ثقافات

أمير الـصرّاف

وداد الغازية والبرنس يوسف كمال

2024.06.22

وداد الغازية والبرنس يوسف كمال

 

"وفي تلك الليلة شرب يوسف كمال كثيرًا وطلب إليها أن تغني وترقص لضيوفه وهي عارية كما ولدتها أمها"، في ذلك السياق أو أقرب منه تدور معظم الحكايات الشعبية التي يقصها المسنون كلما حضرت سيرة الأمير يوسف كمال أو التسمية الشعبية السائدة له وهي البرنس.

تُظهر الحكايات الشعبية -في نطاق إقطاعيته الزراعية- الرجلَ كإقطاعي انتهازي لا يحترم آدمية الأهالي، حتى أصحاب الشأن منهم (العمد والمشايخ)، وهو نفسه صاحب الحفلات الماجنة التي يحضرها الأجانب في قصره المليء بالحيوانات المفترسة، وتجنح هذه الروايات أحيانًا إلى إدخال الأمير في زمرة المثليين جنسيًّا. 

تقترب الروايات من النوعية المنشورة في الصحافة المصرية في السنوات التي تلت إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية من نحو 16 رواية قصيرة أو طويلة نشرت في ريبورتاجات صحفية في مجلتي الإذاعة والاثنين وصحيفة الأخبار، نشرت في أعوام: 1955 و1956 و1957، وحرص الصحفيون كاتبو هذه القصص على إبراز أسلوب العمل الميداني في عملهم من خلال ذكر ملامح زياراتهم بكثير من المبالغة في وصف المنطقة.

وباستثناء رواية واحدة فإن ما كتبته الصحافة المصرية في السنوات السالف ذكرها هي التي شكلت الذاكرة الموازية أو الشعبية عن الأمير يوسف كمال في محيط إقطاعيته أو دائرة أملاكه، التي أبرز الصحفيون أنها وقعت في مدينة نجع حمادي التابعة لمحافظة قنا، حيث تمركزت أملاكه التي اقتربت من 16 ألف فدان، وإن كانت ليست المنطقة الوحيدة التي امتلك فيها أراضي وقصور. 

وهناك قصة لم تذكرها الصحافة، هي مروية قديمة تقول إن الأمير كان يقيم مسابقة لتسلية ضيوفه الأجانب الزائرين لمجموعته المعمارية بمدينة نجع حمادي، وهي ملء إناء كبير بالدقيق ودفن عملات ذهبية فيه ثم استدعاء العمد والمشايخ للبحث عن العملات بأفواههم! 

وإذا كانت هذه المروية الشعبية لم تدونها صحافة ثورة يوليو 52 رغم تفاصيلها المثيرة والتي تناسب طبيعة مرحلة النشر، فإن الصحافة استفاضت في نشر روايات أكثر إثارة، يختلط فيها الواقع بالخيال ومنها ما نشر في أخبار اليوم بتاريخ 20 نوفمبر 1956.

يقول كاتب الريبورتاج في فقرة بعنوان: "الأمير والأسد وجمجمة بخيت": على البيانو الأسود رأيت جمجمة بشرية كتب عليها يوسف كمال قصة صاحب هذه الجمجمة معه بالقلم الكُوبية، فقد خرج في أحد الأيام لصيد الوحوش ومعه عبد شجاع من عبيده اسمه بخيت، وبينما كان الأمير والعبد في الأدغال، لمح بخيت أسدًا إفريقيًّا ضخمًا وهو يتحفز لينقض على يوسف كمال من الخلف، فما كان من بخيت الشجاع إلا أن هاجم الأسد بيديه، اشتبك معه في معركة دامية وما كاد الأمير يرى المنظر حتى أصيب بذعر وأخذ يصوب بندقيته ويطلقها مرة على الأسد ومرة على بخيت فقتل الأسد وقتل بخيت! 

