ثقافات
أمير الـصرّافنوستولوجيا عن قسيس الكنيسة المُشتبك مع مجتمعه المحلي
2024.04.27
مصدر الصورة : ويكيبيديا
نوستولوجيا عن قسيس الكنيسة المُشتبك مع مجتمعه المحلي
ثمة أمور كثيرة تغيرت وتبدلت في القرى، هذا التغير ليس طارئًا، وإنما جاء على فترات زمنية، من هذه الأمور التي طالها التغيير «قسيس الكنيسة».
لم يكن القسيس يعيش بمعزل عن مواطنيه وجيرانه وأهل بلدته في المكان الذي يقطنه؛ سواء كانوا مسلمين أو أقباطًا، كان يعيش في نفس المستوي الاقتصادي، ويتقيد بالعادات والتقاليد، ويتبع النظام الاجتماعي السائد، وأكثر انفتاحًا على مجتمعه المحيط بأواصر أكثر متانة من التي نراها حاليًّا على المستوي الرسمي، والتي تظهر موسميًّا في الأعياد لدى الجانبين أو عند وقوع الأزمات.
أدت المتغيرات الكثيرة في نسيج المجتمع المصري منذ سبعينيات القرن الماضي بالتبعية، إلى تغيرات جذرية في شكل هذه العلاقات التي ربطت رجال الدين المسيحي بمجتمعاتهم، وتغيرت شكلية هذه العلاقة من الرحابة والتواصل والتمدد، إلى التحفظ والانكماش والانقطاع في حالات كثيرة.
تلك المتغيرات أدت أيضًا إلى التفريط في صورة قسيس الكنيسة في الذهنية الشعبية المصرية.. صورة رجل الدين الذي يحظى بالاحترام رغم اختلاف العقيدة، وصاحب الحكمة والمشورة لأهل بلدته عند الحاجة، وفي أحيان كثيرة هو من يعالج من وعكات نفسية أو مرضية مستعصية على الفهم والعلاج لدى الطبقة الشعبية، في المجتمعات الريفية.
لم يكن قساوسة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية -وهي الطائفة المسيحية الأكثر عددًا في الجمهورية- يعيشون بمعزل عن مجتمعاتهم قبل التغيرات الوافدة على المجتمع المصري تأثرًا بالثقافات الوافدة، والتي حملها المغتربون للعمل في الخارج إلى بلادهم إبان عودتهم.
القس أو القمص -والثانية هي رتبة كنسية يمنحها أسقف الإيبارشية ترقيةً للقس بعد مرور فترة زمنية على عمله كاهنًا في الكنيسة- كان هو أحد أفراد المجتمع الذي ولد وتربى وتعلم فيه؛ بمعنى: أن اختيارات ممثل البابا -وهو الأسقف في المنطقة للقساوسة قديمًا- كانت اختيارات محلية لا من خارج المنطقة، وهو ما يأخذنا إلى أحد التفسيرات المهمة لسبب متانة العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي ربطت القسيس بأهل قريته أو منطقته قديمًا.
كان انتماء القس للبلدة التي اختير ليكون قسًّا بكنيستها، من العوامل المهمة التي دعمت أواصر العلاقات بين رجل الدين المسيحي، وبين أفراد مجتمعه من المسلمين المختلفين عنه دينيًّا، والمتشابهين معه اقتصاديًّا واجتماعيًّا ومعيشيًّا، وفي بعض الحالات المصالح المشتركة بين الطرفين.
يقول جيمس روبنسون عالم المصريات الأمريكي في كتابه «مخطوطات نجع حمادي»ـ وهو من قام بتوثيق اكتشاف مخطوطات نجع حمادي الخاصة بالفلسفة الغنوسية في محيط اكتشافها في جبل الطارف والقرى المتاخمة لها، شمال قنا: إن محمد السمّان -وكان يعمل جمالًا- بعد أن اكتشف بالصدفة المخطوطات في فجوة بالجبل سنة 1945 ميلادية، خبأها لدى القس باسيليوس الذي كان كاهنًا في قرية «القصر» شمال قنا، وهي البلدة ذاتها التي كان يعيش فيها محمد السمان، وينوه روبنسون في كتابه بأن صهر القس باسيليوس كان أول من باع أحد المخطوطات للمتحف القبطي بالقاهرة.
