دراسات

ملاك الشهري

الحركة النسوية في السعودية

2020.04.01

ملاك الشهري
ناصر م.
ترجمة: أسماء يس

الحركة النسوية في السعودية

في يوليو 2016، أطلقت مجموعة من الناشطات في مجال حقوق المرأة السعودية حملةً تدعو إلى إنهاء نظام ولاية الرجل؛ هذا النظام الذي يسخِّر جُلَّ القوانين في المملكة العربية السعودية ليضع المرأة موضع القاصر مدى الحياة؛ إذ يتحكم أقرباؤها الذكور في كل خيارات حياتها، وأحد هؤلاء الذكور يمكن أن يكون والدها أو زوجها أو أخاها أو عمها أو حتى ابنها. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تنطلق فيها مثل هذه الدعوة، أو على وجه الدقة، الحملة، لكن هذه المرة كانت مختلفة تمامًا.

وقد أُطلقت هذه الحملة بالتزامن مع تقرير نشرته منظمة هيومن رايتس وواتش Human Rights Watch بعنوان: المرأة ونظام ولاية الرجل في السعودية، وبدأ نشاطها تحت هاشتاج (#معًا_لإنهاء_ولاية_الرجل_على_المرأة). والحقيقة أن ما حققته هذه الدعوة شيئًا لم يتوقعه أحد؛ ألا وهو الحركة السعودية النسوية الكبرى الأولى.

وضعت الحركة، التي اجتاحت البلاد بسرعة، الهاشتاج الذي اختاره النشطاء لحملتهم جانبًا، واختارت هاشتاج أكثر راديكالية؛ مفاده أن المرأة السعودية تطالب بإسقاط الولاية تمامًا؛ (#سعوديات_نطالب_بإسقاط_الولاية). وقد حافظ الهاشتاج على زخم الانتشار، واستمر في تصدره لقائمة الموضوعات على تويتر، وبمتابعة الهاشتاج دوريًّا منذ أن بدأت الحركة الجديدة وحتى لحظة كتابة هذا المقال؛ سنجد أنه وصل إلى 1085 يومًا.

على مدى عامين، اتضح تدريجيًّا أن الحركة تكتسب زخمًا وقوة، وأمام عملية جماعية لزيادة الوعي، وتطوير فهم واضح تمامًا للمواقف الاجتماعية المتغيرة للمرأة، لم يكن أمام الحركة من بُد إلا أن تصير أكثر راديكالية.

فتحدثت الآلاف من النساء علنًا -في بعض الأحيان معلنات عن هويتهن، لكن في أغلب الأحيان كن مجهولات الهوية- عن صراعاتهن الشخصية داخل أسرهن، ومجتمعاتهن، ومع النظام القانوني.

وقد قوبلت محاولات اعتقال الناشطات البارزات، بمن فيهن كاتبة هذه المقالة، بسبب تحديهن العلني لقواعد الملبس القانونية والاجتماعية، من بين أمور أخرى، بحملات تضامن واسعة النطاق على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى إطلاق سراحهن.

ومع ذلك، فإن أول انتصار كبير حققته الحركة سبقته نكسة كبرى؛ في 15 مايو 2018، أي قبل نحو شهر تقريبًا من رفع الحظر المفروض على قيادة النساء للسيارة، إذ قُبِض على أبرز الناشطات في الحركة، واحتجزهن قطاع أمن الدولة الذي تأسس أخيرًا. وفي الأشهر التالية، اعتُقل العديد من الناشطات الأخريات، وحُظر المزيد من الأشخاص من السفر.

بعد هذه المقدمة الموجزة عن النضال النسائي المستمر في المملكة العربية السعودية، نود أن نعود إلى الوراء خطوة؛ ونحن نفعل ذلك من أجل وضع هذا الكفاح في إطاره التاريخي والاجتماعي المناسب. وهذا ضروري بسبب مدى سهولة الوقوع، عفوًا، في فخ العنصرية والاستشراق، وهو الفخ الذي يرافق عادة النظرة إلى المرأة وتحركاتها في نصف الكرة الجنوبي عمومًا، وفي المملكة العربية السعودية خصوصًا.

أولاً: سنحاول وضع مسألة اضطهاد المرأة في المملكة العربية السعودية في إطارها التاريخي المناسب. ثانيًا: سنقدم وصفًا موجزًا يوضح كيف أصبحت أحوال النساء السعوديات على ما كانت عليه قبل بدء الحركة الجديدة. وأخيرًا: سنقدم عرضًا تاريخيًّا لكيفية بدء الحركة، التي ما تزال مستمرة حتى الآن.

1. إضفاء الطابع التاريخي على المسألة

إن إضفاء الطابع التاريخي على مسألة اضطهاد المرأة في المملكة العربية السعودية يتطلب استخدام النقد، كما يتطلب الابتعاد عن مقاربتي: التغاضي عبر التعميم، والاختزال الثقافي. أما الأول فهو غير كافٍ وغير مناسب. وأما الثاني فستعتبر الكثير من النساء في المملكة العربية السعودية أن الاستجابة له تمثل إهانة لهن.

وفي حين تنتج الاختزالية الثقافية موقفًا حاسمًا ضد النسوية، فإن التغاضي بالتعميم يمكن أن يكون -أو هو بالفعل كذلك- عقبة أمام التضامن الدولي.

التغاضي عبر التعميم

تنحو الحجج التي نعتبرها وقوعًا في فخ التغاضي عبر التعميم النحو التالي: بينما صحيح أن النساء في المملكة العربية السعودية يواجهن الظلم، والنساء- في كل مكان- يتعرضن للقمع، ففي الواقع ظروف المرأة السعودية «أفضل» في بعض الجوانب؛ على سبيل المثال في حالة إجازة رعاية الطفل مدفوعة الأجر!

هذه القوانين «الأفضل» لا تنتشر في الهواء بالتأكيد، بل توجد ضمن مجموعة كاملة من قوانين الحقوق الجنسية والمناهضة للعمال والهياكل الاجتماعية. ومن ثم، ففي حين أن النساء لهن الحق في الحصول على إجازة رعاية طفل مدفوعة الأجر، يمكن، بسهولة شديدة، فصل المرأة من عملها إذا كانت حاملاً. لم يُطبَّق هذا التشريع الخاص نتيجة للنضالات النسوية، لكنه طُبِّق بناءً على مطالبات الإسلاميين المتشددين؛ الذين كانوا يخشون أن يمنع العمل المرأة من أداء واجباتها الأمومية: لقد أُقر منذ البداية كي لا يؤدي عمل المرأة إلى تعطيل العلاقات الأبوية الراسخة!

إن حقيقة كون اضطهاد المرأة ممارسة عالمية استجابة مختصرة حسنة النية لأصحاب التوجه اليميني، لا تشير إلا إلى شدة اضطهاد المرأة في المملكة العربية السعودية. ومع ذلك، فإن الاستجابة المناسبة لهذا الاستغلال الرجعي لهذه الحقائق، لأغراض تخدم كراهيته وعنصريته الراسخة ضد النساء، لا يمكن أن تتخذ أساسًا لها، تلك الحقائق ودلالتها.

وفي الواقع فإن المشكلة في هذه الحجج؛ ليست في سوء فهمها لهذا القانون أو ذاك، أو لعلاقات اجتماعية معينة، ولكن في تجاهلها للخصوصيات القومية؛ مثل حقيقة أنه يمكن القول إن المرأة تعاني ظروفًا سيئة في بلد ما أكثر من بلد آخر. فبشكل عام، تعيش النساء في المملكة العربية السعودية تحت ظروف قمعية أكثر قسوة بكثير من النساء في الولايات المتحدة. والنسويات في المملكة العربية السعودية يدركن ذلك تمامًا.

تنتهي هذه الحجج أيضًا إلى نبذ أصوات النساء السعوديات، وخصوصًا اللاتي عاش بعضهن في الخارج، عندما يقُلن «نعم.. إن ظروفنا المعيشية أسوأ عمومًا من ظروف معيشة النساء في الغرب؛ حيث اخترعت هذه الحجج.. نحن نعرف ذلك بالتأكيد، لأننا عشنا في ظل هذه الظروف وفي ظل تلك». من المؤكد أن هناك بحرًا كبيرًا من الاختلاف بين الظروف في البلدان التي شهدت العديد من حركات التحرر النسائية، وتلك التي لم تفعل.

الاختزال الثقافي

يتحدث اليمين الغربي كثيرًا -بشكل يكاد يكون هوسًا- عن أوضاع النساء المسلمات. فبسبب مركزية المملكة العربية السعودية في الأيديولوجية العنصرية المعادية للإسلام، تحتل النساء السعوديات مركز الصدارة في هذا الخطاب المؤيد للمرأة ظاهريًّا.