ويضيف كاتب الريبورتاج: وفي اليوم التالي تنبه إلى الدور الذي قام به بخيت الشجاع لإنقاذه من موت محقق فأمر بدفن جثته، واحتفظ بجمجمته بعد أن كتب عليها هذه القصة بالقلم الكُوبية، هذه القصة التي ذُكرت كدعاية سياسية لثورة 52 وضمن إجراءاتها لإيجاد مؤازرة شعبية لإنهاء حقبة سابقة بغير احتمالات إعادة أو عودة إلى النظام السياسي السابق أو رموزه هي نفسها التي تحفظها الذاكرة الشعبية بتفاصيل ربما أقل جنوحًا في الخيال.

تقول الذاكرة الشعبية إن الأمير يوسف كمال أقام وبنى ضريحًا للشيخ عمران في مجموعته المعمارية في نجع حمادي لأن صاحب الضريح أنقذه من حيوان مفترس هاجمه في رحلة صيد في إفريقيا عندما ظهر له الشيخ في الأدغال وأبعد الحيوان عنه، بالتزامن فإن هناك رواية أخرى تقول إن صلة الصداقة التي نشأت بين الأمير يوسف كمال والإمام أحمد أبو الوفاء الشرقاوي حجة عصره سببها إنقاذ الإمام للأمير من نفس الحيوان المفترس.

والرواية الأخيرة نفاها الشيخ إبراهيم الشرقاوي حفيد الإمام، مبينًا أن جده كان يتندر على هذه الرواية الخيالية وأن العلاقة التي ربطت بين الطرفين كانت علاقة صداقة نشأت بينهما بعد ما قام محمود باشا سليمان وكيل مجلس شورى القوانين بعقد لقاء مشترك بينهما في قصر الأمير في نجع حمادي. 

وفي كل الأحوال فإن ما نشرته صحافة ثورة يوليو 52 كان وما زال المنبع الذي لم يجف، المغذي للذهنية الشعبية بكل ما هو خيالي وأسطوري أحيانًا، عن الأمير الراحل الذي نال ما يوازي ما ناله فاروق الأول ملك مصر السابق، من تشويه لسيرته وحياته الخاصة، في حين تبقى السيرة الذاتية وأعمال الأمير السابق المحققة وإسهاماته في الحياة الثقافية والتعليمية في مصر محصورة بين الباحثين والفنانين التشكيليين كونه من أسس مدرسة الفنون الجميلة في موقعها القديم بدرب الجماميز بالقاهرة. 

حكاية وداد والبرنس يوسف

في سنة 1983 عُرض فيلم "وداد الغازية" بطولة نادية الجندي (التي كانت نجمة الشباك في ذلك الوقت)، ومحمود يس وعادل أدهم وتوفيق الدقن وعدد من نجوم الصف الثاني في تلك الفترة، ومنهم عبد الله فرغلي وسيد زيان ونعيمة الصغير وغيرهم. قصة الفيلم للروائي جليل البنداري والسيناريو لمصطفي محرم والحوار كتبه بهجت قمر وأخرج الفيلم أحمد يحيى وأنتجته الشركة المصرية اللبنانية للسينما (حسين الصباح). ولم يكن الفيلم هو أول عمل فني عن "وداد الغازية" فقد سبقته مسرحية تحمل نفس الاسم من تأليف جليل البنداري، وأدت دور البطولة فيها هدى سلطان وشاركها البطولة أيضًا عادل أدهم وهو نفس بطل الفيلم السينمائي الذي خرج إلى النور بعد المسرحية التي أخرجها محمد سالم. 

جليل الدين محمد البنداري مؤلف مسرحية "وداد الغازية" التي تحولت إلى فيلم سينمائي، بدأ حياته موظفًا في مصلحة التليفونات ثم التحق بمؤسسة الأخبار وتخصص في الصحافة الفنية وكان مشهورًا بعلاقاته الواسعة وإطلاقه الألقاب على الفنانين والمطربين في ذلك الوقت، وألف عددًا من الأغاني والمسرحيات ومنها "شفيقة القبطية" والأفلام ومنها "العتبة الخضراء". 

