عدد 18-عن الفقد والافتقاد
سامح نجيبالحالمة بعالم أسعد
2020.11.01
الحالمة بعالم أسعد
اجتماع اللجنة القيادية لحركة الاشتراكيين الثوريين في شتاء 2005/ 2006.. دينا جميل، رئيسة تحرير صحيفة «الاشتراكي» وعضوة اللجنة القيادية في حالة انفعال شديد، وبقية أعضاء القيادة يضغطون عليها لأن إصدار العدد الجديد من الصحيفة قد تأخر عدة أيام. دينا تشرح أن الكتَّاب والمراسلين من أعضاء الحركة لا يلتزمون بمواعيد التسليم، ولكن أعضاء القيادة يستمرون في الضغط، وينتهي الأمر بدينا ومعها عدد قليل من الأعضاء يسهرون طوال الليل لكتابة وتحرير وإخراج الصحيفة.. تكرَّر هذا المشهد عشرات المرات.
كان كل ذلك يحدث بشكل موازٍ لحياة دينا في العالم «الخارجي» كصحفية عليها أن تعمل يوميًّا لكسب قوتها. ظلت طول حياتها القصيرة مستقلة ماليًّا ولا أعتقد أنها توقفت عن العمل لأكثر من بضعة أشهر منذ منتصف عشرينياتها وحتى وفاتها المبكرة والصادمة. وعلى الرغم من ضغوط ومتطلبات العمل في المؤسسات الصحفية، ظلت دينا كادرًا قياديًّا في الحركة (في مختلف أشكالها وتنظيماتها) حتى عام 2013 الأسود.
ينجذب الأفراد إلى التنظيمات اليسارية الراديكالية لأسباب متنوعة. فهناك على سبيل المثال من تريد التمرد على الثقافة المحافظة السائدة (في الأسرة أو في المجتمع الأوسع) وتتطلع للانضمام إلى تلك المجموعة التي تبدو وكأنها قد تحررت من كل هذه الأغلال، وهناك المثقفة الباحثة عن تفسيرات بديلة للتاريخ وللواقع، فتنجذب إلى الأفكار الماركسية كرؤية بديلة للعالم. وهناك من يحركها الصراع الطبقي وتريد أن تشارك في المعارك ضد الاستغلال والاضطهاد.
ربما كانت علاقة دينا بالمشروع الثوري تحتوي على كل تلك العوامل. ولكن يبدو لي أن العامل الرئيسي في ارتباطها بهذا المشروع كان تركيبتها العاطفية. فقد كانت تتسم بدرجة استثنائية من الرومانسية والحساسية. لم يكن الظلم يغضب دينا بل كان يؤلمها ويبكيها. وفي ذات الوقت كانت رومانسيتها تجعلها حالمة بعالم خالٍ من الظلم، عالم بلا ألم وبلا خوف. كانت مثاليتها هذه تنطبق أيضًا على رؤيتها للعلاقات العاطفية. وربما ليس مصادفة أن ارتباطها بالمشروع الثوري تزامن وتداخل مع العلاقة العاطفية الأهم في حياتها.
عانت حركة الاشتراكيين الثوريين في تاريخها كغيرها من الحركات اليسارية الراديكالية الكثير من الانقسامات والانشقاقات والخلافات الصاخبة بين كوادرها. لن أزعج القارئ بتفاصيل تلك الخلافات أو أسبابها والتي يبدو الكثير منها الآن عبثيًّا. على أي حال فقد انقسمت الحركة إلى مجموعتين في النصف الثاني من التسعينيات: «جماعة تحرير العمل»، و«تيار الاشتراكيين الثوريين».
وقد انضمت دينا إلى «جماعة تحرير العمل» في تلك الفترة، وكان المجال الأول لنشاطها هو المجال العمالي وأصبح المشوار الطويل من مصر الجديدة إلى شبرا الخيمة جزءًا أساسيًّا من حياتها. وقد تمكنت هناك بحكم صدقها وبساطتها من الارتباط بعاملات نسيج، وتعرفت منهن ليس فقط على ظروف الحياة والعمل ولكن أيضًا على تناقضات وعي العاملات بين واقعهن كعاملات صناعيات وبين رؤيتهن لدورهن كزوجات وأمهات، وعلى تأثير تلك التناقضات على مشاركتهن في الحركة العمالية.
