رؤى
إيريس أرجمانشهادة من الجيل الثالث لليهود الشرقيين
2017.11.12
ترجمة : هدير عيد | تقديم : محمد حسني
شهادة من الجيل الثالث لليهود الشرقيين
تقديم
لعل إحدى المعلومات الأولية التي تصادف كل قارئ جديد عن إسرائيل، هي انقسام المجتمع إلى شرقيين وغربيين، أو سفارد وأشكناز، أولئك الذين يتقن أدهم صبري لهجاتهم. ومن يطَّلع أكثر سيجد أبحاثًا جادة تتناول بشكل منهجي وضع الشرقيين والتمييز السافر ضدهم، وسيجد عددًا من الدراسات التي تتناول أعمال أدباء شرقيين في إسرائيل.
لعل إحدى المعلومات الأولية التي تصادف كل قارئ جديد عن إسرائيل، هي انقسام المجتمع إلى شرقيين وغربيين، أو سفارد وأشكناز، أولئك الذين يتقن أدهم صبري لهجاتهم. ومن يطَّلع أكثر سيجد أبحاثًا جادة تتناول بشكل منهجي وضع الشرقيين والتمييز السافر ضدهم، وسيجد عددًا من الدراسات التي تتناول أعمال أدباء شرقيين في إسرائيل.
لكن التمييز ضد اليهود الشرقيين في إسرائيل ليس مبررًا لأن يستنتج البعض ببساطة أن إسرائيل مجتمع لا يمكن أن يلتئم، أو لأن يمد الخط على استقامته بأن يعتقد أن مآله الانهيار السريع، أو لأن يتصور أن النضال الثوري العربي له دور حاسم في الضغط لتحفيز ذلك الانهيار.
للأسف، يعاد إنتاج واستهلاك التصورات القديمة، ويتكرر تحميل الحقائق ما لا تحتمله، والأهم يُغفل البحث عما آلت إليه الأمور في الواقع، بعد عقود طويلة من الحروب والمعاهدات. فقد جرت مياه كثيرة في النهر. لكن ما لم يتغير هو التركيب البنيوي والوظيفة العالمية للمجتمع الإسرائيلي، المبني بمنطق، والمتماسك على أساس، العداء للمحيط العربي والحرب معه، مهما كانت انقساماته الداخلية.
في كتابه «الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية» (عالم المعرفة، العدد 102) أوضح الدكتور رشاد الشامي أن الشرقيين يُبدون عدوانية تجاه العرب أكثر من الغربيين. لن نسهب هنا في بحث الأسباب المادية والنفسية لذلك. لكن الحقيقة أنه من المنطقي استنتاج أن الشرقيين أكثر عدوانية تجاه العرب منهم تجاه الغربيين.
اليهود الشرقيون من جيل الأحفاد يعيشون تناقضًا. فهم، كغيرهم من اليهود الإسرائيليين، حصاد تاريخي لما فعلته الصهيونية في المنعطف الدموي الخطير في النصف الأول من القرن العشرين. ادّعت الصهيونية حل «المسألة اليهودية» من خلال خلع اليهود من مجتمعاتهم الحقيقية، التي عاشوا فيها مئات السنين، وزرعهم في وطن له شعب من خلال عملية استعمار استيطاني استعلائية ودموية. فكانت النتيجة هي قهر الفلسطينيين، وخلق الغربة في أوساط اليهود، والأهم من ذلك كله خلق مجتمع عسكري عنصري استعماري استيطاني يخدم الإمبريالية ويضر اليهود.
في هذا السياق، يبدو اليهود الشرقيون وكأنهم يحملون عبئًا مزدوجًا. فهم يلهثون وراء الاعتراف بهم كإسرائيليين مخلصين، ومن ثم فهم يتطرفون أكثر من غيرهم في مواقفهم المعادية للعرب. لكنهم كذلك منبوذون في إسرائيل، التي تطمس هويتهم الحقيقية، وتهمش ثقافتهم ولغتهم.
