ثقافات

ماجي حبيب

المائدة تفصح عن أسرار البيوت

2024.07.20

تصوير آخرون

السفرة تحمل معاني أكثر من مجرد الأكل

 

الإلتفاف حول مائدة الطعام: ذلك المشهد الأثير الذي لطالما إختاره السينمائيون ليفتتحوا به أعمالهم. ربما لطاقته الايحائيه، أو لقدرته على تضمين الكثير من المعاني في لقطة واحدة. نتذكر مشاهد من أفلام رائعة منها: "في بيتنا رجل"، و مشهد آخر لعائله منضبطة منتظمة في "إمبراطوريه ميم"، ومشهد الطعام في عائلة السيد أحمد عبد الجواد في "بين القصرين"، وهو بيت ذو "هيراركيه" لا تبدأ نساؤه اكلها الا بعد فروغ ذكوره، الذين بدورهم يتلمضون ويزدردون ريقهم حتى يهم سى السيد واقفا تاركًا المائده.

فالمائدة، أولًا وأخيرًا ، تفصح عن البيوت مثلما تفصح عن الشعوب والثقافات المختلفة. تلك الطاقه الايحائية للطعام وقدرته على نقل رسائل وتضمين معاني تجعله معبرًا عن الكثير، فمثلًا في الثقافه الغربيه الحديثه -المتسامحه بقدر عظيم مع الاختلاط بين الجنسين- تعتبر دعوة رجل لامرأة على العشاء بمثابه تعبير صريح عن اهتمام خاص، بينما تشارك أي وجبه أخرى لا يوحي بهذا المعنى قط.

وعلى صعيد اخر، يتذكر رجل جزائري حكاية قديمة عندما قرر حماه فسخ خطبته قبيل الزفاف لأن العريس شوهد وهو يأكل في مكان عمله بمفرده! وكان هذا كافيًا -من وجهه نظر الحمو المستقبلي- للتدليل على ان الرجل اما بخيل أو "براوي".

كنت قد نسيت هذه المعلومة حتى صادفني فقط من يومين بوست على الفيسبوك فى أحد الجروبات، تتساءل صاحبته، التي أخفت شخصيتها، قائلة انها تتوقع زيارة قريبة من أسرة عريس محتمل لابنتها: "هذه اول مره هيتعرفوا علينا والعيله جاية من محافظة أخرى، يعني مسافرين والزياره يوم الجمعة بعد الصلاة. نقدم ايه؟ مشروبات وحلويات ونواشف فقط ولا عيب ولازم نحط لهم سفرة للغداء لأن اكيد هيبقوا موجودين في وقت الغداء ولا يزال أمامهم سكه سفر؟"

سؤال مشروع في بوست بسيط على جروب نسائي، ولكن هالتني التعليقات المنهمرة التي تحذر غالبيتها أم العروسه من الانزلاق في هذا الكرم، بدعوى أن مشاركه السفرة مع عريس محتمل، لم يتقدم بعد بشكل نهائي، ولم يطلب يد إبنتهم رسميًا هو "تلزيق" وحط من كرامة الأسرة، وترخيص لكريمتهم الغاليه طبعًا! مع التأكيد على إن "الكرم واجب برده" و"عيب قوي وهم ضيوفهم يمشوا جعانين ولسه قدامهم سكه سفر". نصحنها بتقديم سندوتشات (لحوم طبعًا) ونواشف على كل شكل ولون لإثبات الكرم وحسن الضيافه ولكن بدون دعوتهم للسفره!

لهذه الدرجة يعد الالتفاف حول مائدة واحدة حاملًا لمعاني أكثر بكثير من مجرد الأكل، بل إن مجرد ترتيب جلوس الأفراد حول المائده يحمل الكثير من الشفرات والأكواد الاجتماعية ولكنها أكواد يسهل فكها بدون شك. فموقع الفرد من المائدة يشي بالكثير عن أهميتة في محيطه وقلَ أن تترأس المائده امرأه. كما تراعى نفس التراتبيه الطبقية في تقديم الطعام، ليس فقط في الترتيب لكن في الكميات ايضًا، وعلى كل المستويات الاجتماعية.