وهنا ينبغي لنا توضيح نقطة مهمة؛ وهي أن اليمين لم يطرح فكرة تحرير المرأة المسلمة في «الشرق» للنقاش قط -ولن يفعل ذلك أبدًا. فاليمين، ببساطة، يطرح الفكرة للإمبريالية الغربية في «الشرق». والأهم من ذلك، هو تراجع إنجازات حركة التحرير النسائية في «الغرب». فالإمبريالية؛ خصوصًا في شكلها العسكري المعلن، ليست بريئة من أي اعتداء محلي على حركات الطبقة العاملة والتحرر.

ولتوضيح ما نعنيه بالقول بأن الاختزال الثقافي اعتداء عالمي على المرأة وعلى تقرير مصيرها واستقلالها الذاتي، سنفصِّل ونحلل السردية اليمينية حول وضع المرأة في المجتمعات الإسلامية، وتأثيرها على المرأة في «الغرب».

قبل أن نبدأ هناك ملحوظتان؛ أولاً: لما كان تحليلنا يدور حول السرديات، يجب أن يكون واضحًا أننا نفهم أن هذا، ببساطة، تعبير خطابي عن مشروع سياسي، وهذا المشروع يحتاج إلى مواجهة، لا إلى هذا التعبير فقط.

ثانيًا: وسعيًا إلى التبسيط، فسوف نستخدم مصطلح «الغرب» بشكل طبيعي دون إشكالية، ما دام ذلك خارج إطار هذه المقالة.

يتجلى منطق الاختزال الثقافي على النحو التالي: المرأة المسلمة مضطهدة بشكل استثنائي 1اضطهاد المرأة المسلمة ناجم عن ثقافة مجتمعها المعادية للمرأة بشكل استثنائي؛ وهي في هذه الحال، الثقافة الإسلامية. هذه الثقافة التي هي النقيض التام للحضارة الغربية؛ والتي من الواضح أنها سمحت للنساء الغربيات بالترقي، والتقدم إلى نقطة تصل إلى التكافؤ مع الرجال. إن اضطهاد المرأة الغربية (إن وُجد)، فهو إما أمر لا يكاد يذكر، أو ناجم عن قلة قليلة من الأفراد المغمورين غير المتحضرين، إذ هو بمعنى آخر، ليس ممنهجًا، بل تصرف شخصي وعنصري؛ ناتج عن حيونة رجال سود متوحشين، وتدهور جيني لفقراء بيض.

ومن أجل منع هذه الانتهاكات الشخصية من هؤلاء الأفراد المنحطين/غير المتحضرين، يجب أن تكون هناك مشاركة أقوى من السلطة الأبوية في المجتمع؛ لحماية النساء الغربيات/البيض.

ليست المرأة المسلمة فقط من يقوم بدور سلبي في هذه السردية، بل إن جميع النساء، وجميع الأشخاص، من ذوي الأصول العرقية، يتحدد وضعهم الاجتماعي من خلال الحضارة، أي من خلال الرجال الذين ينتمون إليهم؛ إن سماح هؤلاء الرجال لنسائهم بتحقيق هذه المكانة، يعني أنه ينبغي لهؤلاء الرجال أيضًا تحديد متى وأين وكيف تتحرك النساء، كما يحددون نطاق حركتهم وإلى أي مدى.

وهذا يكشف عن الاتساق بين كراهية اليمين القوية تجاه «نسائه»، وبين الدعوة المزعومة لتحرير النساء المنحدرات من أصول عرقية أخرى. والخط الذي يربطهم هو إنكار مقصود للولاية التاريخية للمرأة، وعزو الإنجازات التي حققتها حركة التحرر النسائي –وبالمثل؛ حركات تحرر السود والمثليين جنسيًّا- إلى الحضارة الغربية/البيضاء، فإنهم يمحون تاريخًا طويلاً من النضالات التي تقوم بها هذه الشعوب لتحرير أنفسها. والتأثير المقصود هنا هو تعزيز العنصرية الأبوية، ومن ثَم العلاقات الاجتماعية الرأسمالية.

يمكن لكل ذلك أن يتحقق لأنه، وببساطة، لا يحرم النساء من ولايتهن التاريخية، فهذه الهيمنة الأبوية تتأسس من خلال الحرب على مواطنين من الدرجة الثانية، ليس فقط من غير البيض، بل أيضًا من الطبقة العاملة.

تعني محاربة هذا الاختزال الثقافي الاعتراف بالمكانة التاريخية للمرأة، ليس فقط في نصف الكرة الجنوبي، بل أيضًا في نصف الكرة الشمالي. وهذا يعني أن الوضع الحالي للمرأة في كل المجتمعات والجماعات نتيجة محتملة للنضالات السياسية التحررية؛ ونقول المحتملة لأنها ليست حتمية، ولا غير قابلة للتغيير، ولا تحررية بشكل محدد2.

2. كيف وصلنا إلى هنا

في هذا القسم، نقدم سردًا تاريخيًّا لكيفية تطور الأمور؛ بدءًا من العمليات المبكرة لتشكيل الدولة، من خلال التأثير الإسلاموي، وانتهاءً بالطريقة التي كانت عليها الأمور قبل ما يسمى بالعصر الجديد بعد تولي الملك سلمان الحكم.

النخيل، منصات التنقيب عن البترول، والجندر، والتمييز على أساس اللون

روايات النساء السعوديات عن المملكة العربية السعودية «قبل البترول» لا يمكن فصلها عن رواياتهن عن المملكة العربية السعودية «قبل التوجه الإسلاموي». بالنسبة للبعض، هذه هي قصة عدم التمكين والقمع. بالنسبة للآخرين، هو شكل من أشكال التنوير الديني والحراك الاجتماعي. وبين هذين القطبين توجد العديد من الروايات، وهذا يتوقف على التحولات المحددة التي تؤثر على كل امرأة في مجتمعها، ومواقفها الخاصة تجاه هذه التحولات.

قبل عصر البترول تباينت العلاقات بين الجنسين في المجتمعات السعودية بشكلٍ كبير. كانت هناك مجتمعات حضرية، وريفية زراعية، وإقطاعية مستقرة، وقبلية، وغير قبلية، كل هذا في ظل أشكال مختلفة من الحكم. وبالتأكيد فإن هذا التنوع في التكوينات الاجتماعية يعني مجموعة متنوعة في العلاقات بين الجنسين كذلك. ومع هذا، فإن ما يشترك فيه جميعهم هو مشاركة النساء من الطبقة العاملة في العمل غير المنزلي.

وإلى جانب التعليم والطب والحرف الصغيرة والحرف اليدوية، شاركت النساء أيضًا في الزراعة. لكنهن لم يفعلن ذلك بناءً على أساس من التكافؤ؛ فقد اقتصرت مهام النساء على مهام محددة في زراعة النخيل كما تحكي إحدى النساء؛ على سبيل المثال «كان الرجل يطلع أعلى النخلة، والمرأة أدناه»، لتلتقط من الأرض كل ما يسقطه الرجل3. ولم يقتصر الأمر على منع النساء من العمل في بعض المجالات، بل إنه حتى في الأعمال التي كن يشاركن فيها؛ اقتصر دورهن على مهام محددة.

بدأت التحولات الرئيسية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي؛ مع ظهور إنتاج البترول في ظل إدارة مباشرة للشركات الأمريكية، التي كانت أساسية لمشروع بناء الدولة السعودي. بعد عقود من تكثيف إنتاج سلع التمر للتصدير إلى الأسواق الغربية، خلَّفت الظروف المتدهورة للفلاحين في الواحات القريبة من شرق المملكة العربية السعودية وفرة من العمالة الرخيصة لشركات البترول الأمريكية. وفي سوق العمل البترولي الذي تديره أمريكا والبيروقراطية الحكومية السعودية الممتدة، استُبعدت النساء تمامًا.

لكن فرض الأمريكيين لممارسات جيم كرو Jim Crow، والتمييز على أساس اللون، والاستغلال المفرط لما وصفوه بالعمالة «الأصلية»، أثار صراعات عمالية دامت عقودًا، قادها قوميون وشيوعيون عرب.

وقد دعت هذه النضالات العمالية، من بين أمور أخرى، إلى تأميم صناعة البترول؛ وإلغاء العبودية، وإنهاء ممارسات الفصل العنصري؛ وتعليم المرأة، وإقرار الحقوق العمالية والسياسية، بما في ذلك الدعوات إلى صياغة دستور، وانتخاب برلمان يتمتع بسلطات تشريعية كاملة. وقد نجحت بعض هذه الجهود فعلاً، في حين لم ينجح البعض الآخر نجاحًا كبيرًا؛ وفي نهاية المطاف أُلغي التمييز على أساس اللون (اسميًّا على الأقل)، ولكن بقي التمييز على أساس الجندر قائمًا، على الرغم من محاولات ونضالات الحركة العمالية.

وعلى مدار العقود التالية زادت الأجور؛ نتيجة للنضال ضد العنصرية وارتفاع أسعار البترول، وهمَّشت السلع المستوردة الحرف اليدوية المحلية، وأصبح العمل الزراعي أقل فائدة، وأبعدت النساء عمليًّا عن جميع مجالات العمل غير المنزلي تقريبًا. وأصبح النمط السائد هو الأسرة ذات العائل الواحد.