يقول نفتالى شيم طوف وماتي شموئيلوف محررا كتاب «أصداء الهوية: الجيل الثالث يكتب بالشرقية»، الذي يجمع شهادات عدد من أبناء الجيل الثالث من اليهود الشرقيين القادمين من دول عربية ومن إيران، والذي نترجم أحد فصوله هنا: «اكتشفنا أنه لا يوجد شرقيون شبان، فكلنا إسرائيليون، وقد رد الموظف الناعس (بمكتب الإحصاء) مبتسمًا: إذا كان آباؤكم قد وُلدوا في البلاد، فلا يعني الدولة إن كنتم أنتم الشباب تحتفلون بالميمونة، بينما يُشار إلى آبائنا وآبائهم.. بـ»ذوي الأصول الآسيوية والأفريقية»، لقد أعلنت الدولة أننا مختلفين. يسألوننا ألم تتجاوزوا ذلك.. ألستم إسرائيليين، فما الهوية الشرقية إذن؟»
سؤال جيد..
مرَّ جيل المهاجرين الأوائل بتجربة صعبة، بدأت بهجرته، أو دفعه للهجرة، أو تهجيره من موطنه على دفعات. فمن لم يجد طريقه إلى أوروبا أو أمريكا، وجد نفسه (وربما أراد ذلك) في إسرائيل، وهناك واجه واقعًا جديدًا، كالمخيمات الانتقالية «المعباراة» التي صارت مؤبدة، وانهيار وضعه الاقتصادي والاجتماعي، وتضاؤل فرصه في أي ترقٍ مرتقب، أو حتى تعويضه عما فقده من مكانة اجتماعية أو اقتصادية.
كان على هذا الجيل أن يدفع أبنائه نحو «بوتقة الصهر»، نحو الحلم الصهيوني بأن تكون إسرائيل وعاءً لمزج اليهود بهوياتهم المختلفة لتنتج سبيكة جديدة. وبغضِّ النظر عن مدى إيمان هؤلاء بالفكرة، فإن النتيجة كانت مزيدًا من التمييز والقهر. إذن فالمحصلة كانت: إسرائيل هي المشكلة وليست الحل؛ إسرائيل، واضطهاد اليهود، تحالفا معًا في تشويه الإنسان اليهودي، بحيث ينتمي إلى مجتمع مبرر اندماجه الوحيد هو العداء الاستعلائي لآخرين، مجتمع تمييزي حتى ضد اليهود الأقل شأنًا، الذين لا يمكنهم الإفلات من التركيب التعبوي العسكري للمجتمع، ذلك التركيب الذي يدفعهم دفعًا إلى تجاوز قهرهم فقط من خلال قهر الآخرين.
الآن البعض من أبناء الجيل الجديد يعيد البحث عن الجذور، ويحاول قراءة الواقع التاريخي من جديد، ويسعى إلى معرفة الجاني والمجني عليه، وهذا شيء حسن. لكنه لا يغير من السوء الأصلي شيئًا. فالاحتفاء بالهوية المسلوبة لا يغير من صهيونية الجيل الجديد، وهذا متوقع. فهؤلاء صهيونيون لأن دولة إسرائيل دفعتهم دفعًا لربط وجودهم بمشروعها. لكنهم صهيونيون لديهم حنين إلى ماض بعيد، حنين تغذيه آلام التمييز التي لا حل لها إلا بتجاوز الصهيونية ذاتها.
هنا بالضبط ربما يكون مفيدًا قراءة النص التالي بإمعان، فهو يكشف لنا – ببساطة – كيف أن إسرائيل هي مشروع اصطناعي، يزرع هوية ما قسرًا في وعي بشر، فيشوه حاضرهم ومستقبل أحفادهم، ويقتل حاضر ومستقبل شعبًا آخر يسعى إلى العدل والحرية...
مرةً كل أسبوع كنتُ أنساق قسرًا وراء والدي في زيارة أسبوعية لجدتي. كرهت تلك الزيارات، وكنت أنظر إلى جدتي مندهشة من مظهرها الكبير، بصدرها الضخم وضفيرتيها الطويلتين الرماديتين المنسلتين من المنديل الذي تغطي به رأسها، حين قبَّلتني أجفلت من رائحتها التي لم تكن مألوفة، ولا ملائمة للمكان. بحثتْ في مريولها، وأخرجت حلوى قدمتها لي، فأخذتها بأدب على الرغم من أنني لم أُرِدها، حثَّني أبي، لأنه ليس من اللطيف أن أجرح شعور جدتي.