كان القساوسة الأرثوذكس في الزمن الماضي أكثر تعبيرًا وواقعية عن مجتمعاتهم التي يعيشون فيها في كل المظاهر الاجتماعية، وحتى في الحياة اليومية، عدة مظاهر اختفت من حيز الواقع الحالي، ومنها وسيلة تنقل القسيس قديمًا وكانت الحمار للمسافات البعيدة، أو الترجل على القدمين هما الوسيلتان المتاحتان للوصول إلى الوجهة المقصودة، وكان القسيس يمشي في الزراعات والشوارع بجلبابه الأسود مترجلًا أو فوق حمار بمنتهى الأريحية ملقيًا التحية على الناس، وقد يدعونه للطعام لو كانوا يأكلون فيلبي الدعوة، ويشاركهم تدخين التبغ أحيانًا! وهو بالضرورة مشارك في الأفراح والأحزان والمناسبات المختلفة لدى أفراد مجتمعه المختلف عنه في الدين.
أقرب النماذج التي يمكن رصدها لصورة ووضعية قسيس الكنيسة في الزمن الفائت، القمص أبسخيرون القمص بطرس، المولود في قرية بهجورة التاريخية شمال قنا، يظهر نموذج القمص أبسخيرون بعفوية وبساطة أهل زمانه، وبتسامح وتشابك المواطن في عصره مع شريكه في الوطن دون أية توازنات أو مظاهر وقتية تُستدعى عند الحاجة، كان «أبونا أبسخيرون» -وهذا هو اسمه الذي يناديه به المسلمين والأقباط- بسيطًا في ملبسه ومأكله، اتخذ الرجل حمارًا كوسيلة تنقل، وكان يشترط أن يكون أبيض اللون، ولم يتخل عنه حتى مع توافر السيارات عندما بلغ من العمر أرذله، وكأنه كان مصرًّا على أن يختم حياته بذات البساطة التي كانت سائدة في زمنه.
كان القمص أبسخيرون واحدًا من سلسال العائلات التي تتوارث «القمصية»، وهي كثيرة في الصعيد؛ إذ كانت تلك الرتبة الكنسية تورث جيلًا بعد جيل لدى عائلات معروفة، وكان اختيار أحدهم ليكون قسًّا في كنيسة بلدته أو في الكنائس القريبة من قريته أمرًا يدعو للفخر بين هذه العائلات، وأحيانًا بعض النفوذ والتميز الاجتماعي والشراكة في صناعة القرار مع رؤوس العائلات والوجهاء فيما يخص شؤون الجماعة القبطية في المنطقة، ولم تكن هناك شروط أو قيود لسيامة أحد أفراد هذه العائلات قسًّا سوى حُسن السمعة والسلوك والدراية بطقوس الكنيسة الأرثوذكسية، وكان ممثل البابا في المنطقة يستفتي الشعب القبطي قبل سيامة القس أو يلجأ لمشورة لكبار أقباط المنطقة.
وذلك التوريث للقمصية كانت له واجبات لا تقف فقط عن القيام بمهام الرتبة الكنيسة في أداء الصلوات، والتصديق على الزواج والصلاة على الموتى وغيرها، فقط كان على القس إعاشة نفسه وتوفير النفقات اللازمة لأسرته؛ إذ لم تكن هناك مخصصات مالية تمنحها الأسقفية أو البطريركية في القاهرة للقساوسة كرواتب شهرية -وهو النظام السائد حاليًّا- وإنما كان على القساوسة تدبر نفقاتهم بالطرق المتاحة التي شرعها الإنجيل، ومنها أخذ حصة من التبرعات القادمة للكنيسة إعمالًا لآيات الإنجيل، ومنها: «من يغرس كرمًا يأكل من ثمره، ومن يرعَ رعية يأكل من لبنها»، وربما يفسر ذلك توريث القمصية لدى العائلات تنتمي اقتصاديًّا إلى الطبقة المتوسطة وليست الفقيرة، حيث تكون هناك موارد مالية لدى من اختير لنيل الرتبة الكنسية في إعاشة نفسه وأسرته، خاصة وأنه سيكون متفرغًا لها دون ممارسة أية نشاط وظيفي آخر.
ذهبت الصورة الذهنية لقسيس الكنيسة بكل تفاصيلها بغير رجعة؛ إما للتطورات الزمنية والحداثة، أو بسبب الثقافات الوافدة، ولم يعد قسيس الكنيسة ذلك المواطن المتشابك مع مجتمعه، والمتعامل بشكل عفوي مع مواطنيه، صار متحفظًا مرتابًا في أحيانٍ كثيرة، وأصبحت وضعية ومظهر القسيس نوستولوجيا تحضر لدى الشريحة العمرية التي عاصرت قساوسة الزمن الماضي ببساطتهم وتشابكهم مع مجتمعاتهم المحلية.