ومع ظهور مؤسسات تعليم البنات، فُرض على جميع النساء لبس العباءة السوداء في كل أنحاء الدولة. لفترة طويلة قبل ذلك، وفي معظم ما أصبح مجتمعات سعودية، كان من المعتاد، وإلى حد كبير، أن تكون العباءة السوداء لباس النساء من الطبقة العليا، أولئك اللاتي عشن بمعزل عن النساء الكادحات.

ثم جاء جهيمان

في فيلم محمود صباغ الذي أنتج في عام 2016، الدراما الكوميدية «بركة يقابل بركة»، يُمنع بطل الرواية «بركة» من الدخول إلى منطقة مخصصة «للعائلات فقط»؛ حيث كان من المفترض أن يلتقي ببطلة الفيلم، التي تحمل أيضًا اسم «بركة». فيعود إلى المنزل، حيث يقابل أباه الصامت المريض الذي لا يستجيب لشيء، ويسأله سؤالاً -من المفترض أنه موجه للجمهور- «ماذا حدث لنا، أيها الشيخ؟». ثم يتحول السؤال إلى مونولوج؛ فتُعرض سلسلة من الصور ومقاطع الفيديو تقارن «كيف كانت الأمور» (ليبرالية/ عادية) و»كيف أصبحت» (شرقية/ بشعة). يختتم بركة حواره مع نفسه «لقد عاش جيلك الحياة على أكمل وجه، ثم شعر بالخوف بمجرد التقدم في العمر!».

إن تصوير الدول الإسلامية «قبل انتشار المد الإسلاموي» من خلال صور (قليلة) لملابس نسائية -حيث تُستغل أجساد النساء من أجل تعزيز سرديات مختزلة حول «كيف كانت الأمور»، أو بشكل أكثر دقة، كيف ينبغي أن تكون- ليست فريدة من نوعها في المملكة العربية السعودية. فهو أسلوب مستخدم بصورة أكبر في الإشارة إلى دول مثل أفغانستان وإيران. عادة ما تكون السردية على النحو التالي: شهدت حقوق المرأة تقدمًا مطردًا طول القرن العشرين وحتى السبعينيات، ثم تراجعت. ومن المفترض أن تعكس التغييرات في القوانين، تغيُرًا فوريًّا في العلاقات بين الجنسين، بينما تجلس النساء وتجاربهن اليومية في المقعد الخلفي.

في السردية الليبرالية السعودية، تُعتبر قصة جهيمان بمثابة اللحظة الحرجة التي مرت بعدها العلاقات بين الجنسين بتحول جذري. في اليوم الأول من القرن الخامس عشر الهجري؛ غرة محرم 1400 هجرية؛ الموافق 20 نوفمبر 1979، اقتحم جهيمان العتيبي الحرم المكي، واستولى عليه، بمساعدة المئات من أتباعه المسلحين، وذلك لمبايعة رجل يدعى محمد القحطاني؛ المهدي المنتظر!

يُنظر إلى حادثة جهيمان باعتبارها تلك الفزَّاعة القديمة التي كان الجيل السابق -والدولة السعودية- يخشونها. وهو اختصار لفترة الصحوة الإسلامية، التي بدأت في السبعينيات، وشهدت صعود العديد من النزعات الإسلامية في جميع أنحاء البلاد، والمنطقة. في النهاية قُبض على جهيمان، وأُعدم، بعد أن داهمت قوات الأمن المسجد الحرام. في السردية الليبرالية السعودية، ربما مات جهيمان حقًّا، لكن الحقيقة أنه لا يزال حيًّا في كل علاقاتنا الاجتماعية.

في الواقع، كانت «الصحوة» مشروعًا ترعاه الدولة، وتهدف من خلاله تحديدًا إلى إحداث ثقل موازن لتأثير القومية العربية والناصرية (واتجاهاتهما المناهضة للملكية)، من خلال دعم الاتجاهات الإسلامية. كانت هذه النزعات الإسلامية أو ما عرف بـ «تحديث» الإسلام مهمة مركزية، إذ كانت الفكرة هي تحديث الإسلام، استجابة لمفهوم محدد معارض له؛ وقد كان هذا يعني سعيًا، واستجابة لا تنتهي لكل مفهوم اجتماعي وفكرة ومشروع إبداعي. على مدى القرن العشرين، كان أيضًا يعني استجابة لمفاهيم «العلمانية» والتحرر الوطني4.

استفزت الرؤية الخاصة للقومية العربية لمكانة المرأة الاجتماعية في الدول القومية في مرحلة ما بعد الاستقلال في صورة المرأة العربية الحديثة استجابة ممثلة في صورة المرأة المسلمة الحديثة. فقد تخلصت المرأة من الماضي التقليدي المتخلف؛ فخلعت النقاب، لكنها حافظت على ملابسها المحتشمة، ومن ثَم فهي تحافظ على عفة المجتمع، الذي كان دائمًا ما يثبت حفاظه على التقاليد بالنقاب/ الحجاب، بينما يثبت توافقه مع الحداثة من خلال السعي للتفوق في العلوم والفنون.

لا حاجة إلى القول -على الرغم من التأكيدات الليبرالية السعودية على عكس ذلك- إن «الصحوة» لم تقع في فخ الإنكار التام للعلاقات القائمة بين الجنسين، كما أنها لا تتمتع بسلطة تفسيرية كاملة بشأن تحولها. ولا ينبغي أن يكون هناك إنكار لحقيقة أن القيود الحالية على حق المرأة في تقرير المصير والاستقلال الذاتي تستند جزئيًّا – بشكل لا يمكن اختزاله- إلى تفسيرات محددة للفقه الإسلامي والقرآن، بصفتهما الأساس التي تنتهجه الأجهزة السعودية باعتباره أيديولوجية قانونية للدولة.

وهذا لا يعني أن القرآن، الموجود منذ القرن السابع، يمكن دون أي تدخل (في شكل إعادة تفسير) أن يشكِّل أساسًا أيديولوجيًّا لأجهزة الدولة. وبدلاً من ذلك، فقد أعادت العلاقات الاجتماعية المتغيرة تشكيل التفسيرات الدينية، التي في المقابل ستعيد تشكيل هذه العلاقات الاجتماعية، نتيجة للصراعات داخل القوميات الناشئة في عصر ما بعد الاستعمار5.

ولذلك فإنه ليس خطأ هينًا أن نصف هذه الظروف بأنها تعود إلى «القرون الوسطى» كما يحدث في كثير من الأحيان؛ فخطورة هذه العلاقات القمعية، التي سنوردها أدناه، هي حالة رأسمالية حديثة تمامًا؛ فتنظيم حياة الملايين من النساء على مستوى الدولة، والقيود الشديدة على استقلالهن، كان أمرًا لا يمكن تصوره في ظل أي نمط إنتاج سابق.

ما قبل العصر الجديد

من الناحية القانونية، تبدأ أعمال السيطرة وتنظيم حياة المرأة في وقت مبكر جدًا: لا يُسمح للفتيات والنساء في جميع مراحل التعليم (الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعات) بمغادرة الحرم المدرسي قبل وصول أولياءهن الذكور المعتمدين مسبقًا لتسلمهن. إذ يجب على الفتيات الانتظار داخل الحرم الجامعي، حيث يقوم المشرف على المدرسة، وهو رجل، بالنداء على أسماء آبائهم من خلال مكبرات الصوت ليدخلوا ويتسلموهن.

الواقع العملي المترتب على هذا النظام، ليس مجرد الإزعاج اليومي، الذي يمكن أن يكون قاتلاً فعلاً. ومن أكثر الحالات الشائنة الحريق الذي شبَّ عام 2002 في إحدى مدارس البنات في مكة؛ حيث توفيت 12 فتاة عندما لم تسمح لهن الشرطة الدينية بمغادرة المدرسة دون حجاب. وهناك حادثة أخرى معروفة، حدثت في 2 يوليو 2019، عندما مرضت فتاة جامعية في حائل، ولم يُسمح للمسعفين بدخول المكان لأنهم رجال؛ فماتت الفتاة دون تلقي العلاج.

علاوة على ذلك، لا يُسمح للنساء قانونًا بارتياد الجامعة، أو الحصول على وظيفة، أو العيش خارج منازلهن، أو فتح حساب بنكي، أو الحصول على بطاقة هوية، أو الحصول على جواز سفر، أو السفر إلى الخارج، أو حتى مغادرة السجن دون موافقة خطيَّة من أحد أوليائهن الذكور.. أما النساء «الناشزات» أو «غير المطيعات»، والنساء اللواتي يهربن من سوء المعاملة، ويرفضن العودة للعيش تحت تصرف المعتدي، أو أي ولي أمر آخر، فإنهن يعتقلن إلى أجل غير مسمى تحت رعاية الدولة، فيما يسمى «دار الرعاية»6.

