ثقافات

أمير الـصرّاف

الحمّامات من اختراع المصريين القدماء!

2024.08.23

مصدر الصورة : ويكيبيديا

الحمّامات من اختراع المصريين القدماء!

 

«بيت الراحة» يشغل حيزًا من اهتمام الناس بحكم التعامل اليومي فيه، البعض يصوغ فيه أفكاره والآخر يطالع صحف الصباح وهناك من يغني تحت الماء وهناك من يخشى أن يزعج السكان الافتراضيين في هذا المكان ويحتاط في تعامله وسلوكه. 

ليست الفكرة من الكتابة عن تطور «حمّامات المنازل» رصدًا مباشرًا لتغييرات حدثت أو تحدث، الكتابة هنا تؤرخ لحقب زمنية ولت، وأيضًا تأخذنا إلى مداخل لحيوات السكان وحالتهم الاقتصادية والمعيشية فى الزمن الذي عاشوا فيه.

السبّاكون المخضرمون من أرباب الصنعة الأوائل لهم منطق مقنع لملَّاك المنازل أو الزبائن فى اختيار أماكن وضعية أدوات الحمام أو المرحاض، هذه الخريطة التي يرسمها السبّاك فى هذه المساحة المحدودة تشترط بالضرورة أن يكون الكرسي والحوض وصنبور المياه المتصل بالدّشّ أو المسبح الصغير في حالة تراص على خط واحد في اتجاه المنورـ تلك النافذة الصغيرة التى يتسرب منها الضوء والهواء إلى الداخل، يبذل السبّاكون كل طاقتهم فى الاعتداد بهذه الخريطة مع ملَّاك المنازل رغم اعتراض الزبائن ورغبتهم في توزيع هذه الأدوات في مناطق مختلفة فى مساحة الحمام أو غرفة المرحاض. 

وعلى ما يبدو أن هذه الخريطة قديمة ويتوارثها أهل الصنعة.. بعد خطوات قليلة من باب قصر السلاملك أحد مشتملات المجموعة المعمارية للأمير يوسف كمال بمدينة نجع حمادي، في اتجاه قاعة كبار الضيوف في الناحية الشمالية من القصر المكون من طابق واحد وسطح، يقع حمّام محدود المساحة كانت هذه الخريطة معتمدة أيضًا في تصميمه، حرص العمال في ذلك الوقت على أن يكون المرحاض وملحقه صندوق الطرد، في اتجاه المنور أو الجزء الخلفي من القصر وهو الحديقة.

ربما ذكرنا قصر السلاملك مثالًا لأسباب عديدة، منها أنه يعود إلى أوائل القرن التاسع عشر وأن المهندس القائم على الإنشاءات مجهول حتى وقتنا هذا، وهو ما يجعلنا نذهب مؤقتًا إلى فكرة أن بعض الإنشاءات داخل المجموعة قد تكون تمت بعمالة محلية من السباكين الموظفين في دائرة الأمير في ذلك الوقت، وأيضًا فإن القصر يخص واحدًا من أغني المصريين في ساعتها، والسبب الأخير كان ضروريًّا كمدخل للمقارنة بين الطبقات في جزء من الصعيد، تلك التي نحاول رصدها هنا ربما قناعة بما قاله فيكتور هوجو في روايته البؤساء إن «تاريخ الإنسانية ينعكس في تاريخ مجاريها»! 

حِرصُ المهندسين أو البناءون على اختيار مكان المرحاض أو الحمّام فى آخر المنزل أو الشقة وبزاوية معينة ليس مصادفة، ففي سنة 1912 من القرن الماضي اكتشف عالم المصريات «كويبل» جبانة شمال هرم سقارة المدرج تعود إلى عصر الدولة القديمة، ملحقًا بها مراحيض وكانت مقامة في الزاوية الجنوبية الشرقية وهي الزاوية الأخيرة في المنزل أو البناء التي يمر عليها الهواء! وهو ما يعني أن اختيار أخر مكان في المنزل وفى هذه الزاوية كان قانونًا عرفيًّا متبعًا منذ آلاف السنين حفاظًا على الصحة العامة ونظافة هواء السكن. 

قبل 5 قرون من ميلاد السيد المسيح، عليه السلام، وفي زيارته لمصر تعجب المؤرخ الإغريقي هيرودوت من قيام المصريين بقضاء حاجتهم داخل منازلهم وقيامهم بتناول الطعام في الشوارع والطرقات، كانت هذه العادات اليومية مدهشة للإغريقي الزائر، لأن كل الشعوب كانت تقضي حاجتها في الخلاء! وعندما رأى المصريون أن الضرورات القبيحة يجب أن تؤتى في الخفاء، كان مكان قضاء الحاجة فى نهايات المنازل المصرية القديمة ويطل أيضًا على متسعات مساحية، لدرء هذه المخلفات خارج المنازل فى حفر خارجية من الرمال وفي الشمس. 

وتأخذنا شهادة الإغريقي إلى كون المصريين أول الشعوب، ربما، التي عرفت المرحاض المنزلي وآداب النظافة العامة، والأخيرة تدلل عليها واقعة الكتيبة الطيبية، نسبة إلى مدينة طيبة، وهي الأقصر حاليًّا، ففي القرن الثالث بعد ميلاد المسيح، عليه السلام، استعدت كتيبة من الجنود من الأقصر للحرب في أوروبا وغادرت مع تلك الكتيبة فتيات للتمريض وكانت منهن فيرينا، تلك العذراء التي علمت سكان جبال الألب النظافة الشخصية والطب الفرعوني، واستقرت ودفنت في سويسرا. 