تحدث أبي وجدتي بالمغربية، لم أسمع أبي يتحدث بها إلا في بيت جدتي. تدفقت اللغة في تناغم من بين فميهما على سجيتها، وفي مودة موجودة بينهما فحسب.
سأل والدي جدتي عن أحوالها وما فعلته في الأسبوع المنصرم، وتفقَّد أدويتها والثلاجة. تصرف كأنها ابنته وليس العكس. كنت أرمقهما ولا أفقه شيئًا، لم أحاول أن أفهم، وانتظرت نهاية الزيارة. كانت جدتي تخاطبني في بعض الأحيان باللهجة المغربية، وكنت أجيبها بالعبرية بكلمات متقطعة غير مترابطة.
«أبي، هيا نذهب، أنا ضَجِرة هنا».
«صبرًا يا بنت، سنذهب بعد قليل. لم نَرَ جدتك طول الأسبوع، وهي سعيدة بوجودنا».
ابتسمت لي جدتي وطلبت مني أن اقترب، فقد أدركت ما أضمره، وعرفت أني لا أريد البقاء في بيتها. شعرتُ بشيء من الحرج والخجل، لكني ما أزال لا أشعر بالارتياح هنا. شردت بأفكاري بعيدًا خارج جدران البيت، وانتظرت نهاية الزيارة فحسب، لحظة خروجنا يكون أبي ملكي فقط طول الطريق إلى المنزل؛ نتحدث باللغة التي أعرفها: العبرية. يحكي لي الحكايات، ويعود الأب الذي أعرفه وأحبه وليس تلك الشخصية الغريبة التي تتحدث بلغة غامضة.
انهمك أبي وجدتي في حديثهما بلغتهما السرية الخاصة، وفي غضون ذلك انفصلت ببطء عنهم، حملقت في الحوائط البيضاء المعلقة عليها صور لأشخاص من عالم لم أعرفه. كانت هناك صورة لوالدي وصورة لأخيه، وصورة أخرى في منتصف الحائط تمامًا، لفتاة حزينة ذات عينين سوداوين واسعتين، يكللها شعر أسود ناعم، وكان وجهها حزينًا للغاية. روى لي أبي ذات مرة أن تلك الفتاة هي أخته التي توفيت في عمر صغير.
توفيت جدتي وأنا في منتصف الصف السادس، لم أكن أعلم أنها مريضة، حزن أبي جدًا، وملأت تلغرافات الحداد حجرة الدَرَج في بيتنا، وجاء كثيرون لمواساة أبي الذي انطوى على نفسه. تأملته وشعرت بألمه الكبير، أدركت أننا لن نذهب معًا بعد الآن إلى جدتي، لن أستمع إليه متحدثًا معها بلغتها السرية، لن أتفحص صورة الفتاة على الحائط، والحقيقة أنني لن أقابل جدتي مجددًا.
لم يتحدث والداي في المنزل بلغتهما الأم، المغربية. كانوا يتحدثون العبرية الفصيحة. وفي أثناء وجوده في الجيش كان أبي يكتب إلى أمي خطابات وبطاقات بريدية بالعبرية، تبدأ دائمًا هكذا «السلام عليك يا زوجتي...». أسس أبي مكتبة كبيرة، وكان يشتري كتبًا بلا توقف، وموسوعات، وكاسوتو2، وكتب «أرض إسرائيل»، وقاموس «إيفين شوشان» وكتب الحروب والتراث. كما أحب أبي الموسيقى، الموسيقى العبرية والأغاني الفرنسية تحديدًا، ولكني لم أسمع موسيقى عربية تعزف في المنزل قط. كما كانت الأطعمة في مطبخ أمي ذات طابع إسرائيلي صِرف؛ شريحة لحم وبطاطس مهروسة، سمك البربوني المقلي والدجاج المطبوخ مع الخضراوات، وفي المساء الوجبة ذاتها، بيض وسلطة خضراوات مقطعة مع طحينة، وجبن أبيض وخبز أسمر. في ليلة السبت فحسب يتسلل شيء آخر، احتفالي، إلى مطبخ أمي، كانت أمي تكدح في المطبخ منذ الخميس، لتخبز كعكة محلاة وتعد مائدة ذات جمال خلاب، عليها زوجان من الشمعدانات الطويلة فوقهما شموع السبت، وزهور، وسلطات مختلفة الألوان، ومحشي، وسمك متبل ودجاج لذيذ.