والأسوأ من كل هذا: يجب أن يوافق ولي الأمر على إجراء جميع العمليات الطبية المتعلقة بالأعضاء التناسلية للمرأة؛ بما في ذلك علاج سرطان عنق الرحم. يتحدث الأطباء عن الحوادث التي تحدث فيها مضاعفات غير متوقعة في أثناء المخاض، وتحتاج الأم المريضة إلى عملية جراحية لإنقاذ حياتها، لكن الأطباء لا يستطيعون القيام بذلك؛ إذ يفشلون في الحصول على موافقة الزوج.

وبالتأكيد فإن لهذه القيود آثارها اليومية؛ فهي تترجم إلى تحفظ دائم يمارسه الأولياء الذكور على حياة نسائهم؛ وينطبق هذا بشكل مختلف على النساء السعوديات في جميع أنحاء المملكة، حيث المعايير الاجتماعية المختلفة، والتوجهات السياسية السائدة، والانتماءات القبلية المختلفة (أو عدم وجودها)، بالإضافة إلى الجغرافيا الطبيعية الحضرية والريفية، تضع قيودًا مختلفة على أشياء مثل قواعد الملبس، والالتحاق بسوق العمل، والتنقل.

وسواء كانت هناك روابط قوية بين المجتمع والأسرة أو المجتمع القبلي، أو كانت الأسرة نووية صغيرة؛ أو ما إذا كانت العائلة تعيش في بلدة صغيرة يسهل الوصول إليها، أم لا، وسواء كان الأب نفسه من الإسلاميين أو الليبراليين أو غيرهم، فإنهم جميعًا يلعبون دورًا في وضع القيود على مدى القمع أو مدى التساهل مع الولي الذكر. وهذه الحدود، بالتأكيد، دائمًا ما تكون في صراع فردي وجماعي بين كل من «الولي» و»الولاية» وبين ساحات جديدة من النضال مفتوحة على تغييرات اجتماعية أوسع. وعلى سبيل المثال، مع زيادة تكاليف المعيشة منذ التسعينيات، أصبحت الأسرة ذات العائل الواحد تدريجيًّا خيارًا غير قابل للاستمرار، وقد أدى ذلك إلى انضمام أعداد متزايدة من النساء غير المتزوجات، بل والمتزوجات، إلى سوق العمل لدعم أسرهن، أولاً في التعليم والطب، ثم في وظائف الإدارة، وفي وقت لاحق كعاملات تجزئة منخفضات الأجور.

إن الحقيقة البسيطة المتمثلة في وجود مصدر مستقل للدخل عند المرأة لم تكن سببًا مباشرًا للتحرير. بل إنها بالنسبة للبعض، كانت أساسًا لمزيد من القيود القمعية؛ فالأب، على سبيل المثال، سيسمح لابنته بالعمل، لكن سيستولي على دخلها، ويمنعها من الزواج، كي لا تفقد مصدر الدخل هذا. ما أدى إلى هذا إحداث تغيير في علاقة المرأة بسوق العمل، ومع أنه لم يكن تحسنًا مباشرًا واضحًا، فإنه فتح الباب أمام نضالات جديدة.

في مدارس البنات والبنين على حد سواء، يُدرس الوضع الاجتماعي المنزلي التابع للمرأة بشكل صريح. تحصل الفتيات على فصول «تدبير منزلي» طول 12 عامًا من التعليم، وهو ما كان يُطلق عليها سابقًا فصول «الأنوثة»، وحتى وقت قريب جدًا لم تكن الفتيات تتلقى دروسًا في التربية البدنية. كما يتعلم الصبيان والبنات في فصول التعليم الإسلامي أن ضرب الزوجة «ضمن حدود الفقه الإسلامي» عقاب مناسب للعصيان (ألذي يشمل رفض ممارسة الجنس) – وقد ظل هذا ساريًا حتى بعد إقرار قانون يجرم العنف الأسري في عام 2013، بعد سنوات من الحملات النسوية.

في حين أن نظام الولاية الذكورية يمنح الأوصياء الذكور سلطة تقديرية في كيفية تنظيم حياة المرأة، فإنه بالنسبة للنساء المهاجرات اللائي يعشن في البلد دون قريب ذكر، يقوم نظام «الكفالة» بهذا الدور. ونظام الكفالة هو نظام لمنح رخصة العمل، يستخدم في جميع دول مجلس التعاون الخليجي، حيث يجب أن يحصل جميع العمال المهاجرين على تصريح دخول وعمل تحت كفالة أحد مواطني الدولة7. وقد ظهر نظام الكفالة في المملكة العربية السعودية، بشكله الحالي، بعد إصلاح الدولة لسوق العمل في أعقاب طفرات البترول المتتالية، بالإضافة إلى سلسلة من النضالات العمالية والسياسية.

في أعقاب الطفرة البترولية الثانية بين عامي 1973 و1985، أرادت العائلات الحاكمة في الخليج، على حد تعبير عمر الشهابي «تعزيز أوراق اعتمادها الحاكمة» من خلال مشاريع التحديث. ومع ذلك، فإن «كمية رأس المال الهائلة الناتجة عن إيرادات البترول الضخمة، وعدد الأنشطة الاستثمارية المرتبطة بها، تجاوزت قدرة ونوعية القوى العاملة المحلية المتاحة»8.

ولم يكن استخدام القوى العاملة المحلية خيارًا قابلاً للتطبيق، لأنه «يتعارض مع منطق دولة الرفاه الحديثة التي كان من المفترض أن تسحب السكان المحليين من الوضع الاقتصادي البائس الذي وجدوا أنفسهم فيه قبل تدفق الوفرة من عائدات البترول»؟9 كما أنها لم ترغب في أن تستقدم العمال العرب، الذين لعبوا تاريخيًّا دورًا حيويًّا في النضالات العمالية والسياسية في الخليج، وكان ينظر إليهم طول الوقت باعتبارهم عناصر تخريبية محتملة. في النهاية، كان الطريق الذي سلكته دول الخليج هو استيراد العمالة غير العربية المحرومة من الحقوق السياسية والعمالية. وقد أدى هذا الطريق تدريجيًّا إلى إيجاد سوق عمل؛ فيه يشغل العمال المهاجرون الغالبية العظمى من وظائف القطاع الخاص منخفضة الأجر، بينما يعمل السعوديون في وظائف القطاع العام عالية الأجور الآخذة في التوسع.

بموجب هذا النظام، تمنح الدولة المواطنين سلطة إصدار تصاريح عمل، والتي بدروها تمنح الكفيل درجة كبيرة من السيطرة على حياة العمال المكفولين؛ بسبب القيود المفروضة على حقوق الإقامة والتنقل. وقد وُضع نظام الكفالة للمرة الأولى من قبل السلطات الاستعمارية البريطانية في الخليج، وهو يسمح بممارسات فظيعة، مثل مصادرة جوازات السفر، والعمل دون أجر لمدة شهور، من بين أمور أخرى، منتشرة بشكل يكاد يكون نظاميًّا10. وقد تفاقمت هذه الممارسات أضعافًا تجاه النساء المهاجرات، وخصوصًا العاملات في المنازل، اللائي بدأت الطبقة الوسطى السعودية البادئة في التوسع في توظيفهن.

في حين أن معظم الرجال والنساء المهاجرين الوافدين يمكنهم الانضواء في شبكات تضامن (من العمال المهاجرين الآخرين)، واللجوء إلى سفارات بلدانهم للتخفيف من هذه الممارسات ومكافحتها على حد سواء، يميل العمال المحليون إلى الانعزال في محيط كفيلهم، حيث يعيشون.

وبصفة عامة؛ يمكن إجبار العمال المهاجرين، على العمل لساعات إضافية دون أجر، لكن يوم عمل عاملات المنازل ليس له حدود؛ إذ يبدأ وينتهي وفقًا لتقدير الأسرة المستخدمة. ومهام عاملات المنازل، بغض النظر عما يقوله العقد، لا حدود لها. مرة أخرى، على عكس معظم العمال المهاجرين الذين يستطيعون -وينفذون فعلاً- الإضراب ضد أشهر من العمل غير مدفوع الأجر، لا يمكن للعاملات المنزليات المهاجرات الانخراط في المقاومة دون المجازفة بتلقي المزيد من الإساءة.

وعلى عكس النساء السعوديات، اللائي يمكن أن يعتمدن في مواقف معينة على العلاقات الأسرية والمجتمعية للتخفيف من مظالمهن، بالكاد تتحصل النساء المهاجرات على أدنى قوة تفاوضية لحمايتهن من سوء المعاملة. وغالبًا ما يواجهن هذه الظروف القاسية بأكثر الحلول جذرية؛ أولها على سبيل المثال: الفرار من الأسرة -في بعض الأحيان تخاطر المرأة بحياتها للقيام بذلك- والعيش دون وثائق في بلد لديها بالفعل فرص محدودة في سوق العمل للنساء. ومع ذلك، في كثير من الحالات، يظل المخرج الوحيد هو الانتحار.

