدث مع الطلاب؛فلم يكن هناك فهمًا أو حلولاً للمشكلات التي قاموا بطرحها بشأن دورالتعليم وعلاقته بالمجتمع وما يتعلق بشكل ومضمون نوع غير سلطوي من التعليم). ثالثًا، هناك حاجة إلىتقصي وتفكير دائم حتى تصبح النظرية قادرة على أن تشمل شتّى جوانب وملامح الحركة. فالتنظيم السياسي للطبقة الذي يدّعي الماركسية لا يفكر فقط بشكل استنتاجي؛ فهو يفسر التجربة من خلال منهجيةأو إطار أو فيما يتعلق بفئات أو مقولاتكـ”رأس المال” أو «الطبقة» أو «الإمبريالية».. إلخ. وهكذا، وطالما بقيت العلاقة بين الحزب والطبقة مفتوحة-وهذا وحده قادرعلى منع إعطاء خصوصية لتجربة مجزأة ومأسسة اللحظة السياسية الموحدة- علينا أن نجد حلاً لهذه المشكلات الثلاث.

سارتر: أتفق معك ولكن بشرط أن يعبر هذا الجدل عن نفسه كسلطةمزدوجة، وأنا لا يتم ادعاء القدرة على حله من خلال مخطط سياسي بحت. وحتى في ذلك الحين، يبقي لدينا العديد من المشكلات. انت تتحدث عن “إطار” منهجيأو نظري، موجودآنفًا ويمكن تفسير التجربة من خلاله. ولكن ألن يظل مفهوم رأس المال مفهومًا ضعيفًا ومجردًا ما لم نشرح باستمرار من جديد تحليل الرأسمالية الحديثة عن طريق البحث، والنقد الدائم لنتائج البحث والنضال؟ الفكر الحقيقي واحد بالتأكيد، لكن وحدته أمر جدلي-ولا يكون حيًّا إلا عبر التشكيل الدائم. والمطلوب هو بناء علاقة بين البشر لا تضمن الحرية فقط، بل حرية ثورية للفكر- علاقة تمكن البشر منالتثبت من المعرفة ثم نقدها.هذه هي الطريقة التي تقدمت بها المعرفة على أي حال، ولكنها لم تكن قط الطريقة التي تقدمت بها “الماركسية” في الأحزاب الشيوعية. فينبغي على الحزب-التنظيم السياسي للطبقة- أن يتيح لأعضائه إمكان الابتكار والإبداع والاشتباك في جدل متبادل بدلاً عن تقديم نفسه كمدير للمعرفة المكتسبة وذلك حتى تنمو الثقافة الإبداعية لأعضائه، ولكي يمكنهم من الحصول على أقصى قدر من المعرفة الحقيقية. إذا نظرنا إلى خارج الحزب سنجد أن الجدل حول الماركسية لم يكن قط أكثر ثراءً مما هو عليه الآن لأن هناك-لاسيما منذ تفكك الوحدويةوطرح مشكلة تنوع الاشتراكية- عدة تساؤلات ماركسية وخلافات داخلية.

مانيفيستو: ولكن هذه خلافات حول تأويلات أو تفسيرات نصوص مقدسة، ومشاجرات حول الشرح والتفسير أكثر من كونها تجديد للإبداع والتفسير الخلاق للواقع.