تذكر أسرة الراحل جليل البنداري في حديث أدلت به إلى صحفية الأهرام في 18 ديسمبر 2015، أنه كان مغرمًا بالتراث الشعبي وعندما قرأ مقطع "على حسب وداد قلبي" بحث عن "وداد" في بلدها فوجدها غازية أحبها الأمير يوسف كمال، فكتب مسرحيته وداد الغازية التي عرضت على مسرح البالون. 

لكن ما المصدر الذي استقى منه جليل البنداري الفكرة الأساسية لمسرحيته التي سيكتبها لاحقًا وهو صحفي لامع يعيش في القاهرة؟

في 20 نوفمبر 1956 نشرت أخبار اليوم سردًا لعدد من الروايات تحت عنوان رئيسي "الغازية والبرنس المجنون"، كاتب التحقيق استهل ما كتبه ليؤكد أنه زار نجع حمادي التي أسماها "عاصمة القصب" إشارة إلى تمركز زراعة ذلك المحصول فيها ووجود مصنع لتكرير السكر، ويذكر أنه تخلف عن العودة مع البعثة إلى القاهرة فيما يبدو، ليزور قصر يوسف كمال الأسطوري. 

وفي فقرة من التحقيق يروي كاتب التحقيق: "ومن أجل سواد عيون وداد الغازية هجر يوسف كمال منيرة المهدية وأصبح يقيم معظم السنة في نجع حمادي، ولقد وقع يوسف كمال في غرام وداد من أول نظرة، فقد دعيت أو أمرت بالغناء في قصره فلما دخلت عليه لم يبستم لها إنما أمرها بالغناء فشتمته بهذه الأغنية المعروفة في أنحاء الصعيد "يا جريد النخل العالي طاطي وارمي السلام". 

ويضيف في فقرة لاحقة: "وفي تلك الليلة شرب يوسف كمال كثيرًا وطلب إليها أن تغني وترقص لضيوفه وهي عارية كما ولدتها أمها، فرفضت وداد واستاء الأمير، وفي تلك اللحظة كان مأمور مركز نجع حمادي يستأذن في مقابلته فلما دخل عليه تذكر أن المأمور قد أباح لنفسه أن يسكن في أحد بيوته دون إذن منه شخصيًّا فتناول كرباجًا وانهال على المأمور أمام ضيوفه وعبيده ووداد الغازية! وخرج المأمور من قصر يوسف كمال وهو ممزق الجسد والثياب والكرامة ومشى في شوارع نجع حمادي بهذه الصورة الأليمة حتي ركب أول قطار للقاهرة، والتفت الأمير المجنون إلى وداد وقال لها: إنك تمنحين نفسك لكلاب السكك. فقالت وداد في شجاعة: كلاب السكك نعم إنما أنت لا. 

أورد الصحفي رواية وداد الغازية وكأنه كان شاهد عيان على الأحداث ومعاصر لها رغم أنه كتب في بداية تحقيقه أنه كان زائرًا لنجع حمادي، ولم يعضدها بمتحدث أو راوٍ من الأهالي، وهذا حال جميع الروايات التي أوردها في تحقيقه المسمى "الغازية والبرنس المجنون".

وشمل روايات أخرى مثيرة وجاذبة للقراءة ومضحكة أيضًا ومنها ما ذكره عن علاقة الأمير السابق بالمطربة منيرة المهدية: "كان يوسف كمال يمضي أيامًا في السنة يستمتع بغناء وغراميات منيرة المهدية، وقد روت لي منيرة المهدية أنها طلبت إليه أن يهديها أسدًا وفي اليوم التالي استيقظت من النوم وكانت تقيم في عوامتها في الزمالك على زئير أسد ضخم والعوامة تهتز اهتزازات تعرضها للغرق فعرفت أن الأمير المجنون أهداها أسدًا من حديقة الحيوان بالجيزة في قفص من حديد فاتصلت به منيرة المهدية وقالت له إنها كانت تريد أسدًا صغيرًا حتى ترضعه بالبزازة". 