في عيد الفصح، كنا نزور خالتي، ففي كل عام، تجتمع العائلة الكبيرة هناك، يختفي الرجال في أشغالهم، وتقف النساء في المطبخ، بينما يلقَى بنا نحن الأطفال جانبًا. كم من مرة استرقت النظر إلى مطبخ خالتي، الذي كان في تلك الأيام يبدو لي هائلاً للغاية. وهناك في جانب، وقفت أنصت بهدوء للحديث الدائر بين النساء السعيدات.
كانت أمي تقف في المطبخ الكبير مع زمرة من الخالات المتمنطقات بالمريول الطويل. ويتحول المطبخ في ثوانٍ إلى حجرة عمليات، يقفن ساعات ليطبخن، محاطات بأبراج بصناديق خضراوات وتوابل وطيور ولحم وسمك حي يتراقص رقصة الحياة الأخيرة في البراميل. وأمي تتحدث المغربية، وتنساب اللغة من فمها فصيحة ومتناغمة بلا تكَلُّف، وهي تضحك، وتزفر وتهمس بالأسرار، وتبدع في طهوها.
حدّقت بوالدتي وخالاتي كأني أشاهد مسرحية، استمتعت برؤية أمي مبتهجة وفرحة. كنَّ منشغلات وتعرف كلٌ مهمتها؛ فتلك تقطع الخضراوات، والأخرى تقطع الدجاج في حين تنظف صاحبتها الأواني الضخمة التي لم أر مثلها قط، محدثة ضجيجًا بالغًا.
سكنت الجلبة في المطبخ فقط قبل ساعات معدودات من وجبة العيد. ساد المنزل خلالها جوًا من الهدوء الاحتفالي المقدس، وسَرَت رائحة النظافة في أرجائه، وتوسطت المنزل مائدة العيد ناصعة البياض، منتظرة اللحظات التي توضع عليها الأطعمة الكثيرة التي أعدتها النساء. كانت ذروة أيام العيد هي أمسية الميمونة3. تُلبسنا أمي أفضل ملابسنا، ونتنقل من بيت إلى آخر عاقدين العزم على زيارة جميع منازل الأقارب في عائلتنا المتفرعة. وفي كل منزل، تقف مائدة ميمونة شامخة لا يوجد أزهي منها، تتوسطها صينية كبيرة عليها إبريق نحاسي محاط بفناجين مزدانة بأزهار من البورسلين. كانت رائحة الشاي بالنعناع تفوح من الإبريق، وتزدان المائدة بألوان رائعة من الفطائر الصغيرة المحلاة، كالفطائر باللوز ومرزبان4والفطائر محشوة بالعسل والفاكهة المجففة اللذيذة. كان الضيوف يلتفون حول كل مائدة ويأكلون الفطائر ويشربون الشاي مع النعناع أو المريمية ويتذوقون المفليطة5 التي تندفع من المقلاة تقطر الزبد والعسل. يغني الشيوخ بالمغربية، فتتهادى أصواتهم لتُسعد أوقات الحاضرين، حتى والداي الذين لم يكن لهما احتكاك يومي بتلك اللغة والثقافة، انضما للغناء. كان أبي يغني بصوت صداح ورخيم، أستمع إليه وأتمنى ألا تنتهي تلك اللحظة، ولكن السحر تلاشي. واختفت الأطعمة متعددة الألوان، وتوقف الغناء، أزيلت مفارش العيد وحزمنا متاعنا وعدنا إلى البيت. كما هربت سندريلا من حفلة ملكية، كنت أودع العيد التقليدي لعائلتي الكبيرة وأعود إلى المنزل والأيام التقليدية، أيام النكران.