سارتر: هذا ليس صحيحًا تمامًا. بالطبع، النقاش حول النصوص هو السائد. ولكن فلتنظر لنموذج ألتوسيير؛هو ببساطة لا يشارك في التفسير. ويجد المرء فيه نظرية للمفهوموللمعرفة النظرية المستقلةلدراسة التناقضات من زاوية التناقض السائد أو «الحتمية المفرطة». وهذه تساؤلات أصلية وأساسية لا يمكن نقدها دون إعداد وتطوير نظري جديد. لقد اضطررت بشكل شخصي، من أجل نقدألتوسير، إلى الرجوع مرة أخرى إلى فكرة «المفهوم» ورسم سلسلة من الاستنتاجات في أثناء هذه العملية. ويمكن قول الشيء نفسه على مفهوم «البنية» الذي قدمه ليفي شتراوسوالذي حاول بعض الماركسيين استخدامه، سواء على نحو مثمر أم لا. وبعبارة أخرى، يتطلب النقاش الحقيقي دائمًا جهدًا ويؤدي إلى نتائج نظرية جديدة. فإذا ما أردنا استقصاءً حقيقيًّا وأصيلاً، فهذا يتطلب منا وضع بنية أو قوام يضمن إتاحة النقاش؛ ودون ذلك، فحتى النموذج النظري الذي قد يرغب التنظيم السياسي في وضعه قبل تجربة الطبقة، غير قابل للتنفيذ. وهذا تناقض أبدي داخل الحزب، في الواقع هو قيد يكبل كل الأحزاب الشيوعية. تمامًا بتعقيد فرضية العلاقة نفسه «المفتوحة» بين التنظيم السياسي الموحد للطبقة، الحزب على سبيل المثال، والحكم الذاتي للجماهير في المجالس أو السوفيتات. ولا ينبغي أن ننسى أنه عندماتم تجربة هذا، في روسيا ما بعد الثورة، سرعان ما اختفت التنظيمات الموحدة للجماهير ولم يتبق سوى الحزب.وهكذا نتجت عملية جدلية ضرورية في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، في الحزب الذي حاز على السلطة التي كان يجب أن تستحوذ عليهاالسوفيتاتوتحافظ عليها. وربما يمكن أن يختلف الأمر اليوم، إلا أنه في سنوات تطويق الدول الرأسمالية لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، وفي ظل الحرب الأهلية ونقص الموارد الداخلي المروع، فليس من الصعب فهم العملية التي أجهزت تمامًا على تجربة السوفيتات. وهذا هو السبب الذي جعلني أكتب من آن لآخر أنه عندما يتعلق الأمر باتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، ينبغي علينا الحديث عن دكتاتورية من أجل البروليتارياوليسدكتاتورية البروليتاريا، بمعنى أن الحزب أخذ على عاتقه مهمة تدمير البرجوازية نيابة عن البروليتاريا. وعلاوة على ذلك، وحتى يتسنى للسوفيتات البقاء والاستمرار، لم يكن هناك مفر من أن تجد البروليتاريا نفسها، كما يحدث أينما تقع ثورة، مطالبة بالتخلي عن الأهداف التي كانت، قبل الثورة، الأهم والأكثر تحديدًا لنضالها، ألا وهي زيادة الأجور وتقليل عدد ساعات العمل.لم يكن للأمر أن يصير على خلاف ذلك، إذ لم يكن من السهل على العمال أنفسهم التنازل عن هذه الأهداف، حتى وإن مروا بتجربة الحكم الذاتي في محل عملهم. وأخيرًا، وللحديث عما هو ذو أهمية ودلالة اليوم، يبدو لي أنه من الصعب إنشاء أي مجالس أو سوفييتاتفي وجود تعبير «تاريخي» قويعن الطبقة العاملة في هيئة نقابة أو حزب.فكان لدينا في فرنسا، تجربة لجان للفعل. لكن سرعان ما تم حلها، ليس لأنها كانت محظورة، ولكن لأن النقابات العمالية سرعان ما استأنفت السيطرة على الوضع.

مانيفيستو: لا يبدو هذا التناقض الأخير مستعصيًّا على الحل. إن كل صراع نقابي لا يقتصر فقط على المفاوضات حول الأجور ولكن يتضمن أيضًا إيقاع العمل وساعاته تنظيمه والسيطرة عليه، يظهر الحاجة إلى أشكال مباشرة لتنظيم العمال. فدون تجمع وحدويعلى مستوى القاعدة، يمتلك شخصية مستقلة ومستوى سياسي عال، لا يمكن إجراء مفاوضات بهذا الحجم. وهكذا وبهذه الطريقة يكون نضال النقابة العمالية الذي يفرض إعادة اكتشاف مشكلة المؤسسات المباشرة للطبقة. وهذه مسألة خبرة، وليست اختراعًا فكريًّا. وبالطبع تقف هذه الأشكال ضد التيار المحافظ والبيروقراطية. لكن يجب على المرء أن يأخذ بعين الاعتبار بعض القيود المحددة التي تشكل جزءًا من طبيعتها وتكوينها. ومن هذا المنطلق، تعد التجربة الإيطالية مثيرة للاهتمام،فما بين الحزب أو النقابة من ناحية وبين الحركة من ناحية أخرى،البديل ليس دائمًا، كماكنت تقترح، إما رفضًا أو اختزالاً في دور حزام النقّل. فنحن هنا مواجهونبتوتر اجتماعي، يفترض أشكالاً خاصة به،وفي الوقت نفسه، يثقل على المؤسسات التقليدية للطبقة دون أن يجد نقطة توازن سواء في الأولى أو الثانية. وفي الواقع، وبينما تبدو لنا حدود وقيود النقابة قائمة ومعروفة، فإن لدى مؤسسات الديموقراطية المباشرة قيودها هي الأخرى، على الرغم من أنها تعمل بشكل عام على نحو فائق الكفاءةفي أثناء فترات الاحتدام -كما حدث في شركة فيات إبان النضالات الأخيرة- إلا أنها تعرض نفسها لخطر أن تتحول فيما بعد، ودون وعي، لأدوات للفصل بين جماعة وأخرى وبين مشروع وآخر، ومن ثم أن تصبح مفيدة للإدارة. ألا تشكل النقابة، في هذه النقطة وعلى الرغم من كل القيود والحدود، دفاعًا في مواجهة هشاشة المؤسسات الجديدة؟ في الواقع، تبدو الحركة اليوم أكثر ثراءً وتعقيدًا من المعبر السياسي عنها.

