رؤى
محمد جادالدولة المصرية بين الاحتفاء بـ«جيتس» وعداوة «زوكربرج»
2018.10.01
الدولة المصرية بين الاحتفاء بـ«جيتس» وعداوة «زوكربرج»
قبل نحو عقد وبضع سنوات كانت الصحف الرسمية ترحب بزيارة بيل جيتس، الشريك المؤسس لشركة ميكروسوفت، إلى البلاد ترحيبًا مشابهًا للثناء المعتاد من صحافة الدولة على رؤساء الدول الصديقة. ورَّد الملياردير الشاب على ثناء آخر حكومات مبارك بثناء مماثل قائلاً إن «من حسن حظ مصر وجود قادة مثل الدكتور أحمد نظيف». لم يكن هذا الإطراء مجانيًّا بطبيعة الحال، فقد ربحت ميكروسوفت من مشروع ميكنة التعاملات الحكومية أو ما يعرف بالحكومة الإلكترونية وساهمت في مبادرات ساعدت على إحداث نقلة تكنولوجية في حياة المصريين ونقلهم إلى عالم ثورة الاتصالات.
واليوم لا يظهر جيتس ولا أي من رواد وادي السيليكون في صورة الأبطال في الإعلام المصري، بل إن قنوات موالية للدولة تتداول فيديو عن مارك زوكربرج تحت عنوان «العملاق الأزرق وكذب له تاريخ « في إشارة إلى موقعه الأشهر للتواصل الاجتماعي (فيس بوك) والذي يحظى بمتابعة الملايين من المصريين. هذا التحول في موقف الدولة تجاه الانفتاح على «ثورة الاتصالات» لم يأت من فراغ، فنظام مبارك نفسه اضطر لتعليق وسائل الاتصال الحديثة (المحمول والإنترنت) لفترة قصيرة عندما أدرك أن تلك المخترعات تحولت لأداة لحشد الجماهير في التظاهر ضده. ومن بعدها صارت النظم الحاكمة شغوفة بالسيطرة على وسائل الاتصال الجديدة. فقد بدا واضحًا خلال العقد الأخير أن السلطوية في مصر لم تعد قادرة على التعايش مع منتجات «ثورة الاتصالات».
في المقابل تحتاج الرأسمالية، المحلية أو العالمية، بشدة لإدماج المواطنين في عالم الديجيتال، فوسائل التواصل الاجتماعي أصبحت أداة أساسية لجمع المعلومات عن المستهلكين واستهدافهم بالدعاية وخلق الرغبات الاستهلاكية التي تحقق أهداف التراكم الرأسمالي. نحن إذًا أمام تناقض داخل النظام الرأسمالي بين جناحه المالي الممثل في دوائر البيزنس وأداته القمعية المُمثلة في السلطة الحاكمة.
شهد عقد التسعينيات اتفاق مصر مع صندوق النقد والبنك الدوليين على سياسات التثبيت والتكيف الهيكلي والتي كانت بمثابة إعلان النهاية لسياسات الاقتصاد الموجه والدخول بقوة في عالم السوق الحر، وخلال العقد نفسه كانت البلاد تتوسع تدريجيًّا في خدمات الإنترنت.
أصبحت البيئة مهيئة لدخول عالم ثورة الاتصالات، وهو ما مهد لإنشاء وزارة الاتصالات في 1999 بقيادة أحمد نظيف، ومع التوسع تدريجيًّا في تحديث خدمات الاتصالات في مصر، وجهت الدولة جزءًا مهمًا من جهودها الإنشائية لمشروع نظيف الأبرز (القرية الذكية) في محاولة لمحاكاة نموذج وادي السليكون الأمريكي.
وبالتدريج كانت أحلام نظيف في نشر خدمات الإنترنت وثقافة التعامل مع الحواسب الإلكترونية والتليفونات المحمولة تتحقق، وكان قطاعه المفضل الاتصالات يحقق معدلات نمو متصاعدة، ومن وراءه لوبي بيزنس يجني أرباحًا كبيرة ويساند الحكومة في المؤتمرات والمنتديات الاقتصادية المختلفة.
الوجه الآخر
إلا أنه وبمرور الوقت وانتشار استخدام الإنترنت بدأ الوجه الآخر لثورة الاتصالات في الظهور، ففي 6 يونيو 2010 لقي شاب سكندري يدعى خالد سعيد مصرعه إثر تعذيب الشرطة. وانتشرت صورة الشاب بشكل سريع عبر دوائر التواصل الاجتماعي لتشعل موجة من التظاهرات ضد عنف الشرطة، ولتصبح واحدة من أيقونات الثورة. وهكذا تحولت وسائل التواصل الحديثة من أحد مجالات الربح للرأسمالية المحلية والعالمية إلى وسيلة إعلام بديلة عن الإعلام الرسمي الذي يخفي انتهاكات الشرطة أو الإعلام المستقل تحت حكم مبارك والذي كان يتحرك في سياق الخطوط الحمراء التي يضعها النظام.