لكي نكون واضحين؛ فعلى الرغم من أن جميع النساء العاملات المهاجرات يخضعن نظريًا للنظام نفسه، فإن هناك طبقية واضحة جدًا في الممارسة الفعلية؛ إذ تميل المهاجرات من الطبقة العليا (معظمهن) من النساء الأمريكيات والأوروبيات، اللائي يعملن في التعليم العالي أو الطب أو الصناعات البترولية، إلى العيش في معسكرات العمالة الوافدة (أي المجتمعات ذات البوابات)؛ حيث لا تطبق حتى القوانين التي يجب على النساء السعوديات العيش في إطارها.

في إطار هذا التقسيم الجديد للعمل وإعادة تنظيم سوق العمل، ظهرت ظلال جديدة للتمييز العنصري. ويظهر تأثيرها الأشد في تطبيق عقوبة الإعدام. وفقًا للإحصاءات، فمنذ عام 2014 وحتى منتصف عام 2017، فإن 36 ٪ من جميع أحكام الإعدام الصادرة، والبالغ عددها 438 صدرت ضد مواطنين أجانب. والتي ترتفع إلى 40 ٪ إذا نحينا عملية الإعدام الجماعي الذي وقع في عام 2016 لـ 47 رجلاً بموجب قانون مكافحة الإرهاب. في عام 2017 وحده، كان 23 ٪ من الذين أُعدموا بسبب جرائم المخدرات من المواطنين الباكستانيين، الذين لا يمثلون أكثر من 6 ٪ من السكان.

علاوة على ذلك فإنه كل بضع سنوات، تعدم امرأة أو اثنتان بسبب أعمال الشعوذة. وفي حين أن عمليات الإعدام بموجب الشعوذة نادرة، إلا أن هذه التهمة هي في كثير من الأحيان ليست تهمة عنصرية: هناك شيء يجب الانتباه إليه بشأن عاملات المنازل الآسيويات والأفريقيات؛ فعلى عكس النساء السعوديات، لا يتم افتراض عفة المهاجرات غير السعوديات، ولا تُنظم حياتهن الجنسية. علاوة على ذلك، تصوَّر النساء المهاجرات الآسيويات والأفريقيات، من ذوات الأجور المنخفضة، على أنهن غير مرغوب فيهن جنسيًّا ومنحلات، وهو ما يستخدم عادة لتبرير العنف الجنسي ضدهن. وفي النهاية، لن يُجبر رجل سعودي على ممارسة الجنس مع مهاجرة آسيوية أو أفريقية، إلا إذا أوقعته عن طريق السحر أو «الاحتيال».

ومن ناحية أخرى، استخدمت الصور العنصرية للخطر الذي يسببه الرجال المهاجرون من آسيا وأفريقيا بوصفهم مفترسين جنسيين للعفة السعودية، ذريعة للسيطرة على وجودهم في البلاد، وتبريرًا لحرمانهم من الحقوق الاقتصادية أو السياسية، كما اتخذت ذريعة لعدم الاستجابة لدعوات المساواة بين الجنسين؛ فإذا سُمح للمرأة السعودية أن تقود السيارة، أو تغادر المنزل كما يحلو لها، دون ولي ذكر، فمن سيحميها من الحيوانات الجنسية المفترسة التي يمكن أن تغتصبها أو «تتلاعب بها» لممارسة الجنس؟

في الوقت نفسه، تتعزز العنصرية وكراهية النساء بشكل متبادل، من خلال تحديد الوضع اللاإنساني لجميع النساء من جميع العرقيات؛ لتكون كلها تحت سيطرة الرجل السعودي.

3 - نشأة الحركة الجديدة

في عام 2011، كانت المملكة العربية السعودية واحدة من الدول القليلة التي لم تشهد حراكا ثوريًّا مثلما حدث في بقية أنحاء المنطقة، وباستثناء ما حدث في القطيف؛ المدينة الشرقية ذات التاريخ الطويل من النشاط السياسي الجماهيري، لم يكن هناك سوى عدد قليل من الاحتجاجات الصغيرة المنتشرة في جميع أنحاء المملكة. غير أن المناخ السياسي الإقليمي الجديد لم يرفع سقف المطالب فحسب؛ بل إنه أجبر الحكومة السعودية أيضًا على تخفيف قبضتها المحكمة على حرية التعبير.

وكانت النتيجة ازدهار النقاش السياسي حول كل القضايا. وأصبح من الممكن أن يفتح المرء صحيفة رسمية ويقرأ مقالات افتتاحية تدافع عن الملكية الدستورية، وضرورة الحريات السياسية، وإضفاء الشرعية على النقابات، والمساواة بين الجنسين.. إلخ، لكن ما كان على صفحات الصحف كان مجرد انعكاس صغير لاتجاه أكبر منتشر على وسائل الإعلام غير الخاضعة لسيطرة الدولة.

إذ كانت هناك قنوات كوميدية على يوتيوب YouTube؛ مخصصة لانتقاد السياسات العامة والفساد، والتعامل مع قضايا مثل الفقر وصولاً إلى قمع الدولة. كان الناس على وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصًا على تويتر Twitter، الذي يستخدمه معظم السعوديين، أكثر جرأة. وبسبب عدد الحملات السياسية التي أطلقت أولاً على تويتر، أُطلق عليه اسم «برلماننا».

حملة 26 أكتوبر

وهنا وجد ناشطو حقوق المرأة هذه اللحظة مناسبة لتجديد الدعوات لإنهاء حظر قيادة النساء للسيارة وولاية الرجل. وحدث التحدي الأول الذي أطلقته الناشطات في 6 نوفمبر 1990، عندما أخذت 47 سيدة من الطبقة الأكاديمية والمهنية سياراتهن، التي عادة ما كان يقودها سائقون رجال، وتجولن في الرياض حتى أوقفن واعتقلن. قوبل الأمر باستنكار رسمي علني على التليفزيون الحكومي، واعتبرت هذه الفعلة تعديًّا خطيرًا نتج عنه فقدان بعضهن لوظائفهن، وصودرت جوازات سفرهن. لكن هذا لم يمنع الناشطات من مواصلة عملهن بعد ذلك، لكن بشكل رئيسي في مجال الدعوة ورفع الوعي.

خلال التسعينيات وبداية الألفية الجديدة أُقرت سلسلة من الإصلاحات، بما في ذلك فتح سوق العمل أمام النساء. ومع ذلك، كان المطلب الأكثر راديكالية في ذلك الوقت هو حق المرأة في قيادة السيارة في بلد لا توجد فيه وسائل نقل عام تذكر، وبالكاد فإن أي أرصفة موجودة في بعض المدن مصممة فقط بالأخذ في الاعتبار السيارات.

وفي عام 2007، أي بعد عامين من تتويج الملك عبد الله الذي أعرب في وقت سابق عن دعمه للسيدات، قدمت جمعية حماية حقوق المرأة والدفاع عنها في المملكة العربية السعودية، وهي جمعية غير حكومية أسستها وجيهة الحويدر، التماسًا بهذا الشأن. بعد عام من هذا الالتماس صورت وجيهة -وهي كاتبة غزيرة الإنتاج اعتقلت وأرهبت في السنوات السابقة بسبب أنشطتها- نفسها وهي تقود سيارتها في اليوم العالمي للمرأة، احتجاجًا على الحظر. وفي عام 2011؛ فعلت امرأة سعودية أخرى؛ وهي منال الشريف، الشيء نفسه. وبعد إلقاء القبض عليها، والإفراج عنها في نهاية المطاف، تقدمت منال لاحقًا بطلب للحصول على رخصة قيادة، ورفعت دعوى ضد الإدارة العامة للمرور عند رفضها. كذلك هناك ناشطة أخرى، هي سمر بدوي التي رفعت دعوى مماثلة، بعد أن رفعت دعوى أخرى في الماضي ضد منع النساء من المشاركة في انتخابات المجالس البلدية.

وفي عام 2013، أطلقت حملة جديدة احتجاجًا على هذا الحظر، تحت شعار «لها حق القيادة» في 26 أكتوبر. وتلا ذلك بوقت قصير عدد من التحديات المعلنة للحظر. بعد توجيه الدعوة لحملة الاحتجاج هذه، روقب موقع حملة 26 أكتوبر على الإنترنت، واتصلت وزارة الداخلية بالنساء اللائي يقدن الحملة لإثنائهن عن المشاركة. لكن هذا التخويف لم يمنعهن؛ فصورت عشرات النساء أنفسهن يقدن في شوارع مدنهن، في تحدٍ جماعي، ولكنه يظل فرديًّا، للحظر.

كانت التصريحات الحكومية الرسمية بهذا الشأن تتناقض مع بعضها البعض؛ إذ صرحت وزارة الداخلية بأنها سترد «بحزم وبقوة» في حال تكرار انتهاك الحظر. مع أنها في الوقت نفسه، ذكرت أن الحظر، الذي ذكرنه غير موجود، وسيلغى «بمجرد أن يكون المجتمع جاهزًا».

وفي ديسمبر 2014، طعنت لجين الهذلول، وهي ناشطة على مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى ميساء العمودي، في الادعاء بأنه لا يوجد حظر، وذلك من خلال تغريدات حية في أثناء القيادة عبر الحدود الإماراتية السعودية، باستخدام رخصة قيادة إماراتية. فإذا لم يكن هناك حقًا حظر، سيُسمح لهما بالدخول إلى البلاد؛ وإذا كان كذلك، سيتم إرجاعهما. وكان ما حدث أنه لم يسمح لهما بالدخول إلى البلاد، وألقي القبض عليهما على الحدود الإماراتية السعودية.