أتذكر هنا يوم لمعت الدموع في عيني إحدى معارفى وهي تشكو من أمها التي تجنب لأخيها الأكبر نصيب من اللحوم قبل ان يبدئوا الأكل، وتصف لي كيف انها لم تحظ بأكثر من جناح وجزء بسيط جدًا من الصدر بينما نصيب أخوها أمامها محظور اللمس. ولم أكن احتاج ذكائي لأدرك أن تألمها من وضعها المتدني في أسرتها يفوق كثيرًا شكواها من صغر نصيبها. وهذا المنهج في تفضيل الذكور أظنه اختراع أنثوي -ويضايقني صراحة- مع أنني غالبًا ما أمارسه بدون أن أشعر، وأتذكر غضبى المتكرر من سعاد حسنى فى فيلم "الزوجة الثانية" وهي تقول أن لو كان لديها بطة كانت لتعطي أغلبها لأبو العلا وتأخذ "تنتوفه".

وبينما لا تنخرط النساء في التراتبية الواضحة حول السفرة فهم يمارسنها بشكل واضح في المطبخ الذي يرصده باحث الانثروبولوجي كساحة، ومحاوله اكتساب أرضية في المطبخ للزوجة الجديدة هي خسارة فادحة للزوجة الام التي تدافع عن دورها، الذي تستمد منه الكثير من تحققها. 

وألا تمتد الطاقة الايحائية للأكل إلى قلب مشاعرنا؟ ألم تكن الحلل المقلوبة في الريف علامة مميزة على الحزن؟ وِإشعال المواقد والوجبات الساخنه بمثابة استخفاف بالميت وأهله وخروج مستفز عن كياسات حالة الحزن؟ أما ظهور اول حلة محشي بعد طول غياب فهو إعلان للحكمة الأبدية: "إن الحي أبقى من الميت".

أما شكل السفرة، فقد فطن الناس دائمًا الى إيحاءاته، فغالينا فى الاهتمام به. ولا طالما راقتني في صباي المائدة الأوروبية الكلاسيكية أو "المائده النموذج" كما رأيتها في الفنادق والمطاعم الفخمه التي سمحت لنا ظروفنا بارتيادها في أحيان قليلة، أو كما رأيتها في أفلامنا الأبيض والأسود، التي لم تعكس واقعنا بقدر ما عكست -في اغلب الأحيان- صورة أرستقراطية أوروبية الجذور، قل أن تتواجد في بيوت العامة.

ولا أنسى هنا تعليقات أمي المنتقدة للأطقم الصيني والشاي الذي يصب على المائدة من براد خزفي فاخر في فنجان انيق لعائلة متوسطه في فيلم قديم. والحقيقة إنني لطالما فتنت بتلك المائدة الراقيه ذات الكؤوس الكثيرة والاطباق الراقية والشموع والكراسي مستقيمة الظهر، واعتبرت أنه هكذا ينبغي ان نأكل، بل هكذا ينبغي أن يأكل الجميع.

ولكن، ومع مرور الايام، ومع التقدم في السن وفي المعرفة، ومع انفتاحي على ثقافات جديدة، أعاد ذهنى السؤال علىَّ مرات: هل صحيح هكذا ينبغي ان نأكل؟ هل هذا النموذج بأي شكل أكثر تحضرًا من مثيله الهندي أو الصيني أو الخليجي مثلًا، كما روجت لنا السينما وأوحى إلينا الاستعمار؟

عندما اختبرت المائدة الهندية وعرفت اصرارها على استخدام الاصابع عوضًا عن الشوكة والسكين، وكذلك المائدة الحبشية، التي يغرف "الطبيخ" فيها فوق ملاءة واسعة من الخبز، يقتطع منه ويغمس بما فوقه، بل ورأيت استخدام الكفوف كاملة في كبس الأرز أو العيش قبل ازاحته إلى الفم في جلسة قريبة من الأرض في المطبخ الخليجي. وأيضًا عرفت الموائد الصينية واليابانية بعصيها اللاقطة. وفي كل تلك الأساليب لتناول الطعام -على اختلافها- رأيت شيئًا مشتركًا: رأيت الأيادي كلها تمتد لطبق أو أطباق واحده تتشارك فيها، فالاكل أو "المنابات" غير مخصصة، بل تشاركيه إلى أبعد الحدود؛ تتراص الأطباق على المائدة وتمتد كل الايادي الموجودة -على كثرتها- تأكل من نفس الطبق مباشرة.

 يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع الالماني جورج زيمل: "لابد لكل البشر من الأكل والشرب، وعندما يفعلون، فهم يمارسون أكثر عمل فردي وأناني ممكن، فكل قطعة يضعها الإنسان في فمه هي بالضروره مطروحة من الاخرين". ثم يوضح: "يمكنني ان أشارك أفكاري مع الاخرين، يمكنني ان أريهم كل ما أرى، يمكن أن يسمعوا كل ما أسمع، ولكن أبدًا لا يمكن للآخر أن يأكل ما قد وضعته في فمي". لذا، بينما الأكل في حد ذاته عمل غرائزي محض، فإن التشارك يصعد به إلى درجه أعلى في سلم الإنسانية.

وهنا أتذكر فجأة حكاية "ماما" التي طالما روتها وأعادتها وزادتها عن اليوم الذي ذهبت فيه برفقة صديقتها لزيارة عائله مدقعة الفقر، وعن الطفله التي تركت طبق الفول النابت بعد لقيمات معدودات، وعن إجابة الطفلة الجعانة إن كانت قد اكتفت، وردها بأن عليها أن تترك الباقى لأخيها لحين عودته!

ولا أجد هذا بعيدًا عما رصدته "لورنا مارشال" باحثة الأنثروبولوجيا في دراستها لإحدى القبائل البدائية بأفريقيا، ووصفها لأدبيات الأكل في هذا المجتمع البدائي جدًا والفقير أحيانًا.

"الغريب في هذا المجتمع أنه يحرص أن يتباعد عن المتحلقون حول الحطب والنار حتى يُدعى للمشاركة. وعضو العشيرة لا يبدي أي جشع أو يأخذ أكثر من قدر معقول من الطعام. بل وأن الأكل لا يمرر للعشيرة إلا بعد أن يلعق الجد الأكبر أصابعة، حينئذ يمرر الطعام من فرد إلى آخر. كل ياخذ لنفسه مقدار بسيط، حتى أنه غالبًا ما يبقى لأخر عضو في العائله أكبر الأنصبة.

فهل لأحد أن ينظر بدونية لتلك الثقافات التي تغمس كل أياديها من ذات نفس الصحن؟ وهل لهذا أن يتحقق لمجموعة ويعتادوه من غير أن يكتسبوا أولًا مفاهيم ضبط النفس، مراعاة الآخر والتحكم في نزعات الجسد؟ هل مثل هؤلاء يمكن أن ينظر لهم كثقافه أدنى؟ أليست هذه القدرة على استيعاب الانسان على أنه عضو في مجتمع، جزء من كل. أليست هذه القدرة هي جوهر التحضر؟ وأليس افتتانى القديم بالموائد ذات الأطباق متعددة الأشكال والكؤوس ضيقة الاستعمال ما هو إلا انصياع لحضارة سوقت وروَجت نفسها على أنها الأعلى والأرقى؟ 

وإذا ما كانت القدرة على التشارك هى جوهر التحضر، فلماذا تضائلت مشاهد السفرة في حياتنا وفي السينما. في فيلم "عسل أسود" جاء مشهد السفرة خلال شهر رمضان. وهذا ليس بعيد عن الحقيقه التي يقولها كل الناس: "رمضان هو الفرصة الوحيدة التى نأكل فيها مع بعض". إذا كان التشارك هو سمة التحضر، فهل الفردية المفرطة: فردية الطبق، وفردية الشاشة وفردية الفسحة. هل هذه الفرديات تقلل بشكل او بآخر من قدرتنا على التشارك، هل تقلل من تحضرنا؟