إن لنا ذاكرة وآثارًا فى النظافة العامة ممتدة منذ أيام المصريين القدماء، ومثلما يقول هوجو: «تاريخ الإنسانية ينعكس في تاريخ مجاريها»، وعليه فإن المشاهدات الحالية في تدني النظافة العامة وسوء استخدام المراحيض العامة، وهي ظاهرة تثير الجدل في مصر من وقتت إلى آخر، تثير قلقًا بالغًا حول اضمحلال كبير في السلوكيات والنظافة العامة على الأقل في المنشآت العامة. 

فى سلاملك الأمير يوسف كمال بمدينة نجع حمادي، بقيت أغلبية مكونات الحمّام القديم في الطابق الأول باستثناء بعض التلفيات في الجدران ومقابض صنابير المياه التي غيرت بأخري حديثة لا تناسب التصميم القديم، وهذا التغيير أو التلفيات جراء استخدام المبني كمقر لبعض الهيئات الحكومية قبل إخلائه واعتباره أثرًا إسلاميًّا حاليًّا، اختار المعماري أو السبّاك آنذاك أن تكون خلفية قاعدة المرحاض حديقة السلاملك، وتم فتح نافذة صغيرة ذات مشربية كتهوية مباشرة على الحديقة مع نظام الصرف، ويجاور قاعدة المرحاض، لكن في اتجاه علوي علق صندوق الطرد بالنظام القديم ليكون في متناول مستخدم المرحاض، وكانت قاعدة المرحاض عبارة عن كرسي من الرخام الأبيض مربع الشكل بحجم كبير وله حواف ذات فتحات مستديرة وليس كرسيًّا كالمستخدم حاليًّا. 

علماء الآثار أمثال لودفيج بورخارت وفلندر بتري عثروا في حفريات أجريت في مطلع القرن العشرين في تل العمارنة بمحافظة المنيا ودير المدينة في الأقصر وسقارة في الجيزة، على نماذج للمراحيض في مقابر وأيضًا معابد، توضح أن كرسي المرحاض بسلاملك الأمير يوسف كمال لم يكن إلا تصميمًا قديمًا، ابتكره واستخدمه المصريون القدماء ضمن نظمهم فيما يخص دورات المياه ومكوناتها ونظم الصرف فيها، وعثر على نماذج كراسي مرتفعة عن الأرض بأبعاد متباينة وكان منها ما صنع من الفخار أو الخشب فى هذه الحفائر. 

ارتبط شكل دورات المياه وإمكانياتها ونظام الصرف فيها، فى القرنين الماضيين، بالحالة الاقتصادية لملّاك البيوت بطبيعة الحال، في بيوت الطين المبنية من الطوب اللبن بالقرى والتجمعات الريفية كان المرحاض الأرضي.. فتحة في أرضية الحمام مفتوحة إلى باطن الأرض، من دون أي أدوات وكانت المياه تُجلب بإناء إلى داخل حجرة المرحاض المبنية سلفًا ووفقًا للقواعد القديمة في نهاية المنزل، وبزاوية تسمح بتهوية جيدة، وكانت هناك أيضًا حفر متوسطة العمق ذات جدران مبلطة تصرف على غرف أخرى خارجية يتم التخلص منها كل فترة يدويًّا وهي تقارب الأشكال القديمة للمرحاض التي عثر عليها كوبيل في سقارة وتعود إلى عصر الأسرة الثالثة الفرعونية. 

يذكر الدكتور حسن كمال أنه في سنة 1909 عثر شبابارللي في مقبرة سليمة لصاحبها المهندس (خا) من الأسرة الـ 18 فى دير المدينة بالأقصر على مقعد خشبي لمرحاض مهذب كثيرًا يشبه المقعد الحالي، سطحه مقعر وبه فتحة مستطيلة ووصفه شبابارللي بأنه أول مرحاض عثر عليه في مقبرة مصرية قديمة، وعثر على كرسي مرحاض من الفخار بالقرب من دير المدينة بالأقصر في حي العمال من عهد الأسرة الـ 18 تمتاز فتحته بأنها شبه دائرية وتختلف عن سابقاتها بوجود شق عريض أمامي، هذا الشق إجراء صحي جدًّا لكنه أضعف كثيرًا من قوة احتمال المقعد، لأن المقعد مصنوع من مادة قابلة للكسر، وقد حاول الصانع تعويض ما فقده المقعد من قوة الاحتمال نتيجة لذلك فقوى الجانبين بدعامات. 

يضيف كمال في كتابه «الطب المصري القديم» أن الخشب لم يكن رخيصًا في مصر وقتئذ، لذلك صنع متوسطو الحال مقاعد مراحيضهم من الطوب اللبن المحروق الرخيص الذي في متناول الجميع. 

لم يكن المرحاض بشكليه الحاليين الأرضي والمرتفع سوى فكرة ابتكرها المصريون القدماء، تطورت عبر الزمن لتأخذ الأشكال المعروفة حاليًّا وبمواد صناعة متينة تتحمل بيئة المكان، كما ارتبط وصول هذا التطور إلى السكان حسب حالتهم الاقتصادية ومدى انفتاحهم على المستجدات الواردة كل فترة زمنية بفعل الحداثة. 

«السباكة سرطان العمارة» مقولة تحذيرية يحرص على ترديدها السبّاكون أمام الزبائن لإقناعهم باتباع القواعد والأعراف القديمة في اختيار مكان غرفة المرحاض أو الحمام، وهي تشرح نفسها وهي كفيلة باتباع أعراف المصريين القدماء!