نمط النشر عن الأمير يوسف كمال في صحافة ثورة يوليو 52 كان موحدًا تقريبًا في اللغة والأهداف رغم تنوع منصات النشر ما بين أخبار اليوم ومجلتي الإذاعة والاثنين التابعتين لدار الهلال، وكان المقصود إظهار الأمير السابق في طور الإقطاعي المتعجرف، غريب الأطوار، زير النساء، الماجن، وغيرها من الصفات اللازمة لإيجاد صورة ذهنية سلبية عن الأمير لدى جمهور القرّاء.

المصدر الذي استقى منه جليل البنداري مسرحيته "وداد الغزية" كان ما نشر في صحافة ثورة يوليو عن حياة الأمير يوسف كمال في نجع حمادي! تقوم نادية الجندي بدور وداد الغزية التي تعمل مع والدتها بمقهى، ويلعب دور المأمور الفنان محمود يس، والفنان عادل أدهم في دور الأمير "يوسف" كما أسماه المؤلف.

واستدعى جليل البنداري الروايات التي نشرت عن الأمير في صحافة ثورة يوليو وكتبها في قالب درامي بنفس لغة السخرية والتهكم التي كتبت في مطبوعات الثورة، وسار على نهجه في الفيلم مصطفى محرم كاتب السيناريو وبهجت قمر كاتب الحوار. استعان البنداري برواية المأمور المطرود من نجع حمادي بأمر يوسف كمال وغيرها من القصص وأنهى الفيلم بثورة الأهالي ووداد الغزية على الأمير يوسف كمال! 

ويطرح السؤال نفسه: هل قصة وداد الغزية حدثت بالفعل؟ 

مدينة نجع حمادي، موقع أحداث مسرحية جليل البنداري، تقع شمال محافظة قنا وارتبطت مدينتها وتأسيسها الأول في المباني والعمران بالأمير يوسف كمال بن أحمد كمال باشا بن الأمير أحمد رفعت باشا بن إبراهيم باشا والي مصر، الذي أقام مجموعة معمارية تقع على مساحة 7 أفدنة لمباشرة أملاكه الزراعية الواسعة التي كانت تقترب من 16 ألف فدان وأسس بها مدرسة باسمه وأوقف عليها وقفية من أملاكه للصرف عليها كما بنى خارج مجموعته منازل للتجّار ومبنى يسمى القيسارية كان يستخدم كمتاجر في عهده. 

قصة وداد الغازية لا توجد لها منابع في الذاكرة الشعبية بين الأجيال المعاصرة أو التي تلقت هذه الحكايات ممن سبقوها، وكان الفيلم السينمائي الذي عرض سنة 1983 هو المصدر الوحيد للقصة لدى سكان نجع حمادي، التي من المفترض حسب صحافة ثورة 52 أو مسرحية جليل البنداري أنها الموقع الحقيقي الذي شهد هذه القصة وفصولها. 

والقصة المحققة الوحيدة المذكورة والمتوارثة عن طبقة الغوازي في نجع حمادي كانت لواحدة فقط من أصول شامية تدعى "يمنى سالم" كانت تعيش في نجع حمادي وكان لها علاقات بطبقة كبار التجّار والأعيان وكانوا يستدعونها لإحياء حفلات الزفاف والختان وغيرها، وعاشت في فترة الستينيات من القرن الماضي أي بعد إلغاء الملكية وهجرة الأمير يوسف كمال إلى النمسا حيث توفي هناك في قرية إستروبل سنة 1969.