في الحالات السابقة، كانت الشرطة ستحتجز الناشطتين، وتجبرهما على التوقيع على «تعهد» بعدم القيام بذلك مرة أخرى؛ لكن هذه المرة كان هناك تصعيد غير متوقع؛ إذ جرت محاكمة لجين وميساء أمام المحكمة الجنائية المختصة بمكافحة الإرهاب. لكن مرة أخرى، وبعد احتجاجات وطنية ودولية على سخف هذا التصعيد، أُطلق سراحهما.

لم يكن حق المرأة في القيادة سوى الجزء الأكثر وضوحًا من حملة أوسع نطاقًا، كان الجزء الرئيسي منها هو زيادة الوعي حول الطبيعة الممنهجة لقمع المرأة.

المرأة السعودية تطالب بإلغاء ولاية الرجل

عندما بدأت الحملة للمرة الأولى، لم يكن أحد يظن أنها ستتحول إلى حركة جماهيرية. إن ما يميز هذه الحملة، أو بالأحرى، ما جعلها حركة من الأساس، هو أن الحملات السابقة كانت تتكون من نساء متميزات نسبيًّا؛ جميعهن تقريبًا إما كن يملكن ما يكفي من المال لامتلاك سيارة خاصة بهم، أو لديهن ولي أمر يسمح لهن باستخدام سياراتهن للطعن في القانون. لكن هذه المرة، كانت الحركة تتألف أساسًا من نساء ليس لديهن سوى امتيازات ضئيلة أو أخريات معدومات الامتيازات، كما وصفت ناشطة نسوية مسجونة الآن «كان السبيل الوحيد للاستقلال عن الأسرة عبارة عن حساب مجهل على تويتر».

لقد كانت حركة تحدثت فيها آلاف النساء عبر الإنترنت مع بعضهن البعض حول نضالاتهن الشخصية، وأنشأت دوائر نسوية محلية، وشبكات تضامن أوسع نطاقًا في جميع أنحاء البلاد. كانت الحركة لا مركزية، لكنها ليست بلا قيادة؛ إذ كانت الناشطات المخضرمات مثل عزيزة اليوسف ولجين الهذلول، جزئيًّا فقط وبسبب وضعهن المتميز، قادرات على توجيه خطاب الحركة على الأقل.

ومع ذلك، كانت هذه قيادة قائمة على الاعتراف بأنهن كن يفعلن ذلك فقط من أجل نساء ليس لديهن أية امتيازات؛ كما أوضحت لجين نفسها «أنا امرأة تتمتع بامتيازات أسرية وطبقية، لكنني لن أنسى معاناة الفتيات اللائي ليس لديهن مساحة شخصية أمارسها. من واجبي أن أستغل امتيازاتي حتى تحصل جميع النساء في بلدي على حقوقهن».

أنتجت الحركة أيضًا مجموعة جديدة من القيادات؛ بعضها بهويات معروفة، وأكثرها مجهولة الهوية. وقد عملت هذه الدوائر والشبكات على إنشاء منصات لزيادة الوعي، والمناقشة والتثقيف حول قضايا مثل الصحة الجنسية، وهو موضوع بالكاد يناقش بعبارات صريحة؛ والعمل المستمر ضد جميع أشكال الاعتداءات الجسدية؛ مثل زواج الأطفال (الذي لا يزال قانونيًا)؛ والعلاقات الزوجية المؤذية، والعنف الأسري، وسوء المعاملة الطبية، مثل الإجراء القصري لعملية الختان على سبيل المثال، والعنصرية، وعديمي الجنسية السعودية «البدون»، وإلغاء نظام الكفالة كمطلب نسوي أساسي؛ وفلسطين وأهميتها لنا كنسويين؛ والجنس والتعبيرات الجنسانية المختلفة؛ حركة مستمرة لترجمة الأدب النسوي إلى العربية، والقائمة تطول وتطول.

سرعان ما أصبحت هذه الدوائر والشبكات أساسًا للدعم المتبادل. سوف يرسل السعوديون الذين يعيشون في الخارج وسائل منع الحمل وحبوب الإجهاض إلى البلاد، وهي أشياء يتعذر على النساء غير المتزوجات، خصوصًا، الحصول عليها. واشتعلت حملة مي تو #MeToo على الفور، للإعلان عن التعرض للمضايقات الجنسية في أماكن العمل، وفي الشوارع، وبين الشخصيات العامة، وحتى بشأن الرجال من داخل الحركة نفسها.

كما أطلقت العديد من الحملات العامة التي وضعت في الاعتبار المخاطر المرتبطة بتنظيم عام مرئي، ومن ثَم اعتمدت على أشكال منفصلة من الاحتجاج. وكانت حملة «المقاومة مشيًا» #ResistanceByWalking حملة بارزة؛ إذ تلتقط النساء مقاطع فيديو لأنفسهن يقمن بمهام يومية، لإظهار مدى صعوبة القيام بذلك في مدن ذات درجات حرارة مرتفعة، ومصممة باعتبار السيارات الخاصة هي وسيلة النقل الوحيدة!

إحدى الحملات الأخرى كانت حملة «العباية المقلوبة»، التي رافقها (حرق النقاب والعباءة)، وكانت احتجاجات رمزية على قانون الملبس في البلاد. المهم أن حملة «العباية المقلوبة» كانت تهدف أيضًا إلى الخروج من وسائل التواصل الاجتماعي والاجتماعات الخاصة إلى «العالم الواقعي» حيث يمكن للمرأة، وللمرة الأولى، التعرف بسهولة إلى زميلات الحركة النسائية في الفضاء العام. لكن الناشطات لم يكن الوحيدات اللائي فوجئن، لقد فوجئت الدولة، التي اعتمدت على الأُسر كأداة لإبقاء النساء تحت المراقبة، إذ لم يكن لديها أدنى فكرة عن كيفية التعامل مع هذه الحركة.

لكن الوضع خرج عن السيطرة بشكل كبير عندما حاولت عدة فتيات؛ مثل دينا علي، وأشواق وأريج الحربي، وشهد المحيميد، ورهف القنون، من بين العديد من الفتيات الأخريات -الفرار من البلاد، وقد كان هذا هو، ولا يزال ربما، السبيل الوحيد القابل للتطبيق، على الرغم من أنه خطير للغاية، للهرب من عائلة مسيئة. وحاولت الدولة، نيابة عن العائلات المسيئة، إعادة الفتيات إلى بلادهن عن طريق وقف جوازات سفرهن وتسليمهن، وقد نجحت في ذلك أحيانًا. على أي حال، فقد تسببت كل حالة من تلك الحالات في فضيحة دولية، خصوصًا منذ وصول ولي العهد الشاب الأمير محمد بن سلمان (MBS) إلى السلطة بوعود التحرر الاجتماعي والتحرر الاقتصادي، وقد وأثارت هذه الأخيرة بالذات آمالاً كبيرة لرأس المال الدولي. نفذ محمد بن سلمان بعض الإصلاحات، لكن وفقًا للتقاليد، لم تكن قريبة تقريبًا مما كانت تطالب به الحركة: سيتم السماح للنساء بقيادة السيارات، ولم تعد هناك حاجة إلى موافقة ولي الأمر على العمل، والدراسة، وعمليات أمراض النساء، من بين أشياء أخرى، كان هذا الانتصار المحدود الذي طال انتظاره نصرًا مريرًا. وبينما كنا نحتفل جميعًا، كان أبرز الناشطين في الحركة صامتين. وأصبح من الواضح أنهم تلقوا جميعًا مكالمات من أمن الدولة تهددهم ضد أي شكل من أشكال الاحتفال أو التعليق العلني. كان ولي العهد صاحب الفضل وحده فيما قاتلوا من أجله منذ فترة طويلة.

لقد كنا ندرك تمامًا القيود المفروضة على هذه الإصلاحات. ما أسسوه هو تقنين حدود تقدير الولي؛ من الناحية النظرية، يمكن أن تحصل المرأة على وظيفة، أو تذهب إلى الكلية، أو تقود سيارة، أو تتقدم بطلب للحصول على جواز سفر (لكن لا تستلمه)، دون موافقته، لكنها ما دامت تعيش تحت سقفه فبالتأكيد هناك واقع مختلف. ولكي نكون واضحين، فقد أحدثت الإصلاحات الكثير من التغييرات، التي لا يمكن التقليل من أهميتها، ولكن هذه الإصلاحات أفادت فقط النساء المميزات ماليًّا إلى حد ما، اللائي لديهن أولياء متساهلون بالفعل11، ومع ذلك، كنا نأمل بأن هذا سيفتح ساحات جديدة من النضال.