يوم جمعة صباحًا ربيع 2006، منزل دينا جميل: هناك ربما 20 طالبًا وطالبة في البيت؛ يحتلون المطبخ والسفرة وغرفة المعيشة. في المطبخ يفتح أحدهم الثلاجة بحثًا عن طعام، في حين يقوم آخر بتسخين الماء للشاي والقهوة. وفي السفرة يقف عدد من الطلاب حول الطاولة يرسمون ويكتبون على أفراخ من الورق استعدادًا لمعرض في الجامعة. أما في غرفة المعيشة فهناك نقاش حاد حول كيفية التعامل مع طلاب الإخوان المسلمين في الجامعة. ودينا جميل تتحرك بين تلك المجموعات؛ تهدئ النفوس في النقاش، تُدلي بدلوها فيه بمزيج من الثقة والتواضع وتشجع الأعضاء الجدد على المشاركة سواء في النقاش النظري أو في المهام العملية.
وإلى جانب كل ذلك كانت دينا بمثابة الأخت الكبرى لهؤلاء الطلبة؛ فالكل كان يلجأ لها طلبًا للنصائح في مشكلاتهم الشخصية، سواء كانت تتعلق بالعلاقات والمشاعر العاطفية، أو الصراعات مع الأهل، أو حتى المشكلات العملية المرتبطة بدراستهم. كانت تفعل ذلك بدرجة استثنائية من الصبر والاهتمام الصادق.
كان دورها القيادي في العمل الطلابي مهمةً شاقة؛ تستدعي العشرات من الاجتماعات واللقاءات والمشاوير والمكالمات الهاتفية. وكما ذكرنا سابقًا فكل ذلك النشاط كان يتم إلى جانب عملها اليومي كصحفية، الذي ظلت ملتزمة به طوال سنوات نشاطها السياسي. وربما كان إجهاد تلك السنوات أحد عوامل تدهور صحتها فيما بعد؟ الله أعلم!
كان تيار الاشتراكيين الثوريين قد اتحد مجددًا في بدايات الألفية، وشهد فترة نمو ودرجة من التأثير المحدود في الساحة السياسية عبر الاشتباك مع الانتفاضة الفلسطينية والحراك التضامني الذي فجَّرته في مصر، ثم حرب الخليج وغزو العراق، ثم صعود الحراك الديموقراطي والحركة العمالية من منتصف العقد الأول من الألفية. ولكن مرة أخرى دبت الخلافات في صفوف الحركة وخرجت مجموعة من الرفاق، بمن فيهم دينا جميل، ليشكلوا تيار التجديد الاشتراكي. وكانت العلاقات متوترة للغاية بين المجموعتين في البداية، وقد أثَّر ذلك حتى على العلاقات الشخصية والصداقات بين الرفاق، ولكن بالنسبة لي شخصيًّا على الأقل، ظلت دينا صديقةً، تتعامل بلطفٍ شديد، وتحافظ على الجانب الإنساني من العلاقات، وأتذكر أنها لم تقابلني يومًا دون تلك الابتسامة المليئة بالود والطيبة.
نعيش كلنا أوضاعًا بائسة على المستوى السياسي منذ 2014، فلا أظن أننا شاهدنا فترة أكثر تعاسة منذ تأسست حركتنا -الاشتراكية الثورية- في مطلع تسعينيات القرن الماضي. ولكن هذه الأوضاع لن تستمر إلى الأبد؛ فعاجلاً أو آجلاً ستعود السياسة إلى شوارع وميادين القاهرة، وستصعد من جديد الحركات الطلابية والعمالية وستعود النقابات المهنية إلى الحياة. وسيكون على الاشتراكيين الثوريين توحيد صفوفهم مجددًا للاشتباك مع كل ذلك وستلعب خبراتنا في العقدين الماضيين دورًا ربما يمكننا من تجنب أخطاء الماضي. ولكن جزءًا مهمًا من تلك الخبرة كان متراكمًا في عقل وقلب دينا جميل. ربما يدرك الآن القارئ حجم الخسارة التي مُنيت بها حركتنا بهذه الوفاة الفاجعة.