بالطبع كان التجسيد الأوضح لدور الاتصالات الحديثة في ثورة يناير. فبعد حادثة خالد سعيد بأقل من عام اضطرت حكومة «ثورة الاتصالات» إلى قطع الاتصالات تمامًا، فقد نجحت الاحتجاجات في تونس في خلع زين العابدين بن علي؛ وهو ما دفع نشطاء الإنترنت في مصر للدعوة إلى احتجاجات مماثلة في عيد الشرطة، 25 يناير 2011. وفي محاولات عبثية لتعطيل عمليات الحشد لاحتجاجات يناير حجبت السلطات المصرية في صباح 25 يناير موقع التواصل الاجتماعي تويتر، وفي مساء اليوم التالي حجب موقع «فيس بوك»، وتلا ذلك قطع خدمات المحمول.
فيس بوك
في العقد نفسه، أي السنوات العشرة الأولى من الألفينات وفي الولايات المتحدة الأمريكية، أنشأ مارك زوكربرج موقع «فيس بوك» في 2004، والذي بدأ كموقع موجه لطلبة الجامعات ثم توسع تدريجيًّا ليصبح مفتوحا للعامة، ليتزايد جمهوره بشكل ضخم.
كانت زيادة أعداد أعضاء فيسبوك تعني الوصول بشكل أكبر للمستهلكين، وهو ما يعني تزايد قدرة الموقع على بيع الإعلانات للشركات. لاحقًا كان أحد أهم مصادر المعلومات التي أتيحت في فيس بوك هي الـ»لايكات»، والتي أخذت بمرور الوقت تجتذب رواد الموقع تدريجيًّا للتعبير عن تفضيلاتهم. وأثبتت دراسات أن هذه «اللايكات» مصدر هائل لتحليل شخصيات المستهلكين، إذ يستطيع المُعلن أن يتنبأ من خلالها بدرجة ذكاء المستهلك وميوله الدينية والسياسية ومدى استعداده لشرب الكحول أو تعاطي المخدرات بل وحالته العاطفية وميوله الجنسية. وأتاح الموقع في 2009 أيضًا للمعلنين سبلاً لكي يستهدفوا أصدقاء العملاء الذين أظهروا اهتمامًا بمنتجاتهم.
أصحبت إمبراطورية زوكربرج واحدة من أذرع الإمبراطورية الكبرى، الرأسمالية، والتي تستخدم منذ زمن طويلة أدوات الإعلان والدعاية في إعادة تشكيل رغبات الطبقة العاملة لصالح أهداف التراكم الرأسمالي.
ويرى البعض أن الرأسمالية وصلت إلى مرحلة أصبحت فيها الشركات تتمتع بقدرات احتكارية، وتمتلك تلك الكيانات القدرة على خلق طلب مستدام على منتجاتها عبر الإعلان في وسائل الإعلام. وفي ظل هيمنة هذه الشركات صار لديها القدرة على التلاعب بتفضيلات المستهلكين من خلال الدعاية بهدف خلق احتياجات جديدة (زائفة). فالإعلان ليس أداة لتوفير المعلومات عن السلعة كما يبدو لنا للوهلة الأولى ولكنه وسيلة للتحكم في رغبات المستهلكين.
فيسبوك والسياسة
لكن الأمر لم يقتصر على الاقتصاد فقط، فقد كان احتشاد هذه البلايين في وسائل التواصل مغريًا للسياسيين أيضًا، فصار فيس بوك مجالاً مهمًا لاستهداف المواطنين بالدعاية السياسية.
وخلال العام الجاري تعرض زوكربرج للمسائل مما يقرب من 100 مُشرع أمريكي بعد فضيحة جمع بيانات للمستخدمين دون إذن واستخدامها في أغراض سياسية.
وتتلخص الواقعة (الفضيحة) في أن شركة تحليل البيانات التي عملت مع الفريق الانتخابي لدونالد ترامب جمعت بيانات لملايين من بروفايلات الفيس بوك لمُصوتين أمريكيين واستخدمتها لبناء برنامج سوفتوير قوي يتوقع ويؤثر في الصندوق الانتخابي. الشركة المسئولة عن الفضيحة هي كامبريدج أناليتيكا المملوكة لصندوق التحوط التابع للملياردير، روبرت ميركر، وكان يرأسها ستيفين بانون، أحد المستشارين الرئيسيين لدونالد ترامب، وقد استخدمت معلومات شخصية أخذت دون إذن في 2014 لبناء نظام متقدم لاستهداف المصوتين الأمريكيين بالدعاية الانتخابية وذلك من خلال أبليكشن يحمل اسم thisisyourdigitallife . لبناء نظام متقدم لاستهداف المصوتين الأمريكيين بالدعاية الانتخابية.
في مصر أيضًا تم تسييس الفيس بوك وبشكل شره، خصوصًا وأن استهدافه للوصول للملايين عبر الموبيل بدأ بالتزامن مع أحداث الثورة المصرية. تلا سقوط مبارك عامان من الانفتاح الديموقراطي والاضطراب السياسي، تم خلالهما تسييس وسائل التواصل الاجتماعي بدرجة كبيرة؛ فصار فيس بوك مجالاً للدعوة إلى التظاهرات والفعاليات الاحتجاجية، والمكان الذي تتأسس فيه الائتلافات الثورية والنقابات العمالية المستقلة، كما ظهر اختراع «اللجان الإلكترونية» وهم أعضاء يتم استئجارهم للدفاع عن تيار سياسي بعينه على مواقع التواصل.