بالتأكيد، كان الجو السياسي متوترًا أو دقيقًا؛ إذ كانت البلاد تمر بمستوى لم يسبق له مثيل من القمع السياسي من حيث الحجم والشدة، خصوصًا بعد تولي ولي العهد الجديد السلطة، فحدثت عدة موجات من الاعتقالات السياسية الجماعية، بالإضافة إلى عمليات إعدام جماعي منذ عام 2015. لم تعد الدولة مكتفية بإسكات المنتقدين؛ فقد نشأت عملية جديدة من الاستنطاق (الإجبار على التكلم)؛ وتعرض أولئك الذين لا يحبذون ويؤيدون ولي العهد الجديد وخطته 2030 لخطر الاضطهاد.

أطلقت وزارة الداخلية تطبيقًا يسمى «كلنا أمن»؛ وهو عبارة عن منصة للقمع السياسي، وهذا التطبيق ما يزال متاحًا في متاجر التطبيقات حتى الآن. ولإلقاء نظرة على مهمتهم، نقرأ تغريدتهم الأخيرة - في الوقت الذي كتبنا هذا المقال: «كن أول شرطي، وأسهم في الدفاع عن وطنك... من خلال الإبلاغ عن أصحاب وموزعي الأفكار المنحرفة على مواقع التواصل الاجتماعي»..

ومع ذلك لم يكن قمع الحركة النسوية مهمة بسيطة؛ فعلى الأقل منذ عام 2011، تقوم الدولة بتطوير قدرتها على مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي. فلم يكن التحكم في تويتر يمثل مشكلة صغيرة لهم؛ خصوصًا وأن معظم المستخدمين أحيانًا كانوا لا يملكون أي بيانات تعريفية. في عام 2016، أسَّست الحكومة السعودية مركز الحرب الأيديولوجية التابع لوزارة الدفاع، وكانت وظيفته هي السيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال جيش إلكتروني يضم آلاف الحسابات على تويتر يديرها أناس حقيقيون. لم تتوقف سيطرة الدولة عند السيطرة الافتراضية المطلقة تقريبًا على الموضوعات الأكثر شيوعًا trending، بل شنَّت أيضًا حملة ضخمة للبحث في التغريدات السابقة للأفراد وإلقاء القبض عليهم بناءً عليها.

في منتصف عام 2018، حدث السيناريو الأسوأ؛ وهو القبض على العديد من أبرز الناشطين في الحركة: لجين الهذلول، وعزيزة اليوسف، وإيمان النفجان، وإبراهيم المديميغ، ومحمد الربيعة. ثم فيما بعد، نوف عبد العزيز، ومايا الزهراني، وهتون الفاسي، ونسيمة السادة، وسمر بدوي؛ استدعي الكثير منهم، واستجوبوا ووضعوا على قوائم الممنوعين من السفر. ويبدو أن ما أثار هذه الاعتقالات كان طلبًا رسميًّا قدمه العديد منهم لإقامة مأوى للناجيات من العنف الأسري، لكن كون هذا اعتداءً على الحركة ككل كان أمرًا لا جدال فيه. وفي غضون أيام، وصفت وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة وجيشها الإلكتروني هؤلاء بصفات مثل «الخونة» و»عملاء السفارات». واحتجزوا لعدة أشهر بمعزل عن العالم الخارجي، لكن بعد فترة تحدثت أخت لجين عما مرت به شقيقتها، وفي النهاية تسربت بعض الأخبار عن الآخرين، وعرفنا بالأهوال التي عانوا منها؛ فقد تعرض معظمهم إلى جميع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي. ونتيجة لذلك حاول البعض منهم الانتحار. لقد كان الوضع مريعًا.

وباستمرار كانت وسائل الإعلام الحكومية تهاجم الحركة، وتحاول تشويه سمعتها. فكانت تساوي بين النساء اللواتي يهربن من العنف الأسري وبين من ينضم إلى تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»؛ لأن «كليهما يضر بالوطن»؛ الأولى من خلال الإضرار بسمعته. والثاني عن طريق القتل الجماعي. وبعد تلقيها هذه الضربة الخطيرة، التي ترافقت وإسكات معظم الأسماء البارزة أو اختفائها، بدا الأمر وكأن الحركة في طريقها إلى الموت، مع ذلك، فبين الحين والآخر كانت تحدث موجة جديدة من النشاط حول مسألة معينة.

في مارس 2019، وبعد أشهر من حملة قادها نشطاء حقوق الإنسان السعوديون في المنفى من أجل إطلاق سراحهم، أطلق سراح عزيزة اليوسف وإيمان النفجان وهاتون الفاسي، وما زلن ينتظرن المحاكمة. بعد إطلاق سراحها نشر ابن عزيزة، صلاح، صورة شخصية لهما مبتسمين. أعيد نشر هذه الصورة على نطاق واسع، فأصبحت مصدرًا للتشجيع والأمل من جديد، ولكن ليس لفترة طويلة؛ إذ سيكون صلاح من بين نحو عشرة ناشطين سيعتقلون في الشهر التالي. هذه المرة، كان معظم المعتقلين من الرجال، إلى جانب اثنتين من النساء اللائي أسهمن في النهضة الفكرية في المملكة العربية السعودية. وكان المعتقلون هم بدر الإبراهيم، ومحمد الصادق، وثامر المرزوقي، وعلي الصفار، وعبد الله الدهيلان، ورضا البوري، وخديجة الحربي، وفهد أبا الخيل، وأيمن الدريس، وعبد الله الشهري، وشيخة العرف، ومقبل الصقر، ونايف الهنداس12.

فيما يتعلق بالأسباب الكامنة وراء اعتقالهم، افترضنا أن ذلك كان إما لارتباطهم بالحركة النسوية، لأن اعتقال الرجال لن يجلب اهتمامًا دوليًّا، حتى وإن كان اثنان منهم مواطنين أمريكيين؛ أو لتوجهاتهم المؤيدة للفلسطينيين منذ أمد بعيد، والتي قدمت التحرر الوطني تفسيرًا تقدميًّا نهائيًّا وبديلاً لسردية الصراع الديني المسلم اليهودي القديم والمفلس في الدولة السعودية. وهي توجهات مزعجة ولا شك، لأن الدولة تتبع صفقة القرن التي بشَّر بها ترامب. وربما يكون أمر اعتقالهم متعلقًا بالسببين، فالسببان أحيانًا ما يتقاطعان في المملكة العربية السعودية13.

أخيرًا قادت بعض النساء «المقربات من الدولة»، بمن فيهن عضوات مجلس الشورى -الهيئة التشريعية التي لا حول لها ولا قوة في المملكة- جيشًا إلكترونيًّا في حملة شرسة ضد النسوية، والحركات النسائية. وقد تغير أساس هجماتهن بشكل دوري: لقد كن يرمين كل التهم علينا؛ عسى أن تلتصق بنا إحداها. في البداية، استخدمن الأساليب القديمة المعتمدة على العنصرية العتيدة ضد النساء، فوصفن الحركة النسائية بأنها حركة من أجل النساء المصابات بأمراض عقلية، مضيفات بأن هناك فرقًا بين حقوق المرأة والحركة النسائية، التي لا تتعلق إلا بكراهية الرجال. وذكرت بعضهن أن النساء اللائي يعتقدن أنهن يتعرضن للتمييز هن ببساطة ذوات «شخصيات ضعيفة»، وعليهن إلقاء اللوم على أنفسهن. وفي نهاية المطاف، اخترن إعادة تقديم أنفسهن كأنصار نسويات «حقيقيات»، على عكس ما بدأن وسمَّين الناشطات خائنات و»تقاطعيات».

إن ما بدا في البداية وكأنه محاولة يائسة لاختطاف الحركة، تحول في الآونة الأخيرة إلى جزء من محاولة أكبر لإجبار كل من تبقوا على الرضوخ. إنهم يفعلون ذلك من خلال إيجاد و»فضح» معلومات وصور خاصة بالنساء الرائدات اللائي يدرن حسابات نسوية بارزة ومجهلة؛ فكثيرات من أولئك النساء يدرن هذه الحسابات دون علم أولياء أمورهن، وهذا التتبع يعرضهن لمخاطر شخصية. ونتيجة لذلك ألغيت العديد من الحسابات على تويتر على الرغم من أنها تضم عشرات الآلاف من المتابعين، خوفًا من الانتقام.

نصر وبداية جديدة

في وقت كتابة هذا المقال، لم نكن نتوقع أن المطلب الرئيسي للحركة سيتحقق قريبًا للغاية؛ ففي 2 أغسطس 2019، أي بعد 1114 يومًا من بدء الحركة، أُلغي جوهر قوانين ولاية الرجل. وقد جاء هذا النصر في شكل تغييرات في قوانين الأحوال المدنية ووثائق السفر والعمل؛ وأعيد تعريف «رب الأسرة» باعتباره الأب والأم معًا، لا الأب فقط. وأزيلت «النساء غير المتزوجات» من تعريف القاصرين. وأصبح من الممكن الآن للنساء البالغات الحصول على جوازات سفر والسفر دون إذن ولي الأمر؛ كما أن المرأة المتزوجة لم تعد مضطرة إلى العيش مع زوج لا ترغب به؛ وأعيدت صياغة بنود قوانين مناهضة التمييز في العمل لحظر جميع أشكال التمييز على أساس الجنس في سوق العمل (مما قد يفتح قطاعات جديدة من الاقتصاد لمشاركة المرأة).