ذات مرة، كنت مع أمي في السوق، وقابَلَت صديقة قديمة، فحدثتها صديقتها بالمغربية فأجابتها أمي، بتردد وارتباك، بالمغربية. في البداية، كانت لغتها متلعثمة قليلاً، ثم تدريجيًّا أخذت تتحدث في سرعة، بجمل طويلة وواضحة. ثم افترقتا بعد السلام والقُبُلات.
قلت مستنكرة «أمي، أتستطيعين التحدث بالمغربية؟ كنت أعتقد طول الوقت أنك لا تفقهين حرفًا منها، اعتقدت أنك إسرائيلية».
قالت أمي إنها لا تعرفها حقًا، تعرفها أحيانًا فحسب، ليس دائمًا. لم أفهمها.
«ماذا تقصدين؟ يا لها من إجابة غريبة! كيف يمكن أن تعرفي اللغة أحيانًا فحسب؟»
«الأمر كذلك. أنا شخصيًّا لا أفهمه».
وقتها لم أفهم كيف تستطيع أمي فهم لغتها الأم أحيانًا فحسب. كانت أمي تحب أن تحكي لي أنها هاجرت إلى إسرائيل بمفردها، مع هجرة الشبيبة، كانت طفلة يتيمة الأب، في السادسة، أرسلتها أمها على ظهر باخرة «لأرض إسرائيل».
«هاجرتُ إلى إسرائيل حاملةً حقيبة واحدة. وضعت فيها جدتك أثوابًا مطرزة، وحذاءً من الجلد اللامع لأجل الأعياد، وحلوى، ونقود ودميتي المحببة إلى قلبي».
كنت أنصت وأتخيل كيف تكون طفلة صغيرة على ظهر باخرة كبيرة، وحيدة، بلا أب أو أم. هل كنت سأنجح في فعل هذا؟
«هل انتابك الخوف من كونك وحيدة على ظهر باخرة؟»
«قليلاً، كان على الباخرة العديد من الأولاد الآخرين المهاجرين إلى إسرائيل وحدهم. حلمت طول الطريق بإسرائيل، وتخيلت كيف ستبدو الأرض التي حكى لي والداي عنها».
«وماذا حدث عند وصولك إلى إسرائيل..»
«حدث أمر لم يكن لطيفًا، أعطت أمي الحقيبة لرجل تعرفه، وطلبت منه أن يحافظ عليها من أجلي حتى نصل، لكنه اختفى مع الحقيبة، وفيها كل أغراضي الشخصية وذكرياتي، لكني لم أغضب، استأت وشعرت بأني أكثر وحدة وبلا ماضٍ، كان ذلك بمثابة إشارة لما هو آتٍ بعد، للأيام القادمة في الكيبوتس6».
«هل شعرت بالوحدة أيضًا في الكيبوتس؟ أظن أنك لم تكوني وحدك هناك».
«كبرت في مستوطنة أطفال، عملت وتعلمت، لكني اشتقت إلى أهلي كثيرًا؛ لوالدتي التي بقيت مع أخوتي الصغار ولأبي الذي توفي شابًا وكان أحب الناس إلى قلبي. كنت أحلم بأبي في الليل فلا أعود أشعر بالوحدة، كان يحرسني في أحلامي وأيامي».
أخرجت أمي صورة شاحبة ومكرمشة لجدي وجدتي، الرجل ضخم الجثة ذو عينين فاتحتين ثاقبتين، والزوجة صغيرة وسمراء، لها ضفيرتان طويلتان ونظرة قلقة.
«احتفظت بتلك الصورة تحت وسادتي، أنظر إليها وأتحدث إلى والدَيَّ كل ليلة قبل النوم».
«لكنك لم تفسري لي بعد كيف أنك على علم بلغتك الأم أحيانًا فحسب».
«مُنعنا في الكيبوتس من التحدث بالمغربية أو بأية لغة أجنبية. إذا تحدثنا بلغة أخرى عدا العبرية نحرم من أخذ طوابع لإرسال الخطابات إلى الوطن».