هذا الفضاء السياسي قاد الكثير من معارضي الجيل القديم لانتقاد جيل ثورة يناير المستغرقين في العالم الافتراضي بشكل مبالغ فيه، بينما كان الشباب يردون بأن الانتفاضة التي أطاحت برئيس استمر في حكمه لأكثر من ثلاثة عقود خرجت من هذه الشاشات الرقمية. والواقع أن العالم الافتراضي هو الذي كان يزحف تدريجيًّا على عقول الشباب وليس العكس، فصخب وسائل التواصل الاجتماعي في سنوات الثورة كان من ثمار سياسات نظيف لنشر وسائل الاتصال الحديثة بين الأجيال الجديدة.
ربما لم يدرك الرجل الذي ترأس آخر حكومات مبارك أنه كان يحفر قبره بيده فقد كان مشغولاً فقد بتحقيق معدلات نمو اقتصادية مرتفعة في قطاع الاتصالات. وبحلول 2017 كان عدد الخطوط المسجلة في التليفون المحمول يفوق عدد السكان بكثير (110 ملايين) وعدد حاملي التليفونات الذكية يزيد عن ربع السكان (26.3 مليونًا) أما عدد من يزورون الفيسبوك كل شهر فكان 37 مليونًا، ومن يزورونه بصفة يومية 22 مليونًا (وهو ما يفوق بمئات الأضعاف معدلات توزيع الصحف الرسمية أو الصحف المستقلة الرائجة).
ومع إعادة تأسيس نظام سياسي راسخ بعد مبارك كان واضحًا أن النظام الجديد مهتم بشدة بالسيطرة على كل الوسائل التي تخاطب المجال العام.
فقد رصد موقع مدى مصر أن جهاز المخابرات العامة المصرية أسس صندوق استثمار مباشر تحت اسم (إيجل كابيتال للاستثمارات المالية ش. م. م») ويحوز على حصة مهمة في شركة إعلام المصريين. وإعلام المصريين شركة حديثة على سوق الإعلام المصري، تم قيدها بتاريخ 2 يونيو 2013، بالهيئة العامة للاستثمار. لكن الشركة التي يحوز جهاز المخابرات على جميع أسهمها يتبعها حاليًا عدد هائل من وسائل الإعلام المؤثرة، شبكة أون تي في وستة من الصحف والمواقع الإخبارية؛ أكبرها موقع وجريدة اليوم السابع، وهي من أكثر الصحف جماهيرية على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك وفقًا للاستقصاءات الصحفية لمدى مصر.
وتقول مدى مصر في تقرير نشر العام الجاري إن الدولة سعت «إلى إعادة تنظيم خريطة الإعلام الخاص بعد أن استحوذت أجهزة أمنية مختلفة على أغلب المحطات التليفزيونية والإذاعية على مدار العام الماضي، عبر شرائها من مالكيها من رجال الأعمال».
وفي هذا السياق قامت الدولة أيضًا بحجب عشرات المواقع الإخبارية المستقلة على الإنترنت، ومعاقبة الكثيرين جنائيًّا بسبب التعبير عن آرائهم السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي. كل تلك الأحداث تدل على أن السلطة الجديدة في مصر لا تستطيع تحمل ثورة الاتصالات في الطور المتطور لها، فالسلطوية المصرية لا تستطيع أن تتعايش مع هذا الفضاء الذي يخلو من أي رقيب، وتعجز أيضًا عن التأثير فيه بالقوة الكافية، من هنا كان المشهد العبثي للحملة الرائجة في قنوات فضائية موالية للدولة عن عملاق زوكربرج الأزرق ودوره في نشر الأكاذيب والشائعات.
بطبيعة الحال لا يخلو فيس بوك من الأكاذيب؛ فهو ساحة مفتوحة يقول فيها أي شخص ما يريده دون أن يدقق أحد وراءه، لكن الموقع كان ولا يزال أحد الأدوات المهمة للضغط السياسي وفضح الممارسات القمعية. لذا فالحملة القائمة ضده بدعوى أنه يساهم في نشر الشائعات ليست حدثًا عارضًا يعبر عن دولة منزعجة من الشائعات، ولكنها مؤشر مهم على التناقض الكامن في النظام الرأسمالي بمصر، جناح البيزنس يحتاج بشدة لثورة الاتصالات والسلطة لا تقدر على أن تتعايش معها.
جاء نمط الإنتاج الرأسمالي بالثروة للرأسماليين ولكنه كان يحمل بذرة الاحتجاج ضدهم في قلبه، كذلك حققت ثورة الاتصالات ما لم يتحقق من قبل للرأسمالية من حيث القدرة على متابعة المستهلكين واستهدافهم بالدعاية، لكنها حملت في باطنها أيضًا بذرة الثورة ضد سيطرتهم على الشعوب.
ترشيحاتنا