لقد كتبنا هذه المقالة ونحن نتوقع أن الأمر قد يستغرق منا سنوات للوصول إلى هذه النقطة، ولم نتوقع أن نختتمه بنبرة أكثر تفاؤلاً مما كان ممكنًا في البداية. لكن مع ذلك فما يزال أمامنا طريق طويل لنمشيه. فقد ألغي جوهر قوانين الولاية الذكورية، ولكنها لم تفكك بالكامل. فلا يزال الآباء يتمتعون بالولاية على الزواج؛ ولا يزال زواج الأطفال قانونيًا؛ كما أن الإصلاحات المزمعة لـ«دور الرعاية» لا تزال غير واضحة؛ ويبقى نظام الكفالة قائمًا؛ كما وأن الاغتصاب الزوجي والعنف الأسري لا يزالا قانونيين. وعلاوة على ذلك، يبدو أنه لا توجد مجرد نية لإنشاء آليات مؤسسية لفرض التغييرات القانونية التي أجريت. والجدير بالذكر أن أصدقاءنا وزملاءنا الناشطين إما في السجن أو في انتظار المحاكمة. لكن الحركة ببساطة لا يمكن أن تتوقف هنا.

كانت الحركة النسوية نتيجة لمزيج من النضالات التي قدمتها النساء المتميزات، اللواتي كن يقاتلن ضد النظم القانونية الشاملة التي أعاقتهن، ونضالات جماعية شخصية أو محلية من قبل نساء لا يتمتعن بأي امتيازات، بل عاشت كل منهن حياة يجب أن ينتج عنها نضالاً سياسيًّا ضد المظاهر المتعددة للعلاقات الاجتماعية القمعية والاستغلالية. منذ أن تأسست هذه الحركة على ضرورة تغيير الحياة اليومية، فإننا نعلم أن الإصلاحات القانونية، مهما كانت كبيرة، فإنها ليست كافية.

إن كون هذه الحركة أولى الحركات الاجتماعية في البلاد التي تخترق بوعي الانقسامات القبلية والطائفية والإقليمية القائمة التي تميز معظم التيارات السياسية في البلاد، يجعلنا نصفها كأول حركة اجتماعية جماهيرية واسعة في المملكة العربية السعودية. وهو التوجه الذي يمنحها إمكانات غير مستكشفة إلى حد كبير (ولا تزال) ويجبرها على التعامل مع العقبات التي لم يكن على أي حركة أخرى التعامل معها؛ كإنشاء بنية تحتية مجتمعية على مستوى الدولة للتنسيق والتنظيم والتعبئة. فالحركة، كما نأمل، لا تزال في سنواتها الأولى.

1- إن الجانب الآخر لفكرة تفوق العِرق الأبيض هو ضمنًا العنصرية الثقافية: إذ لا يزال يُنظر إلى اضطهاد المرأة المسلمة باعتباره وضعًا يخص المسلمين فقط؛ أي أنه ظاهرة ثقافية في الأساس لا يمكننا فهمها ولكن لا يزال يتعين علينا «التسامح معها». وهذا موقف محفوف بالمخاطر وغير مستقر، كما أنه يفسح المجال، إما عاجلاً أو آجلاً ليعبر عن عنصريته بشكل علني.

2- إن التطور ليس عملية خطية أبدًا: إذ لا يمكن للقوى الرجعية أن تعود إلى الوراء، فهي لا تستطيع سوى المضي قدمًا في عملية نفي رجعي للنفي.

3- أ. هـ مقابلة شخصية، 7 أبريل 2018.

4- على سبيل المثال، وبدلاً من الصراع بين البروليتاريا/ المقموعين وبين الإمبريالية، قدم الإسلاميون سردية للصراع بين المستضعفين و«الاستكبار» العالمي.

5- لا ينبغي فهم هذه على أنها لحظة محددة عندما واجهت أرض/ شعب إسلامي بحت الآخر الرأسمالي «الغربي»، بل ينبغي فهمها كعملية مستمرة طويلة الأمد، نشأت استجابة للتحولات الاجتماعية الأصلية والخارجية. ولما كان هذا الظرف التاريخي مختلف فقد طرحت تساؤلات مختلفة؛ على سبيل المثال، كتب العالم الإسلامي العراقي محمد باقر الصدر كتابيه «البنك الربوي في الإسلام»، و»اقتصادنا»، وهي نصوص تأسيسية للاقتصاد الإسلامي في السنوات التكوينية للدول القومية في مرحلة ما بعد الاستعمار في نصف الكرة الجنوبي، وذلك في رد فعل على الاقتصادين الماركسي والرأسمالي. وليست الحال أن «الربا»، على سبيل المثال، لم يكن ممارسة شائعة في العراق أو في العالم العربي، أكثر ما كان صراعًا على الأدوات الأيديولوجية القانونية للدولة الناشئة حديثة الاستقلال.

6- دور الرعاية (اختصار لبيوت الرعاية الاجتماعية) هي في المقام الأول سجون للنساء «الناشزات» أو «غير المرغوب فيهن» أو «المنحلات أخلاقيًّا» تحت سن 30 عامًا، ويشمل خدمات «إعادة التأهيل» القسرية. وتنقل النساء فوق سن الثلاثين إلى ما يسمى «بيوت الضيافة». وبحسب روايات النساء اللواتي غادرن، فإن الاعتداء الممنهج يشمل الجَلد «الروتيني» الأسبوعي، والحبس الانفرادي، والوقوف لساعات طويلة. وتُحرم النساء السجينات من الوصول إلى الأجهزة الإلكترونية أو أي شكل من أشكال الترفيه. كانت هناك عدة حالات للهروب من النساء السجينات التي حظيت باهتمام محلي وفي وقت لاحق باهتمام دولي، ويرجع ذلك أساسًا إلى عمل النساء الناشطات في الحركة. كانت بعض الانتصارات المبكرة للحركة هي منع عودتهن إلى السجن.

7- محمد ديتو «الكفالة: أسس استبعاد المهاجرين في أسواق العمل الخليجية، و»العمل والهجرة والمواطنة في الخليج» أ د. عبد الهادي خلف وآخرون. (لندن: مطبعة بلوتو، 2015).

8- عمر الشهابي «تواريخ المهاجرين، العمالة والهجرة والمواطنة في دول الخليج، نسخة كيندل.

9- المصدر السابق.

10- يضطر العديد من العمال المهاجرين إلى العمل في وظائف لا يريدونها، لأن الانتقال إلى وظيفة مختلفة يتطلب نقل الكفالة وهو ما يجب أن يوافق عليه الكفيل. كما أن العودة إلى الوطن ليست خيارًا أيضًا، خصوصًا وأن «أكثر من ثلاثة أرباع العمال الوافدين تورطوا في الاقتراض من أجل السفر والتوظيف»، وهذا الظرف المتعلق بعبودية الديون «يحد من قدرة العمال التفاوضية على شروط عقد العمل الرسمي». انظر ديتو، «الكفالة: أسس استبعاد المهاجرين في أسواق العمل الخليجية».

11- قبل رفع الحظر، وُضع العديد من المتطلبات الجديدة للحصول على رخصة قيادة، والتي تكلف الآن ما يقرب من متوسط دخل الأسرة الشهري.

12- لما كانت موجة الاعتقالات هذه لم تحظ باهتمام وسائل الإعلام، ولا توجد ملفات شخصية عامة للمعتقلين لربطهم بها، نعتقد أنه سيكون من المناسب تقديمهم هنا: بدر إبراهيم ومحمد الصادق كلاهما كاتب غزير الإنتاج، صدر لهما «الحركة الشيعية في المملكة العربية السعودية: تسييس الطائفة وستالينية السياسة. وعبد الله الدحيلان صحفي وكاتب قصة قصيرة، وله أيضًا كتاب «السعوديون والربيع العربي». ومقبل الصقار روائي، تناولت روايته «عين مريم» بشكل خاص أوضاع المرأة في المملكة العربية السعودية. ونايف الهنداس كاتب ومترجم وناقد فني. وخديجة الحربي كاتبة نسوية معروفة. ويكتب علي الصفار في الغالب عن الاقتصاد والسيادة الوطنية العربية. ورضا كاتب ومصور. وثامر المرزوقي وعبد الله الشهري، بالإضافة إلى الدحيلان والصفار والإبراهيم والصادق، وقد شاركوا ضمن آخرين، شاركوا في تأليف كتاب «عن معنى العروبة: المفاهيم والتحديات»، وفهد وهو معروف بدعمه لحملة قيادة النساء. وشيخة العارف وأيمن الدريس وهما مترجمان.

13- جميع النشطاء الوارد ذكرهم في المقالة معروفون بتأييدهم للقضايا النسوية والقضية الفلسطينية.