«إنهم أشخاص سيئون في الكيبوتس».
«كلا، ليسوا سيئين، هكذا كان الوضع في الكيبوتس، يجب على الجميع التحدث بلغة واحدة؛ العبرية».
سألت وقد انتابني الذهول وربما الحنق «ألم تغضبي من عدم سماحهم لك التحدث بلغتك الأم؟»
«كلا. لم أغضب في حينها، في طفولتي في المغرب حلمت بأن أهاجر إلى «أرض إسرائيل»، كان والداي صهيونيين حلما بالهجرة للأرض المقدسة. وكانت الصعوبات والعمل الشاق في الكيبوتس جزءًا من تحقيق الحلم الصهيوني. أحببت الاستيقاظ مبكرًا والعمل في حظيرة الماشية والدواجن أو في جني الثمار، كنت أتعب في ساعات الدراسة، بعد يوم عمل طويل، لكني تحرَّقت شوقًا لتعلم العبرية وأن أكون مثل الجميع، صبارية7. كان على نسيان لغتي الأم إذا أردت أن أصبح صبارية. تدربت يوميًّا على النسيان، كنت أفكر بالعبرية، وأتحدث العبرية، وأكتب بالعبرية لكني كنت أحلم بلغتي الأم. حلمت واشتقت إلى طفولتي في المدينة الصغيرة، مراكش، اشتقت إلى أمي، وإلى أبي الذي توفي في المغرب ودُفن هناك، ولأخوتي الصغار. أردت أن أكون مثل الجميع، فتعلمت العبرية بتفانٍ، ورددت أشعار بيالك8، وغنيت أناشيد فرق الصاعقة9، وحلمت أن أكون جندية شجاعة وأسهم في بناء الدولة. وبمرور الأيام أخذت لغتي الأم في التلاشي، وتبنيت العبرية بدلاً عنها».
لم تتحدث أمي لغتها الأم وترعرعت دون والدين، ولم تكن غاضبة. لكني غضبت من أجلها ولم أفهم استسلامها للغة فرضت عليها: «أمي، ماذا حدث عندما أتت جدتي إلى إسرائيل؟ ألم تتحدثي إليها بالمغربية؟ بالتأكيد لم تكن تعرف العبرية».
«عندما أتت جدتك إلى إسرائيل، بعد عدة سنوات، كنت كالبكماء، لم أستطع التحدث إليها. تحدثت بلغة الجسد، وإشارات الأيدي، تلعثمت وشعرت كأني معاقة، لم أستطع التحدث مع السيدة التي أرضعتني. شعرت أني غير منتمية لأي مكان، مقتلعة من جذوري؛ لست إسرائيلية ولا مغربية. ولكن تدريجيًّا أخذت جدتك في التحدث إلى بالمغربية فتذكرت اللغة. ومع ذلك تحدثت بها معها فقط، كان محظورًا عليَّ التحدث بها في أي مكان أخر. ظل جزء كبير مني هناك، في المغرب، كنت أحلم بالعودة إلى الوطن، لرؤية بيت أمي، وزيارة قبر أبي والتجول في المِلاح10، حي اليهود. هنا أشعر أن شيئًا ما ينقصني».
«أمي، اروِ لي أكثر عن طفولتك في المغرب. تحدثي معي قليلاً بالمغربية»
«لا أستطيع التحدث إليك بالمغربية، ربما أتذكر، لكن اللغة لا تصدر عني على سجيتها، آسفة».
لم أعرف هل أصدقها أم لا.
بعد عدة سنوات، حققت أمي حلمها وسافَرَت إلى مسقط رأسها، إلى قبر والدها، وبعد عودتها روت لي أنها شعرت في تلك الرحلة بعدم الانتماء إلى هناك، وأن إسرائيل صارت موطنها الحقيقي، وأن كل ما يربطها بهناك هو قبر أبيها. أحبطتها كثيرًا تلك الزيارة إلى المِلاح «ليس هذا ما كان ذات مرة قبل سنوات..هنا موطني».