سارتر: على أي حال، ما يبدو لي مشوقًا في مخططك هو ازدواجية السلطة التي تتنبأ بها. وهذا يعني وجود علاقة مفتوحة وغير قابلة للاختزال بين لحظة التوحيد، التي تقع على عاتق التنظيم السياسي للطبقة، وفترات الحكم الذاتي، والمجالس، والجماعات المنصهرة.أنا أصر على استخدام كلمة «غير قابلة للاختزال» حيث لا يمكن سوى أن يوجد توتر دائم بين اللحظتين. سيظل الحزب يحاول أن يختزل الحركة في مخططه الخاص للتأويل والتطور -للدرجة التي يرى نفسه فيها يعمل «لصالحها؛ بينما سوف تحاول فترات الحكم الذاتي دومًا أن تسقط تحيزها القائم على المعضلة المتناقضة للنسيج الاجتماعي. ومن خلال هذا الصراع، ربما يمكن التعبير عن بداية التحول التبادلي؛ ومع ذلك، لا يسع هذا التحول- حتى يظل تحولاًثوريًّا- إلا أن يسير في طريق الحل التدريجي للعنصر السياسي في مجتمع لا يميل فقط إلى الوحدة وإنما أيضا إلى الحكم الذاتي. بصيغة أخرى، ذلك المجتمع الذي يسعى إلى تحقيق ثورة اجتماعية تلغي، بالتعاون مع الدولة، جميع اللحظات الأخرى، السياسية منها على وجه التحديد. اختصارًا، هذا جدل موجه للغاية لدرجة إعادتنا إلى مخطط التطور لماركس. وحتى الآن، لم يحدث ذلك بعد؛ إلا أنه ربما بدأت الظروف المواتية لذلك في الوجود داخل المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. وهذه مجرد فرضية مطروحة للعمل عليها على أي حال.

(تم تسجيل هذا الحوار في 27أغسطس 1969 في روما)

الهوامش:

1 هتاف اقتحام سجن الباستيل خلال الثورة الفرنسية الأولي عام 1789[المترجم].

2 كل ما هو خارج السرد أو المساءلة التاريخية؛ ما يتجاوز التاريخ[المترجم].

3 الكونفدرالية العامة للشغل وتعرف اختصارا باسم س ج ت (CGT) هي منظمة نقابية فرنسية، ظهرت في مدينة ليموج في 23 سبتمبر 1895. تعتبر الأهم من بين المنظمات النقابية الفرنسية الخمس الموجودة على الساحة.تأسست لها فروع في المستعمرات الفرنسية ومن بينها تونس والجزائر والمغرب[ويكيبيديا].

4  أطلق هذا اللقب في ظل النظام القديم في فرنسا على الارستقراط الفرنسيين الذين تقلدوا مناصب قضائية أو إدارية. وكقاعدة، لم يمنح هذا المنصب حامله ألقاب النبلاء كلقب البارون أو الكونت أو الدوق (إلا أن حامل اللقب يستطيع الحصول على مثل تلك الألقاب) وعادة ما ارتبطت بتأدية مهام معينة. [المترجم].

5 نسبة إلى الفيلسوف والمفكر الألماني الأمريكي هربرت ماركوزه والمعروف بتنظيره لليسار الراديكالي وحركات اليسار الجدد ونقده الحاد للأنظمة القائمة.

6 هو سياسي فرنسي ألماني. كان زعيمًا طلابية خلال الاضطرابات التي وقعت في مايو 1968 في فرنسا.

7 هي الاتفاقية الموقعة بين الاتحاد السوفيتي بزعامة ستالين وبين بريطانيا بزعامة تشرتشل والولايات المتحدة بزعامة روزفلت. وقعت هذه الاتفاقية في مدينة يالطا السوفياتية الواقعة على سواحل البحر الأسود من 4 إلى 11 فبراير عام 1945، ولقد ناقش المؤتمر كيفية تقسيم ألمانيا وكيفية محاكمة أعضاء الحزب النازي وتقديمهم كمجرمي حرب، بالإضافة إلى كيفية تقسيم ألمانيا هل إلى أربع كما رغبت بريطانيا والولايات المتحدة أي بزيادة فرنسا أم إلى ثلاث كما رغب الاتحاد السوفيتي، وأيضًا تقسم مدينة برلين بالطريقة نفسه التي قسمت بها ألمانيا. [ويكيبيديا].

8 الكومنتيرن Comintern اختصار لعبارة تعني الشيوعية الأممية، وكثيرًا ما يطلق عليها اسم الأممية الثالثة. وقد أسسها الزعيم الشيوعي ف. إ. لينين عام 1919م، وذلك لتنظيم الثورات عن طريق الأحزاب الشيوعية في كل دولة. وبعثت الجماعات الشيوعية من مختلف الدول مندوبين عنها لحضور المؤتمرات التي عقدت في مدينة موسكو. وقام الاتحاد السوفييتي السابق بحل الكومنتيرن عام 1943م دليلًا على الصداقة والنوايا الطيبة تجاه حلفائه في الحرب العالمية الثانية (1939ـ 1945م).