أكتب هذه الكلمات مشتاقة للحظات الضائعة والذكريات المبعثرة، وللألحان والروائح والنكهات، ولجدتَيَّ الغاليتين، رحمهما الله، وخصوصًا للغة تلاشت ولم أستمع إليها في أية مناسبة. أحيانًا إذا عُزفت ألحان مغربية أقترب على الفور مأخوذة بالكلمات، وآسفة لأني لا أفهم تلك اللغة الضائعة، شديدة الجمال والرقة، لغتي الأم.
هوامش
______
1 - إيريس أرجمان: من مواليد أشدود 1972، لوالدين من يهود المغرب، هاجرا في الخمسينيات في «هجرة الشبيبة»، درست إيريس الأدب، وإنتاجها الأساسي في أدب الأطفال ومسرح العرائس، تُحاضر في أدب الأطفال وتعد وِرش للكتابة للأطفال.
2 كاسوتو: المقصود هو تفسير مبسط للعهد القديم، أعده إلياهو شموئيل هرطوم، مسترشدًا بمؤلفات صهره «موشيه دافيد كاسوتو» أستاذ التاريخ والعهد القديم، ومتيمنًًا باسمه.
3 - الميمونة: احتفال شعبي خاص بيهود شمال أفريقيا، وبالأخص يهود المغرب، يحل في ليلة اليوم السابع من عيد الفصح، في 22نيسان، اسم العيد من العربية، ويُعتقد أن الاحتفال بدأ في القرن الثامن عشر، واستأنف اليهود المهاجرين من شمال أفريقيا الاحتفال به في 1965. يشمل الاحتفال إحياء التقاليد المغربية من مأكولات وارتداء ملابس شعبية والغناء والرقص.
4 - نوع من الحلوى الفاخرة، المصنوعة من عجينة اللوز، معروفة في معظم دول المتوسط.
5 - فطيرة مغربية.
6 - الكيبوتس: مستوطنة جماعية، درج ترجمتها بالعربية إلى مستوطنة اشتراكية، ومن ثم صبغ عملية الاستيطان بصبغة اشتراكية، وعلاوة على صغر حجم الكيبوتسات في الواقع، وتناقصها المستمر، فقد قامت الكيبوتسات على أراضٍ مملوكة لشركات استيطانية، ثم توسعت بالاستيلاء على أراضي القرى العربية، ومُنع العرب من دخولها، إلا عمالة موسمية مأجورة. وقد كانت إطارًا مناسبًا للاستيطان في وقتها ليس أكثر.
7 - الصبار هو جيل الأبناء المولودين في إسرائيل، وتُضفى عليهم سمات إيجابية على النقيض من صفات جيل الآباء من المهاجرين الموصومين بسمات الشَتات.
8 - بيالك:حاييم نحمان بيالك (1873- 1934) أديب وشاعر ومترجم يهودي روسي، لُقب بالشاعر القومي رغم ذاتية أشعاره، كتب بالييديش ثم بالعبرية.
انتقل إلى ألمانيا 1921، ثم إلى فلسطين في 1924.
9 - البالماح: اختصار لـ»سرايا الصاعقة» وهي القوة الرئيسية الخاصة بمنظمة الهجاناة 1941- 1948، ينتمي إليها أجيال من القادة الإسرائيليين، كما ألقت بظلالها على مجال الأدب والفن فعرف أدب المرحلة بأدب البالماح كما تم تلحين الأناشيد الخاصة به وإذاعتها
10 - الملاح: اسم يُطلق على حي اليهود في المغرب، أنشئ لأول مرة في فاس 1438م، ثم في مراكش (ق16) ومكناس(ق17) ثم امتد لباقي المناطق بالمغرب، وهو يختلف عن «حارة اليهود» النمط التقليدي لسكنى اليهود في لبلدان الإسلامية، حيث إنه يشيد خارج المدينة ويُحاط بسور وبوابات. يُرجع البعض أصل الاسم لاشتغال اليهود بتجارة الملح. في أعقاب الاحتلال الفرنسي، وجد اليهود المتعلمين والأثرياء الفرصة للانتقال لأحياء الأوروبيين.